|
أبعد
من الصفر وقف شابٌّ إلى جانب جسر الإسمنت في المحطة
الأولى من رحلةِ انتظارٍ بدتْ طويلة. طوى رِجْلاً وأسندها إلى حافة
الجسر، ثم أشعل سيجارة مارلبورو ذات العلبة الحمراء ودخّنها ناظراً
نحو السهل الزراعيّ، الذي لا يعوِّق امتدادَه الأفقيَّ سوى جسر الإسمنت.
لاشك أنَّه أبهى منهما مظهراً، وأصغرُ منهما سناً، وأكثرُ منهما خفةً
في حركته وانتقاله. ولا شك أنَّه يثير فيهما الحشرية بصمته وما يَظْهر
منه من عبث ولامبالاة. تتداخل رحلتاهم، فيختفي ويعاود الظهور، كأنَّه
ينظم ويقسِّم انتقاله إلى أجزاء متقطِّعة تثير فيهما غريزةَ الصياد
لطريدته، غريزةً فيها أشياء من الرغبة والافتتان والإثارة. فينجرفان
وراءه نحو وجهة مجهولة، ويتوغّلان شمالاً إلى ما بعد السهل الزراعيّ. لباسه مقتنياته المحطات وسائل التنقُّل مخلّفاته تثيرني الشخصياتُ ذاتُ التركيبة غير المكتملة
والتي تبوح بتفاصيل صغيرة لا بمجمل تركيبتها، كما هي عادةً في الأفلام
الدراميّة التقليديَّة حيث تبدو الشخصياتُ كاملةَ الملامح ومهيّأة
للعب دور واضح ضمن المنطق الدراميّ للفيلم ووفق مجريات أحداثه. للتفاصيل
الصغيرة قدرةٌ على استحضار معانٍ عديدة لدى المُشاهد، وهي من ثم قادرةٌ
على تحميل الفيلم قراءاتٍ مختلفة. مثال على ذلك: شخصية الشاب المذكور
الذي لا نعرف عنه إلاّ مظهره، ومقتنياته، ومخلّفاته، ما يكفي لدفع
الفيلم إلى الأمام. وفي رأيي تبقى هذه الشخصيات هي الأغنى سينمائياً لأنَّها
تَسْكن المُشاهِدَ دون أن تَفْرض نفسَها عليه، وتحتفظ بشيء من غموضها
العاديّ، المُشابِهِ لمن يصادفه المرءُ دون أن يَعْرف أبعدَ مِنْ ظاهره.
تتّصف شخصيّة الشابّ بهذا الغموض الذي يشدّ اهتمامَ الصحافيّ ومصوِّره
في الفيلم، فتبدو حركاتُه واضحةً في ظاهرها وإنْ زادت من الغموض حوله.
يَحْمل بيضةً من شوكولا، يزيل قشرتها المعدنية وتمتدّ بها يدُه نحو
الكاميرا في حركةٍ ليس لها أيُّ بُعدٍ دراميّ ولكنَّها مشحونةٌ بتركيبها.
يبدو وكأنَّه يُقْدم على فعلٍ ما، دون أن يكتمل فعلُه أو دون أن يدع
مجالاً للجزم بماهيته. في "نور"، كانت الفكرة
تصوير مقطع من فيلم روائيّ طويل عن علاقة طفل بفتى أكبر منه سناً.
والمشهد يصوِّر خروج الطفل من البيت إلى بيئته المحيطة واكتشافه إياها
عبر مرآة صغيرة يحملها ويحاول من خلالها اكتشافَ العالم بعيداً عن
أهله، وهو إنتاج الصورة بمفهومها الأوليّ، لكونها صورةً يراها من خلال
أداة دون أن تُسجَّل على ورق أو فيلمٍ أو كاسيت. هي صور متحرِّكة تتّبع
مفهوم الوقت الذي يعيشه الطفلُ وما حوله، مع فارق وحيد: وهو أنَّها
من تكوينه هو ومن اختياره هو وحده. ثم أردتُ أن أجعل من هذه التقنيَّة
البدائيَّة، نوعاً ما، أداةً تَعْكس النورَ لإضاءة الأشياء أو لمشاكسة
المارة، بهدف التفاعل معهم. هكذا يتعرَّف الطفل حسني بمحمود الأكبر
منه سناً، الذي يأخذه إلى محل ألعاب الفيديو ويعرِّفه بالصور الإلكترونيَّة،
المنتشرة في محلات المدينة. يَعْبر الصوتُ المسافةَ ببطء قياساً بعبور
الضوء (الصورة) المسافةَ ذاتها. على سبيل المثال، لا يتطابق صوتُ الانفجار
مع صورته إلاّ مكانَ الانفجار، أيْ على المسافة صفر منه، لأنَّه كلما
تم الابتعاد عن هذا المكان افترق صوتُ الانفجار عن صورته. أَذْكر أنَّنا
خلال الحرب كنا ننتظر الصوتَ بعد مشاهدة الانفجار بالعين المجرّدة،
وكنّا نجد الأمر مسلِّياً. في السينما، يكون صوتُ الانفجار عادةً مطابِقاً
لصورته، وكأنَّ المُشاهد يراه من على المسافة صفر. في تصوير السينما
للانفجار شيء من الطوبوغرافيا، اختزالٌ للتشويش الحاصل من جرّاء المسافة،
تسطيحٌ للتضاريس كأنَّه نفيٌ للمسافة وتقليصُها إلى صفر. تدّعي السينما،
عادةً، جلبَ المُشاهد إلى داخل الحدث. في "الشريط بخير" مشهد قصير
لدبابةٍ تُطْلق قذيفة مدفعيّة يُسمع دويُّها بعد بضعة ثوان. أردتُ
هذا المشهد مدخلاً للإشارة إلى المسافة المرتبطة بشكل كليّ بموضوع
الشريط الحدوديّ المحتل [حُرِّر في أيار 2000]، والذي يتناوله الإعلامُ
بشكل يوميّ. في "الشريط بخير"، أردتُ التشديد على وجود هذه المسافة
لأنّ المُشاهد ليس داخل الحدث ولا داخل الشريط. وكأنّ ذلك تمهيد للإشارة
إلى أنّ كلَّ ما نشاهده عن الشريط معرَّض للتشويش نظراً إلى المسافة
التي تَفْصل المنطقةَ المحتلةَ عن باقي لبنان. وهي المسافة التي أردتُ
ترجمتها سينمائيّاً عبر مفهومَيْن ظاهريْن في الفيلم: أولاً تلقين
شهادات الاعتقال ليؤدِّيها ممثِّلون، تعليقاً على تلفزة تجربة الاعتقال.
وثانياً اعتماد التلاعب بصور الأرشيف من حيث الشكل، كي تتراءى عبر
حواجز بصريّة هي إمَّا نصوص مكتوبة ومسقطة على الصورة وإمّا حواجز
أفقية ناتجة عن التلاعب بسرعة الفيديو، لتعويق قراءتها بشكل سطحيّ
ومباشر، وتشديداً على استحالة اقترابها بالمُشاهد إلى داخل الحدث.
لذلك كان التحدّي هو تصوير فيلم عن الشريط دون العبور إليه، ودون الاقتراب
بالمُشاهد إلى المسافة صفر منه.
[1]
أكرم زعتري مولود في صيدا، 1966. درس الهندسة المعمارية في الجامعة الأميركية
في بيروت، والدراسات الإعلاميَّة في المدرسة الحديثة في نيويورك
حيث حاز الماجستير عام 1995. عمل منتجاً منفِّذاً لبرنامج "عالم
الصباح" في تلفزيون المستقبل. له كتابان: وجوه مصر، والمركبة.
من أعماله أفلام: "العلكة الحمراء" (2000) و"الشريط
بخير"، و"مجنونك"
(1997)، و"علّمني"، و"المرشح" (1996)، و"مشاهد موقوتة"، و"نور"،
و"صورة عائليَّة" (1995). له أيضاً تجهيزان فيديو: "إطار آخر" و "الفضيحة"
وهو عضو مؤسِّس في "المؤسَّسة
العربيَّة للصورة".
|