|
|
بدأت
المصاعب تظهر منذ مدة ليست بقصيرة أمام
تجارة السيد منير. فخان الحرير لم يعد
يجتذب الريفيين الذين راحوا يتجهون الى
(خان العبي) لشراء
حاجياتهم، لذلك فإن السيد منير الذي
اختص بتجارة العباءات والكوفيات
العربية وغيرها من البسة القرويين، رفض
أن يبيع محله في خان الحرير والانتقال
الى الأسواق التي اختصت بتلك البضائع.
وبسبب تلك المصاعب أخرج ابنه البكر محسن
من المدرسة وجعل يرسله الى البادية
محملاً بالبضائع. كانت رغبة محسن، الذي
هو أسم على مسمى بسبب جماله الذي يصنف في
صنف جمال النساء، أن يكمل دراسته كما هو
الحال مع صديقه أحمد ابن الحاج عبد
القادر ورفيقيهما حسان ورياض، ولكن
أباه المعروف بقسوته وجبروته رفض ذلك
بكلمة واحدة وقال له وقتها: من الغد عليك
النزول معي الى الخان. أما أخته زينة
التي لم تتجاوز السادسة عشرة فلم تقو
على مناقشة أبيها عندما أخرجها من
المدرسة قبل ثلاث سنوات عقب حصولها على
السرتفيكا. فمن مبادئه أن البنت خلقت
للبيت وليس للدراسة وبما أنها تعلمت
القراءة والكتابة فهذا يكفيها من أجل
قراءة القرآن وتعليمه لأولادها حين
تتزوج. جعل
محسن يحمل البضائع ويسافر بها الى الرقة
ودير الزور ، حتى أنه في كثير من الأحيان
كان يتوغل في البادية، فنجحت الطريقة
وأنقذت تجارة والده. كان في البداية
يتأفف من السفر والمبيت خارج البيت وهو
الإبن المدلل على أمه، ولكن ماإن تعرف
على جماعة من الغجر تسكن غير بعيد عن
الرقة، حتى أصبح ينتظر اليوم الذي ينطلق
فيه من جديد محملاً بالبضائع وكله
اشتياق لغجره طيبي القلب الذين جعلوه
يشعر وكأنه واحد منهم وخاصة فضة تلك
الصبية الحسناء التي عشقها قلبه. كان
الغجر يعتاشون على خدمة سائقي الشاحنات
الذين اعتادوا التوقف في مخيمهم للراحة
وتناول الطعام. ومن أجل تسليتهم كانت
فضة التي لم تتجاوز العشرين بعد، وصاحبة
أرق صوت في البادية، تغني لهم..كانوا
يتناولون المشاوي على أنغام البزق وهم
يستمعون الى أغانيها. وعندما تغني فضة
تصمت كل الكائنات. كانت ذات صوت حنون.
وماإن سمعها محسن لأول مرة، وكانت
حينذاك تغني له وتعنيه هو وحده في
أغانيها، حتى عشقها وتتيم بها. لقد جاءت
له فضة رحمة من السماء، فلولاها لما
استطاع أن يستمر في سفره طوال تلك المدة
ولكان قد اصطدم مع أبيه الظالم الذي
لايترك فرصة لأحد لإبداء اعتراض أو رأي
مخالف..فقد كانت الباكورة طريقته المثلى
في الإقناع. في
ذلك اليوم عاد محسن من سفرته التي طالت
خمسة عشر يوماً محملاً بالبضائع
المتبقية من موسم الشتاء، كان صدى صوت
فضة يتردد في رأسه وقلبه وهي تغني،
وكانت قد طلبت منه بصوت يتهدج من العشق
أن لايطيل الفراق فوعدها ألاّ يغيب أكثر
من أسبوعين. قبل يد أبيه ثم سلمه ماجمعه
من نقود وقائمة بطلبات التجار، ثم هرع
الى البيت ليغتسل ويزيل عنه رائحة بيوت
الشعر التي استوطنت جلده. كانت
الأسرة مجتمعة حول مائدة العشاء التي
كانت عبارة عن صينية مرفوعة على كرسي من
القش. كان الأب متربعاً على الكنبة يغمس
بشهية جيدة بينما كانت أم محسن تأكل وهي
تتطلع الى ابنها الذي يمازح أخته. كانت
مهمومة وخائفة على وسامة ابنها المدلل
التي طوحت بها الشموس وأصبحت رائحته
أقرب الى رائحة البداوة..سألت: -
والى متى سيظل محسن يسافر، لقد تحول
شكله الى لاشيء؟ فعلقت
زينة مازحة: -
أمي خائفة على بياض محسن. فرد عليها محسن
وهو يلكزها ان تهتم بأمورها، عندها قالت
الأم أنه قد تغير ولم يعد أحد يعرفه وعلى
الأب أن يجد طريقة أخرى للتجارة مع
البدو..علقت زينة من جديد وهي تنظر في
عيني أخيها: -
بودنا أن نخطب له.. عندها
خرج الأب عن صمته وقال: -
على كل حال لقد خطبت لمحسن. كانت
مفاجأة للجميع، خطب له..؟ من..؟ فقال : -
خطبت له ابنة السيد كمال ..ذكية. عندها
شبع الجميع، فهذه مفاجأة أكبر من الأولى.
نفض محسن يديه وابتعد عن السفرة، إنه
يعرف جيداً من هي ذكية، يقولون عنها
إنها متواضعة الجمال..ثم إنه يحب فضة،
ولن يرضى عنها بديلاً ولكنه لايستطيع أن
يأتي بسيرتها وإن فعل فقد يقتله أبوه في
ثورة غضب وانفعال. سمع أمه تسأل: -
هل أنت جاد فيما تقول؟ ومتى
كان الأب يمزح في مثل هذه الأمور؟ اعترضت
زينة، فذكية ليست جميلة (بل قبيحة) ثم
إنها كبيرة على محسن، تكبره بسنة على
الأقل..عندها غضب الأب فقذف اللقمة التي
كانت في يده وراح يشتم ابنته، نهرها
وضربها بقدمه ورذاذ الطعام يتطاير من
فمه. نهضت ثم اختفت في غرفتها وأبوها
يشيعها بعينين غاضبتين. وبكل بساطة عاد
الى الأكل بينما محسن وأمه يتابعانه
بصمت (من يجرؤ على الاعتراض؟). بعد
ذلك حاولت أم محسن التحدث مع زوجها في
غرفة النوم، بعد أن هدأته على طريقتها ،
قالت له: -
ياأبو محسن، إذا كان السيد كمال صديقك،
فهذا لا يعني أن ترضيه بأخذ ابنته
لابنك؟ -
وماذا به السيد كمال ؟ -
السيد كمال على رأسي وعيني، ولكن ابنته..سامحني
يارب، ليست جميلة، ولا أحد من معارفنا
أرادها لابنه. -
هذا ليس بمقياس. -
أخبئ وجهي فين من العالم؟ -
عيب ياامرأة..نحن سنأخذ ابنة عالم وناس..ابنة
عائلة كريمة، والذي لن يعجبه فلينطح
رأسه بالحائط. فقالت
له بضعف عله يلين قليلاً: -
في كل استقبال نذهب إليه نجد فتيات
جميلات مافتح ورزق. ماذا حصل لنأخذ
ذكية؟ حسم
الأمر وسحب اللحاف الى ما فوق رأسه. قال
كلمته الأخيرة: -
محسن يجب أن يأخذ ذكية..انتهينا، خذي
زينة وخذي اختي واذهبي لزيارتهم غداً
واطلبيها من أمها.. صمتت
مغلوبة على أمرها، فمن الآن وصاعداً
سيكون شغلها مع ابنها، ستحاول اقناعه
بذكية. في
اليوم التالي حاول محسن التمرد على أبيه.
كانا في المحل. كان السيد منير يدخن
الأركيلة بينما كانت فيروز تغني في
المذياع. كان محسن يعمل بصمت وهو يلقي
بعض النظرات غير الطيبة
على أبيه المنشغل بأركيلته. سمعه يقول: -
هيا بنا يابني.. لتسلّم على عمك السيد
كمال . قال
له حاضر. بعد قليل استجمع شجاعته وقال
لأبيه: -
أبي.. لا أرغب بذكية. لم
يفهم الأب في البداية ماكان يعنيه محسن،
طلب منه أن يعيد ماقاله، فقال من جديد: -
لاأريد ذكية، لن أتزوج ذكية.. ترك
الأب أركيلته وهو يرتجف..تراجع محسن وهو
يقول برجاء: -
سامحني هذه المرة ياأبي. -
لا تريد ياكلب..منذ متى كان الأبناء
يقولون لآبائهم نريد ولانريد..؟ ثم
فقد الأب أعصابه وراح يشتم ويتوعد، ثم
وصل الى الباكورة التي تربى هو عليها
يوماً، فأمسكها وراح ينهال بها على رأس
محسن وجسده. حاول محسن الهرب الى باحة
الخان، إلا أن الأب لحقه وهو يضربه، ولم
ينفك عنه إلا بعد تدخل التجار. استطاع
نعيم ومقيم الهرب بمحسن الى خارج الخان..بينما
أمسك السيد كمال والحاج محمد وآخرون
بالسيد منير وقاموا بتهدئته..كان يهدد
ابنه ويتوعده وقد اصفر لونه وراح يرتجف.
خافوا عليه أن يموت بالجلطة هو أيضاً،
فهذا موسم السكتات القلبية بين التجار. قال
الشيخ قدري وهو يرفع يديه الى السماء:
حسبي الله ونعم الوكيل...حسبي الله ونعم
الوكيل.
* * * في
المساء، خيم الصمت والخوف على بيت السيد
منير. التجأ محسن الى غرفته مكسور
الخاطر. بكى من القهر، ظل يبكي حتى حلم
في يقظته بفضة تأتي إليه تواسيه. غنت له
أغنيتها التي كانت تغنيها له كل يوم في
المخيم (وحياة خصيرك، مابهوى غيرك.)
عندها ابتسم وشعر أن الحياة يمكن أن
تعاش. كانت فضة تهرع للهرب لدى أية حركة
تسمع من الصالون، ولكنه كان يرجوها
لتبقى معه. فبدونها يكاد يجن. أما
زينة المتضامنة أبداً مع أخيها فقد
روعها ماحصل له. التجأت هي أيضاً
الى غرفتها لاتبارحها وقد رفضت الدعوة الى
العشاء. قالت إنها بلا نفس. قعدت تحلم
بذلك اليوم الذي سيأتي فيه أحمد
لخطبتها، كان كل
ماتريده الهرب من هذا البيت الذي لم يعد
يطاق. هي
وأحمد يحبان بعضهما بعضا. تعرف أنه
يحبها كما تحبه هي، ولكنه مشغول دائماً
بالسياسة، ولولا السياسة لكان الآن قد
حصل على البكالورية وخطبها. السياسة
غريمتها، فهي تمنع عنها سعادتها. عندما
عاد محسن في الأمس من سفرته فرحت
كثيراً، هذا يعني أنها ستقابل أحمد، فهي
لاتستطيع رؤيته إلا بصحبة محسن، على
الأغلب يذهبون الى السينما..من الثلاثة
الى الستة، يجلس محسن في الوسط يفرق
بينهما. هي وأحمد لاينتبهان الى الفيلم،
وربما محسن أيضاً، فهو يعرف أنهما
عاشقان ويساعدهما على اللقاء..ولكن هناك
حدوداً في رأيه. عليه أن يحافظ على أخته
حتى يتزوجا. فيروح يلكزهما كلما لاحظ
أنهما يتركان الفيلم ليتبادلا النظرات.
شيء مضحك، ولكن يبقى الحب لذيذاً..هذا
الحب الذي ارتبط بمحسن وبالذهاب الى
السينما..مرة سمّاه أحمد بالحب
السينمائي. ضحكت وضحك محسن..لعنة الله
على السياسة وعلى البكالورية، لولاهما
لكانت الآن بعيدة عن هذا البيت وهذا
الأب القاسي الذي إن عرف بقصتها مع أحمد
لكان شنقها. تناول
السيد منير عشاءه بصمت ثم حمد الله
وتجشأ واتجه نحو غرفته. كان طوال الوقت
مقطب الجبين، لاينظر الى امرأته التي
لاتقوى بدورها على رفع عينيها عن السفرة.
لمت أم محسن الصينية وركنتها في المطبخ
ثم لحقت به الى غرفة النوم. كان ممدداً
على السرير يفكر، كيف يمكن لمحسن أن
يتمرد عليه ويرفض طاعته؟ بعد أن أفنى
حياته في خدمتهم.. وبعد
كل هذا الجهد الذي صرفه في تربيته، يأتي
اليوم ليقول له ببساطة أنه لايريد
الزواج من ابنة أهم رجل في الخان..ابنة
السيد كمال الذي يتمنى أي انسان التقرب
منه. لاحظ
أن زوجته تتجمل له. وضعت أحمر الشفاه ثم
كحلت عينيها من جديد وارتدت ثوب النوم
الشفاف الذي يحبه. اقتربت من السرير
تريد ارضاءه. تركها تفعل ماتريد رغم أنه
لم يكن يرغب بشيء. بعد اللمسة الأولى شعر
بمزاجه يتحسن. أم محسن لابأس بها، فهي
مازالت محافظة على رونقها رغم الخمسة
وأربعين عاماً التي تظهر على وجهها.
تعرف كيف ترضيه وكيف تزيل الغضب عن قلبه.
التصقت به وراحت تقبله في عنقه. اشتم
رائحة عطر الورد الذي تطيبت به. مد يده
واحتضنها، ثم راحت يده تسرح على لحمها
البض. عرفت
بخبرتها أنه اجتاز الأزمة، إنها شاطرة،
تعرف كيف تنسيه همومه وغضبه. عندما يكون
كذلك تصبر عليه، لاتدعه ينهض إليها
إلابعد معانقة طويلة، مثل هذا اليوم
بالذات. تتلمسه بحرص شديد في البداية،
ولكن ماإن تتحرك يداه على جسدها حتى
تتحمس، عندها ترفع من وتيرة قبلاتها
وحركات يديها..وفي النهاية تمد يدها الى
خصره، فتعرف كم هو جاهز، عندها تتركه
يصعد فوقها. بعد
أن ينزل عنها يصبح مسموحاً لها أن تتكلم.
يكون هو في عالم آخر، مستلق على السرير
منهك القوى، وربما مبتسماً أيضاً، يشعر
بالامتنان من زوجته. قالت له: -
قسوت عليه اليوم كثيراً..ليس معك حق. -
... -
كل شيء يمكن أن يصير بالإكراه إلا
الزواج. -
محسن سيأخذ ذكية. -
ماشي ياسيد الرجال..محسن سيأخذ ذكية. هل
تحدث معك السيد كمال ؟ -
كمال معجب بالولد، الشيخ قدري لمح لي.
أنت تعرفين أنه لم يرزق إلا بذكية، هذا
يعني انها سترثه كل شيء، ثم إنه بدأ يشعر
بأن الحياة الى زوال بعد أن مات الأستاذ
سعيد، وهذا قد ترك فراغاً كبيراً في
المحل، فقد كان يحمل على كتفيه كل
الشغل، وبصراحة، إن السيد كمال يفكر
بصهر يساعده في أعماله..ثم إن شغلنا ليس
كما يجب، خمسة عشر يوماً ولم يأت إلا من
الجمل أذنه.. هزت
المرأة رأسها لزوجها..إنه يحسب جيداً
ومعذور. قالت له وهي تلاطفه وكأنها
ستعيد الكرة معه: -
حسن ياأبو محسن، أحكِ مع ولدك بالآدمية..ابنك
وهو صغير ربيه، وإذا كبر خاويه. محسن صار
كبيراً،
صار أطول مني، أصبح يخجّلني أمامك.. التصقت
به من جديد، كان يفكر فيما قالته..مدت
يدها الى خصره العاري والرطب ثم تأوهت
له.
* * * في
العادة، يغتسل السيد منير ويسقط
الجنابة صباحاً، فليس من المعقول أن
يفعل ذلك ليلاً حالما ينزل عن امرأته،
عندها يكون منهكاً ومنتشياً ولايحتاج
إلا إلى التمدد والتمتع بشعور مابعد
الحب. ثم إنه غالباً ما يعيد
الكرة صباحاً فور الاستيقاظ، لذلك فهو
يضرب عصفورين بحجر واحد.. ماإن
اغتسل وصلى صلاة الفجر حتى كانت الفكرة
قد اختمرت في رأسه. دخل غرفة محسن دون
استئذان فوجده مضمد الرأس، لم يغمض له
جفن. انتفض محسن ونهض مطرق الرأس
احتراماً لأبيه..جلس الأب على الكرسي
الوحيد وترك ابنه واقفاً وجعل ينظر إليه
بثبات. لقد جاء إليه باقتراح سيرضيه،
لقد أصبح ، كما قالت امرأته كبيراً ويجب
عليه أن يتحدث معه بلغتين، اللغة الأولى
كالتي تحدث بها البارحة وفج بها رأسه،
واللغة الثانية هي ما سيعرضه عليه بعد
قليل. قال له بصوت ذي نبرة أبوية غير
متسامحة: -
أنا أبوك، وإذا قسوت عليك فلا تلمني،
فهذا لصالحك، فأنت مازلت صغيراً
ولاتعرف مصلحتك كما يجب. هز
محسن رأسه المفجوج. كان أبوه ينظر الى
أثر الدماء على رأسه. لاحظ كم هو جميل
هذا الولد..أخذ جماله عن أمه، لو كانت
أتت له بأكثر من ولد يشبهها لكان أحبها
أكثر..ولكنها اكتفت بمحسن وبزينة. استمر
السيد منير: -
السيد كمال ليس عنده غير ذكية، الله
سبحانه لم يبعث له بغيرها، يريد أن
يزوجها الى شاب
مليح وابن ناس، وهو لمّح لي أنه يريدك،
ولكنك جحش، حيوان..إن كل من يحبه السيد
كمال يغدو أميراً. هل تريد ملكة جمال آ..؟
ومن قال إن ذكية قبيحة؟ لابأس بها..تشبه
أمها الست مطيعة. طيبة وعاقلة وابنة ناس.
سوف تسعد من يأخذها. هز
محسن رأسه مرة أخرى، لايملك سوى ذلك.
تابع أبوه ولكن بلهجة أخف: -
إنني على كل حال أفكر بإرضائك..لقد أصبحت
رجلاً..سوف تتزوج ذكية وأنا من جهتي لن
ارفع يديّ عليك بعد الآن، وعلاوة على
ذلك سأجعلك شريكي في المحل..سأكتب نصف
المحل باسمك. هذا يعني أننا سنصبح
شركاء، هذا البيت سيكون فيه رجلان، أنا
وأنت. عندها
رفع محسن رأسه ونظر الى أبيه. هذا كلام
جديد يسمعه منه. لاحظ أبوه كيف التمعت
عيناه. نجحت خطته، الفضل لامرأته. سأل،
مفهوم؟ فأجابه محسن مفهوم. عندها رفع
السيد منير يده وقدمها الى محسن. قبلها
ثلاث مرات. نهض الأب وهو يقول: -
يرضى عليك يا بني..إنني أعرفك فهيماً. ثم
خرج. ابتسم
محسن بعد أن أصبح بمفرده. ولكن ماذا عن
فضة؟ في
الخميس التالي وبينما كانوا مجتمعين في
بيت حي الجبيلة برفقة المغني بكري
كردي،
خطب السيد منير ذكية من أبيها لابنه
محسن. كانت مناسبة جميلة جداً، فتلقيا
التهاني من الحاضرين وقرأت الفاتحة
وغنى بكري كردي
أغنية سعيدة بهذه المناسبة، اهتز لها
الحاضرون. في
اليوم التالي كان محسن وأحمد يتجولان في
شوارع حلب المنشغلة بأخبار التوتر بين
مصر والغرب. كان أحمد يحدث محسن طوال
الوقت في السياسة، فلم يكن يعلم شيئاً
عن تأميم القناة أوعن التهديد الغربي
بالحرب. كان محسن غاطساً حتى أذنيه في
عشقه لفضة الغجرية. قال له أحمد: -
فضة هذه ستجعلك لاتفقه شيئاً بما يجري
حولك. -
اتركني ياأحمد الله يخليك، لو كنت مكاني
لما تركت الغجر يوماً واحداً. -
الحب يعمي البصر والبصيرة. -
كأنك لاتفقه في الحب..بعد قليل سترجوني
لكي أتدبر لك الذهاب الى السينما مع
زينة من التلاتة للستة. -
سأرجوك طبعاً، ولكن زينة لاتعمي بصيرتي
عن الأحداث..أنظر كيف تلعلع الأغاني
الحماسية من أجهزة الراديو، نحن في عصر
آخر غير الذي تعيش فيه..على فكرة، سورية
ستقف مع مصر في معركتها ضد الغرب مثلما
تقف مصر مع سورية في معركتها ضد حلف
بغداد..لولا مصر لابتلع نوري السعيد
سورية من زمان. -
لاأظن أن أحداً سيهجم على مصر، مصر
كبيرة. -
أقسم لك أنهم سيهجمون..أسمع صوت العرب.
دعني أجمل لك الوضع بجملتين، اسرائيل
لاتريد للأمة العربية زعيماً، بريطانيا
ذات الشيء، فرنسا مستاءة من عبد الناصر
لأنه يدعم الثورة الجزائرية، أمريكا
تشيع بأن سورية ومصر قد وقعتا تحت
النفوذ الروسي. الحرب واقعة لامحالة. -
وكلهم على مصر؟ -
نعم سيدي. -
مشكلة. -
لذلك أنت ترى الشعب السوري يتدرب الآن
على السلاح. اعمل خيراً مرة واحدة في
حياتك وتعال معي لتتطوع في المقاومة
الشعبية. -
اتركني أرجوك..إنني مرتبك هذه الأيام. -
ماذا يعني أنك مرتبك..كفى سفراً الى فضة
والنوم في أحضانها بحجة التجارة؟ كانا
بالقرب من إحدى المدارس حيث يجري التدرب
على السلاح. جره الى الداخل، كان هناك
مذياع يبث أغنية حماسية. بعد قليل شوهدا
وهما يتدربان على النظام المنضم. في
المساء احتلا مقعدين في احدى دور
السينما في حفلة الساعة ستة. كان محسن
يريد محادثة أحمد عما جرى بشأن ذكية بنت
السيد كمال، إلا أن الأضواء سرعان
ماأطفئت وبدأ الفيلم. راحا يفصفصان
البزر وهما يتابعان أنور وجدي وليلى
مراد. مال أحمد الى محسن وسأله: -
لم تقل لي، لماذا أنت مرتبك هذه الأيام؟ -
ليس وقته الآن. -
قل، فقد سبق وشاهدت هذا الفيلم عدة مرات. -
والدي قد خطب لي. نظر
أحمد في وجه محسن باندهاش وسأله: -
خطب لك؟ -
مثلما سمعت. -
ومن هي صاحبة الحظ السعيد؟ -
أحزر. -
شوقتني. -
ذكية ابنة السيد كمال . نسي
أحمد أنهما في السينما فصاح: -
من؟ عندها
لم يبق أحد من الرواد إلا واستدار
إليهما. راحوا ينبهونهما ليلزما الهدوء.
جره من يده وأخرجه من السينما. انصاع
محسن ليد أحمد وهو يضحك..رأى في ذلك
مايسلي، خاصة وأن الشتائم راحت
تلاحقهما. وفي
طريقهما الى البيت راح أحمد يعدد مساوئ
هذا الزواج وكأن محسن لايعلمها. قال: -
هذا ظلم، ثم إن السيد كمال رجعي كبير، من
حزب الشعب، اسألني أنا، المرحوم سعيد
زوج أختي كان دائماً في صدام معه، الأخ
انكليزي مئة المئة، طماع وغدار وأناني،
أنت لم تسمع بقصة ابو نعيم أليس كذلك؟ إن
شاء الله سيهري جلدك. -
حاولت ياأحمد حاولت، ولكن دون نتيجة. -
آخر عمرك تقدم على زواج مصلحة؟ البنت
قبيحة ولن
تستطيع العيش معها، إلا إذا كانت النقود
ستحليها في عينيك. -
لاتقس علي ياأحمد، غصباً عني، أنظر ماذا
فعل بي أبي. توقف
محسن. حنى له رأسه ثم أزاح الضماد ليرى
الجرح. سأل: -
ضربك.. ؟ -
ألم تسمع من نافذة بيتكم، كنت أحسب أنك
تعلم ولم تسألني كيلا تحرجني؟ -
ياللهول..أبوك فظيع. -
هذا غير الزراق في جسدي. فقال
أحمد يمازحه كي يخفف عليه: -
حسبت أن فضة فعلت بك هذا.. عادا
للسير صامتين. قرب خندق القلعة قال محسن: -
زعلان على فضة. -
ازعل على حالك..ياحيف عليك يامحسن،
نهايتك وخيمة. وابتلعهما
الليل. بعد
يومين ذهبت أم محسن وزينة برفقة العمة
لرؤية العروس وطلبها من أمها. لم تكن
العمة تعرف ذكية من قبل، وعندما شاهدتها
صدمت لقباحتها، أما زينة فكأنها كانت
تراها لأول مرة. كانت تقارن قبحها بجمال
أخيها، ولم تستطع تمالك نفسها فكانت
بالغة الفظاظة، إلا أن الأم استطاعت ان
تجد الفرصة المناسبة لتطلبها. قالت الست
مطيعة أنهم يتشرفون بهم، ولكن الأمر
بأيدي الرجال وهي تعرف أنهم قد قرأوا
الفاتحة..ولكن أحداً لم يزغرد. وخرجت
النساء الثلاث واجمات، وفي أحد
المنعطفات راحت العمة توبخهن. قالت زينة
لعمتها: -
ياعمتي، كل الحق على أخيك. -
ابن أخي محسن أجمل منها بمئة طاق. فقالت
أم محسن تلطف الجو: -
ولكنها أنيسة وذكية وعاقلة..ترونها
ساكتة، إلا أن كلامها مثل العسل. فقالت
العمة وهي تكز على أسنانها إن ابن أخيها
سيتزوج كلاماً، فرجتها زينة من جديد: -
ياعمتي احكي مع أخوك الله يخليكِ، محسن
غير راض، ساكت مرغماً، وأنا لاأعرف كيف
سيعيش معها. ولكن
العمة التي تعرف أخاها السيد منير جيداً
آثرت عدم التدخل. رددن الغطاء على
وجوههن من جديد وتابعن السير مسرعات،
وقبل أن يدخلن الى البيت طلبت أم محسن من
ابنتها التخفيف من قباحة ذكية حينما
تتحدث عنها مع محسن. وهكذا كان..والمهم
أنه أصبح يملك نصف دكان أبيه وصار
شريكاً له ورجلاً في عينيه، أما عن ذكية
فلكل حادث حديث.
* * * كانت
وفاة ابو نعيم المفاجئة صدمة كبيرة لكل
من زوجته وولديه، ولكن أكثر من تأثر كان
مقيم. كان يبكي باستمرار، وينفجر عند
أية كلمة يسمعها أو أية خاطرة تخطر في
باله. وأكثر هذه الخواطر التي كانت
تؤرقه وتلاحقه كالكوابيس هي أن السيد
كمال كان المسؤول عن وفاة الأب، لذلك
راح يخطط لقتله في سره . كانت
أم نعيم امرأة عاقلة ومتزنة. فبالإضافة
الى نشأتها في بيئة مثقفة، اكتسبت بعد
زواجها من أبو نعيم شخصية هي أقرب الى
شخصيات المدرسات أو المديرات منها الى
شخصية زوجة تاجر في المدينة. كانت
فهيمة، تقرأ الشعر وتحفظ عشرات القصائد.
ربت ولديها على الحب وأكسبتهما جزءاً من
شخصيتها. أما عندما مات الأب المحترم
والمحبوب، فقد أصبح لزاماً عليها أن
تأخذ مكانه من جهة وأن تدفع ولديها الى
تحمل مسؤولية المحل والعلاقات التجارية
الواسعة التي بناها أبو نعيم من جهة
أخرى. وقد كانا مستعدين لتحمل تلك
المسؤولية بحكم تربيتهما، ولكن أكثر
ماكان يقلقها هو مقيم بالذات، الذي لم
يكن أحد يعرف بماذا يفكر. كان أكثر
غموضاً من أخيه نعيم وأسرع هيجاناً، رغم
أن أمهما حملتهما في بطن واحدة وولدتهما في
ساعة واحدة، لهذا كانت تراقب مقيم
باستمرار، تراقب بكاءه الذي ينفجر في
أية لحظة ودون أي سبب، وتراقب عيونه
التي لاتهدأ علها تعرف ماذا يدور في
ذهنه في تلك اللحظة. وعندما
فتحا المحل من جديد، أصابهما مرض الصمت
والتأمل. جاء عديد من التجار لتعزيتهما
مرة ثانية فلم يكونا يقابلانهم سوى
بالصمت وربما بدموع حارة من مقيم. وقد
استطاعا أن يكسبا عطف التجار الذين
يدينونهما بالمال
وخاصة اليهودي ابراهيم الذي وجد أنه من
العيب بعد وفاة الأب أن يطالب بسنداته
التي كانت قد استحقت فعلاً في نفس يوم
موت أبو نعيم، وعندما زارهما في المحل
همس لنعيم وهو يكاد يبكي أن عليه ألا
يأبه للأموال التي كان عليهما تسديدها
وأنه يعطيهما مهلة جديدة ليتدبرا
أمرهما دون أن يضع السندات في التنفيذ،
كما جرت العادة في التعامل التجاري. إلا
أنه عاد في اليوم التالي ليلحس ماكان قد
وعد به ولم يعطهما سوى نصف المدة فقط
والتي كانت كافية، لحسن الحظ ليتدبرا
أمرهما بعد أن تحسن سوق الغزل الذي كان
قد كسد وسبب كل هذه المصائب، فباعا كمية
من البضائع التي يملكانها في
مستودعاتهما، ثم قررا ان يخزنا الحرير
والانتظار حتى تنتهي من السوق الكمية
الهائلة التي طرحها السيد كمال بأسعار
تقل كثيراً عن سعر الكلفة. وفي
أحد الأيام وبينما كانا جالسين بصمت
كعادتهما، دخل السيد كمال، هكذا ببساطة
وكأن شيئاً لم يكن. رحب به نعيم ولكن
مقيم بقي على تحفظه، حتى أنه جلس ينظر
الى السيد كمال، بطريقة جعلت هذا الأخير
يتوجس منه. كان السيد كمال لبقاً وحاول
أعطاء انطباع بأنه حزين لموت الأب، وأنه
على استعداد لمساعدة (ولدي أخيه) في أي
أمر يطلبانه منه حتى أنه عرض عليهما
شراء الحرير بالسعر الذي اشتراه به أبو
نعيم. كان نعيم لبقاً أيضاً، فلم يصده،
بل وعده بالتفكير بالموضوع، وماإن غادر
السيد كمال وهو يتطلع الى مقيم وكأنه
يهرب منه حتى انفجر مقيم في وجه أخيه
واتهمه أنه لا يحترم روح أبيه وأنه يريد
التعامل مع قاتل أبيهما، ثم هدده أنه
إذا ماقرر الموافقة على الصفقة فإنه
سيقوم بحرق الحرير في المستودع. كل
القهر الذي اختزنه مقيم جراء وفاة والده
قد تفجر صراعاً بينه وبين أخيه نعيم.
أصبح البيت الهادئ الكائن في أحد أحياء
البلد الراقية ساحة حرب بين الأخوين
التوأمين. كان مقيم يبكي وهو يصارع أخاه.
في البداية كان هدفه منع أخيه نعيم من
التعامل مع السيد كمال ، ثم أصبح
الموضوع حول العلاقة بينهما، فهو يريد
أن يفرض ارادته ايضاً في تسيير التجارة.
كلمته يجب أن تمشي أيضاً. أما نعيم فقد
وقف في وجه أخيه، لايريده أن يهدم كل
مابناه الأب المرحوم بتصرف أخرق. لم يكن
يريد الدخول في حرب مع السيد كمال في هذا
الوقت وهما غضا العظام ولم يكن قد مضى
على استلامهما مسؤولية المحل إلا فترة
قليلة..كان له عقل بارد كما كان والده.
أما والدتهما التي فاجأها مقيم في صراعه
مع أخيه، فقد كانت تتصور أنه قد يقدم على
حماقة ما مع السيد كمال وليس مع أخيه.
كان الأخوان يتضاربان حتى يدميا
نفسيهما أمام عيني الأم الباكية. كانت
تصرخ بقهر لتوقفهما دون جدوى، فلاتجد
أمامها حلاً سوى صفع نفسها، عندها يتوقف
مقيم عن الجنون ويغرق في موجة أليمة من
البكاء على أبيه وعلى نفسه. كان
أكثر ماآلم مقيم هو وقوف أمه الى جانب
أخيه في خطته للتعامل مع السيد كمال
وبيعه الحرير. كانت مقتنعة بأن عليهما
الآن أن يجاملاه، وعندما عرف مقيم أن
نعيم قد باع الحرير الى السيد كمال جن
جنونه، حتى أنهما تضاربا في باحة الخان
وأمام عيني السيد كمال بالذات. اختفى
الحب الذي جمع هذه الأسرة لما يقرب
العشرين عاماً..وبدأ البناء الذي بناه
الأب يتداعى، فأغلق المحل بأمر من الأم
بعد الذي جرى في باحة الخان ورفضت رجاء
نعيم المتكرر بإعادة فتحه. وحلفت يميناً
بروح المرحوم أنها لن تسمح لهما بالعمل
إذا لم يتفقا أولاً. فكرت
الأم أن مقيم قد يرغب في الزواج. عرضت
عليه أن تخطب له، فلربما تهدأ نفسه. رفض،
قال لها إنه لم يفكر في الزواج بتاتاً
وإنه بالعكس، يرفض هذه الفكرة جملة
وتفصيلا. جعلت نعيم يغيب عن البيت عدة
أيام كي تتفضى له وتقدم له أقصى
مايمكنها تقديمه من حنان، خلال ذلك لم
تتركه وحيداً للحظة، حاولت اكتشافه من
جديد. كان يبكي كثيراً، موت أبيه قد
أفقده توازنه، كانت تبكي معه، تحتضنه
وتبكي حتى تختلط دموعها بدموعه. وفي
إحدى هذه اللحظات قالت له بصوت خنقته
العبرة: -
لقد أصبحت تكره أخاك. نعيم لاذنب له. فقال
لها وقد هدأت نفسه: -
أنا لاأكره نعيم..بل على العكس، أشعر
أنني قد ظلمته. ولكن ذلك ليس بيدي، فعلي
أن أقوم بعمل ما، أشعر أن علي القيام
بعمل ما كي أهدأ وأنسى..ياأمي لن يهنأ لي
عيش حتى أقتل السيد كمال. كان
صادقاً فيما قاله..لم يكن من قبل صادقاً
كما كان حينئذ. ارتعدت الأم. قالت وقد
عادت الى البكاء: -
أنت تريد الخراب لبيتنا، هل تعلم ماذا
يعني أن تقتل؟ أن يصبح واحد من هذا البيت
قاتلاً؟ -
أعرف ياأمي.ولكنني لاأجد سبيلاً آخر
لأعود الى الحياة كما كنت. -
بعد القتل لن تعود كما كنت. -
على الأقل سأشعر بالراحة التي افتقدتها
في داخلي. راحت
تبكي وهي ترجوه أن يعدها بأن ينسى القتل.
وعندما رآها على هذه الشاكلة حن قلبه. هز
لها رأسه دون أن يعدها صراحة. وبعد عدة
أيام رآه نعيم يحمل شيئاً ملفوفاً
بجريدة وهو خارج. هجم عليه يمنعه من
الخروج، فقد أحس أنه مقدم على شيء ما.
كان قد لف سكين مطبخ بجريدة. أمسك نعيم
بها بكلتا يديه ليأخذها منه بينما كان
مقيم يشدها إليه. كانت الأم تصرخ وتبكي
خائفة. شد نعيم اللفة ثم صرخ بأعلى صوته..رفع
يديه الإثنتين وإذ به قد جرحهما عميقاً
بالسكين. كاد
نعيم يفقد يديه وهو يدافع عن عنق السيد
كمال. لم يلتفت مقيم الى ولاويل أمه ولا
الى آلام نعيم، بل دفع منديلاً الى أخيه
ثم وبلمح البصر، كان يدفعه الى الشارع
ثم الى أقرب مستشفى حيث تم أسعافه. * * * راح
أبو عادل يشق طريقه مسرعاً باتجاه دكان
الحاج عبد القادر . لقد مضى عليه وقت
طويل لم يزره ولم يسمع أخباره. اقترب من
فتحة الدكان التي كان دخان السجائر
يتصاعد منها وكأن حريقاً قد شب فيها. قال
يسلم عليه وكأنه مراهق جاء يزور والد
خطيبته: -
السلام عليكم ياحاج. -
وعليكم السلام ، أهلا وسهلا بأبو عادل. نهض
تقديراً لزائره ثم قذف بعقب سيكارته الى
الخارج. سأله أبو عادل : -
كيف الصحة ياحاج، وكيف هي الست سعاد،
والمحروس ابنها؟ -
نحمده. -
أنظر ياحاج، جئت أبشرك..لقد وجدت بيتاً
ممتازاً قريباً من بيتكم، مارأيك أن
تأتي معي لتراه؟ -
والله ياأبو عادل أنا لاأفهم بالبيوت،
إذا كنت راضٍ فتوكل على الله. -
غرفتان وصالون، ثم إنني سأشتري فرشاً
جديداً..أريد أن تدخل كريمتكم على جديد
بجديد. -
إن الله أراد. -
هل فتحت الموضوع معها ؟ -
لاوالله ياأبو عادل لم أفتح الموضوع بعد. فقال
أبو عادل برجاء: -
افتحه ياحاج..أرجوك، حتى إذا كان لها طلب
معين بالنسبة للفرش كي أؤمنه لها.. فقال
وهو يريد أن ينهي الموضوع: -
بسيطة ياأبو عادل ، طول بالك علينا حبة،
البنت ماتزال مجروحة الفؤاد. وافقه
أبو عادل بسرعة: -
بسيطة عمي، طول بالك عليها، أنا لست
مستعجلاً، كل شيء يصير بالهداوة. سلام
عليكم. رد
السلام بشكل اوتوماتيكي وعاد الى جلسته.
هل يفتح معها الموضوع؟ شعر أنه لايملك
الشجاعة لفعل ذلك..فهو يعرف سعاد جيداً،
فهي تحتاج الى وقت أطول كي تنسى المرحوم
زوجها. بعد
ساعة جاء السيد كمال. كانت احدى المحطات
تذيع أغنية لأم كلثوم. سلم وجلس على
الكرسي الموضوع خارج الدكان. السيد كمال
دائم الجبروت وصحته جيدة باستمرار،
لايشكو من شيء. يقولون إنه بدأ يشتكي في
الفترة الأخيرة من أن الحياة غدارة وهو
لم يرزق بصبي يشيل كبرته. لكل انسان في
هذه الحياة شكوى أو اكثر، وهاهو السيد
كمال يبدأ بالتشكي.. بارك
له الحاج عبد القادر في موضوع محسن
وابنته ذكية. تحدثا قليلاً عن الشاب،
فهو عاقل وابن حلال. كان رأي السيد كمال
أنه مازال غضاً ويحتاج الى مساعدة.. -
ألن تبيع الدكان ياحاج وتأت إلي..؟ فقال
له وكأنه يعتذر: -
والله ياسيد كمال هذه الدكان خير علينا
وأنا صعبان علي أبيعها، فقد ورثتها عن
أبي وأبي عن جدي رحمهما الله. -
أنت حر ياحاج..على فكرة. مد
السيد كمال يده الى جيبه وأخرج مبلغاً
من المال كان قد جهزه في وقت سابق. قدمه
الى الحاج عبد القادر بثقة كبيرة وقال: -
هذا مرتب الأستاذ سعيد..أصبح من حق الست
سعاد وابنها. سلم عليهما وقبل لي ناصر
الصغير. رحل
السيد كمال قبل أن يعترض أو يقول شيئاً..كان
يتأتئ فحسب. لم
يقتصر يومه على السيد كمال وأبو عادل
فقط، بل جاء اليه الحاج محمد يحمل علبة
لبن قدمها له وهو يقول إنه اشتراها من
بانقوسا وقد اشتهاها له. حاول أن يرفض
أخذ العلبة ولكن الحاج محمد حلف يميناً
بالعظيم أنه سيزعل إذا لم يقبلها، ثم
أسرع بالهرب.
* * * أجمل
الأوقات عند التجار هي الساعات التي
يقضونها بصحبة الشيخ علي. رجل يحب بطنه
والمزاح. اختصر متع الحياة الى مجرد
وليمة يدعى إليها. طيب القلب، صادق،
تراه يجول في السوق وهو يحمد الله
ويشكره بصوت عال لينبه الناس إليه
فيوسعون له الطريق. عمله قراءة القرآن
على أرواح الموتى، وقراءة الختميات
والنذور في المناسبات السعيدة. لاأحد
يعلم أين يعيش، فلم يصدف أن زاره أحد في
بيته، فكل من يريده في أمر، يراه جالساً
مع رفاقه العميان من المقرئين في الجامع
الأموي. النكتة التي يرددها دوماً هي
أنه كالتجار له سوق أيضاً، ويكون السوق
في تحسن عندما تكثر الوفيات. وعندما
يكون جالساً مع التجار تعلو ضحكاتهم
لنوادره. في
إحدى المرات حكى لهم هذه القصة. جاء إليه
البعض وطلبوا منه الذهاب معهم الى احدى
المقابر ليقرأ لهم ماتيسر له من السور
على روح أبيهم الذي مات حديثاً. أخبروه
أنهم سيدفعون له مبلغ عشر ليرات
وسيطعمونه أيضاً من بعض الأطايب التي
جهزوها لهذه المناسبة. ذهب معهم الشيخ.
كانت معدته قد بدأت تقرقع فحمد الله على
هذا العطاء عند منتصف النهار..سار معهم
مطولاً حتى وصلوا الى مقبرة هو نفسه
لايعرف أين تقع. أجلسوه بجانب أحد
القبور وشرع في القراءة. ظل يقرأ حتى إلى ما بعد
العصر بكثير، وعندما انتهى من احدى
السور أخذ لنفسه فترة راحة ونادى زبائنه
طالباً منهم أن يأتوا له بالأطايب التي
وعدوه بها. ولكنه لم يتلق أي جواب على
مناداته..جعل يصرخ دونما فائدة. أين ذهب
القوم؟ بعد ذلك شعر أنه قد خدع، ولولا
بعض أولاد الحلال الذين كانوا يمرون في
المقبرة بالمصادفة، لما عرف طريق
العودة الى الجامع الأموي، ولكان أمضى
ليلته بين القبور. كانوا
يطلبون منه دائماً أن يحكي لهم قصته
ليغرقوا في الضحك. وكان على قناعة تامة أن من
دبر له هذا المقلب، هم من معارفه التجار
وسوف يكتشفهم يوماً . هناك،
في داخله سر لايعرفه أحد، فلم يبحه لأي
كان. ولكن كل من رآه جالساً بمفرده في
الجامع الأموي، وهو لايدري أن أحداً
يراقبه، يعرف أنه يخبئ سراً. عندما يكون
بمفرده يصمت، لايتمتم بالأدعية ولايهتز
وينوس كعادته، تسيل الدموع من عينيه
اللتين انطفأ النور فيهما وهو في سن الخامسة ، دون أن
يبدو عليه أنه يبكي. لماذا يبكي الشيخ
علي ؟ ماالذي يبكيه؟ هل يمكن لهذا
المسكين الذي يضحك كل سوق المدينة أن
يختزن في داخله ألماً يبكيه؟ عندما
عاد السيد كمال الى محله في ذلك اليوم
الذي زار فيه دكان الحاج عبد القادر
وأخذ على عاتقه، (ياللغرابة)
أنه سيستمر في دفع راتب المرحوم الى
زوجته وطفله، وجد الشيخ علي والشيخ قدري
وبعض الزبائن جالسين تحت السقيفة وهم
يتحدثون. سلم وجلس وطلب من عبد الله
الأركيلة. نظر السيد كمال الى النافذة
المغلقة ثم أطلق تنهيدة وقرر أن يمزح مع
الشيخ علي لعله يشغل فؤاده الذي بدأت
النيران تضطرم فيه وكأنه عاد ابن عشرين.
قال له وهو يغمز بعينيه للموجودين: -
آه لو تعرف ياشيخ علي ماذا تغديت في
الأمس؟ فسأل
الشيخ: -
وماذا تغديت ياسيد كمال؟ -
بشرفي اشتهيتك معي. -
قل ولاتعذبني. فقال
السيد كمال بكل ثقة: -
مجدّرة ياشيخ
علي. انفجر
الحضور بالضحك، وهل المجدّرة تحتاج الى
كل هذا الحماس؟ قال الشيخ علي بجدية: -
ياأخي ألم تقرح معدات أهل بيتك بالمجدرة..كل
يوم مجدرة؟ فقال السيد كمال وهو يبتلع ضحكته: -
ألم يخلق الله المجدرة ياشيخ؟ -
لاإله إلا الله..ولكن اخربها مرة واطبخ
لنا كبة بسفرجلية. فقال
السيد كمال : -
الكبة بالصيف تعطش الإنسان. -
وهل هذا يعني أن الكبة تعطش والمجدرة
لاتعطش. قال
ذلك بانزعاج مقصود ثم نهض ليرحل. حاولوا
منعه من الذهاب إلا أنه أصر، فابتعد وهو
يقول: -
البخيل إذا كرم تتعجب ملائكة السماء.. كانوا
مازلوا يضحكون عندما اقترب السيد منير
ومعه ابنه محسن. دفع ابنه ليقبل يد السيد
كمال ثم جلس الى جانبه. كان السيد منير
يريد الانفراد بالسيد كمال والشيخ قدري
ليفصلوا المهر ويحددوا موعد كتب
الكتاب، فخير البر عاجله. قال السيد
منير عندما أصبح الجو مناسباً: -
ايه سيدي، مارأيكم أن نكتب الكتاب يوم
الجمعة القادم؟ فسأل السيد كمال : -
ولماذا العجلة ياأبو محسن؟
فقال الشيخ قدري: -
خير البر عاجله. فقال
السيد كمال : -
يوم الجمعة الذي بعده.
فقال السيد منير: -
ليس هناك مانع. فاستدار السيد كمال الى
الشيخ قدري وقال له: -
نفصل المهر ياشيخ قدري؟ -
فليكن. مارأيك ياسيد منير؟
فقال السيد منير: -
تفضل واطلب ياسيد كمال. -
الذي يقوله الشيخ قدري .
فقال الشيخ قدري : -
أنتم أولى بالكلام، ولكن الناس يكتبون
هذه الأيام عشرة آلاف مقدم وعشرة آلاف
مؤخر. استغرب
السيد منير ضخامة المبلغ..صمت قليلاً،
فهو لم يتوقع أن يكون الشيخ قدري الى
جانب السيد كمال الى هذا الحد. كان محسن
يراقب أباه وهو يتمنى أن يختلفوا. سمعوا
السيد كمال يناور: -
السيد منير غير راض، فليكن المهر ليرة
بليرة. عندها
وافق السيد منير على المبلغ الذي اقترحه
الشيخ قدري مرغماً: -
لن أخجلك ياشيخ قدري..فليكن عشرة بعشرة. قرأوا
الفاتحة ثم مسحوا على وجوههم. قال السيد
منير: -
عندي طلب منك ياسيد كمال. -
تفضل ياأبو محسن. -
دع محسن يرى البنت. هذا
محال. رفض السيد كمال . أن يرى محسن ذكية
قبل كتب الكتاب هذا يعني أنها قد
لاتعجبه وقد يحدث مالا يحمد عقباه، عليه
أن يعمل المستحيل ليتم هذا الزواج
ليتفرغ هو الى ماقد عزم عليه في قلبه.
قال السيد كمال: -
بعد كتب الكتاب ياسيد منير. هذه هي
العادة. أنا لم أر زوجتي إلا في ليلة
الزفاف.. اقترح
الشيخ قدري أن يكتبوا على بياض ليستطيع
الخطيبان مشاهدة بعضهما. رفض السيد كمال
ذلك أيضاً. قال: -
على بياض أم على سواد ؟ ماالفائدة
مادمنا سنكتب يوم الجمعة بعد القادم. عندها
أذعن السيد منير فتوكلوا على الله. أما
محسن فقد انكمش في كرسيه.
* * * أصبح
الشارع مشحوناً بسبب التطورات السياسية
في المنطقة عقب تأميم مصر لقناة السويس
وتهديد الغرب لها. كان التأييد المطلق
لمصر هو السائد في الشارع السوري ، في
حين تحول الصراع السياسي بين القطبين
الأعظمين حزب الشعب والقوى المؤيدة له
من جهة، والحزب الوطني والأحزاب الأخرى
المنضوية في الجبهة القومية بزعامة
خالد العظم من جهة أخرى، تحول الى صراع
بين من يقف ضد أو مع مصر. كانت
المدارس قد تحولت الى مراكز لتدريب
المتطوعين على السلاح، وأصبحت المظاهر
الشعبية المسلحة ظاهرة عادية، وراح
الناس يلتفون حول المذياع في الحارات
وهم يتابعون آخر التطورات ويتناقشون
ويتوقعون. أما الشبان المتحمسون فقد
عقدوا الاجتماعات المؤيدة لعبد الناصر،
فألقيت الخطابات الحماسية، وأنشدت
الأناشيد الوطنية، وكان أحمد ورفيقاه
حسان ورياض من أكثر المتحمسين في مثل
هذه الاجتماعات، وفي كثير من الأحيان
كانت القوى المعارضة والأخوان المسلمون،
يتدخلون فيها لحرفها عن مسارها
وليعلنوا موقفهم المعادي لعبد الناصر
ومحور سورية ومصر والسعودية، ولإظهار
موقفهم المؤيد للوحدة مع العراق
المرتبط بمعاهدة حلف بغداد مع تركيا
وبريطانيا. كان
صيف 1956 حاراً في مدينة حلب، وكان الصراع
على أشده بين الأطراف السياسية، حتى
أنها كانت تصطدم فيما بينها أثناء
الاجتماعات والمسيرات، وكاد أحمد
ورفاقه يصطدمون بعادل وأخوانه، ولولا
تدخل الطلبة لكان الطرفان قد تضاربا.
ورغم أن الأمر قد مر بسلام، إلا أن
العداء بينهما أصبح عميقاً وينذر بأسوأ
الاحتمالات. وبينما
كان عادل يسرد على أبيه ماجرى في ذلك
اليوم بينه وبين أحمد، انتبه الأب الى
أن مشروعه في التقرب من أسرة الحاج عبد
القادر قد يصبح في خطر. لم يكن يستطيع في
هذه المرحلة، مكاشفة ابنه عادل
المتزمت، برغبته في خطبة سعاد أخت أحمد،
ولذلك وجد صعوبة شديدة في أقناع عادل
بأن عليه ألا يصطدم بأحمد، فهما أخوة
وزملاء، ثم رجاه، وسط دهشة الابن
وابتسامات جاره عبد السلام الذي أصبح
لديه علم بقضية الخطبة، أن يتقرب من
أحمد من جديد، ثم ترك ابنه في الدكان
وهرع الى دكان الحاج عبد القادر ليعتذر
له نيابة عن ابنه وليتدارك الأمر، رغم
أنه لم يكن على علم بأي شيء، كما أن أحمد
لم يأت على ذكر اي مشاحنة حدثت بينه وبين
عادل ابن ابو عادل. وعندما فتح أبوه
الموضوع، تساءل أحمد متى كان هذا الرجعي
أبو عادل يخاف على علاقتي بابنه؟ في
خضم ذلك الجو المشحون لم يكن أحمد لينسى
حبه الكبير لزينة، رغم أنها كانت تعتقد
أنه يحب السياسة أكثر مما يحبها وأنه،
عندما يجتمعان بحراسة أخيها محسن،
لايتوقف عن الحديث في هذه السياسة
الملعونة حتى تزهق روحها. وفي أحد
الأيام استطاعا الاتفاق على أقناع محسن
للذهاب جميعاً الى السينما ومن ثم
الذهاب بعدها الى الحديقة العامة
للتنزه. كانت زينة في أوج سعادتها لأنها
بصحبة أحمد رغم أنها كان ممنوعاً عليها
مواجهته أو التحدث معه. كان محسن يفصل
بينهما وهو في أسوأ حالاته، فقد رفض
السيد كمال فكرة مشاهدته لخطيبته. كان
يشتكي لصديقه ولإخته ويبثهما خوفه من
مصيره الغامض مع خطيبته ذكية. كان يود
كثيراً أن يراها ويتعرف الى تلك
الانسانة التي ستصبح زوجته، وأمام حزنه
توقف أحمد عن مشاكسته والتهجم على زواجه
من ابنة السيد كمال أما زينة فقد خففت من
وصفها لقبح العروس وقالت له إنها لابأس
بها ولكنه أجمل منها.
* * * وقعت
ذكية في ورطة بعد أن خطبها محسن. احتل
القلق كيانها، وفقدت الى الأبد هدوء
نفسها. كانت تعرف أنها ليست بجميلة،
تعرف أيضاً أنها قبيحة، ولكن ذلك لم يكن
يقلقها. كان سيان عندها أن تكون جميلة أو
قبيحة، أو هكذا دربت نفسها، بعقلها
وقلبها، أن تعيش مع مشكلتها التي ليس
لها يد فيها. هكذا خلقها الله، وهكذا
ولدتها أمها، فلا بأس. أما عندما خطبها
شاب يفوقها جمالاً ويصغرها سناً فقد
أصبح أمر مظهرها ذا قيمة. أصبح
النوم عزيزاً. أرقٌ وهمٌ عظيمان. كيف
سيراها خطيبها، وكيف ستكون ردة فعله؟
بدأت الكوابيس تهاجمها في صحوها ونومها.
كان كل يوم يمضي
يدني من يوم
امتحانها العظيم، يوم كتب كتابها،
اليوم الذي يستطيع فيه محسن النظر إلى
وجهها دون حجاب أو ممانعة ويكتشف فيه
مشكلتها، ألمها، أرقها الذي أصبح كذلك
منذ اليوم الذي جاء فيه أبوها ليخبرهم
أن السيد منير قد خطبها لابنه محسن. آه
ياربي..لماذا خلقتني على هذه الصورة؟ كان
العمل على أشده في خياطة ثوب زفافها.
كانت تقوم بذلك بنفسها وبمساعدة أمها
وإحدى الخياطات. والخياطة عمل رتيب يترك
مجالاً كبيراً للتفكير. والتفكير
الطويل لإنسانة تملك حساسية عالية
مثلها أمر جهنمي. كانت تتعذب، لو كان
الأمر بيدها لما تزوجت طوال عمرها. كيف
يمكن أن يصير يوم زفاف فتاة الى يوم عذاب
وموت بالنسبة لها، فقد أصبح انتظار ذلك
اليوم كانتظار المحكوم ليوم تنفيذ حكم
الإعدام. قالت ذلك أيضاً بصوت عال.
انتبهت الست مطيعة الى ماقالته ابنتها
المعذبة. كان وجهها قطعة من الخوف. حاولت
أمها تهدئتها، قالت لها اللعنة على
الحسن والجمال، لاشيء يضاهي العقل. هاهو
الكلام عن العقل مرة أخرى. العقل زينة،
العقل جمال، العقل دنيا وآخرة. كلما كان
هناك فتاة لا أثر
للجمال في وجهها أصبح الكلام عن العقل
هو السائد. يصبح العقل هو القانون. قالت
الست مطيعة: -
وهل كنت أنا ملكة زماني عندما جاء أبوك
ليخطبني؟ -
إنك أجمل مني، فأنا.. -
هراء.. -
وأنا أيضاً عندي نظر. -
كمال أجمل مني بكثير ومع ذلك كما ترين..عشنا
حياتنا. تحول
الحديث الى الأب. قالت ذكية: -
أبي متغير. -
يعني. -
متغير كثيراً. أصبح ينام بمفرده، في
البداية قلت إنه يشخر، ولكنني لاحظت أنه
أصبح أكثر توتراً معك أنت بالذات. -
اقتربنا من الشيخوخة. -
ربنا يعيد بينكما المحبة، ولكنني اختلف
عنك. وضعي غير وضعك. محسن شاب أصغر مني
بسنة أو سنتين،
وأجمل مني بكثير. ألف بنت تتمناه،
والمرأة على العشرة تحب زوجها وتتعود
عليه، وإذا لم يحبها زوجها تكون المصيبة.
تصبح حياتها جهنم. لذلك فأنا خائفة. -
لاتخافي ياابنتي. ثقي بالله. غداً سأذهب
الى الشيخة خديجة لتكتب لك حجاباً.
حجاباتها تصدق. ستجعل محسن يقع في غرامك
من أول نظرة. ضحكت
ذكية حتى استلقت على ظهرها. ضحكت أيضاً
الست مطيعة لضحك ابنتها. في
صباح اليوم التالي ارتدت الست مطيعة
ثيابها وذهبت الى الشيخة خديجة. تربعت
أمامها وبينهما كان البخور يتصاعد من
وعاء نحاسي. كانت الغرفة غاطسة في عتمة
متعمدة، وكان وجه الشيخة خديجة الصامد
يثير في النفس الخشوع. همست لها مطيعة: -
لم أستطع ياخديجة أن الد له صبياً يفرح
به. حبلي قليل. ليس عندي سوى ذكية. ليس
لها حظ في الجمال، ولكنها عاقلة وذكية
وحساسة. عندما جاء الى والدي رحمه الله
كان جائعاً. أقسم لك أنه كان جائعاً.
أعطاني له وجعله يشتغل عنده، وقبل أن
يعطيك عمره كان كمال قد استلم كل شيء
وأصبح السيد كمال. -
الذنب ذنبكم. كان عليك ترك كل شيء بيدك. -
النقود والأملاك ليست هي المشكلة. -
ولكن النقود تغير الرجال. -
لو كنت ولدت له صبياً لاختلف الأمر. لم
أترك طبيباً إلا واستشرته. أو ولياً من
أولياء الله الصالحين إلا وزرته، ولكن
دون نتيجة. هذه قسمتي. -
والآن؟ -
والآن بدأت أشعر انه بدأ يبتعد عني. ماتت
المحبة بيننا ياشيخة خديجة. في البداية
طردني من غرفته، ثم صار يقسو علي
بالكلام. ماعدت أتحمل أكثر من ذلك. كرمى
لله ياخديجة..اكتبي لي حجاباً يعيد لي
محبة زوجي. -
حاضر ياست مطيعة. -
وأريد منك حجاباً لابنتي ذكية، فقد
خطبها شاب أصغر منها وابن حلال. حتى الآن
لم يرها ولم ير علّتها. البنت تموت من
الخوف. خائفة من ألا يحبها بعد أن يحصل
النصيب. أكتبي لها كي تدخل قلبه. أرجوك
ياخديجة، أنا وهي ليس لنا في الدنيا
غيرك. راحت
الشيخة خديجة تكتب بكل ثقة وورع. لفّت
الحجابين وأخاطتهما ثم قدمت الأول للست
مطيعة المعذبة وقالت لها: -
هذا لك..خبئيه في ثياب زوجك التي يرتديها
كل يوم. يجب أن لا يعرف عنه أي شيء. عليك
أن تقولي ياودود عشرة آلاف مرة في
اليوم، وبعد ثلاثين يوماً تعود المحبة
بينكما بإذن الله. رددت
الست مطيعة ياودود..ياودود..ثم مدت لها
الشيخة الحجاب الثاني: -
وهذا لابنتك ذكية. يجب أن يكون معها
عندما تقابل خطيبها لأول مرة. وبإذن
الله سيحبها ويموت فيها.
* * * وجاء
اليوم الموعود. شغل الرجال معظم غرف
منزل السيد كمال ، أما النساء فقد
اكتفين بغرفة نوم ذكية. كان الكاتب يقرأ
سنن النكاح بينما وضع السيد منير يده في
يد السيد كمال . وفي الداخل كانت ذكية
لاتهدأ، وقلبها يدق بعنف كأنه سيخرج من
صدرها. كانت تتجول في الغرفة وهي قابضة
على حجابها بيدها كأنه حبل نجاتها وشعاع
أملها. اقتربت من باب الغرفة وفتحته
قليلاً وإذ بها ترى محسن يتابع اجراءات
كتب الكتاب والى جانبه أحمد. تمعنته. زاد
خوفها بسبب جماله وفتوته. ضغطت على
الحجاب أكثر ثم أعادت أغلاق الباب.
أسندت ظهرها الى الجدار وأغمضت عينيها
وهي خائفة. لو أنها تموت ولاتقف أمام هذا
الامتحان. لقد وعت مشكلتها أكثر من أي
يوم مضى. انتهى
الكاتب بعد أن سمع موافقة كل من
الوكيلين ثم هنأهما. نهض السيد كمال
والسيد منير وتعانقا، ثم اقترب محسن
وقبل يد والده ووضعها على رأسه. كذلك فعل
بيد عمه السيد كمال . ثم راح يدور على
المدعوين ليتقبل التهاني منهم. صاح
الشيخ علي يطلب الضيافة. في
الداخل علموا أن كل شيء قد انتهى وأن عقد
القران قد تم. نهضت الست مطيعة وقامت
بتوزيع الضيافة. قبلت النساء ذكية.
لاحظت زينة أنها متوترة. قبلتها دون
شهية. عندها خطر في بال أم محسن أن تنادي
ابنها كي يدخل، فتحت الباب ونادت على
محسن. استدارت ذكية نحو النافذة تخفي
هلعها وهي تمسك الحجاب بقوة. نادت مرة
أخرى، فلم يكن أحد قد سمعها، عندها
اقترب السيد منير يستطلع الأمر: -
ماذا هناك..؟ -
أين محسن ياأبو محسن..دعه يدخل ليتعرف
على ذكية. سمعت
ذكية كيف كان السيد منير يبحث عن محسن.
كان قلبها يضرب بعنف. تعرقت وتعرق
الحجاب في يدها. راحت تردد، كما نصحتها
أمها: ياودود..ياودود.. كادت
تسقط من شدة الانفعال والخوف. لقد حانت
اللحظة التي سترى نفسها في عينيه.
ولكنها سمعت السيد منير يقول لزوجته
بغضب: -
لم أجده..أين ذهب الملعون..يبدو أنه خرج
مع أحمد..؟ عندها
تنفست الصعداء. انفكت يدها عن الحجاب.
نظرت إليه ملياً ثم وضعته على الرف
القريب. في
الخارج كان محسن وأحمد يسيران بعيداً عن
مكان الاحتفال. كان محسن يقول: -
انتهى الأمر..أصبحت ذكية زوجتي. مهما كان
شكلها فهي زوجتي الآن.
فقال أحمد: -
غداً سيقول لك أبوك إن العشرة بين
الزوجين تولد الحب. -
ومن قال إنه لم يقل ذلك؟ -
ولكنك غريب يامحسن..لماذا لم تعد لديك
الرغبة في رؤيتها؟ -
هناك وقت كافٍ لذلك..هيا..الى أين تريد أن
تأخذني؟ فقال أحمد: -
هيا نذهب الى مركز التدرب على السلاح..دعنا
نفعل شيئاً مفيداً. فقال
محسن: -
لا بأس، سنذهب أينما تريد، رغم أنني
أفضل الذهاب الى السينما. * * * |
Copyright © 1999 - 2001 Nihad Sirees All rights reserved