طبع المقال
تحميل المقال

المسلمون في فرنسا

ناتالي دول *
Nathalie  DOLLE

    للمرة الاولى سيعمد مسلمو فرنسا الى انتخاب ممثليهم. الخبر مهم لكن ما يخفف من وقعه هو تدخل الدولة في هذه العملية. فهي التي اطلقت النقاش حول الموضوع ونظمته ثم شاركت في الاعداد للاقتراع. تحتاج السلطات العامة الى محاورين فقامت باختراعهم او بالمساعدة في اختراعهم. يبقى ان نعرف اذا كان المسلمون في فرنسا يجدون في ذلك ضالتهم.

    "يجب مساعدة المسلمين في استلحاق التأخر التاريخي، فمن الملحّ والضروري ان يندمج الاسلام في نظامنا العلماني". باسم الاعتراف المؤسساتي يشرح السيد الان بيون، مستشار وزيري الداخلية المتتاليين، السيد جان بيار شوفنمان والسيد دانيال فايان، ضرورة انشاء مجلس فرنسي للدين الاسلامي. وفي السياق نفسه اوضح السيد شوفنمان مبادرته كما يأتي: "يجب ايجاد الدواء للوضع الخاص الذي يعيشه الاسلام في فرنسا بسبب ما يلاقيه من صعوبة في تنظيم صفوفه على غرار بقية الاديان الكبرى وخصوصاً لجهة انشاء مجالس تمثيلية له".

    ليس لدى مسلمي فرنسا البالغ عددهم 4 او 5 ملايين شخص اي سلطة دينية: لا كهنوت ولا ممثلين ومع ذلك يوجد 1500 مكان للعبادة فوق الاراضي الفرنسية وفق احصاء رسمي، من الاقبية العديدة الى "المساجد-الكاتدرائيات" القليلة العدد. المؤمنون ظاهرون للعيان واقبالهم على الفروض الدينية في تزايد كما ان بعضهم منخرط بالعمق في الحياة الاجتماعية وشؤون المواطنية. بيد انهم يفتقرون الى التنظيم على المستويين الوطني والاقليمي مما يمثل كابوساً للسلطات العامة.

    يشار اذاً الى المجلس الفرنسي للدين الاسلامي على انه حيز للحوار بين الدولة والمسلمين بغية ايجاد حل للمشكلات العائدة الى الممارسات الاجتماعية والعامة للاسلام مثل رمضان والذبح الحلال والحج واعداد الائمة وبناء المساجد ومرشديات السجون والمستشفيات والمؤسسات التربوية والمدارس الخاصة. ولا تنفك الدولة الفرنسية تعلن رغبتها في اندماح ديانة تكون مستقلة عن بلدانها الاصلية بعدما تركت لعقود من الزمن "ادارة شؤون" المسلمين للمغرب والجزائر وتونس، وفي ماض قريب لبعض الدول الافريقية ولتركيا.

    في سعيهم للقطع مع هذه السياسة، حاول كل من السيد بيار جوكس عام 1990 والسيد شارل باسكوا عام 1995 والسيد شوفنمان عام 1999 وأكمل من بعده السيد فايان، انشاء "هيئة تمثيلية لمسلمي فرنسا". فاعتمد كل منهم وسيلة ومساراً خاصاً لكن الهدف الجامع والمعلن عنه بصراحة متفاوتة كان فرض الرقابة على الطائفة الاسلامية في فرنسا. ذلك ان الديانة الثانية في البلاد لا تزال تعتبر تهديداً قادراً على مختلف التجاوزات الممكنة.

    وبعدما تعلم من فشل سابقيه، اعلن السيد شوفنمان هذه المرة وفي مختلف الصيغ انه يلعب دور "مسهل" ومجرد "شاهد حسن النية" :"اني منفتح على فكرة اجراء مشاورات تفيد في اطلاق مبادرة يرجع الى المسلمين وحدهم القيام بها ولوانه يمكن الدولة ان تشجع لوضعها موضع التنفيذ في حال موافقتهم. ولىّ الزمن الذي كان يمكن الدولة ان تفرض فيه ارادتها وهي لن تكون بديلاً منكم بل تسعى فقط الى مساعدتكم".

    وقد وجهت الوزارة في تشرين الاول/اكتوبر 1999 الدعوة الى ستة مساجد "مستقلة" كبرى وستة اتحادات ثقافية وست شخصيات اسلامية [2] . بالطبع لم تتوقف الدولة العلمانية امام الرمز الشيطاني 666. وقد رفض احد المساجد المشاركة في المشاورات وهو مسجد شارع طنجه في دائرة باريس الثامنة عشرة التي يمثلها وزير الداخلية نفسه، السيد فايان، في الندوة النيابية. وبالرغم من النشاط الذي تمارسه على الارض والنفوذ الذي تتمتع به منظمات "المسلمين الشباب" (وإن تقدم بهم السن) فان أياً من هذه الجمعيات لم تتلقّ الدعوة من وزارة الداخلية التي لم يحضر لقاءها الا طبقة الوجهاء المسلمين. وقد ترك الغائبون فراغاً واضحاً لان مروحة الاتجاهات الكبرى لم تكن مرة بهذا التنوع. وقد وجه بعض الاعضاء المدعوين انتقادات علنية لتأليف المجموعة ومنهم مفتي مرسيليا صهيب بن شيخ الذي استنكر الاهمية المعطاة لبعض المنظمات التي "تحمل ايديولوجيا اصولية". وزايدت بتول فقار لامبيوت بالقول: "يجب عدم تشويه سمعة هذه الحركات من خلال اعطائها اهمية اكثر مما تستحق. ولو انهم في الواقع يسعون قبل كل شئ للحصول على اعتراف رسمي بهم" [3] .

    من اجل المشاركة في هذه المشاورات، كان المطلوب توقيع وثيقة تذكّر بمبادئ الجمهورية العلمانية. فتكاثرت الانتقادات ازاء انعدام الثقة هذا: "قصور"، "استعمار جديد"، "تمييز". فهل يطلب من المواطنين المسيحيين او اليهود "اعادة تأكيد" التزامهم مبادئ الجمهورية؟ كان الاجراء اخرق. في النهاية وبعد تعديل عنوانه [4] ، تم التوقيع جماعياً على النص في 28 كانون الثاني/يناير 2001. وصار في إمكان الجمعية ان تبدأ اعمالها في وزارة الداخلية بعدما اطلق عليها اسم "الاستشارة" تيمناً بالمبدأ التقليدي لمشاورة المؤمنين قبل اتخاذ رأي ديني.

    امضى اعضاء "الاستشارة" شهوراً قبل الاتفاق على آلية عمل ومن بعدها على طريقة تشكيل المرجعية التمثيلية. وتم التوصل بعد جهد الى "اتفاق-اطار" في ايار/مايو 2001. اعتمد الاقتراع وسيقوم اذاً مسلمو فرنسا بانتخاب ممثليهم كما ستقوم بالاشراف على العملية الانتخابية جمعية تابعة للمجلس الفرنسي للديانة الاسلامية وهي منبثقة مباشرة عن المجلس الاستشاري. انقذت المظاهر لكن الادارة العامة احتفظت بالرقابة عبر المشاركة المباشرة في التنظيم. فاللجان الانتخابية في المناطق تضم مساعد المحافظ وشخصيات غير مرشحة تعيّنها الاتحادات او المساجد الكبرى. وتقوم هذه الهيئة المشرفة بوضع لائحة باماكن العبادة وبعدد المندوبين المؤهلين للتقدم بترشيحهم. وتعيّن اماكن العبادة ممثلين مناطقيين ينتخبون المندوبين الى الجمعية الوطنية العامة (200 عضو تقريباً) التي ينبثق عنها مجلس ادارة ومكتب ورئيس المجلس الفرنسي للديانة الاسلامية.

    ويعتمد حجم اماكن العبادة ونسبة تردد المؤمنين المعلنة عليها كقاعدة للحساب. ويمكن الاعتراض على دقة المبدأ خصوصاً ان مصدر المعلومات هي المخابرات العامة او المعنيون انفسهم. فبعض المساجد تنزع مثلاً ومن باب الحذر او بسبب التجربة، الى التخفيف من عدد المؤمنين او المبالغة فيه. كذلك فان الامتار المربعة المستعملة لصلاة الجمعة في فناء البيوت او الشوارع لن تؤخذ بالطبع في الحسبان. فالاقرب الى الادارة سيحصلون على الامتيازات. من جهته، مسجد باريس سيحتفظ بوزن انتخابي كبير ومحامي المسجد عضو في "الاستشارة" التي يعتبر اعضاؤها حكماً في عداد الجمعية العامة الاولى.

    يبدو النظام ثقيلاً ومعقداً. ففي مواجهة تحدّ بهذه الاهمية كان من المشروع بذل جهود اكبر لتبسيط الامور بتسرع اقل. فالسيد شوفنمان كان قد التزم ان "تنظيم الهيئة التمثيلية هي من مسؤوليتكم ولا يحدد لها لا اطار ولا مهلة". منذ سنتين يجتمع اعضاء الاستشارة مرة في الشهر لكن الامور تسارعت فجأة في ايلول/سبتمبر 2001. وقد ارخى اقتراب موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية بثقله وبات اقرب الى التهديد، مع ان المشروع يكتسب شرعية اعمق لو تابعت الآلية مسارها الطبيعي بعيداً عن التأثير الانتخابي الفرنسي. ولا تبدو جماعة المؤمنين مقتنعة بضرورة الاسراع كما ان النقص في المعلومات والتفسير على المستوى المحلي يساهم في حرف المبدأ الديموقراطي المرجو عن مساره. أضف الى ذلك ان غياب النساء بارز وبموافقة وزارة الداخلية. فهن لا يقصدن المساجد في الغالب وابعدن تلقائياً عن التمثيل.

    لا تنفك الدولة الفرنسية تتمنى قيام "اسلام فرنسي" حقيقي تلتزم به في العمق كأن المقصود نقل الرعاية من الخارج الى "البلد المضيف" الذي تحول في هذه الاثناء الى مسقط رأس المسلمين المولودين في فرنسا او المعتنقين حديثاً للاسلام. بيد انه من اجل بلوغ هذا الهدف لا تستثني فرنسا على العكس اللجؤ الى الشبكات الوطنية الاجنبية. وسيقوم بعض الممثلين الفرنسيين والمستشارين وكبار الموظفين بمناقشة مسار العملية في السفارات وحتى مباشرة في الضفة المقابلة من المتوسط. والذين يساهمون بنشاط مع الوزارة الفرنسية لن يبعدوا بالطبع عن المشاركة في التنظيم العملي للاقتراع. وينقسم المسلمون انفسهم حيال ما يحدث، فيقول السيد فؤاد علوي (المغربي) وهو الأمين العام لاتحاد الجمعيات الاسلامية في فرنسا: "من الواضح ان الجزائريين يريدون الاحتفاظ بسيطرتهم على الاسلام في فرنسا" [5] ، في حين يشير السيد كامل كبتان، امام جامع ليون، الى ان "التونسيين وحدهم لا يعيرون هذا الانتخاب اهتماماً" [6] . اما السيد علي راني من جمعية "لقاء وحوار" في مدينة روبه فيقول: "عندما نسمع على الارض وفي المساجد نداءات تستدعي الشعور الوطني من اجل الحصول على المزيد من السلطة داخل الهيئة التمثيلية فإننا نخشى حصول انحراف "اثني". يمكن هذا الخطاب وهذه السياسة النيو استعمارية ان تلقى الصدى لدى الجيل القديم وليس لدينا نحن ابناء الجمهورية".

    ازاء هذه المناورات، تحضر جمعيات عدة للشباب المسلم الرد على الارض، فانطلقت حملة من اجل تأجيل موعد الانتخابات. وهم اذا كانوا يوافقون على مبدأ قيام هيئة تمثيلية فإنهم ينتقدون المنهج والسرعة التي تجري بها العملية ويستعينون من أجل ذلك بالتحليل الذي قدمه الفيلسوف طارق رمضان: "لماذا لا ندعو الى اجتماع لمسؤولي الاحزاب الكبرى في فرنسا ونقترح عليهم اتفاقاً مبدئياً، أي نوعاً من عقد مواطنية يلتزمون بموجبه اجراء الانتخابات وفق المبادئ المعلنة اليوم وذلك مهما تكن نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية الفرنسية؟" [7] . في هذا الاطار يتغذى ميزان القوى لدى المسلمين بالافكار المسبقة والمماحكات السياسية ويفقد النقاش الصفاء اللازم ليصبح بموجبه بناءً.

    الى ذلك، فان الهاجس الامني يدفع بالسلطات العامة الى "الاشراف على تنظيم" الاسلام. فمن الثورة الايرانية عام 1979 الى اعتداءات 11 ايلول/سبتمبر 2001، مروراً بالحرب الاهلية في الجزائر واختطاف الرهائن في الفيليبين او بالطبع النزاع الاسرائيلي-الفلسطيني، كان للاحداث الدولية انعكاسات غير مباشرة على مسلمي فرنسا وعلاقتهم بسائر فئات البلد. وفي هذا الاطار تبحث الدول عن محاورين "يمثلون" المؤمنين و"يقودونهم" في الوقت نفسه من اجل اقامة الحوار او اقله التواصل في حال الازمات الدولية او التوتر الداخلي.

عملاً بأولوياتها، أي ضمان النظام العام وتشجيع قيام اسلام رزين ولين العريكة، سعت وزارة الداخلية الى توحيد المسلمين والحدّ من بعض النفوذ وايجاد توازن بين التيارات وخلق وسطاء من اهل الثقة. ويشرف السيد بيون على هذه الادارة السياسية: "ان الفوضى تناسب الجماعات الاكثر تنظيماً وهي القريبة من الاصولية". يبقى ان نعرف بموجب اي شرعية دينية تتدخل السلطات العامة في التيارات والمدارس الفكرية الاسلامية. طالما ان الاجتهادات الخاصة بالشرع الديني لا تؤدي الى أي اختلاف سلوكي وتبقى ضمن اطار القوانين الجمهورية، فليس على الدولة التدخل من حيث المبدأ، مع انها تدخلت من الناحية العملية. وكان الامبراطور نابوليون قد اوجد تفاهماً اكثر حزماً في بداية القرن التاسع عشر من اجل تطويع الطائفة اليهودية في فرنسا وتوحيدها [8] .

    كيف تبرر دولة علمانية تدخلها في اختيار عقيدة دينية؟ كيف يمكن تشريع ما قد يصبح على المدى الطويل الاسلام الرسمي في فرنسا او حتى اسلاماً فرنسياً؟ ان الانخراط في هذا التوجه يجعل من الصعب توجيه الانتقاد الى هذه المجموعة الاسلامية او تلك بتهمة اقامة علاقات وثيقة مع عالم السياسة. او ربما يفترض اعادة النظر بشكل واسع في العلاقة بين الدين والدولة الفرنسية؟

    يشار باستمرار الى قوانين فصل الدين عن الدولة لاستنكار ارتهان الاسلام الى بلدانه الاصلية فيما تبقى الثورة الفعلية التي تضمنتها قوانين العام 1905 تعطي في مادتها الرابعة "الكنائس" سلطة تنظيم نفسها كما ترغب. وللمرة الاولى في التاريخ الملكي والجمهوري اكتسبت الاديان عندها استقلالاً تاماً في وجه السلطة المدنية. لكن فكرة الاستتباع لا تزال تقاوم واذا كان لا يمكن الدولة ان تتدخل رسمياً في شؤون الاديان الداخلية، يبدو انها في المقابل غير قادرة او غير راغبة في اتخاذ موقف المتفرج. فالحدود ضبابية بين سياسات المواكبة والتوسط والمساندة والتدخل.



[1]  صحافية

[2]  المركز الاسلامي في مدينة ايفري، مسجد مانت-لا-جولي، مساجد باريس الكبرى، ليون، جنوب فرنسا (مرسيليا) وسان دوني في جزيرة لاريونيون، اتحاد الجمعيات الاسلامية في فرنسا، الاتحاد الوطني لمسلمي فرنسا، الدعوى والارشاد، تبليغ دعوى الله. وسيلتحق بهذه الجمعيات في ما بعد الاتحاد الفرنسي للجمعيات الاسلامية في افريقيا وجزر القمر والانتيل والاتحاد التركي-الاسلامي للمسائل اللاهوتية في فرنسا، السادة سعوا مامادوبا، مهيب بن شيخ، الشيخ خالد بنتونس، ميشال شوكيفيكز الذي حل محله اريك جوفروا، السيدة بتول فقار لامبيوت، محسن اسماعيلية.

[3]  Libération, 19/10/2001

[4]  تحول "اعلان النيات الخاص بحقوق اتباع الدين الاسلامي في فرنسا وواجباتهم" فصار "المبادئ والاسس القانونية للعلاقات القائمة بين السلطة العامة والدين الاسلامي".

[5]  Le Monde, 29/11/2001

[6]   المرجع السابق

[7]  Libération, 5/11/2001

[8] عام 1806، اطلق نابوليون تسمية "سنهدريم" على اجتماع الحاخامات الشهير تيمناً بمؤسسة كانت قائمة في فلسطين في زمن الهيكل الثاني. وقد طرح اثني عشر سؤالاً على اجتماع وجهاء اليهود: "هل تسمح الشريعة اليهودية بتعدد الزوجات والطلاق؟ هل الفرنسيون اخوة لليهود ام أغراب عنهم؟ هل يعتبر اليهود المولودون في فرنسا والذين يتعامل معهم القانون كمواطنين فرنسيين، فرنسا على انها وطنهم؟..." ثم دعا الى اجتماع للحاخاميين كي تؤكد الشرعية الدينية اولوية الانتماء الوطني على الولاء للشريعة اليهودية.

http://www.mondiploar.com/

جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و مفهوم