الاثنين 11 كانون الأول  2000

 


 

ســجـن الـمــزة

الـقــصــة الـكــامــلـة

فـي سـؤال الكـتـابـة عـن سـجـن الـمـزة  يـتـوحـد الـشـخـصـي - الـذاتـي مـع الـجـمـعـي وتـبـدو المـوضـوعـيـة بـعـيـدة الـمـنـال. لـقـد اغـلـق سـجـن الـمـزة، لـكـن جـروحـه لـم تـغـلـق بـعـد. لـذا فـان الكـتـابـة عـن سـجـن الـمـزة لـن تـخـتـفـي بـاغـلاق الـمـكـان، انـهـا كـتـابـة عـن ذاكـرة الـمـكـان لا عـن حـجـارتـه وابـنـيـتـه الـتـي سـتـبـدل اسـتـخـدامـاتـهـا ولـن تـنـطـق بـمـا كـان. الـكـتـابـة هـنـا لـنـبـض الـمـكـان، لــروحـه، لـذاكـرتـه، لـعـذابـاتـه، لـسـنـواتـه المـضـنـيـة، لـبـرده، لـحـره، لـمـا فـيـه مـن آلام. الـكـتـابـة هـنـا لأشـخـاص الـمـكـان: لـلاب، لـلـعـائـلـة، لـلـسـجـان، للـسـجـيـن، لـلـزوار، لأرواح ازهـقـت واخـرى تـئـن تـحـت ثـقـل الـذكريـات. الـكـتـابـة لـتـتـصـالـح الـذاكـرة مـع ذاتـهـا، عـسـى ان تـلـحـق بـسـجـن الـمـزة سـجـون اخـرى تـنـتـظـر الاغـلاق.

 

على هضبة بين التلال المحيطة بقرية المزة التي صارت في ما بعد حياً من احياء مدينة دمشق، بنى الفرنسيون في بداية الثلاثينات من القرن المنصرم سجن المزة العسكري على انقاض قلعة عثمانية. استخدم الانتداب الفرنسي هذا السجن لتأديب العسكريين ولترويع المجاهدين السوريين والزعماء الوطنيين الذين عملوا من اجل استقلال البلاد، بحيث ذاق العديد منهم لوعة زنازينه. فبالاضافة الى النفي الى جزيرة ارواد، كان سجن المزة وسجن الشيخ حسن وسجن القلعة في دمشق، الاماكن الاثيرة لدى سلطات الانتداب لمعاقبة الثوار وكسر شوكة القيادات الوطنية التي رفضت الاعتراف بشرعية الوصاية الفرنسية على سوريا.

بعيد الاستقلال الذي نالته البلاد في العام ،1946 بقي السجن تحت اشراف جهاز الشرطة العسكرية واستخدمه الجيش السوري الوليد مع شقيقه سجن تدمر لتأديب الضباط والجنود المقصرين في اداء واجباتهم والمتمردين على الانظمة العسكرية. اما الاستخدام السياسي الاول للسجن في عهد الاستقلال فترافق مع انقلاب قائد الجيش حسني الزعيم على السلطة الشرعية في البلاد ممثلة برئيس الجمهورية شكري القوتلي ورئيس حكومته خالد العظم بتاريخ 30 آذار ،1949 حين ادخل رئيس الوزراء الى هذا السجن وقضى في احدى زنازينه ليلة يتيمة قبل ان يلتحق برئيس الجمهورية شكري القوتلي الذي كان معتقلا في مشفى المزة العسكري الذي لا يفصله عن السجن الا بضعة كيلومترات. استخدم حسني الزعيم، خلال فترة حكمه التي استمرت 137 يوما، سجن المزة لزج معارضي انقلابه الذي كان الاول من نوعه في المنطقة العربية، فسجن فيه قادة حزب الشعب والحزب الوطني، كما ادخل الاستاذ ميشال عفلق، مؤسس حزب البعث، الى هذا السجن، ومن داخله وجه رسالته الشهيرة الى حسني الزعيم معلناً فيها اعتزاله العمل السياسي. وتشاء الاقدار في اعقاب انقلاب سامي الحناوي على حكم حسني الزعيم، ان يحاكم هذا الاخير امام محكمة ميدانية عقدت في المزة، وان ينفذ فيه حكم الاعدام، مع رفيقه وساعده الايمن محسن البرازي، في الباحة الخارجية للسجن.

بعد سقوط الزعيم اعيدت الحياة الدستورية الى سوريا واقترع لجمعية تأسيسية، انتخبت بدورها هاشم الاتاسي رئيسا للجمهورية، وبقي سامي الحناوي قائدا للجيش. لكن هذا الاخير لم يطل به الامر على رأس المؤسسة العسكرية حتى اطاحته مجموعة من ضباط الجيش بتاريخ 19 كانون الاول 1949 متهمة اياه بالتآمر مع العراق الهاشمي، وادخل بدوره سجن المزة، لكن سرعان ما اطلق بعد اعتراض العديد من النواب في المجلس التشريعي على اعتقاله في هذا المكان، ورحل الى بيروت حيث قضى فيها برصاصات اطلقها عليه احد اقرباء محسن البرازي.

المفارقة ان الدكتور منير العجلاني الذي كان اكثر النواب اعتراضا في تلك الجلسة (1/2/1950) على اعتقال السياسيين في المزة، مشبها اياه بسجن "الباستيل" وواصفا زنازينه (السلول مثلما كانت تسمّى نقلا عن الفرنسية) بالمقابر التي يبلغ طولها مترا واحداً وعرضها بضعة سنتيمترات، ومطالبا باصدار تشريع يحرّم سجن المدنيين فيه، اعتقل هو الآخر في هذا السجن بعد 6 سنوات حين اتهم مع شخصيات سياسية ونيابية وعسكرية اخرى بالتحضير لانقلاب على الحكم الديموقراطي في سوريا بالتنسيق مع السفارة العراقية في دمشق.

في 2 كانون الاول 1951 قام رئيس "المجلس العسكري الاعلى" العقيد اديب الشيشكلي بالانقلاب الرابع على حكومة حزب الشعب التي كان يترأسها معروف الدواليبي، دافعا برئيس الجمهورية هاشم الاتاسي الى الاستقالة احتجاجا على تدخل الجيش في السياسة. وقد زج الشيشكلي برئيس الحكومة ومعظم اعضائها في سجن المزة، حيث امضوا بين جدرانه ما يقارب السنة. وضاق هذا السجن، خصوصا في الشهر الاخير من حكم العقيد، بمعظم قادة احزاب المعارضة (75 قياديا منهم صبري العسلي، رشدي كيخيا، فيضي الاتاسي، علي بوظو، صلاح بيطار، ميشال عفلق) وبقادة الحركة الطالبية (الشيوعيون والبعثيون) وبضباط الجيش المقربين من هذه الاحزاب وفي مقدمهم عدنان المالكي الذي كان صوته الجهوري يدوي في انحاء السجن وهو يلقي ابيات الشعر القومية حاثا السجناء على الصمود.

لم يدخل الشيشكلي سجن المزة بعيد الانقلاب على حكمه بتاريخ 25 شباط ،1954 بل هرب الى البرازيل حيث اغتيل هناك على يد احد الشبان الدروز انتقاما لما قام به من اعمال قمعية في جبل العرب. مع سقوط الشيشكلي عادت الحياة النيابية الى سوريا وتبوأ هاشم الاتاسي انتقاليا سدة الرئاسة قبل ان يخلفه شكري القوتلي، وما كاد الحكم الديموقراطي يتوطد حتى جاء اغتيال العقيد عدنان المالكي المقرب من البعث ليعيد التوتر الى الحياة السياسية، حيث اتهم الحزب القومي السوري بتنفيذ عملية الاغتيال وصدر قرار بحله وادخلت قياداته سجن المزة وفي مقدمها عصام المحايري. والى تلك الفترة تعود اولى محاولات الهروب الناجحة من سجن المزة، وهي حادثة هروب الضابط القومي السوري محمود نعمة.

في عهد الوحدة مع مصر (1958 - 1961) استخدم عبد الحميد السراج، الرجل القوي في سوريا، سجن المزة على نحو واسع بترويع كل من كان يعتبره معاديا للنظام الناصري في الاقليم الشمالي. وكان اكثر من تعرض للملاحقة والتعذيب هم الاعضاء والكوادر في الحزب الشيوعي السوري - اللبناني، وعلى رأسهم رياض الترك الذي امضى في المزة ما يزيد على السنة اخضع في بدايتها الى اعمال تعذيب وحشية بغية اجباره على الكشف عن هويته الحقيقية بعدما القي القبض عليه لحظة دخوله الى احد الاوكار الحزبية في دمشق وبحوزته بطاقة شخصية مزورة. ولم تنجلِ هويته الحقيقية الا بعدما تعرف عليه احد الطلاب الشيوعيين الموقوفين في المزة. وقع الانفصال في سوريا بتاريخ 28 ايلول ،1961 وتخفى عبد الحميد السراج في دمشق لفترة وجيزة، لكن سرعان ما كشف مخبأه وادخل بدوره الى المزة. ولم يمض وقت طويل حتى تمكن من الهرب من السجن بمساعدة الرقيب منصور الرواشدة الذي كان يشغل منصب رئيس الحرس. تنكر السراج ببزة عسكرية وخرج بشكل طبيعي من بوابة السجن برفقة الرواشدة وتوجها تواً الى لبنان حيث عبرا الحدود خلسة. هناك وبالتنسيق مع السفارة المصرية تم نقلهما سرا الى القاهرة.

اختلف ضباط الانفصال مع رئيس الجمهورية ناظم القدسي ورئيس حكومته معروف الدواليبي على بعض القوانين المقدمة الى البرلمان، وقاموا بانقلابهم الثاني بتاريخ 28 آذار ،1962 وسجنوا في المزة رئيس الحكومة واعضاءها وعددا كبيرا من النواب والشخصيات السياسية منهم: خالد العظم، رشدي كيخيا، لطفي الحفار، جلال السيد، مأمون الكزبري، مصطفى الزرقا، فيضي الاتاسي، عوض بركات، حنين صحناوي، سهيل الخوري. والى تلك الفترة يعود اعتقال بعض الضباط المقربين من البعث، وفي مقدمهم صلاح جديد وحافظ الاسد، اللذان اوقفا في سجن المزة لفترة قصيرة لا تتجاوز الشهر. لم يمض وقت طويل حتى ابعد ضباط الانقلاب المتمردون، النحلاوي والهندي والرفاهي الى سويسرا وخرج المعتقلون من المزة وعاد المدنيون الى الحكم. كلف الرئيس ناظم القدسي الذي خرج بدوره من مشفى المزة

العسكري حيث اوقف، خالد العظم لتشكيل وزارته الخامسة والاخيرة بتاريخ 17 ايلول ،1962 لكن الامر لم يستتب طويلا للمدنيين وما هي الا شهور حتى قام انقلاب 8 من آذار 1963 بتنسيق بين الضباط البعثيين والناصريين تحت شعار اعادة الوحدة بين سوريا ومصر. وكما جرت العادة بعد كل انقلاب، اعتقل رئيس الجمهورية وطاقم حكمه، في حين التجأ خالد العظم الى السفارة التركية، وتوارى وزير خارجيته اسعد محاسن عن الانظار. امضى رئيس الجمهورية ناظم القدسي خمسة ايام في سجن المزة، قبل ان ينقل الى مشفى المزة ليغادره حرا في بداية شهر ايار. كذلك كانت حال بقية المعتقلين من امثال الدكتور وهيب الغانم واحمد عبد الكريم واحمد الشرباتي وسهيل خوري. لكن ضيوفا جددا حلوا على السجن، وهم في غالبيتهم من الناصريين الذين تقاتلوا دمويا مع زملائهم البعثيين خلال احداث 18 تموز .1963

بعدما استتب الحكم لحزب البعث، بدأ الاخوة - الاعداء من البعثيين بالتقاتل والتناحر في ما بينهم، الى ان جاء انقلاب 23 شباط 1966 ليزيح القيادة التاريخية لحزب البعث ممثلة بالاستاذين ميشال عفلق وصلاح البيطار لصالح القيادة القطرية للحزب، وادخل على اثر هذه الحركة التي قادها اللواء صلاح جديد، كل من امين الحافظ ومحمد عمران برفقة عدد من انصارهما الى سجن المزة قبل ان يطلقا مع غيرهما من المعتقلين السياسيين في بداية حرب الـ.1967 وقد اعدم في تلك الفترة داخل سجن المزة الضابط سليم حاطوم الذي كان سبق له ان قاد تمردا عسكريا في جبل العرب، فرّ على اثره الى الأدرن ليعود ويدخل سوريا من جديد في بداية حرب الـ.67 من المفارقات الغريبة في تاريخ هذا السجن ان مديره في نهاية الستينات الضابط نعيم خوري اتهم بالتعاطف مع سليم حاطوم فعزل من منصبه واعيد الى المزة من جديد لكن هذه المرة كسجين لا كمدير، حيث امضى فيه ما يقارب العام.

مع انقلاب اللواء حافظ الاسد على قيادة الجيل الثاني من البعث، ادخل جميع اعضاء القيادة القطرية الى سجن المزة وفي مقدمهم الدكتور نور الدين الاتاسي رئيس الدولة والامين العام واللواء صلاح جديد الامين العام المساعد والدكتور يوسف زعين رئيس مجلس الوزراء الاسبق. امضى الاول 22 عاما في المزة، اصيب في نهايتها بمرض السرطان وافرج عنه قبل شهرين من وفاته، اما الدكتور زعين فخرج من السجن بعد عشر سنين اثر اصابته بمرض عضال، في حين توفى صلاح جديد في سجن المزة بعد 23 عاما من الاعتقال دون محاكمة.

اذا كانت فترة حكم الرئيس السوري حافظ الاسد هي الاطول والاكثر استقرارا في تاريخ سوريا الحديث، فكذلك هي حال مدد الاعتقال التي شهدها سجن المزة خلال تلك الفترة،  ويعتبر الضابط مصطفى فلاح، وكان مؤيدا لبعث العراق، السجين السياسي الذي امضى اطول فترة اعتقال في المزة (27 عاما). فقد ادخل الى السجن في العام 1971 وحكم بـ 15 عاما لكنه بقي فيه حتى مطلع العام .1998 اما رفيقه حسين زيدان فقد توفى في المزة عام 1991 بعد اصابته بنوبة قلبية. وقد شهدت تلك الفترة خصوصا في حقبة الثمانينات دخول اعداد كبيرة ومتنوعة المشارب من السجناء السياسيين، فكان هناك الشيوعيون والاخوان المسلمون والبعثيون وغيرهم من التيارات السياسية السورية المعارضة، بالاضافة الى اعداد كبيرة من اللبنانيين والفلسطينيين. واجريت في تلك الفترة، داخل السجن، محاكم ميدانية للعناصر التي اتهمت بتنفيذ اعمال ارهابية وعمليات اغتيال وقتل، وجرى شنقها واعدامها داخل اسوار المزة. اما ابرز قادة الاخوان المسلمين الذين عرفوا المزة، فمنهم مروان حديد قائد الجناح الراديكالي الذي اوقف في العام 1975 وتوفى اثر اضرابه عن الطعام في العام .1977 كذلك الشيخ سعيد حوا، منظّر الجناح ذاته، والذي لم يقم مدة طويلة في المزة، بل اطلق في بداية الثمانينات وغادر الى الاردن. في تلك الفترة كان هناك مهجع مشاغب يضم فقط الاخوان المسلمين، وللضغط عليهم قامت ادارة السجن بضم الروائي ابرهيم صموئيل اليهم، وكان هذا من الطائفة المسيحية وشيوعي الانتماء، ولكن بدلاً من تفجر الصراع والمناحرات بين الطرفين، راح ابرهيم صموئيل يتعايش معهم باحترام متبادل الى درجة مشاركتهم صيام شهر رمضان. اما في الفترة الاخيرة التي سبقت اغلاق سجن المزة فكان من بين نزلائه الصحافي نزار نيوف الناشط في مجال حقوق الانسان والحائز جوائز دولية عدة تدعم حرية الرأي والصحافة. واليوم لا يزال نيوف يقضي المدة المتبقية له من محكوميته في سجن آخر من السجون السورية، ينتظر بدوره الاغلاق!

 

جغرافيا السجن جغرافيا المعاناة

يقع السجن على هضبة مرتفعة وجرداء، تحازي الجبل الشاهق الذي بني عليه في بداية الثمانينات قصر الشعب الرئاسي المطل على مدينة دمشق وعلى السجن. تحيط بالهضبة ثلاثة حواجز دائرية من الاسلاك الشائكة، يقع الاول في اسفل الهضبة، والثاني يتوسطها والثالث في اعلاها محيطا بالساحة الخارجية للسجن. يجتاز الهضبة صعودا طريق اسفلتي متعرج يقطعه حاجزان للتدقيق في الهويات واذون الزيارة. وغالبا ما كانت عائلات المعتقلين تجبر على مغادرة السيارة بالقرب من الحاجز الاول، وتضطر لاكمال بقية الطريق الجبلي مشيا على الاقدام مع كل ما تحمله من حوائج ومأكولات وصولا الى بناء السجن نفسه حيث تخضع من جديد لتفتيش دقيق قبل الولوج الى ساحته الداخلية.

يتألف البناء من كتلتين تحوي كل منهما طبقتين اثنتين وتفصلهما ساحة السجن الداخلية. الكتلة الاولى تطل على مدينة دمشق وعلى الساحة الخارجية للسجن. للصعود الى الطبقة الاولى منها يجب اجتياز درج ضخم يقود الى بوابة السجن الخارجية ويجاوره من الجانبين في الاعلى رواقان يخدمان غرف الجنود ومهاجعهم التي حوّل احدها في الثمانينات من القرن المنصرم الى مكتب فخم لمدير السجن. في الطبقة الثانية من الكتلة الاولى هناك ايضا غرف للجنود ومستوصف لا يميزه عن بقية الزنازين سوى اطلالته على المدينة من خلال شرفة صغيرة مسيجة بقضبان حديد. قبل ولوج البوابة الخارجية للسجن فسحة صغيرة علق على جدرانها بعض الشعارات "المرحبة" بالزوار من مثل: "انا بعث وليمت اعداؤه عربي عربي عربي"، او ايـضــا: "الــســجــن: اصــلاح، تــهــذيب، تقويم".

بعد اجتياز البوابة الخارجية ساحة داخلية يحيط بها من جهة البناء الخارجي رواق معتم يخدم زنازين فردية (سواليل) بمساحة 1 *1.5 متر اضيفت في فترة لاحقة على بناء السجن. في الجهة المقابلة ترتفع الكتلة الثانية ذات الطبقتين حيث في الطبقة السفلى من جهة الساحة الداخلية غرفة معاون المدير وغرف المستودعات وغرف الزيارة وغرف التحقيق. في منتصف هذه الكتلة يطل الباب الحديد المزدوج الذي يؤدي الى القسم الداخلي من السجن. الزيارات تتم على شكلين: اما داخل غرفة صغيرة ذات كرسي وطاولة مكتب يجلس خلفها احد الحراس، واما وقوفا عند بوابة السجن الداخلية المطلة على الفسحة السماوية والمؤلفة من بابين متقابلين من القضبان الحديد تفصلهما فسحة صغيرة بعرض متر واحد يقف داخلها عنصران من الشرطة العسكرية فيما يقف السجين وراء الباب الدخلي وعائلته في الجهة المقابلة وراء الباب الخارجي.

القسم الداخلي يحوي في طبقته الارضية 6 مهاجع و10 زنازين فردية ومزدوجة تسمى "سلول ابو ريحة" وتعتبر الاكثر فظاعة في السجن. تكون هذه الزنازين عادة بمساحة 2*3 متر وتحوي مرحاضا عفنا ومكشوفا ودكة اسمنتية تستخدم كسرير، وهي لا تحوي اي نافذة للتهوئة او لدخول الضوء. وغالبا ما يوضع فيه المحكومون بالاعدام. في هذه الطبقة فسحة داخلية للتنفس بمساحة 8*10 متر، كما يوجد المطبخ وحمام السجن. الطبقة العلوية تحوي بدورها 6 مهاجع وفسحة للتنفس بمساحة 8*6 متر، وتحوي ايضا 14 زنزانة منفردة وخمس غرف بأسرة تتسع لعشرين شخصا، مساحة الواحدة منها 3*3 متر. المهاجع العلوية والسفلية يتسع كل واحد منها نظريا الى 25 شخصا لكن غالبا ما كان يزيد عدد نزلائها على الستين شخصا. لا نظام تدفئة في السجن، وغالبية المهاجع والزنازين والغرف تخلو من اي جهاز تدفئة. يقوم بخدمة المساجين واطعامهم مجندون فارون من الخدمة العسكرية ومعتقلون في المزة، يعرفون باسم البلديات. الاشخاص الذين يجري اعدامهم في السجن، لا تسلَّم جثثهم الى ذويهم بل تنقل في معظم الاحيان الى مشرحة كلية الطب في جامعة دمشق.


شـهـادة شـخـصـيـة لابـن مـعـتـقـل سـيـاسـي

نخاف ان نقرأ تاريخ سجن المزة، كتاريخ للاسماء الكبيرة التي مرت به. في حين ان مادة السجن وروحه هما اجساد الالوف من الاسماء المجهولة التي سجنت خلف قضبانه وتركت بصماتها ودماءها على جدرانه الصماء. لهؤلاء المجهولين نقدّم هذه الشهادة الشخصية، مع الاعتذار مسبقا إن بدا ما نكتبه ضئيلا امام معاناتهم وتاريخهم الشخصي. الاعتذار كذلك لأبي الراحل فهذه الشهادة قاصرة حتما، لأنها تأتي من خارج القضبان، وهو عاش وقضى داخلها. الاعتذار ايضا لعائلات المعتقلين الذين كنا نعبر امامهم لرؤية والدنا وتقبيله في غرفة الزيارة، في حين كانوا هم يمضون فترة زيارتهم وقوفا من خلف البوابة الحديد المزدوجة لا يستطيعون لمس عزيزهم او تقبيله، والداً كان ام ابنا ام اخا. والعذر الاخير من القارئ، فالكتابة هنا ستأخذ طابعا شخصيا وهذا امر لا نطيقه ولا نريده، لولا معرفتنا ان الحكاية الشخصية هنا تتقاطع مع حكايات كثيرة غيرها، ولولا املنا ان يشجع ذلك الآخرين للكتابة والكلام حفاظا على الذاكرة من الضياع.

ادخل والدي سجن المزة في العام 1970 وترك وراءه زوجة شابة (30 عاما) واماً لطفلين صغيرين، انا وكان عمري سنتين ونصف سنة واختي الرضيعة وكان عمرها لا يتجاوز شهورا. امضينا ما يزيد على العام ونصف العام قبل ان يسمح لنا بزيارته، وخلال تلك الفترة اخفي عنا وجود والدي في السجن، وقيل لنا انه مسافر الى الخارج. عندما بدأت اختي بالكلام وراحت تسألت عن ابيها كانت الوالدة تشير الى صورته الكبيرة المعلقة على جدار غرفة الجلوس مرددة: "هيدا بابا". في اول زيارة لنا الى سجن المزة قيل لنا اننا ذاهبون الى المطار لرؤية الوالد الكثير المشاغل الذي سيحط لبرهة من اجل رؤيتنا وسيعود ادراجه الى سفره الطويل. عند دخولنا غرفة الزيارة كان الوالد يجلس في انتظارنا وقد فقد ما يزيد على الـ25 كيلوغراما من وزنه نتيجة اصابته بمرض السكري. تقابل الاب والام بالدموع، والتفتت الوالدة تسأل اختي الصغيرة: "وينو بابا؟"، واذا بها تنظر في حال ضياع وخوف الى جدران الغرفة بحثا عن صورة والدها، لكنها لم تجدها بل وجدت صورا اخرى! اما الرجل المنهك الواقف امامها فاحتاجت لوقت طويل لتدرك انه والدها. ولوقت اطول بكثير احتجنا أيضاً نحن الاثنين لندرك ان البناء الذي نزوره ليس بمطار ولكنه سجن المزة. احتجنا الى سنوات لنفهم ان السجن في بلادنا ليس فقط للمجرمين ولكن ايضا لمعتقلي الرأي والضمير.

من الحوادث الباقية في الذاكرة والتي لا تزال تثير الرعب فينا، هي قدومنا اطفالا في احدى الزيارات محملين اكياس الحلوى، وحال دخولنا الباحة الداخلية للسجن هجم علينا احد الحراس محاولا انتزاع هذه الاكياس لشكه في امكان احتوائها على ما هو ممنوع. لم تنجح مساعيه امام بكائنا وصراخنا الذي نبه مدير السجن فتدخل وسمح لنا مشكورا بالابقاء عليها، لكن بكاءنا في كل مرة كنا نرى المساجين يعبرون ارتالاً الباحة الداخلية، معصوبي العيون، لم يغير شيئا من تقليد السجن هذا، واستمر المشهد سنوات طويلة لكننا لم نعتد عليه وإن توقف بكاؤنا.

امضى والدي في السجن 22 عاما، كان يسمح لنا بزيارته كل 15 يوما مرة واحدة ولمدة ساعة، نكون مضطرين فيها للكلام عن حياتنا الشخصية ومشاكلنا العائلية والعاطفية

والمادية، وكان ثمة حارس يرفع تقريره الى الجهات العليا فور انتهاء الزيارة.

المرة الوحيدة التي زرنا فيها والدي في غرفة مدير السجن المطلة على دمشق، كانت لمناسبة الزيارة الاولى والاخيرة لابن خاله وصديق شبابه الذي اصيب

بالسرطان المميت واراد رؤية والدي وتوديعه، فتقدم بطلب لزيارة استثنائية واستجيب طلبه. كان ذلك في نهاية الثمانينات، الحقبة التي تم فيها تشجير جبل قاسيون المطل على دمشق. دخل والدي الغرفة واخذ قريبه بالاحضان ثم التفت متطلعا الى منظر قاسيون من خلال النافذة وقال مذهولا: "يا الهي نبت الشجر على جبل قاسيون". يومذاك ادركت ما الذي تعنيه عشرون عاما. ومذذاك ادركت معنى هذا الزمن القاسي الذي مرّ.

كتبت شابا، وقد انتهت الزيارات الدورية مرة كل خمسة عشر يوما بوفاة والدي بعد 22 عاما من الاعتقال دون محاكمة، هذا الشعر الرديء متسائلا:

 

يا مكانا خلته

اثنين وعشرين شتاء

كيف لا اعرفك!

 

في الزاوية العتمة

ظلال دموعهم

كيف لا اعرفك!

في الباحة الشاسعة

زعيق جلادهم

كيف لا اعرفك!

بابž صدئ يغلق خلفي

كم اعرفه

وباب آخر يغلق خلفه

لا... لا اعرفه.

يا اثنين وعشرين شتاء

كيف لا اعرفك!

 

اليوم، كما في الامس، لا يزال السؤال هو هو. ولا يزال الطلب الوحيد الذي تقدمت به الى السلطات المختصة في اعقاب وفاة والدي من اجل تمكيني من زيارة الزنزانة التي سرقت 22 عاما من حياته، بدون جواب. وبدون جواب تبقى عشرات الاسئلة التي تراود ذهني، وتراود ذهن الوف العائلات التي مر ابناؤها من هناك.

اما الاشياء المادية التي تبقى لنا من سجن المزة، فهي قبر والدي وحقيبته الصغيرة التي اعيدت الينا بعيد وفاته، فاذا بها تحوي القليل من الملابس والكتب والادوية وادوات الحلاقة، و... تحوي22 عاماً من الاعتقال بدون محاكمة!

م. ع. ا


 

الملحق الرياضي | الملحق الثقافي | نهار الشباب| الدليل | نهار الانترنت | الصفحة الرئيسية | مساعدة


PDF Edition (Arabic) | HTML Edition (Arabic) | Listen to An-Nahar | Ad Rates | Classified Ads | Archives | Contact us | Feedback | About us | Main | Help

Copyright © 2000 An-Nahar Newspaper s.a.l. All rights reserved.