|
|
|
|
|
حدث ذلك في إحدى ليالي الصيف، لم تكن السماء تبرق وترعد، ولم تكن السيول تنهمر لتغرق طرقات حي الجبيلة الضيقة، ولم يكن الأطفال يتمسكون بأطراف أمهاتهم وهم يخبئون رؤوسهم تحت الأغطية خوفاً من غضب السماء. بل كانت ليلة سعيدة، ليلة من ليالي يوم الخميس التي اعتاد فيها بعض تجار خان الحرير وأصدقاؤهم السهر مع مطربهم المحبوب بكري كردي. كانت الألحان وكلمات المغني تنطلق محلقة من أحد بيوت الجبيلة لتدخل بيوتاً أخرى من نوافذها التي أشرعها أصحابها لهذه الغاية، فجعلوا يسهرون ويطربون، وهم متكئون، كأنهم جالسون أمام المغني العظيم الذي يعرفه معظم أهالي هذه المدينة التي أحبت الطرب منذ الأزل. كانوا يستمعون أيضاً إلى التعليقات وكلمات الاستحسان التي كان يطلقها بعض الحاضرين في الحوش، وربما تبسمت امرأة وهي ترفو جورباً الى جانب نافذتها لكلمة بذيئة ومرحة أطلقها أحدهم..وربما ضحك رجل مخضرم كان حضر يوماً سهرة مع المغني الذي اعتاد أن يحور كلمات أغنياته، في بعض الأحيان، ليضحك جمهوره، فما أبسط أن يهيج مستمعيه الغارقين في ألحانه وأغانيه عندما يصل الى جملة: جود بوصلك، في دور بين "الدلال والغضب"، ليحورها الى (كذا) في أصلك.. كان المغني قد بدأ للتو بدور " حرج
علي البابا ما روحش السينما " حين قرع الباب، لم يسمعه أحد من الحاضرين سوى
أحد أبناء صاحب البيت الذين ما كانوا يهدأون من أجل تلبية طلبات الساهرين. فتح الولد
وإذ بعبد الله، العامل في محل السيد كمال أكبر تجار خان الحرير. سأل عن معلمه
فطلب منه الولد أن ينتظر لحظة، ثم عاد من جديد الى الحوش التي كان فيها بكري
كردي يجبر مستمعيه على النهوض من كراسيهم وهم يتمايلون طرباً ويطلقون الآهات.
اقترب من السيد كمال، أكثر الحاضرين هيبة وجبروتاً، والذي كان جالساً على
الكنبة الى جانب الشيخ قدري، صديقه الحميم والشيخ علي الضرير صاحب النكتة
الجاهزة والمشهور بحبه للولائم. كانت
هذه هي المرة الأولى التي يأتون في طلبه فيقتلعوه من سهرة من سهرات يوم
الخميس. استعاذ بالله ثم لحق بالولد. قرب الباب اصطدم بوجه عبد الله الشاحب:
-
تعيش انت يا سيد كمال. فسأله
السيد كمال: من؟ فقال له إن سعيد قد أعطاه عمره. للحظة لم يفهم أن سعيد هو
محاسبه وماسك دفاتره.. وعندما تأكد صمت وتراجع..فاصطدم بصاحب البيت الذي كان
لحقه ليعرف الأخبار.. كان
السيد كمال قد رحل مع موظفه عبد الله، عندما أوقف صاحب البيت الفرقة
الموسيقية عن العزف، ثم اعتذر من المغني والحضور وقال: -
يا جماعة..وصلنا خبر مؤسف قبل لحظات، لقد توفي الأستاذ سعيد محاسب السيد
كمال. لذا، فأنا أرى أن نتوقف الليلة. سمعت
همهمات الحضور وهم يترحمون عليه..خاصة من الشيخ علي والشيخ قدري، وكذلك من
الحاج محمد التاجر في خان الحرير ومن أبو عادل صاحب دكان العرايسية في سوق
النسوان والذي يشاع أن الشباب قد عاد إليه من جديد. ترحم أبو
عادل على
الميت
،
ثم تلمس شاربيه وهو يشعر بقلبه يدق بسرعة لم يعهدها منذ زمن
بعيد. لحق
بالسيد كمال عدد من الحضور، ليكونوا الى جانبه في هذه اللحظات، وسمعت
اقتراحات من الآخرين تقول: -
موعدنا غداً في المقبرة..ومساء في العزاء، وهنا الخميس بعد
القادم.
* * * كان
الأستاذ سعيد هو الانسان المتعلم الوحيد في الخان، فقد تخرج من الثانوية
التجارية بامتياز، وكان يحلم في دخول الجامعة ليصبح محامياً، إلا أن وفاة
والديه المبكر واضطراره للسكن مع عمته الفقيرة، دفعاه الى البحث عن عمل ووأد
أحلامه في السفر الى دمشق لدخول الجامعة رغم قبوله فيها. وعندما عرض نفسه على
السيد كمال لم يتأخر هذا في قبوله للعمل عنده كمحاسب، ثم راح يعتمد عليه في
كل أعماله وأصبح ذراعه اليمنى في السوق.. كان
سعيد محبوباً في كل السوق، حتى أنه كان ملطفاً لجبروت السيد كمال أثناء
التعامل مع الزبائن. كان لطيفاً بطبعه، متحمساً للعلم ولكل جديد يصل الى
أسماعه، ولهذا الأمر بالذات، لم يكن من الغرابة تحمسه لثورة مصر ضد الملك
فاروق، والتي أطاحت بعرشه وجاءت بمجموعة من الشباب الى الحكم لا يكبرونه إلا
ببعض السنين. كان(رحمة الله عليه) يستمع باستمرار الى إذاعة صوت العرب ويشرح
ما تقوله للتجار الذين اعتادوا الجلوس في مقدمة دكاكينهم في الخان. وفي
إحدى المرات، وبينما كان جالساً يستظل بسقيفة المحل،
رفع عينيه صدفة
الى
الجدار المقابل لمحلهم، حيث تصطف عدة نوافذ دائمة الإغلاق..ولكن في هذه المرة
كانت إحدى هذه النوافذ مشرعة ووقفت بجانبها أجمل فتاة قابلتها عيناه..اندهش
ولم يصدق ما كان يراه. من أين جاءت هذه المرأة..؟ كان أمضى في هذا المحل عدة
سنوات دون أن يلمحها أو يسمع عنها؟ هل هي زائرة عند أقربائها ولن تلبث أن
ترحل بعد زمن قصير؟ كانت
سعاد قد تعبت من شغل البيت ومساعدة أمها فوقفت تسرح بنظرها في أسقف الأسواق
الباهتة وفي الناس الذين كانوا يروحون ويجيئون في الخان..لم تكن سعاد منتبهة
إلى أنها قد سحرت سعيد، أكثر الرجال لطفاً في خان الحرير، سحرته بوجهها الذي
لا مثيل لجماله في كل حلب. وعندما شعرت أن عليها أن تنظر الى مكان معين في
باحة الخان، وأن ذلك ضروري كضرورة التنفس واستنشاق الهواء، شاهدته منبهراً
بها، لا يرفع نظره عنها.. فتراجعت بهدوء وأغلقت النافذة وهي لا تزال متعلقة
بنظرته. لقد عشقها سعيد وأصبح طوال النهار ينتظر انفراج أباجور النافذة
من
جديد ليثبت
لنفسه أن ما رآه لم يكن حلماً بل حقيقة، وحقيقة ستغير مجرى حياته القصيرة
جداً. بالتالي، كانت سعاد تسرع دائماً، وحالما تسنح لها الفرصة، لتسترق النظر
عبر شقوق الأباجور الى حيث اعتاد ذلك الشاب الجلوس والنظر إلى الأعلى..وعندما
فتحت الأباجور للمرة الثانية ، لم تكن تدري أنها بهذا العمل قد دفعته الى
السؤال عنها ثم طلبها من أبيها الحاج عبد القادر صاحب أصغر دكان في سوق
المدينة. عاشا
معاً ثلاث سنوات فقط..وبما أن الموت الفجائي يأتيهم بالوراثة، وأنه قد أودى
بأبيه وأمه، ومن قبلهما
بأعمامه وأجداده (لم يبق إلا على عمته التي كان يعيش عندها) فقد مات الأستاذ
سعيد بشكل فجائي أيضاً بينما كان ساهراً مع زوجته وأبنه ناصر ذي السنتين في
بيت حميه. لم
يتخلف أحد من تجار خان الحرير عن الخروج في جنازة الأستاذ سعيد. دفنوه
وترحموا عليه، وفي المساء أقاموا العزاء لمدة يومين على روحه الطاهرة. بينما
كانت
سعاد،
أرملة المرحوم ذات الجمال الخارق، غير مصدقة أن سعيد قد تركها
ورحل.
* * * عندما
قدم الشاب كمال الى خان الحرير لم يكن يحمل معه سوى طموحه الذي بدون حدود،
وصداقة الشيخ قدري الذي يكن له كل المحبة والتقدير، والذي
قدمه
الى السيد عبد المجيد التاجر المعروف في كل سوق المدينة باستقامته وحبه
للتواضع رغم الثروة التي بناها من محله في الخان. أعجبه في كمال حبه وتفانيه
في العمل، أعجبه فيه أيضاً رغبته في إظهار بعض الحزم تجاه بعض التجار الذين
كانوا يطمعون بلطف وتواضع السيد عبد المجيد. لذا رغب في الارتباط به أكثر من
كونهما معلماً وموظفاً..فعرض عليه تزويجه ابنته مطيعة التي لم تكن على شيء
كبير من الجمال، بل كانت كما اعتادت أمها أن تصفها..جميلة العقل
والنفس..وهكذا استطاع الشاب كمال أن يكسب ود الأسرة كلها، فأحبته زوجته مطيعة
بعنف، وقبل أن يفقد أبوها السيد عبد المجيد وعيه وهو على فراش الموت، همس في
أذن صهره الشاب أنه سيترك
له كل شيء، وأن مطيعة وأمها (التي لم تلد غيرها لأنها كانت قليلة الذرية)
أصبحتا معلقتين في رقبته. وما إن مات السيد عبد المجيد حتى أصبحوا يدعونه
بالسيد كمال، وتحول الى مالك للمحل في خان الحرير وكل ما فيه. كان
السيد كمال يحب أن يرزق بولد ذكر يرث عنه كل ما صار يملك من جاه ومال..ولكن
مطيعة لم تكن سوى ابنة أمها..فقد كانت هي أيضاً قليلة الذرية، فلم تلد له سوى
ابنة دميمة أسموها ذكية لعل الاسم يخفي شيئاً من دمامتها..كان السيد كمال
دائم التشكي أمام زوجته لأنها لم تلد له ولداً تطيب به خاطره، ولكي تنسيه
علتها قدمت له كل حبها واهتمامها، ولكن الرجل هو الرجل، فقد تركها السيد كمال
تشعر باستمرار أنها لم تقدم له أعز ما يريد. وعندما مات الأستاذ سعيد، مساعده
ومحاسبه، وترك وراءه أجمل أرملة تحتويها بيوت حلب على الإطلاق، شعر بشيء من
الأمل، وهو أن الحياة قد تمنحه هذه الفرصة، ولكن ليس من الست مطيعة، زوجته
متواضعة الجمال، بل من صاحبة أجمل وجه يمكن أن يضمها رجل.
* * * رغم
أن خان الحرير يقع قرب شارع وراء الجامع، حيث يمكن الوصول إليه دون الدخول في
شبكة أسواق المدينة المغطاة والضيقة والمكتظة بالناس والبضائع والحيوانات.
إلا ان السيد كمال اعتاد أن يركن سيارته بجانب مدخل سوق الزرب المواجه
للقلعة، ثم السير في
الأسواق محاطاً
بأصدقائه يرد التحيات للتجار الذين يعرفون مواعيد مروره، فيقفون للسلام عليه
ودعوته للتفضل بزيارتهم. كانت هذه اللحظات من أعز أوقات النهار التي يحرص
عليها، فهي تؤكد حب التجار له وأهميته عندهم. وفي
اليوم الرابع لجنازة المرحوم، كان السيد كمال بصحبة صديقه العزيز وجاره في
الخان السيد منير، الذي تخصص ببيع ألبسة القرويين، يمران من أمام دكان مغلقة
لا يزيد عرضها عن متر واحد، هي دكان الحاج عبد القادر. همس منير الى السيد
كمال : -
الحاج عبد القادر ما يزال في حزن على صهره. فقال السيد كمال : -
رحمة الله عليه.. استمرا
في المسير يردان التحية للتجار حتى وصلا الى مدخل الخان. هناك اعتاد اللحام
أبو حسن أن
يعلق شقق
الخواريف الصغيرة المذبوحة بعيداً عن رقابة الحكومة، فدخلاه ثم انفصلا في
الباحة. دخل
كل الى محله بينما كان اللحام أبو حسن يصيح: خروف..فستق خروف. وبينما
كان السيد كمال جالساً بأبهة خلف مكتبه الضخم، يراجع آخر ماسجله محاسبه
المرحوم، دخل الدلال أبو يوسف متأبطاً حقيبته الجلدية المنتفخة بشلل الخيوط
التي يقوم بالتوسط لدى التجار من الباعة والمشترين لبيعها فيعقد الصفقات لقاء
دلالة بنسبة متفق عليها بين التجار. سلم الرجل وجلس على مقعد أمام السيد كمال
ووضع الحقيبة في حضنه. لم يكن الطقس حاراً بعد في الخارج ومع ذلك فقد تشربت
حافة طربوشه بالعرق حتى اسودت. كان عليه أن ينتظر قليلاً، فقد رن الهاتف وكان
المتحدث يرجو السيد كمال ليبيعه قليلاً من بضاعة شديدة الأهمية بالنسبة إليه،
إلا أن السيد كمال كان يرفض بيعه الكمية التي يطلبها رغم قلتها، وأخيراً وافق
السيد كمال بشروط، وأغلق الهاتف..طلب من عبد الله أن يرسل ثوبين من الدسان
الجديد الى التاجر عبد الرحيم. ترك عبد الله، مابيده وراح يؤمن الطلب. عندها
تذكر السيد كمال أن الدلال ينتظر ليكلمه. فقال له: -
تفضل ياأبو يوسف..؟ -
يزيد فضلك..هل عندك شيء لنا ياسيد كمال؟ فقال السيد كمال : -
ماعندي شيء حالياً. -
أنت سيد السوق ياسيد كمال..أعطنا شيئاً نشتغل به. فقال السيد كمال وهو يبدي
انزعاجاً من إلحاح الدلال: -
لا يوجد شيء والله ياأبو يوسف..كما ترى، توفى الأستاذ سعيد وأنا بمفردي، أصبر
علي مدة. وبما
أن أبو يوسف اعتاد ألا يستسلم، فقد أخذ المبادرة وعرض على السيد كمال شيئاً
من عنده: -
لك عندي شرية حلوة ومستعجلة ستربح منها قرشين نظيفين. هز
السيد كمال رأسه مستفسراً ولكن دون شهية، فهو يعرف عادات الدلالين، فقال أبو
يوسف: -
عشرون طناً من الحرير. -
عند من؟ -
سوف ينزلها جارك أبو نعيم. -
بكم؟ -
ببلاش..بأربعين ليرة . أبو نعيم محتاج للسيولة. استحسن
السيد كمال الصفقة، فالسعر مناسب جداً..قال للدلال وهو لايبدي
حماسة: -
اشتغل بها..سآخذها. عندها
انتفض الدلال أبو يوسف فرحاً، فالصفقة ستدر عليه نسبة لابأس بها، وعندما يطلب
السيد كمال من أحد الدلالين أن يشتغل بصفقة معينة، فهذا معناه أن الصفقة قد
تمت مئة بالمئة. قال قبل أن يخرج: -
مافي مثلك ياسيد كمال..أنت سيد السوق، السلام عليكم.
* * * في ذلك الوقت، كانت سعاد التي لم
تصدق في البداية أن سعيد قد مات فعلاً، تعي شيئاً فشيئاً ماحدث. وكلما
كانت
تعي
أكثر أنه لن يعود ، كانت
تزداد
حزناً وألماً على زوجها الذي لم تر منه إلا ماتحبه المرأة من زوجها..لقد مات
ألطف الناس وأرقهم قلباً. ذهب أعظم زوج في الدنيا ولن يعود بعد اليوم. لذا،
لم تكن سعاد تتوقف عن البكاء. كان قلب أمها ينفرط عليها، وعلى أبنها ناصر
الدين الذي كان يبكي لبكاء أمه. لم يكن يرضى الإبتعاد عنها خوفاً من تذهب هي
الأخرى. حاولت
أم سعاد أن تهدئ ابنتها المثلومة: -
ستموتين نفسك. هذه إرادة الله. فأجابتها
سعاد من بين موعها: -
أوه ياأمي..لو كنت أنا ولا هو. -
بعيد الشر. مسحت
سعاد دموعها وقد ازداد جمالها بازدياد بكائها وقالت: -
سعيد مات..؟؟ مستحيل، فأنا غير مصدقة. هل هذا معقول يا أمي..؟ طوال
عمره لم يشتك من شيء، لماذا يموت، لماذا..؟ لم
تجد الأم شيئاً لتقوله سوى أن ذلك كان إرادة الله..ثم سكتت لتترك ابنتها تذرف
الدموع على حبيبها كما يحلو لها لعلها في النهاية تهدأ وترتاح.
* * * كان أجمل وقت عند السيد كمال هو
عندما يجلس تحت سقيفة محله في الخان ويدخن الأركيلة ويتبادل الأحاديث مع
أصدقائه وزواره. أما بعد أن ترملت سعاد فقد أصبح الجلوس هناك أجمل ومدعاة
للأمل بأنها
ربما فتحت النافذة المغلقة وأطلت بوجهها الصبوح ليتمعن في أجمل ماخلق
الله..فهو مايزال حتى الان يذكرها حينما كانت صغيرة، حين كانت تطل من نافذتها
لتتأمل الدنيا من مكانها وتدعه يتأمل حسنها وماأبدعه الله في وجهها. أما
عندما ذهب ليطلبها من أبيها للأستاذ سعيد، بصحبة الشيخ قدري والسيد منير
والشيخ علي، فقد دخلت عليهم لتقدم لهم القهوة، فلم يقو إلا أن يطرق في الأرض
ويلعن حظه. جلس
يدخن الأركيلة ويشرب الشاي بصحبة الشيخ قدري، صديقه القديم، وإمام المسجد
الصغير القريب من الخان. كانا يتحادثان بود بينما كان يلقي نظرات سريعة الى
النافذة المغلقة ويطلق في بعض الأحايين تنهدات لم يسمح لأحد أن يعرف معناها
حتى ولو كان صديقه الأقرب الشيخ قدري. قال
الشيخ قدري يشكره لأنه تحمل مصاريف الجنازة والعزاء: -
بارك الله فيك ياسيد كمال، لك الثواب عند الله تعالى، الحاج عبد القادر على
قدر الحال وليس لديه مايتحمل به المصاريف. -
أتمنى أن يكون الشيخ علي قد شبع من اللحم بعجين؟ -
خرج مثل المرأة الحبلى..أما الآن فهو يدعو لك بطول العمر، وأنت اعلم، الدعاء
على قد الشبع. ضحكا
ثم تنهد السيد كمال وقال وكأنه يبث ألمه الى صديقه الشيخ: -
الدنيا فيها موت وحياة ياشيخي، بدأت أقلق، لم يرزقني الله ولداً
يحمل إسمي ويستلم من بعدي، ليس عندي سوى ابنتي ذكية، وأنت تعلم جيداً
مشكلتها..حتى الآن لم يتقدم لها أحد، والصهر كما تعلم ليس مثل الأبن، وقد
يأتي على طمع. -
المال والبنون زينة الحياة الدنيا، فتابع السيد كمال قائلاً: -
مطيعة زوجتي حبلها قليل، أنا الذي كنت أتمنى أن أرزق بدزينة من الأولاد، كأن
غضب الله قد حلّ علي. -
لا ياشيخ كمال لا..ليس هكذا.. -
كل الذي أطلبه من الله عز وجل صبياً أفرح به في حياتي ويرثني بعد مماتي. حملق
الشيخ قدري في وجهه الحزين وأخبره أن الوقت لم يفت بعد..ولكن كيف لم يفت..؟
بل قل فات الوقت ياشيخ قدري..عندها نطق الشيخ بما كان السيد كمال ينتظره منه،
قال له إن عليه أن يتزوج من جديد مادام الهدف هو الخلفة الحسنة. قال السيد
كمال: -
ماذا سيقول الناس عني..؟ ابنتي قاعدة في البيت وزوجتي التي وقفت الى جانبي
وأعطتني كل شيء.. أنسى الآن جميلها وأتزوج عليها؟..لاياشيخي لا..أنا لست ممن
يتحملون مثل هذه الأقاويل.. أخذ
الشيخ قدري على عاتقه إقناعه بالزواج. أخبره أنه يجب عليه ألا يخجل، فهو يطلب
شيئاً هو في الأساس من حقه وهو الخلفة، والبنين تحديداً، وقال له إن زوجته لم
تستطع أن تؤمن ذلك لقصور فيها ثم أضاف: -
وهل الحاج محمد أفضل منك، إنه الآن يشرع في البحث عن زوجة أخرى
نكاية
بزوجته أم محمود، والا أبو عادل الذي رجع له الشباب كما يقول، وإن زوجته قد
هرمت سريعاً..؟ ضحك
السيد كمال طويلاً وهو ينظر الى النافذة المغلقة، ثم اختلط ضحكهما بصوت أبو
حسن وهو ينادي: -
خروف..خروف. أما
في البيت فقد أصبح السيد كمال كثير التبرم، لايعجبه العجب، وحينما كان يبحث
ذات مساء في الراديو بين الإذاعات صادف صوت عبد الناصر وهو يخطب، ذلك اللعين
كم يكرهه ويكره كل من يحبه، أمثال جاره أبو نعيم الذي لايترك مناسبة تمضي دون
أن يمتدحه. كانت زوجته الست مطيعة جالسة مع ابنتها ذكية وهما تخيطان. هذا
العمل النسائي الذي لاينتهي أبداً..كانت ذكية تحكي لأمها عن أحداث حفلة خطوبة
سمعت عنها في أحد الاستقبالات النسائية..كان والد العروس يصر على مهر خمسة
بخمسة، ولكن ابا العريس كان يجادل لعله ينزل المهر ولو قليلاً..وكلما كان أبو
العريس يقترح مبلغاً ما كان أبو العروس يدخل الى احدى الغرف ليستشير
زوجته..ظل يفعل ذلك حتى فقد أبو العريس أعصابه فقلب الطاولة التي كانوا
جالسين إليها بصحبة الشيخ وحلف يميناً بالحرام أنه لم يعد يريد هذه
الجازة.. كان
عبد الناصر يعلن قرار تأميم قناة السويس عندما غرقت الأم وابنتها في نوبة
طويلة من الضحك، عندها أطفأ السيد كمال الراديو بعصبية ونهض وهو غاضب ودخل
غرفته وصفق الباب وسط دهشة المرأتين. لم يكن غاضباً مما سمعه من الراديو، بل
من حظه التعس في هذه الدنيا. كانت
الست مطيعة تشعر بمزاج زوجها الذي تغير في الآونة الأخيرة..همست لابنتها بأن
أباها قد تغير، وأنها خائفة من شيء لاتعرف ماهو. هدأت ذكية أمها ثم شرعتا
تخيطان من جديد بصمت.
* * * للسنة
الثالثة على التوالي، تقدم أحمد الأخ الأصغر لسعاد ، لامتحانات البكالورية،
دون أن يكون أحد ما متأكداً من نجاحه، فقد ترك فيه صهره المرحوم حب السياسة،
وبالتحديد حب جمال عبد الناصر. كان اهتمامه الكبير منصباً على الخوض في
الأحاديث والصراعات السياسية. وكان التواجد في المدرسة يعني له كسب الأنصار
لآرائه السياسية أو الصراع مع خصومه. وعندما تلا عبد الناصر قرار تأميم
القناة في خطابه المشهور في مدينة الإسكندرية، لم يسمعه أحمد، لأن إشعال
المذياع كان ممنوعاً في البيت
بسبب الحزن على الصهر الراحل. لم يسمع بالبيان إلا في اليوم التالي من
صديقيه رياض وحسان اللذين تسابقا في سرد كل كلماته لأحمد وكأنهما قد حفظاه عن
ظهر قلب.. وعندما
كان أحمد ينقل كتبه وأشياءه الخاصة من غرفته تاركاً إياها لأخته لتحتلها من
جديد مع ابنها ناصر، كان يتحرق شوقاً لتشغيل الراديو والاستماع الى ماخلفه
قرار التأمين، إلا أن أمه منعته هامسة أنهم في حزن وأن تشغيل الراديو يعني
إساءة كبيرة لروح المرحوم. ولكن هذا لم يمنع الأب من أن يتمنى على ابنه صراحة
أن يهديه أخيراً نجاحاً في الثانوية العامة، وكان يردد على مسامعه باستمرار
أن عليه أن يهتم بدروسه بقدر اهتمامه بالسياسة..ولكن أحمد، المتحمس أبداً،
كان يصرح بأن لا فائدة للدراسة مادام الوطن في خطر. كانت
سعاد المجروحة بسبب وفاة زوجها الحبيب، تتابع هذه الأحاديث وهي تبتسم
ابتسامتها الصغيرة تلك التي لاتشي إلا بمقدار ألمها الكبير على زوجها الذي
اختطفه منها الموت..فهي تحب أخاها أحمد، الذي اختصر الحياة وهمومها بقليل من
الشعارات والتمنيات التي هي أبسط بكثير مما واجهته وهي في عز
الشباب. بعد
عدة أيام ذهبت أم سعاد برفقة ابنها أحمد الى بيت عمة المرحوم، حيث كان يعيش
مع زوجته وابنه، وأحضرا كل مايمكن حمله من أشياء تخص سعاد وابنها وزوجها..حتى
أن أحمد حرص على حمل الكثير من الكتب وأشياء لالزوم لها مثل منفضة سكائر
ومصباح مكتب للقراءة، ونظارات طبية كان المرحوم يضعها حين القراءة، كما حرص
على انتزاع صورة شخصية مؤطرة لصهره ودسها في الحقائب..ومن أجل ذكراه الغالية،
لف مجموعة من ربطات العنق وقدمها الى أخته وهو يبتسم برقة. علقت سعاد الصورة
بجانب نافذتها، بحيث تكون أول شيء يمكن أن تقع عليه عيناها حينما تستيقظ، ثم
جلست تنظر إليها وهي تشم ربطات العنق متعرفة على رائحة الزوج الراحل..كانت
هناك دمعة تترقرق في عينيها، مالبثت أن تحولت الى سيل من الدموع راح ينهمر
بغزارة.
* * * أما
في سوق النسوان فالأمر يختلف كثيراً عنه في أسواق المدينة الأخرى، فحيثما
وجدت المرأة كانت الحياة أكثر بهجة وتلوناً..هنا لا وجود للوجوه الحزينة
والملولة، لاوجود للسحنات المتعجرفة أو المتعبة والخائفة من تقلبات السوق.
بضائع سوق النسوان ذات ألوان أكثر إشراقاً، فكل البضائع المعروضة في دكاكينه
خاصة بالعرائس، حتى أن من يدخل هذا السوق يحسب نفسه في عرس حقيقي. فيه
الأنوار تسطع بقوة، وأغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وليلى مراد تطغى على كل ضجيج
يمكن أن تصادفه في الأسواق الأخرى. حتى الباعة يتصفون بالظرف واللباقة، ومنهم
بالطبع أبو عادل الذي راح يدعي منذ مدة أن الشباب قد عاد إليه من جديد، رغم
أنه لم يبارحه على الإطلاق. ما
كان
أبو عادل يترك أية امرأة تمر في السوق إلا ويتابعها بعينيه النهمتين وهو يفتل
شاربيه، حتى أن كثيرات منهن اعتدن التوجه الى دكانه بسبب جمال وجهه وظرافة
لسانه، كان يمزح مع زبوناته، ويحاول التغزل مع الجميلات منهن. وعندما تمر
إحداهن ولاتتوقف عنده، يمسح على شاربيه وينادي جاره عبد السلام يريد إسماعها
إطراءه: -
الليلة القمر بدر ياحسون. وعندما تبتسم المرأة، يجيبه عبد السلام من دكانه أن
الرسالة قد وصلت. مشكلة
أبو عادل أن زوجته قد ولدت له جيشاً من الأطفال، بل بالأحرى أنها قرفت الزواج
وسيرته بسبب ذلك، فقد ولدت
تسعة والعاشر مايزال في بطنها..أكبرهم هو عادل الطالب في الثانوية وزميل أحمد
في المدرسة، ولكنه يختلف عنه بتدينه الشديد وبمواقفه السياسية ايضاً. أصبحت
أم عادل ترتجف كلما اقترب منها زوجها، فهي تعلم جيداً أن نتيجة ذلك سيكون
ولداً آخر..لذا فقد ابتدأ أبو عادل يتحدث منذ مدة عن رغبته في الزواج من
أخرى، فرجولته لاحدود لها، وهو يقول إن زوجته لاتمانع في ذلك، لأنها ستتخلص
منه ومن رغباته الليلية بالتأكيد، ولهذا السبب ما كان يترك زبونة من زبونات
سوق النسوان الصبايا إلا ويتمعن فيها..فقد عاد من جديد الى الشباب وأصبح يبحث
لنفسه عن زوجة جديدة. وماإن ترملت ابنة الحاج عبد القادر المشهورة بجمالها
الأسطوري حتى هجره النوم وراح يحسب ويخطط ويتحين الفرصة لمقابلة أبيها، فقد
وجد ضالته أخيراً، فهي اجمل إمرأة سمع بها الرجال في كل المدينة. وفي
أحد الأيام، وبعد أن فقد قدرته على الصبر، ورغم أنه لم يمر سوى أيام معدودة
على وفاة المرحوم، طلب أبو عادل من جاره الانتباه الى دكانه وذهب لمقابلة
الحاج عبد القادر. أما
الحاج عبد القادر فهو
على
قد الحال، فهو لايزيد عن بائع لليف الحمام والأكياس الخاصة بالتفريك، وهو
لهذا السبب لايحتاج إلا الى دكان متر بمتر في سوق السقطية المزدحم والذي
لايبعد كثيراً عن خان الحرير. في
ذلك اليوم كان الحاج عبد القادر غاطساً في دكانه الضيقة يدخن وهو يراقب
المارة مفكراً في أموره وأمور أهل بيته (فقد عادت إليه ابنته)، ولم يلحظ كيف
أصبح أبو عادل أمام الدكان وقد غطى عليه المشهد كله. نهض
وسلم عليه ودعاه للجلوس إلا أن أبو عادل ظل واقفاً. فقد أراد الدخول في
الموضوع الذي جاء من أجله مباشرة
ولكنه
لم يكن يعرف السبيل الى ذلك. راح يشرح وضعه وكيف أن الله قد رزقه وأن شغله
عال العال، وأنه قد ابتلي بزوجة حبّالة ولاّدة لاتهدأ ولاتستكين، فجاءت له
بجيش من الأطفال، وأصبحت هي كالبرميل..كل ذلك والحاج عبد القادر لايعرف
علاقته هو
بالموضوع،
وعندما سأله عن علاقته بالقصة، استمر في الكلام فقال له إنه مايزال
بصحته وإنه بالعكس، لم يتمتع بالشباب كما هو عليه الآن وإنه جاء إليه يطلب
القرب منه. جلس
الحاج عبد القادر من المفاجأة ثم أشعل سيكارة ثانية رغم أن الأولى لم تكن قد
احترقت بعد. وعندما أراد فتح فمه لينطق لم يتركه أبو عادل: -
إنني أعرف أن الوقت غير مناسب لطرح الموضوع ولكن أرجوك ياحاج أن تعذرني، وكل
ماأريده هو أن تعرف رغبتي بالقرب منكم، وأنني سأقوم بشراء بيت وتجهيزه ولكنني
راغب في استشارتك في هذا الأمر، وفي كل صغيرة وكبيرة فيما يتعلق بالبيت
ومكانه وسعته ونوعية فرشه..اترك الأمر بيننا، وخذ الوقت اللازم للتفكير. كل
الوقت اللازم ياحاج عبد القادر..فأنا غير مستعجل..والآن، السلام عليكم. كانت
مفاجأة كبيرة للحاج عبد القادر، فنسي أن يرد عليه السلام..لم يفعل شيئاً سوى
مد جذعه خارج دكانه ليتابع أبو عادل الذي اختلط بين المارة وغاب..كفص ملح
وذاب. وفي
المساء وجد فرصة سانحة. فقد كانت سعاد في غرفتها تحاول تنويم ابنها. جلس على
الكنبة الى جانب زوجته ثم همس أن أبو عادل قد مر عليه اليوم في الدكان. سألته
أم سعاد عن السبب، كانت تحسب أنه قد أتى الى زوجها ليحكي له، كعادته، عن
زوجته التي هرمت سريعاً وعن شبابه الذي عاد اليه من جديد. قال: -
يفكر بالزواج مرة ثانية. فقالت أم سعاد متعاطفة مع أم عادل: -
قال شفت العجب في الطرق..أسمر وعينو زرق. -
احزري بمن يفكر؟ -
بمن؟ اقترب منها أكثر ثم همس: -
بابنتنا سعاد.. -
سعاد؟؟ هز
رأسه وهو يبتسم ابتسامة المرتاح بعد عناء كبير..كان همه عظيماً بعد أن عادت
سعاد اليه، فهي جميلة وأرملة، وهذه مشكلة كبيرة له ولأمها..أضاف وهو ينفث
الدخان من فمه: -
قال إنه سيشتري لها بيتاً ويفرشه أحسن فرش..قال إنه يريد أن يستشيرني في هذه
الأمور. -
وبماذا أجبته؟ -
قلت له نتشرف به ولكن الوقت غير مناسب لطرح الموضوع. أعجبها
جواب زوجها..كانت متحمسة للموضوع، ولكن شيئاً خطر في بالها جعلها تصفق يداً
بيد: -
ياترى هل ستوافق سعاد..؟ سنطلب منه أن يكتب البيت بإسمها..ولي عليكي ياأمينة،
ستصبحين ضرة ابنتي.. -
كل هذا الكلام سابق لأوانه. يجب أن ننساه مؤقتاً..الوقت غير مناسب
بتاتاً..إياكي أن تفتحي الموضوع مع أي كان.. -
اطمئن.
* * * لم يكن السيد كمال يحب أبو نعيم، ذلك
التاجر الكبير الذي يحتل واحداً من أهم المحلات في خان الحرير. فالرجلان
يختلفان في كل شيء، في الملبس وفي السياسة ايضاً. فمن يشاهد أبو نعيم يحسبه
رجلاً قادماً من احدى الجامعات ووجد خطأ في الخان، الذي اعتاد تجاره ارتداء
القنابيز والساكويات والطرابيش وغيرها، بينما كان أبو نعيم من هواة ارتداء
البدلات المخاطة على الطريقة الإفرنجية والقمصان البيض وربطات العنق، حتى أنه
وضع يوماً على رأسه شابوه أوروبي ولكن سرعان ما استغنى عنه بسبب نظرات التجار
وابتساماتهم. كان أبو نعيم رجلاً عصرياً بكل معنى الكلمة ويعامل التجار
الآخرين بطريقة لبقة، لاتهمه سهرات البيوت ولايكترث للولائم التي كان بعض
التجار يقيمونها دورياً ثم يتندرون بها على مدى أيام وأسابيع. قلما شوهد بدون
جريدة أو مجلة يقرأها..أما ولداه التوأمان نعيم ومقيم فقد رباهما على طريقته
العصرية تلك حتى أصبحا نسختين طبق الأصل عنه. كان
يمكن التغاضي عن تلك الاختلافات لو كانت اقتصرت على الملابس أو قبعات الرأس
أوربطات العنق، أما أن تكون في السياسة وبهذا الشكل فهذا أمر لايمكن السكوت
عنه..فأبو نعيم، وعن غير عادة تجار المدينة الأفاضل، من أتباع ذلك السياسي
الدمشقي خالد العظم، والسيد كمال مستغرب كيف يمكن أن يبتعد أبو نعيم عن حزب
الشعب ليلتحق بأذيال خالد العظم ذاك..وفي عدة مرات تناقش الأثنان حول سياسة
الحكومة وحول مستقبل البلد والوحدة مع العراق التي يفضلها حزب الشعب، فاختلفا
بقوة..كان أبو نعيم مع محور سورية مصر السعودية، ويتحدث ضد بدهيات ومسلمات
لايجرؤ أحد في البلد على الشك فيها..كانا عدوين سياسيين وخصمين عنيدين.
وفي
أحد الأيام شعر أبو نعيم بضائقة مالية بسبب كساد صنف معين كان وضع كل ثقله
فيه، فقرر شراء عشرين طناً من الحرير الطبيعي بالدين وعرضه للبيع نقداً
مفضلاً أن تصيبه خسارة محدودة لكي يفي بالتزاماته تجاه السوق، فالسمعة الحسنة
لاتقدر بثمن. عاد
الدلال أبو يوسف الى السيد كمال ليكمل العمل في صفقة حرير أبو نعيم بعد أن
حصل على كل المعلومات والشروط التي يريدها لاتمام الصفقة. قدم للسيد كمال
مسطرة من الحرير ثم أخبره بالسعر الذي يريده البائع، وهو أربعين ليرة للكيلو
الواحد نقداً. استغرب السيد كمال قضية البيع نقداً، ثم شعر أنه قد أهين عندما
عرف من الدلال أبو يوسف أن ابو نعيم على علم بأنه هو المشتري..كيف يمكن لأحد
أن يطالبه بالدفع مقدّماً، هل هو شك في أمانته؟ ولكن أبو يوسف حاول شرح الأمر
للسيد كمال، فالأمر لايعدو عن أن يكون حلاً للسيولة وهذا معروف جيداً في
السوق، وأبو نعيم مضطر، ولكن السيد كمال لم يكن في وارد تفهم الموضوع، خاصة
لأن أبو نعيم خصم سياسي، لذا فقد طلب من أبو يوسف أن يعود للتكلم مع أبو نعيم
لتتم الصفقة بالوعدة. تأبط
الدلال أبو يوسف حقيبته المنتفخة بمساطر الخيوط وخرج من محل السيد كمال ليدخل
مباشرة في محل أبو نعيم. سلم وجلس وهو يحتضن حقيبته كأنه يخاف عليها..فهي
مستودعه المتجول. قال
لأبو نعيم وهو يراقب الشبه الكبير بين ولديه التوأمين نعيم
ومقيم: -
ياأبو نعيم الله يخلي لك هذه الزهرات، النقدي ضعيف هذين اليومين والسيولة
ضعيفة في السوق، بع بالوعدة.. -
ليست لي مصلحة في ذلك..لقد أخبرتك أنني في حاجة الى سيولة لدفع سندات مستحقة.
ولو كنت مرتاحاً لما عرضت الحرير بأربعين ليرة وسعره خمس واربعين وأنت أعرف
مني بذلك.. فقال
أبو يوسف وهو يتزلف لعل وعسى ينجح في اتمام الصفقة: -
حبيبي أبو نعيم..أنت معلمنا وسيدنا..السيولة في السوق قليلة..بل قل معدومة،
هناك كساد. بع بالوعدة. فقال
أبو نعيم ينهي الحديث: -
مستحيل، إما نقداً وإما أن الحرير ليس للبيع. نقّل
أبو يوسف عينيه بين الولدين..حاول أن يعرف الفرق بينهما دون جدوى ثم نهض
متأبطاً حقيبته وخرج.
* * * عندما
خرج أبو يوسف من محل أبو نعيم وهو يخب حاملاً حقيبته، كان يود التوجه الى
السيد كمال للتحدث معه حول صفقة الحرير، ولكنه آثر تأجيل الموضوع الى وقت آخر
بعد أن رأى السيد كمال جالساً خارج محله وهو يدخن الأركيلة برفقة صديقيه
الشيخ قدري والسيد منير. ألقى عليهم السلام ونظر في عيني السيد كمال فلم يجد
فيهما مايشجعه على تبديل قراره فاستمر مبتعداً . كان
السيد كمال وصديقاه يتحادثون حول الوضع السياسي بعد قيام ذلك المغامر
(حسب
رأي السيد كمال طبعاً) بتأميم قناة السويس. قال وهو ينقر يده بمبسم
الأركيلة: -
تأميم القناة هو الكيد الذي سيرتد الى نحره. فقال السيد منير يؤكد رأي السيد
كمال : -
معلوم..لأن الأنكليز لن يسكتوا على هذه الضربة التي أتتهم من الخلف . فسأل
الشيخ قدري: -
وماذا يعني ضربة من الخلف؟ فأجابه السيد منير بأن
عبد الناصر قد وقع معهم معاهدة في العام الماضي فسحبوا قواتهم من القناة، بعد
أن صدقوا وعود عبد الناصر بأنه سيحرس لهم مصالحهم. عندها أكد السيد كمال بأن
كل الحق على سورية. استغرب الرجلان هذا القول منه ، فماعلاقة سورية في
الموضوع؟ فقال : -
حكومة الحزب الوطني تسير معه، ويمكن أن يكونوا قد شجعوه بصريح العبارة، ألم
تروا كيف امتدح سورية في خطابه؟ هز
الرجلان رأسيهما، فهذا استنتاج صحيح مئة بالمئة..لعنة الله على الحزب الوطني
وعلى التجمع القومي الذي يقوده ذلك الدمشقي من أصول تركية خالد العظم..إنهم
مجموعة من الحمر لن يلبثوا أن يدمروا البلد..مصلحة البلد في مكان آخر..هنا
قريباً من حدودنا الشرقية وليس في مصر أو في بلاد المسكوب. سأل الشيخ
قدري: -
وكيف هو رأي أبو نعيم؟ فقال السيد كمال : -
أبو نعيم مبسوط..لأنه من جماعة الحكومة. الزمن زمنه. كاد
الكلام يتناول أموراً أكثر حساسية لولا أن انتفض الشيخ قدري، فموعد آذان
الظهر قد اقترب. قال: -
الله يختار الخير..سلام عليكم..حان وقت صلاة الظهر. عندها
نهض السيد منير ليرافق الشيخ..رد السيد كمال السلام ثم عاد الى أركيلته،
وبينما كان يسحب نفساً طويلاً رفع نظره الى النافذة. كانت النافذة تنفرج عن
سعاد وهي تمسك شرشفاً تريد نفضه. أشرق وجه السيد كمال، والتمعت عيناه. هاهي
أجمل مخلوقة على وجه الأرض. ها هي من بإمكانها جعله أسعد رجل في
الدنيا..وعندما التقت عيناهما تجمدت يدها الممسكة بالشرشف ثم اختفت كلمح
البصر. لاحظ أنه كان يبتسم لها. في
المسجد تحادث الشيخ قدري والسيد منير عن صديقهما العزيز السيد كمال، بعد أن
فرغا من الصلاة. قال الشيخ قدري: -
أنا حزين على السيد كمال . فسأله السيد منير وهو يسبح بمسبحته: -
خير إن شاء الله ياشيخي؟ -
بدأ يقلق في داخل نفسه، الله سبحانه وتعالى لم يرزقه صبياً يفرح قلبه ويرثه
بعد عمر طويل. أنت تعلم أن ابنته عادية ولم ينطلق نصيبها حتى الآن..والحفيد
كالولد..ولكن حظها قليل. -
أسفي على شباب هذه الأيام. -
نعم سيدي..شباب اليوم يريدون الجميلات، لايهمهم العقل. فقال السيد منير
مؤكداً كلام الشيخ: -
الجمال جمال العقل والنفس ياشيخي. صمتا
وهما يداعبان مسبحتيهما..مر وقت قبل أن يقول الشيخ ملمحاً: -
وكيف هي أحوال ابنك محسن؟ قال
له لابأس ثم وجد نفسه يقول: -
فكرت كثيراً ياشيخي بأن آخذ ذكية لمحسن..لم أفاتحه بالأمر ولكنه يسمع
الكلام.. فقال
الشيخ وهو يهم بالنهوض: -
شد حيلك ياأبو محسن..أنت والسيد كمال أصدقاء ولن تندم إذا أخذت ذكية
لابنك.
* * * قرر
أبو نعيم زيارة السيد كمال في اليوم التالي عله يتمكن من عقد الصفقة أو جزء
منها بصفة شخصية. كان يشعر أن قوة السيد كمال في الشراء كفيلة بانقاذ وضعه
حتى لو اضطر الى تأجيل استلام جزء من الثمن الى حين. حين دخل الى محل السيد
كمال تلقاه هذا بالترحاب وشعر أن كل شيء سيكون على أحسن مايرام، ولكن الكلام
في السياسة (في بلدنا على الأقل) يقلب الأمور رأساً على عقب..فما أن انتهيا
من السلامات والسؤال عن صحة الأولاد حتى سأل السيد كمال عن رأي أبو نعيم فيما
يجري. ولكن الرجل الحريص، والذي جاء لأمر آخر طلب من السيد كمال أن يسمعه
رأيه هو، عندها ارتاح في مقعده جيداً وقال إن الدنيا ليست في خير وإن عبد
الناصر يستفز بريطانيا ولايعرف على ماذا يراهن هذا الولد الأهوج..أما ماحصل
بعد ذلك فهو نقاش حام وبصوت مرتفع، تبادل خلاله الرجلان الاتهامات
وشكك
كل واحد بوطنية الآخر، ووقف عبد الله في خلفية الدكان محتاراً وخائفاً من أن
يتضاربا، وتحول الترحيب الذي لقيه أبو نعيم منذ قليل الى احتقار والود الى
ضغينة ثم نهض أبو نعيم وهو يصيح: -
لاأعرف لماذا يعجبكم نوري السعيد هذا..؟ فرد
عليه السيد كمال بأنه لايعرف ايضاً ماذا يعجبهم بهذا الطالع على الدنيا
حديثاً الذي أسمه عبد الناصر. فصاح أبو نعيم: -
على كل لن نتفق. -
هذه حقيقة. -
السلام عليكم. -
وعليكم. خرج
أبو نعيم غاضباً مصحوباً بنظرات الكراهية من السيد كمال الذي ظل ينظر الى
الخارج بعينين حمراوين. كان يلهث، وكان في داخله جمرة تضطرم بالحقد والكراهية
على هذا الخصم. كان يحسب ويبحث عن طريقة لتحطيمه..فلم يجد سوى مادة الحرير
الناعمة ليشنق بها خصمه وعدوه. التقط سماعة الهاتف وطلب أحد زبائنه
الدمشقيين..سأل عن أسعار الحرير، وعندما أعجبه السعر أوصى على عشرين طناً على
أن تصله في بحر أسبوعين..أغلق الهاتف بحزم، ثم استند الى كرسيه جيداً..كان
يفكر، وقد اعتاد أن يفعل ذلك عندما يقرر أن يدمر واحداً من خصومه.
* * * كان
الدلال أبو يوسف يسير مسرعاً وهو يتأبط حقيبته. كان يشغله شيء واحد وهو ماذا
عليه أن يفعل ليجعل السيد كمال يبيع أو يشتري أي شيء بواسطته، فصفقات السيد
كمال تدر رسوم وساطة لابأس بها. نظر الى الساحر الذي وقف على كرسي من القش
وراح يمتع المتفرجين بألاعيبه، كان يضع طابة كرة الطاولة البيضاء في فمه
ليخرجها من أذنه، ثم وضعها في عينه ليخرجها من جيب أحد المتفرجين..صفقوا له
وضحكوا..كان الناس ينظرون مبهورين الى ألعابه السحرية..وقف أبو يوسف
ليتفرج..فهو أيضاً يحب ألعاب الخفة والسحر منذ أن كان صغيراً. كان يحرص على
الفرجة على ألعاب ذلك الساحر الذي هو والد هذا الساحر. وقد مر وقت طويل
ومايزال يندهش لهذه الحركات التي ربما حفظها عن ظهر قلبه.. أخرج
الساحر شريطاً من شفرات الحلاقة من فمه فسمعت أصوات الاستحسان من الجمهور،
عندها وضع عدته في القفة وأخراج قوارير صغيرة وراح يعرضها للجمهور
ويصيح: -
أبو فاس أبو فاس..لوجع الأسنان، لوجع الراس، لوجع الأضراس، للروماتزم ، لكل
الأجناس..أبو فاس أبو فاس. عندها
ابتعد أبو يوسف، فقد انشغل من جديد بالسيد كمال والبضاعة الجديدة التي يفكر
بعرضها عليه. وقبل أن ينعطف ليدخل خان الحرير، كان هناك تجمع آخر أمام أحد
المحلات..أقترب وراح يتفرج. كان هناك شرطي يكتب ورجل يحمل مطرقة يعرض أشياء
المحل للبيع بالمزاد العلني. طرق
الرجل بالمطرقة وثبت البيع، فقد استطاع أن يحصل على ثلاث عشرة ليرة ثمناً
لكرسي بينما كان صاحب الدكان المفلس يمسح دموعه بمنديل. ابتعد أبو يوسف بينما
كانت أصوات المزاد تلاحقه: -
أبريق ماء بثلاث ليرات..من قال أربعة. دخل
الى محل السيد كمال وألقى السلام ثم جلس. قال وهو يخرج لفة من خيوط
الغزل: -
عندي لك غزل ممتاز ياسيد كمال. -
ليس لي به مصلحة. -
إذن قدم لنا عرضاً..أنت سيدنا ياسيد كمال، السوق ممتاز. فسارعه
السيد كمال بالسؤال : -
ماهي أخبار حرير أبو نعيم؟ -
أبو نعيم مضطر للبيع نقداً، إنه يعرض حريره على المتعيشين وأصحاب الأنوال،
تنقصه السيولة النقدية. -
ماهو سعره؟ -
أربعون ليرة سورية. -
عندي حرير للبيع. عشرون طناً بثمانية وثلاثين، تريد شغل، هذا شغل. تفضل اعرضه
على التجار بالوعدة لثلاثة أشهر. احتضن
أبو يوسف حقيبته وهو غير مصدق، فمنذ يومين كان السيد كمال سيدفع أربعين..ماذا
حدث؟ قال له: -
ولكن السوق أعلى من ذلك وأنت سيد العارفين. -
أنا والحمد لله ربحان ومبسوط..قانع بالربح القليل. -
أنت سيد السوق ياسيد كمال، كما تحب. أريد مسطرة. -
نفس الحرير الذي معك مسطرته. -
والتسليم؟ -
بعد اسبوعين، شف أصحاب الأنوال والتجار الصغار، لن أبيع أكثر من طنين للشخص
الواحد. ولاتذكر أسمي في الوقت الحاضر.. -
أمرك سيد كمال..أنت تاج راسنا. السلام عليكم. -
مع السلامة. كان
عبد الله يقترب حاملاً صينية الشاي، إلا أن أبو يوسف لم يأبه له، فأمامه عمل
كثير قبل أن يحل المساء.
* * * كان
سوق النسوان (كما هو دائماً)..عبارة عن أنوار وضوضاء وزحام، وغالباً ماكان
بائع عرق السوس ينقر بصناجاته داعياً الناس لتذوق شرابه. كان أبو عادل وجاره
عبد السلام مستندين في
تلك اللحظة الى
مقدمة دكان الأول يراقبان المارة. قال عبد السلام يلح على جاره كي يحكي له عن
السر الذي جعل مزاجه رائقاً: -
قل ياأخي قل..لماذا تخبئ علي..أنا جارك وأخوك عبد السلام . فقال
أبو عادل وهو يبتسم ويفتل شاربيه: -
طول بالك ياعبد السلام ، إذا تحقق الذي في قلبي لك عندي ماتريد. -
أنا أخوك عبد السلام . -
سيأتي الوقت الذي سأحكي لك فيه..أصبر علي . -
على كيفك..ولكن قلبي يحسسني أنك تخطط لشيء. -
فعلاً أنك ذكي ياعبد السلام ، من أين أتيت بكل هذا الذكاء؟ -
على كل لابد أن يأتي الشيخ علي ، وسيكشف الطبخة كلها. فقال
أبو عادل وهو يلاحق امرأة شابة تتفتل في السوق: -
اشتقنا لحكاياته. في
ذلك الوقت كان الشيخ علي عند الحاج عبد القادر . كان جالساً على كرسي خارج
الدكان بينما استند الحاج على مرفقيه مقرباً رأسه منه وهو يحادثه. فقد كانت
أغنية حماسية مصرية تلعلع في السوق. قال: -
وعرض أن يشتري لها بيتاً مفروشاً فرشاً كاملاً. -
تخوفك لم يكن في محله يا حاج..ها قد جاء الفرج. -
كل أب له الحق في أن يتخوف حينما ترجع ابنته إليه..الناس تتكلم والنفس أمارة
بالسوء. -
بنت الأصل تبقى ابنة أصل ياحاج.. -
ياسيدي ربنا لم يخجلنا، لم أكن متصوراً أن أحداً سيطلبها بهذه السرعة. -
أبو عادل لابأس به. اقترب
أكثر من الشيخ علي وقال: -
ولكن بيني وبينك ياشيخي، يقول الناس أنه جهلان من جديد وصار
نسونجياً. -
معه حق يا حاج عبد القادر..معه حق. ضحك
الرجلان. قال الحاج عبد القادر وقد عاد إليه الجد: -
ياحيف عليك يا سعيد. لم يكن له مثيل. عاقل وحباب وفهيم..دللها كثيراً، سعاد
ستشعر بالفرق . -
قل لايصيبنا إلا ماكتب الله لنا.
* * * كان
أبو نعيم جالساً خلف مكتبه محافظاً على هدوئه بينما جلس أمامه أبو يوسف وهو
يمسح عرقه، في حين وقف نعيم يستمع وهو ينظر إلى أبيه بقلق. قال أبو يوسف
: -
دعنا نتكلم بصراحة ياأبو نعيم، سعر حريرك عال..السيد كمال يعرض بضاعة مثل
بضاعتك بسعر أدنى ليرتين ولوعدة ثلاثة أشهر. انتفض
أبو نعيم. فهذا غير معقول. أكد له أبو يوسف صدق كلامه وحلف له بشرفه أنه
لايكذب. فكر أبو نعيم، إذن هكذا، فالسيد كمال يريد أن يدخل وإياه في
حرب..حسناً ياسيد كمال. سمع أبو يوسف يؤكد له: -
ليس الأمر غريباً على السيد كمال ، فكل مدة له مثل هذا الفصل..هل أزعجته في
شيء ياأبو نعيم..؟ كان قلب أبو نعيم ينتفض في صدره، شعر أنه متضايق..فعندما
يغضب أو يحزن تحصل لديه مثل هذه الأمور، ولكن أمور الصحة لم تكن هي همه
الأكبر في تلك اللحظة، فهناك سندات اقترب استحقاقها للمرابي ابراهيم اليهودي.
فكر في طريقة لإنقاذ مايمكن انقاذه من براثن السيد كمال وقال: -
أسمع ياأبو يوسف ..لايعجبني كثيراً مايفكر به السيد كمال ولكن أنت تعلم جيداً
حاجتي للسيولة..أعرض حريري بخمس وثلاثين ليرة والدفع نقداً. نهض
أبو يوسف متحمساً..فهو يحب مثل هذه المغامرات..بربر قليلاً ثم خرج..بعد قليل
سمع أبنه نعيم يخبره أن أبو يوسف قد دخل الى محل السيد كمال .
* * * كانت
سعاد جالسة بجانب النافذة تتأمل صورة المرحوم المعلقة على الجدار بينما راحت
دمعتان تسيلان ببطئ من عينيها الجميلتين والحمراوين..كان ضجيج الخان يصل
إليها عبر النافذة، ولكنها لم تكن تسمع شيئاً، فكل حواسها كانت مع سعيد ،
زوجها الذي اختار أن يتركها ويرحل وهما في أسعد أيامهما. مسحت
عينيها بيديها ثم تأوهت ونظرت الى ابنها ناصر الذي كان يلعب الى
جانبها..تركته ثم اسندت رأسها الى يدها وراحت تنظر عبر شقوق الأباجور الى
باحة الخان . كان
السيد كمال جالساً في مكانه خارج دكانه وحوله كل من الشيخ قدري والشيخ علي
والسيد منير والحاج محمد وآخرون..كان مرتاحاً في جلسته ولاحظت سعاد أنه كان
يلقي نظرات سريعة الى النافذة المغلقة، أو هكذا تهيأ لها..قال الحاج محمد
: -
رأيي أن نرجع أخيراً الى سهراتنا يوم الخميس. ما رأيكم؟
فقال
السيد منير: -
أحسنت ياحاج، صار لنا مدة لم نجتمع فيها، اشتقنا لصوت بكري كردي. فتعهد
صاحب البيت الذي كان موجوداً بأن بيته جاهز لاستقبال القوم، ولكن الشيخ قدري
اعترض قائلاً إن عليهم انتظار أربعين الأستاذ سعيد، وقد قوبل اقتراح الشيخ
بموافقة السيد كمال فترحموا على روح المرحوم وعم الصمت للحظات حتى قال الشيخ
علي : -
هل تعرفون آخر الأخبار؟ أخبار
أبو عادل الذي عاد إليه الشباب مرة ثانية..؟ ضحكوا
وهم ينتظرون الشيخ علي ليقول مالديه من أخبار. قال السيد منير: -
هات
ماعندك ياشيخ علي، فأخبار أبو عادل تعيد لنا الشباب نحن أيضاً، فقال الشيخ
علي: -
ياسيدي الكريم..أبو عادل طلب يد أرملة الأستاذ سعيد.. نظر
السيد كمال الى النافذة فتراجعت سعاد الجالسة خلف الأباجور رغم أنها تعلم أنه
لايراها. كان الحاج محمد قد خلع طربوشه وجعل يحك رأسه عندما قال صاحب البيت
مستغرباً: -
ولماذا هو مستعجل الى هذا الحد، لم يمر الأربعين بعد؟ فقال أحد التجار: -
يخاف أن يسبقه أحد. فقال الشيخ علي إنه فعلاً مستعجل ولكن طلبه قد جاء في
وقته.. نظر
إليه الآخرون مستفسرين..وخاصة السيد كمال الذي كان قد احمر وجهه وآثر الصمت
كيلا يفضحه صوته. أضاف الشيخ علي: -
الحاج عبد القادر آكل هم ابنته بعد أن عادت إليه..لم يتصور أن أحداً سيطلبها
بهذه السرعة. وأنا والله قد سألت الله أن يبعث لها بابن الحلال ويريح قلب
أبيها.فقال أحد التجار ممازحاً : -
كان
عليك أن تدعو الله ليرسل لك عروساً أنت أيضاً. فأجابه الشيخ علي:
-
سأدعو الله من أجلنا جميعاً.. ضحكوا..أما
السيد كمال فقد ابتسم ببرود..وكذلك فعل الحاج محمد..كان الشيخ قدري يرنو الى
صديقه السيد كمال عندما سأل: -
وبماذا أجابه الحاج عبد القادر ؟ -
قال له نحن نتشرف بك ياأبو عادل ، ولكن الوقت غير مناسب لطرح الموضوع، يجب
انتظار نهاية القعود في العدة. عندها
ارتاح السيد كمال قليلاً وقال بصوت عال: رحمة الله عليك يااستاذ
سعيد. وماإن
رحل زواره حتى ترك السيد كمال المحل بعهدة عبد الله وذهب يزور الحاج عبد
القادر، أراد أن يبدي اهتماماً به وبالعائلة وخاصة بابنته الأرملة وابنها،
حتى أنه اقترح عليه أن يبيع ذلك (الثقب) كما كان يسمي دكانه ويأتي للعمل عنده
لأنه أصبح وحيداً بعد وفاة المرحوم، ثم إن عودة ابنته اليه سيزيد من أعباء
الحياة ، إلا أن الحاج عبد القادر رفض بلباقة. ولكن اعتاد السيد كمال ألا يستسلم ،
خاصة وأن أخبار أبو عادل قد فاجأته وأقنعته أن الميدان قد ترك له، كان عليه
أن يشدد الحصار على الحاج عبد القادر وأن لايدع واحداً من أمثال أبو عادل
يقترب منه أو يفكر في انتزاع سعاد التي ماأصبحت أرملة إلا من أجله هو
وحده. راح
السيد كمال يرسل الى بيت الحاج عبد القادر الهدايا، في البداية أرسل ثياباً
للصغير ثم راح يرسل اللحوم والخضار وعلب لبن الغنم بحجة أنه مسؤول عن أسرة
المرحوم الذي كان يعمل عنده قبل وفاته. لم
تكن سعاد تحب مايقوم به السيد كمال ، فقد كانت تكرهه في داخلها، حتى أنها
قالت صراحة أن زوجها المرحوم لم يكن أبداً على وفاق معه لأن السيد كمال
لايعرف سوى مصلحته وأنه في سبيل ذلك يتحول الى ذئب ينهش كل من يقف أمامه. كان
سعيد، وفي كثير من الأيام، يعود الى البيت وهو يكاد يطق من أقوال وأفعال
السيد كمال، وربما هو الذي سبب له السكتة القلبية. كان أحمد أخوها من رأيها أيضاً، إلا
أن تبريره كان مختلفاً، فهو يعتبره رجعياً مغرق في رجعيته، وهو من جماعة حلف
بغداد سيء الذكر، حسب قوله. فصاحت الأم: -
ماذا..وهل سنتزوجه..؟ إنه ببساطة يعبر عن حزنه وحبه للمرحوم ولإبنه.. فقالت
سعاد: -
أنا لاأريد أن تقبلوا منه أي شيء بحجة أنه يساعدنا لأن الأسرة أصبحت كبيرة
بعد عودتي..وإذا كان علي فأنا مستعدة للعودة الى بيت عمة سعيد للعيش
هناك.. حينذاك
صمت الجميع..فهذا تهديد جدي، فقد تكون سعاد قد عانت هي وزوجها من السيد كمال
، ولكن مالنا وله..؟ هو في حاله ونحن في حالنا. هكذا قال الأب ثم أضاف: -
وإذا كنتم خائفين أنني قد أبيع دكاني الصغيرة وأذهب إليه لأعمل عنده، فأنتم
مخطئون..فأنا في هذا العمر يصعب علي أن أصير أجيراً عند أحد. قال
أحمد: برافو يابابا..وارتاحت سعاد لقول والدها فابتسمت.
* * * عندما
دخل أبو يوسف الى محل أبو نعيم وشاهد الأب والولدين معاً، عرف هذه المرة
الفارق الكبير بين التوأمين..فبينما كان نعيم يشبه بطبعه وأخلاقه وانضباطه
أباه ، فقد كان مقيم قطعة من نار، بركان قد يثور في أية لحظة، وعرف بحدسه أن
أبو نعيم هو الذي يضبط أبنه مقيم ويمنعه من أتيان أي شيء. ومع ذلك استجمع أبو
يوسف شجاعته وقال ماكان السيد كمال قد طلب منه قوله لأبو نعيم: -
السيد كمال يبيع الحرير بخمسة وثلاثين ليرة وبالدين لثلاثة أشهر. صمت
أبو نعيم وأجال بعينيه بين ولديه..كان مقيم قد جمع قبضتيه وكأنه سينهال على
أبو يوسف بالضرب. عبس في وجهه ثم قال لأبو يوسف : -
وفقه الله. -
عندك أرخص سيد أبو نعيم؟ لم
يفهم أحد من ولديه لماذا أجاب: -
نعم..بتلاتين نقداً. عندها
نهض أبو يوسف واستأذن ثم خرج ليقترب من السيد كمال الجالس مع أحد زبائنه خارج
محله. شاهدهم مقيم وهم يتهامسون ثم أخرج أبو يوسف سنداً وجرى توقيعه،فقد باع،
على مايبدو السيد كمال الى زبونه بسعر منافس لآخر سعر لأبو نعيم.. عاد
أبو يوسف الى محل أبو نعيم ثم قال: -
باع السيد كمال بثلاثين ليرة بالدين لثلاثة أشهر..عندك أرخص ياابو نعيم؟ صمت
الرجل..كان يشعر بقلبه ينتفض ويهز كيانه كله..شعر أيضاً بحاجة ماسة الى
الهواء. سمع أبو يوسف يسأله: -
ماذا قلت ياابو نعيم..هل عندك أرخص؟ قال
أبو نعيم لا..نهض أبو يوسف وسلم وخرج..عاد الى السيد كمال الجالس بمفرده
وجعلا يتهامسان. هكذا
إذن..لقد نجح السيد كمال في توجيه ضربة أليمة له..إنه يعرف السبب..طبعاً
السياسة. قال لولديه وكأنه يهمس: -
أمامنا أيام صعبة ياأولاد.. وما
إن أتم جملته حتى هجم مقيم باتجاه مكان جلوس السيد كمال وأبو يوسف ، إلا أن
أباه أوقفه بصرخة لفتت انتباه كل من كان في الخان. رجع مقيم بعد أن سدد الى
السيد كمال نظرة أرادها عوضاً عن اللكمة. وعندما أصبح في الداخل، أمر أبو
نعيم أبنه نعيم بأن يذهب الى اليهودي ابراهيم ويطلب منه تأجيل السند بفوائد
قد تكون أعلى بكثير. وفي
المساء وبينما كان أبو نعيم جالساً يتحدث مع أحد زبائنه تحت سقيفة محله شعر
بضيق في تنفسه وضغطاً هائلاً في صدره..حاول أن ينزع ربطة عنقه فلربما كانت
تضغط على عنقه دون جدوى. كان الزبون يسأله عن شيء ما وكان يحاول أن يبدو
طبيعياً في بادئ الأمر..ولكن لاجدوى، فقد ازداد شعوره بالإختناق عندها حاول
النهوض وهو يعتذر من الرجل. سأله مابه، فسقط على كرسيه وارتد رأسه الى الخلف.
صاح الزبون على نعيم ومقيم اللذين كانا في داخل المحل وعندما اقتربا من
أبيهما وجداه جثة هامدة.. سمعت
سعاد، التي كانت مشغولة بشيء ما في غرفتها، صراخاً وعويلاً. اقتربت من
النافذة ثم فتحتها لترى جيداً. كان نعيم ومقيم والزبون بالإضافة الى اللحام
أبو حسن يحملون أبو نعيم ويركضون به الى خارج الخان بينما هرع كل من في الخان
إما للمساعدة أو للفرجة. كان الولدان يصرخان على أبيهما وهما يبكيان..عرفت
سعاد أن شيئاً سيئاً قد حدث، ولم تغلق نافذتها إلا عندما شاهدت السيد كمال
ينظر إليها نظرته تلك التي تكرهها.. مات
ابو نعيم من جراء أزمة قلبية. مات مختنقاً بعد أن فرض عليه السيد كمال حرباً
تجارية خرج منها خاسراً ثم خسر حياته. وفي اليوم التالي شيعوه الى مثواه
الأخير في مقبرة الصالحين الى جانب أمه وأبيه. كان الجميع موجودين بمن فيهم
السيد كمال. أما في
المساء
فقد انعقد مجلس العزاء، وقرأ الشيخ علي القرآن على روحه، واستمر لثلاثة
أيام. كانت
المصيبة عظيمة على الاسرة ، فأقفل المحل، أما مقيم فكاد يجن بسبب موت أبيه،
كان يعرف السبب معرفة تامة. وقد أقسم يميناً أمام أمه وأخيه نعيم أنه لن يهنأ
له عيش إذا لم ينتقم من السيد كمال.
* * * |
Copyright © 1999 - 2001 Nihad Sirees All rights reserved