المــثــــقــــف والـطـــــــائــــفــة

هل يجوز أن نلصق بالمثقف أوصافاً دينية، طائفية أو مذهبية، لمجرّد أنه ينتمي بحكم الولادة والإسم والتنشئة والبيئة، أو في ضوء أحكام أخرى متفاوتة، كأن نقول "المثقف المسيحي" أو "المثقف المسلم" أو "المثقف الشيعي"... الخ. سؤال كهذا، يستدعيه في الزمن الراهن ما يروج من أوصاف تلحق ببعض المثقفين اللبنانيين، لمجرّد كونهم ينتمون الى طائفة معيّنة، أو لكونهم يكتبون عنها، مثلما استدعته طوال أعوام الحرب السابقة، أوصاف مماثلة طاولت مثقفين ينتمون الى أديان وطوائف مختلفة. هنا مقال، بتحفظ كامل، في "المثقف الشيعي".

أهدى النائب وليد جنبلاط كتاب وجيه كوثراني "بين فقه الإصلاح الشيعي وولاية الفقيه/ الدولة والمواطن" (صدر لدى "دار النهار") الى البطريرك صفير، في خلال إحدى زياراته الأخيرة لبكركي، مثلما أهدى كتب والده الى الرئيس سليم الحص. بات من عادات جنبلاط ان يهدي الكتب ويوظفها في الشأن السياسي، مثلما فعل عندما وظف رواية "سمرقند" لأمين معلوف في خلال انعقاد ما سمّي مؤتمر "الحوار الوطني" للتدليل على باطنية بعض الشخصيات اللبنانية. توظيف كتاب كوثراني ليس ببعيد عن توظيف رواية معلوف، فالأول يصب في خانة إلقاء الضوء على اقنعة زعيم الحشاشين حسن الصباح وعمر الخيام، والثاني يلقي الضوء على موضوع اشد تعقيداً هو "ولاية الفقيه" وشبحها الذي يخيم فوق لبنان والمنطقة انطلاقا من طهران.
لا ندري اذا كان وليد جنبلاط مهتماً بغير موضوع "ولاية الفقيه" في كتاب وجيه كوثراني هذا، والذي لطالما تحدث عنه في وسائل الاعلام. لا ندري أيضاً ماذا يقول "حزب الله" في الكتاب، وماذا يقول كوثراني في فعل الإهداء نفسه؟
اسئلة كثيرة يمكن استنباطها من فعل الاهداء، الارجح ان اجوبتها في مقدمة الكتاب التي تتحدث عن "المثقف وطائفته" في لبنان، وقد اتخذ هذا الموضوع حيزا في المدة الأخيرة، وخصوصا في سجالات جنبلاط مع "حزب الله". "المثقف وطائفته" موضوع للنقاش في النسيج اللبناني المركب طائفياً. قال عباس بيضون في مقال كتبه في موقعه الصحافي: "تكلم وليد جنبلاط عن مثقفين شيعة في غير خط "حزب الله" وسمّى بعضهم، أما السيد نصر الله فوجد هذا مفيداً لتقليل الصورة الشيعية لـ"حزب الله". أقلام مشايعة لـ"حزب الله" حاسبت هؤلاء المثقفين على تسمية نحلهم إياها سواهم، واتهمت هؤلاء بالبعد عن منابعهم الشيعية والجهل بالتاريخ الشيعي في لبنان واندراجهم في ثقافة كولونيالية. كل ذلك لم يجد جواباً من هؤلاء، لأنهم استشعروا أن ثمة قضية تُفتح باسمهم هم في غنىً عنها ولا دخل لهم فيها. لم يسمّ أيٌّ من هؤلاء نفسه، وهم فرادى ولم يجتمعوا قط في كتلة أو جبهة، مثقفاً شيعياً لا في أوله ولا آخرته، وليس عليه أن يدافع عن اسم لم ينتحله ولم يتسم به".

موضة قديمة جديدة

موضة "المثقف والطائفة" قديمة في لبنان، تناولها وجيه كوثراني في مقدمة كتابه المذكور اعلاه إذ قال: "لقد شاع في الآونة الاخيرة "مصطلح" بدأنا نقرأ ونسمع مفرداته في الخطاب الاعلامي المقروء والمسموع والمرئي، وهو مصطلح "المثقف الشيعي". لنلاحظ هنا أنها ليست المرة الاولى في تاريخ لبنان المعاصر حيث تستخدم صفة الدين والمذهب منسوبة الى مثقف ومثقفين لبنانيين. فعلى مدار الحرب الأهلية في لبنان، ولا سيما في سنواتها الاولى، شاع ايضا مصطلح "المثقفون المسيحيون" و"المسيحيون الديموقراطيون" و"المسيحيون العلمانيون" و"المسيحي الوطني". كان ذلك، ايضا، للتعبير عن سياق تاريخي متشابه، هو سياق تمايز فئة من المثقفين "بالسياسة" عن سياسة الاكثرية السائدة في الطائفة التي انتسبوا اليها ولادةً او تديناً، اي التزاماً لأحكام الدين وطقوسه دون التزام سياسات الحزب السائد او الحاكم في الطائفة".
اللافت ان الجماعات تلجأ الى توظيف المثقف في اطار "البروباغندا السياسية"، وهي توظَّف بحسب كوثراني أحياناً من كتلة طائفية منافسة، من اجل التحريض ضد خصومها من داخل "طائفتهم". حصل ذلك مع "المثقفين المسيحيين" على يد كتلة "الحركة الوطنية والاسلامية" في الحرب الاهلية، ويحصل هذا اليوم مع "المثقفين الشيعة". وتوظَّف أحياناً من موقع "اكثرية طائفة المثقف" الناقد، كما فعل السيد حسن نصرالله عندما رد على خصومه من الذين استخدموا نقد "المثقف الشيعي" ضد "حزب الله"، معتبراً ان هذا الاستخدام كان خدمة للحزب من حيث لا يدري اصحابه، وانه برهان على "لا طائفية الحزب"، وعلى حال التعدد القائم في الطائفة الشيعية. هذه خلاصة ما تؤول اليه حال المثقف الذي ينتقد "طائفته" عندما تتعبأ حول ايديولوجيا واحدة وثقافة واحدة وخط واحد: تعطيل دوره السياسي كمواطن، بل تعطيل دوره كمواطن باحث وكاتب، منتج لمعرفة ما، او فن او ابداع. ذلك ان الحياة السياسية اللبنانية اضحى متنها يمارَس داخل الطوائف.

خارج الحشد

ليس وجيه كوثراني وحده من تحدث عن هذه القضية. من يقرأ كتابات أحمد بيضون ومنى فياض وهاني فحص وعباس بيضون وجهاد الزين وآخرين، يعرف مكنون المثقفين الذين خرجوا من دائرة الطائفة الشيعية. او لنقل انهم ليسوا في حشد ثنائية "حزب الله" - حركة "امل". يقول وجيه كوثراني: "لقد اختزلت الحياة السياسية في لبنان بالطائفة، أو "بأكثريتها" المتجانسة والمتمثلة بالحزب الحاكم الوحيد فيها، أو بثنائية حزبية تتصارع من أجل توحيد الطائفة والنطق باسمها. لقد أضحى شعار وحدة الطائفة مدخلاً موصلاً للقول بوحدة لبنان، بل إن وحدة الطائفة هي شرط قيام الدولة". ويضيف: "عندما يتأمل الباحث في التاريخ أو علم الاجتماع السياسي في هذا الشعار، يعجب أولاً، ثم لا يفهم، وهو يفكّر، كيف أن وحدة الطائفة يمكن أن تؤدي الى وحدة الدولة والوطن!". ثم يسأل: "هل كتب على اللبناني من أجل أن يكون مواطناً ذا حقوق أن يتوحد مع طائفته في السياسة وفي الاجتماع المدني وفي الثقافة؟ وهل يجب أن تمر علاقته بالدولة ومؤسساتها وسلطاتها وإدارتها ووظائفها بالطائفة ايضاً؟ هل هذه العلاقة هي حقاً الوسيط الذي لا بد منه بين المواطنة والدولة؟".
والحال ان وحدة المواطنين لا الطوائف شرط بناء الدولة، لكن الطامة الكبرى في لبنان هي استقواء أهل السياسة بالدين، واستقواء أهل الدين بالسياسة. فهذه الثقافة، وقد قامت عليها ركائز الدولة السلطانية في التاريخ الاسلامي، أضحت مع ضرورات بناء الدولة الوطنية الحديثة عائقاً قاتلاً للدولة والمجتمع معاً. وتلك هي مؤشرات الفتن والحروب الاهلية المستدامة. في المقابل يجهد "حزب الله" في خطابه النظري ان يتمايز عن الطائفية السياسية الشيعية، وبل عن كل طائفية سياسية اخرى، بالتشديد على عقائديته الدينية وفقا لمذهب اهل البيت، اي وفقا لمذهب التشيع الامامي الاثني عشري. صريحةٌ هي ادبيات "حزب الله" في هذا المجال، ولا تدخل على ما يخيل الى البعض في التقية أو الباطنية. يخلص كوثراني الى ان "حزب الله" اسس ويؤسس لنمط جديد من الشيعية السياسية تفترق وتتمايز عن المدرسة الاصلاحية الشيعية التي شهدتها حركة الاصلاح الشيعي في النجف ولبنان وايران في العصر الحديث والمعاصر.

الهول اذا أقبل

 يلاقي الباحث احمد بيضون وجيه كوثراني في الكثير من افكاره، ففي كرّاسه "اشياع السنة واسنان الشيعة" يسأل "كيف حل بلبنان هذا البلاء؟" (صدر لدى "المركز اللبناني للدراسات") سؤال وجيه وكبير بكبر البلاء، وتعدد مصادره الداخلية والخارجية، المحلية والاقليمية. احمد بيضون المواطن الباحث والمثقف، واللبناني المتواضع الخارج على ربقة الطوائف، يدرك كيف يشخص المشكلات اللبنانية بعيدا عن الانحيازات والمواقف التعبوية، "أمكن له أن يشق خطه وسط متعارضات كثيرة وأن يتغيّر بدون قطع ويستقل بدون نبذ"، على وصف احد الشعراء. قال في مقابلة صحافية: "نشأنا في مواجهة مراجعنا الطائفية لا في حضنها ولا على ركبها (...) انا واحد من مجموعة أفراد (...) يشعرون بأن وجهة النظر الطائفية والتصنيف الطائفي هما تهديد لهم، وهما أمر هم مضطرون لمواجهته بصور متعددة ليس من الضرورة أن تكون دائماً صور رفض. فأحياناً قد تُدعى إلى مناسبات ويُطلب منك مشاركات بصفة طائفية ضمنية. والذين يدعونك لا يصرحون لك بها لكنك تشعر بأن ما جعل هذه المجموعة المدعوة الى القيام بعمل او لإعطاء رأي بأمر معين تتشكل على هذا النحو، إنما هو منطق طائفي. هذا المنطق هو الطاغي في البلد". يبحث احمد بيضون في كرّاسه الجديد،  في صورة البلاد، صورة لبنان التي يتواجه فيها السنّة والشيعة ويتوزّع المسيحيون بين معسكريهم هذين ويوشك المعسكران أن يأخذ كل بخناق الآخر.
من الجديد في رسم الجبهة، الى ماضي الاعتدال والتقارب، الى انتشار الأثر الإيراني، الى واجهة واحدة للشكوى، و"جيش السنّة" الفلسطيني، وأطوار الشيعة وولاية الفقيه وشيعة للدولة وشيعة للثورة. عناوين الورقة لنذر خفيّة... وإلى المأزق. والنتيجة التي يراها بيضون هي الآتي:
- "
حزب الله" أضعف من أن يستغني عن سلاحه ويستبقي مع ذلك وزنه في الطائفة وفي البلاد وفي خارجها أيضاً.
-
عجز "حزب الله" عن فك رهن دوره في الحياة اللبنانية بالسلاح وبإرادة مصدريه ومسهّلي وصوله.
-
جسامة التحول الذي مثله انتقال القيادة السنية الي صدارة الحملة على الدور السوري في لبنان وعلى الحاجة الإيرانية ـ السورية من ورائه، الى منفذ محدود الكلفة ومستمتع بحصانة سياسية لبنانية طائفية على الحدود الإسرائيلية.
هذا المأزق تأسس واستقر في حرب لبنان الطويلة ثم توالت فصول نموه في عهد الوصاية السورية ويهدد بتشكيلات جديدة هامشية وسرية على جانب طرفي الصراع الأساسي، السنّة والشيعة.
تخلص الورقة الى عنوان "الهول إذا أقبل"، وإنما هو احتمال "الانهيار" لا احتمال "الانفجار"، والمقصود بالانهيار هو انهيار مؤسسات الدولة من سياسية وإدارية وعسكرية وما قد يصحب ذلك من زلزلة للاقتصاد والنقد، والأخطر أن الحلقة اللبنانية ستليها حلقات أخرى في المنطقة وينذر حريقها بأن يكون معدياً. "فالشيعة من تركيا الى الهند ليسوا ما كانه المسيحيون في حرب لبنان الماضية. وأما السنّة فمواطنهم في العالم معروفة الطول والعرض وأعدادهم ومواردهم معلومة. وفي "الفتنة الكبرى" الجديدة، إذا لم يدرأها العالم الإسلامي (والعالم كله)، ستبدو "الجمل" و"صفين" "لعب عيال" على حد العبارة المصرية.
لا نعلم اذا كان وليد جنبلاط قرأ "كرّاس" احمد بيضون، وهل ارشده مستشاروه اليه، وكيف يمكنه ان يوظفه في جولاته السياسية واطلالته الاعلامية.
المهم القول ان احمد بيضون نحّات في مكنون الاجتماع اللبناني وسياساته، يرسم صورة جلية عن مكنونات المشكلة الشيعية - السنية في لبنان، تتقاطع افكاره مع افكار وجيه كوثراني وبعض المثقفين الذي لطالما كتبوا عن الواقع اللبناني من موقع المواطنية وليس الطائفية كما هو السائد في لبنان. فحين يتحدث بيضون عن طائفته فإنما يفعل ذلك من منطلق انه مواطن لبناني قبل كل شيء وليس من منطلق تضاد. وحين يتحدث عن الطوائف الأخرى لا يقوم بذلك من مبدأ انه شيعي، وهذا ما يتميز به بيضون وكوثراني وغيرهما. والحال، ان احسن ما ينبغي في فعله من خلال قراءة افكار بيضون هو ترويجها في الوسط الثقافي والشعبي، ربما تساهم في اعادة الامل، ولو ان الشر الطائفي المستطير اقوى.
لنستعرض قليلا ورقة احمد بيضون، يقول: "في الأساس، كان التشيع اللبناني، بما هو تشيع عربي، قريبا من مواقع الاعتدال في الإسلام السني، وهذا بخلاف التشيع الإيراني، بل أيضا بخلاف التشيع العراقي في بعض تجليات هذا الأخير، على الأقل. فإن وجود مقامات لكثرة من أئمة الشيعة في العراق وكذلك الأثر الإيراني المباشر في التشيع العراقي قد أمليا على هذا الأخير أسلوبا تحضر فيه النزعة الاحتفالية والشعائر الجماعية بقوة. وأما تدين الشيعة اللبنانيين فكان لا يزال لنحو ثلاثة عقود أو أربعة خلت، "طبيعيا"، إن جاز هذا الوصف، أو خافتا لا مغالاة فيه ولا استعراض (ولا تنتقص صفة "الخفوت" هذه من حرارته ولا من صدقه بالضرورة) وكان، في الكثرة الكاثرة من مناسباته، شأنا للأفراد لا للجماعات، يمارسونه في عزلة بيوتهم. وكان هؤلاء متسامحين أيضا، على أنحاء مختلفة، مع غير المتدينين في أوساطهم. وقد حملت أسرة إيرانية إلى النبطية، في جنوب لبنان، أسلوب الشيعة الإيرانيين المسرحي والفاقع التفاصيل في إحياء ذكرى عاشوراء، وكان ذلك في أوائل القرن العشرين. ولقيت هذه "البدعة" مساندة من بعض مشايخ المذهب المحليين ومعارضة من آخرين واستوت موضوعا لجدال طويل. ثم استقرت ولكن في النبطية وحدها، وأصبحت، بمرّ السنين وعلى التغليب، مناسبة لنوع من السياحة الداخلية وللتجارة ولظهور معان أخرى أكثرها اجتماعي أو سياسي وأقلـّها تقوي. وهي قد بقيت على هذه الحال إلى أن تقضّى شطر من الحرب اللبنانية الطويلة ووقع الاجتياح الإسرائيلي للبنان في سنة 1982. فكان أن اتخذت منحى آخر جعل من كثرة الدم المراق في المناسبة ومن عنف اللطم وشدة العويل مظهرا لمقاومة المحتلين".
على ان الطامة الكبرى في ان بتأرجح لبنان بين "شيعة للدولة وشيعة للثورة"، قامت صيغة التسوية الشيعية، في مرحلة ما بعد الحرب، على توزيع للمقاليد بين تنظيمي الطائفة يبدو غريبا حين ينظر إليه من أية دولة صحيحة البنية. أوكلت سياسة النصيب الشيعي من منّ السلطة وسلواها إلى حركة "أمل". وأوكل أمر مقاومة الاحتلال حصرا إلى "حزب الله". وكان "حزب الله" قد أبدى، في مستهل هذه المرحلة، رفضا حادا لاتفاق الطائف الذي رعى خروج البلاد من الحرب. على أنه عاد عن هذا الموقف بعدما ضمن الاحتفاظ بسلاحه باعتباره سلاح مقاومة للمحتل، فيما سلّمت التنظيمات المسلحة الأخرى سلاحها إلى الدولة أو انتفعت ببيعه. ثم قايض الحزب، في انتخابات 1992، وهي الأولى بعد الحرب، سحب شعار "الجمهورية الإسلامية" من التداول بدخول مجلس النواب. وقد فرض المرجع السوري تحالف التنظيمين في الانتخابات، اللذين لم يكن عهدهما قد بعد كثيرا بأوزار المواجهة بينهما في ميادين القتال. وهوأي المرجع السوري – قد واظب على هذا الفرض في كل انتخابات نيابية جرت بعد ذلك حتى انسحاب قواته من لبنان. واتخذ "حزب الله" مجلس النواب منبرا سياسيا لمقاومته المسلحة وموقعا للمراقبة والدعاوة ولتوثيق الأواصر بالمجتمع السياسي اللبناني على اختلاف مشاربه، وعزف، حتى سنة 2005، عن المشاركة في الحكومات. وبدا عيشه رغدا، في هذا المجتمع السياسي، ما دام يقاتل لتحرير الأرض ثم يحررها فعلا ويبقى، مع ذلك بمنأى عن مغانم السلطة على اختلافها. ولم يكن منصرفا، في العقدين الماضيين، إلى القتال وحده. وإنما باشر بناء ما أطلق عليه وضاح شرارة اسم "دولة حزب الله".
هذا وليس في وضع الشيعة، لجهة الدور الذي اضطلع به "حزب الله" بين صفوفهم، ما يشذّ عن منطق الطوائف اللبنانية إذا نحن لم نر منه غير تجهيز الطائفة نفسها بحيث تتولى خدمة نفسها. يكتب بيضون مسار العلاقات السنية - الشيعية تحديدا والطائفية في الاجمال ليصل الى زمن "الشر المستطير" الذي نعيشه، اي ذروة الاحتقان الشيعي - السني. يقول بيضون حين ننظر في منشأ المأزق اللبناني الراهن وغلبة الملمح السني - الشيعي على تقاسيمه، يتعين علينا، بطبيعة الحال، أن نأخذ في الاعتبار مسار العلاقات السورية - الأميركية من حرب الخليج في سنة 1991 إلى حرب العراق ابتداء من سنة 2003. فقد أسفرت الحرب الأولى عن التوطيد الأميركي للولاية السورية المنفردة على لبنان، بعدما كان اتفاق الطائف قد افترض لهذه الولاية صيغة عربية دولية: صيغة تبدأ من دمشق، طبعا، ولكنها تنتهي إلى الأمم المتحدة في نيويورك عبر جامعة الدول العربية في القاهرة. أما الحرب الثانية فذهبت بالإقرار الأميركي بهذه الولاية من أصله وهزت القناعة السعودية - الخليجية بالولاية نفسها أيضا، وتبع ذلك عن كثب تصدّر فرنسا الحملة على هذه الأخيرة. وقد عبّر عن هذه المواجهة بين منطق الوالي ومنطق مناوئيه تعبيرا متقابلا تمديد رئاسة أميل لحود والقرار 1559.
عند هذه النقطة، بدأ اتخاذ المواجهة طابعا سنيا شيعيا يصبح احتمالا متناميا بين احتمالاتها. وأصبح رفيق الحريري أيضا في عين العاصفة. كان القرار الدولي يقرن طلب الانسحاب السوري إلى طلب تخلي "حزب الله" عن سلاحه. وهذا الطلب الأخير – في مجلس الأمن – طلب أميركي خصوصا. وكان الحريري قد اقترع للتمديد، على كره ظاهر منه، ولبث متحفظا حيال القرار الدولي معتصما باعتبار مسألة السلاح الشيعي مسألة يعالجها الحوار الداخلي. وهو قد بذل جهودا كبيرة للترويج لهذا الفهم في الداخل والخارج. ولكنه اتهم مع ذلك، بسبب من موقفه في الداخل وحمولة علاقاته الدولية، بالضلوع في إعداد القرار وبرعاية المعارضة النيابية للتمديد. ثم حُمل على رحيل مهين من حكم بات محالا ائتمانه على المراد السوري منه، في وقت تواجه فيه سوريا خصوما عربا ودوليين، معلنين أو غير معلنين، يعدّ الحريري أقرب الساسة اللبنانيين إليهم على الإطلاق والمهندس الأول لمنافذهم إلى "الساحة" اللبنانية والقيّم الأول، في الحكم، على مصالحهم فيها. ولكن بقي يُخشى أن يسفر اقتراب الحريري، بعد اعتزاله، من المعارضة اللبنانية التي توسعت وازدادت تنوعا في وجه الوصي السوري، عن وضع لا يطيقه هذا الوصي. ذاك هو اشتمال تلك المعارضة على الجمهور الأعظم من سنّة لبنان. فهذا كان قمينا بقلب موازين البلاد جملة في وجه سلطة الوصاية. وبدا أن الحريري قد باشر ذاك الاقتراب فعلا بخطى جدّ حذرة.
يقول بيضون حين اغتيل الحريري، فسّر الأمين العام لـ"حزب الله" امتناع حزبه عن المشاركة في التشييع بـ"شيء" سنّي - شيعي شعر بوجوده في "الجو". وقد بدا الأمين العام الذي حرص على إبراز علاقاته الطيبة، حتى النهاية، بالراحل، متعجبا من هذا "الشيء" وهذا "الجو". ولم يكن الذين اكتشفوا هذا الشيء لتوّهم وتعجبوا منه بقلائل بين اللبنانيين. كان السنّة الحريريون، أي التيار الكاسح في الطائفة السنّية، قد انقلبوا جماعة، ومعهم حلفاء قدماء وآخرون أخذوا يستجدون، إلى مواجهة الوصاية السورية وطلب رحيلها وتنحية أعوانها اللبنانيين. كان في يد السنّة ما أثاره اغتيال الحريري وما سبقه وما تلاه من سخط لبثت أصداؤه ومفاعيله تتجاوب في البلاد وفي العالم. وهذا رصيد قيّم ولكنه أدرج، على الفور، في خريطة الصراع الشاسع المتشعب الذي يشكل التجاذب الأميركي - السوري تجليا جانبيا من تجلياته. وكان في يد الشيعة سلاح "حزب الله"، وهو سلاح سوري - إيراني أيضا له في الخريطة نفسها قيمة مضادة للقيمة التي اتخذها دم الحريري فور وقوع الاغتيال. هكذا أمست زيادة التوتر محتمة ما بين الفريق الشيعي المهيمن بما له من أسنان، والفريق السنّي المسيطر بما استجدّ له من أشياع.

الطوائف المتخصصة

على هذا، بدا "حزب الله" أضعف من أن يستغني عن سلاحه ويستبقي مع ذلك وزنه في الطائفة وفي البلاد وفي خارجها أيضا. فكان أن ذهب إلى الحرب وأخذ البلاد إلى أزمة مهلكة ليحمي السلاح ومهمة السلاح وثمرات السلاح. ليتفوه بالانتصارات الالهية من هنا جاءنا بلاء المواجهة السنية الشيعية. على أنه جاء أيضا من ماض أبعد. جاء من الظاهرة التي اطلق عليها احمد بيضون اسم "الطوائف المتخصصة". وهي قد فرضت أن يتخصص "شيعة" لبنان، غداة حرب لبنان الطويلة، في "التحرير والمقاومة"، ولعل هول الصور التي سيتمخض عنها، من غير شك، تواجُه السنّة والشيعة في لبنان يحدو بأصحاب المصالح الكبرى (ولا نقول العقلاء) في هذا الإقليم من العالم – سواء أوجد هؤلاء في الرياض أم في طهران أم في دمشق أم في غيرها، وهذا ناهيك بأركان السياسة اللبنانية – إلى بذل كل ما يستطاع لتجنيب لبنان هذه الكأس. نعلم ان بلاء سلاح "حزب الله" سيكون محور الاستحقاق الرئاسي في الأسابيع المقبلة، فالحزب الالهي جعله شعاره وركنا من اركانه المقدسة، الى حد أن نصرالله توعّد بنزع روح من يريد نزع سلاح حزبه، وتعبيره ايماء لاحوال اثمرتها لعبة "الطوائف المتخصصة".

خاتمة

السؤال: كيف ننجو من هذا البلاء؟ ربما حين ننتهي من الولاء المدقع الذي ما انفك يجثم على اكتاف هذا اللبنان، والمقصود استتباع بعض الجماعات اللبنانية او جميعها لثقافة القناصل (الغربية) او الحوزات (الايرانية) او مراكز المخابرات (السورية)، ولكن "لعنة الاستتباع" اصبحت في جينات الاشياع والاسنان والموارنة وسائر الطوائف الناجية والعالقة في الهواء *

شوقي نجم

النهار

17/09/2007