|
|
عندما
وصل الى المخيم، كان محسن منهكاً..محطماً.
فقد كان عليه أن ينتظر الباص الأول
المسافر الى مدينة الرقة. في ذلك الوقت
الباكر من الصباح، كانت الباصات تصل
إليها من الضواحي، تنقل الفلاحين
المحملين ببضائعهم وهؤلاء الذين جاؤوا
بالمرضى منهم علهم يجدوا طبيباً
يداويهم. كانوا ينظرون إليه والى حطام
وجهه والدماء التي كانت تلوث ثيابه. أما
هو فقد كان يتابعهم بخجل ويرى إليهم
يحملون أثقالهم من البضائع والمرضى.
كانوا يتهامسون وهم يشيرون إليه..أي
استقبال حافل هذا الذي تستقبلهم به
المدينة..؟عندما كانوا يرنون إليه كان
الخوف يتسلل الى قلوبهم. لاحظ
أن كثيراً من القادمين هم من المرضى
ومصفري الوجوه والضعفاء. في الماضي كان
يسافر على ذات الخط، ولكنه لم يكن يلاحظ
هذه الأمور. ربما لأنه الآن محطم أكثر
منهم، وربما لأنه كان يتألم في كل جسده،
كما يتألم مرضاهم وأكثر. دفع
للمعاون اجرة السفر وصعد الى الباص.
حملق المعاون في وجهه. لم يسأله عن الأمر
إلا بعد أن انطلق الباص. ولكن محسن برم
شفتيه ولم يجب، بل عاد الى النافذة ينظر
الى الأرض الخلاء التي تسرع هاربة الى
الخلف. كان حزيناً، غاضباً ومقهوراً..خائفاً
مما قد يحصل له. ماذا حصل لفضة ياترى؟
لقد قضى وقتاً طويلاً في حلب دون أن يرسل
إليها كلمة أو يحاول معرفة أخبارها.. هل
ماتزال تحبه؟ ماذا لو أنها لم تعد
تهواه، او انهم غادروا مكان سكنهم؟ ولكن
عندما اقترب الباص من خيامهم فوجدها على
حالها ارتاح قلبه. نزل
وووقف حتى رحل الباص. كانت حقيبته
الصغيرة الى جانبه وهو ينظر الى الخيام.
وكانت هناك شاحنة وحيدة متوقفة والصمت
يلف مخيم الغجر، بينما كان هناك بعض
الصبية يلعبون تحت أشعة الشمس الحارقة
وكلاب تشم الأرض وهي تهرول حول الخيام..حمل
حقيبته واقترب. انتبه الصبية الى
اقترابه فركضوا إليه، وعندما اقتربوا
منه هالهم منظره..راحوا يتمتمون بكلمات
الذهول والألم، ثم ركض بعضهم ليزف خبر
قدومه الى فضة وأمها. بعد
قليل كان جالساً في خيمة ام فضة يشرب
اللبن. كانت فضة جالسة أمامه تتفحص وجهه
المهشم باكية، بينما راح يشرب اللبن
والألم بادٍ في تقاطيع وجهه. كان يتألم
من جراء أية حركة يقوم بها. أنزل صحن
اللبن ونقّل
عينيه بين الغجر الذين ملأوا الخيمة
ينظرون إليه صامتين، بينما كانت فضة
تنشج وهي تردد: حبيب قلبي..حبيب قلبي..ماذا
فعلوا بك؟ كانت
أم فضة تنظر إليه بعينيها السوداوين
والباردتين دون أن تنبس..وكان أبو فضة
مقرفص خلفها بجسمه الضئيل يهتم بالقهوة
المرة، بينما كان يلقي نظرات سريعة وهو
يتنهد. كان
طيب القلب، وضعيف الإرادة..كان يعيش تحت
ظل امرأته ويهابها، أما هي فلم تكن تأبه
له. يقولون إنها هي التي تزوجته، ولم
يعرف أحد لمَ فعلت ذلك..فقد كانت تعيش
حياتها كما يحلو لها ولم تكن بحاجة الى
زوج، ولكنه نزل مرة في مخيمهم واستقام
فيه. كان يخدم الزبائن ويخدمها أيضاً.
رجل صامت وخدوم. لايفتح فمه أبداً.
لايتأفف ولايتمرد ولايقول لا مهما طلب
منه. كان ينام تحت قدميها ليلاً ليحرسها
وليسرع الى خدمتها حين تطلب منه شيئاً،
ولكنه لم يكن يمتلك القوة ليحميها. في
بعض الأحيان..عندما كانت صبية، كانت
تتعرض الى مضايقات الزبائن من سائقي
الشاحنات. كانت تغني لهم ليتوقفوا في
مكان تخييمهم. ليلة سمر يقضيها السائقون
المتعبون من طول السفر يتناولون فيها
المشاوي ويشربون العرق ويستمعون الى
أغاني أم فضة البدوية. حين ذلك لم يكن
يستطيع حمايتها. كانت تتعرض الى مثل هذه
الأمور كثيراً..ومع ذلك تزوجته. كان
لها أصحاب من السائقين يأتون ويتوقفون
وينامون في خيمتها وفي الصباح
يغادرونها. أحدهم كان المعلم حسين. كان
جميل الطلعة، أحمر البشرة وقوي البنية.
كانت، حينما يصل بشاحنته البوزينغ،
تترك كل الزبائن الآخرين لتتفرغ له.
وحينما يأتي كان أول شيء تفعله هو
الاغتسال..كان يريدها مغتسلة، نظيفة
ومبتسمة. لم تكن تشاهد مرحة وسعيدة
ومدللة مثلما كانت عليه حينما يحضر
المعلم حسين. كان يتناول مشاويه وعرقه
في خيمتها وهي تغني له. وفي آخر الليل
تنام معه. أما في الصباح فقد كان يغادر
فتودعه بحزن..كانت أم فضة تحبه ولكنه رحل
مرة ولم يعد حتى الآن..وعندما سألت عنه
سائقي الشاحنات قالوا لها إنه ضبط يهرب
الحشيش إلى تركيا فحكم عليه بالسجن
لعشرين عاماً. وفي
أحد الأيام طلبت من الغجري الكبير أن
يزوجها من أبو فضة. لم تكن قد قالت له
إنها تفكر بالزواج منه أو إنها ترغب به،
كل مافعلته هو أنها طلبت منه أن يأخذها
الى خيمة الغجري الكبير. وهناك طلبت من
الكبير أن يزوجها له. برم كبيرهم شفتيه
وعقد قرانها على أبو فضة وكأنها تفعل
ذلك كل يوم..المندهش الكبير كان أبو فضة
بالذات. خرج من الخيمة وهو متزوج منها.
حتى الآن غير مصدق أنه زوجها بالفعل.
وعندما استلقت في فراشها أسرع ليغطيها
كما كان يفعل كل يوم..ثم ليقعدعند قدميها..ولكنها
نادته وطلبت منه أن يخلع ثيابه ويستلقي
الى جانبها، وعندما فعل خلعت سروالها
وقالت له هيا اصنع لي ولداً..ولكن أسرع
فأنا متعبة. وهكذا
أصبح زوجها، وبعد سنة ولدت فضة لترث
عنها جمال الوجه والصوت. ولكنها ظلت على
عادتها في مصاحبة بعض السائقين الذين
كانت تنتقيهم من زبائنها الكثر. أما
عندما يكون الرجل المفضل لديها في
خيمتها فإنه يقوم على خدمتها وخدمته. لم
يكن يتأفف أو يعترض..كان يطلب ودها
ويهابها، حتى أنه كان، في
كثير من الأوقات، يدخل الى الخيمة ليحضر
لها ماكانت قد طلبته، فيراها هي وصاحبها
عاريين. وعندما كبرت وهرمت أصبح
السائقون يفضلون ابنتها فضة. كان صوتها
قد ضعف وتجعد وجهها ورحل جمالها الذي
تمتع به رجال الشاحنات الى الأبد، فلم
يعودوا يتوقفون عندهم إلا ماندر..لذلك
أمرت ابنتها أن تأخذ مكانها في الخيمة
العامة. راحت فضة تغني فزاد عدد
الشاحنات التي راحت تتوقف من جديد في
المخيم، ولكنها لم تترك أحداً من الرجال
يلمسها. كانت أمها تهزأ بها، حتى أنها
نصحتها يوماً بالنوم مع أحدهم ولكنها
كانت ترفض بإصرار. كانت فضة تنتظر
فارسها الذي حلمت به. وعندما ظهر بائع
الكوفيات الجميل والقادم من حلب، تعلقت
به ووقعت في غرامه. كانت تغني له أجمل
ألحانها، حتى أنها خصته بأغنيتها
الرقيقة (وحياة خصيرك...مابهوى غيرك) له
وحده. وعندما رحل في ذلك اليوم بعد أن
وعدها كالعادة، بأن غيابه لن يطول أكثر
من خمسة عشر يوماً، كانت تشعر بخوف في
داخلها لاتعرف سبباً له. مضت
الأيام ولم يعد محسن كما وعد. صدق
تخوفها، وصدق حدسها بأنه رحل لكيلا يعود.
إنها تسير على خطى أمها، فقد أحبته كما
أحبت أمها في شبابها المعلم حسين. ورحل
محسن كما فعل من قبله المعلم. أصبحت
أغانيها التي كانت تغنيها للسواقين
أكثر حزناً. كانوا يطالبونها في سكرهم
وعربدتهم بأغانٍ أكثر مرحاً ولكنها
كانت ترفض بإصرار. صارت تغني عن الهجر
والرحيل والوجد والنسيان. لم تعد تغني
أغنيتها تلك التي كانت تغنيها لمحسن
عندما كانا ينفردان ببعضهما. بل كانت
تغنيها وحيدة بعد أن تنهي وصلتها مع
السائقين السكارى بصوتها الحنون
وبالعرق الممزوج بالماء. كانت تهرب الى
خيمتها لتندس في فراشها وتروح تبكي رحيل
محسن. ماأصعب الحب حين يفرق البعاد بين
المحبين. راحت
أمها تنصحها بأن تبحث لها عن رجل آخر.
قالت لها إن محسن لن يعود، هكذا هم
الرجال..يجعلون النساء يقعن في شباكهم
ثم يرحلون. ولكن فضة أبت أن تستمع الى
نصائح أمها. كانت مصرة على انتظار محسن،
فقد كانت متأكدة من حبه لها. كانت ترد
على نصائح أمها بأن محسن سوف يعود،
وهاهو قد عاد. ولكن
ماذا حصل له؟ كانت راكعة أمامه تبكي وهي
تتأمل وجهه المزرق والمدمّى ورأسه
المعصوب. عندما أنتهى من شرب اللبن
واختلط بياضه بلون دمائه، سألته أم فضة
وهي تسدد اليه عينيها السوداوين: -
ماذا حصل يامحسن؟ من فعل بك هذا؟ كتم
الجميع انفاسهم وهم يتابعونه كيف كان
يتألم ويجاهد من أجل الإجابة. حتى فضة
توقفت عن البكاء: -
أبي ياأم فضة. هو الذي ضربني، كاد يقتلني.
هربت من البيت. تأوهت
فضة وتمتمت، حبيب قلبي. تابع محسن وقد
شعر بتعاطف الغجر مع آلامه: -
أرغمني على الزواج من ابنة صديقه.
لاأحبها ياأم فضة. حصل كل ذلك بسببها. ثم
نظر الى فضة وقال يتابع حديثه الى أم فضة: -
إنني احب فضة.. تأوهت
فضة ومشاعرها تتردد بين الحزن والسعادة.
تلمسته بحنان وهي تناجيه: -
حبيب قلبي.. قالت
أم فضة وقد رق قلبها..فقد كانت أحبت
يوماً وسعدت بحبيبها المعلم حسين قبل أن
يسجن: -
وفضة تحبك كمان يامحسن..أنت بين اهلك
وأحبابك. أقعد عندنا.. رفع
يده ولمس شعر فضة الليلي، كان مرتاحاً
لوجوده معهم وحبهم له. قال: -
زوجيني فضة ياأم فضة.. -
فضة لك يامحسن.. ابتسمت
أم فضة بحنان. كان جو الخيمة مشحوناً
بالألم والحب. كانت فضة تبكي وتضحك في
ذات الوقت. تريد احتضان حبيبها ولكنها
تعرف أنها ستسبب له الآلام..لقد عاد
إليها محسن محطماً ومهاناً ولكنه عاد..راحت
تقهقه والدموع تسيل على خديها. ياإلهي
ماأجملها وهي باكية..عندها خرج الغجر من
الخيمة وهم سعداء. خرجوا وبعد قليل راحت
تتردد في أجواء المخيم أغنية اعتادوا
على غنائها حين يكونون سعداء. سُمع
أيضاً صوت الطبل. لم
ينتظروا الى الغد، فالغجر دائماً على
استعداد للفرح. ذهبوا الى خيمة الغجري
الكبير وعقدوا قرانهما. كانت فضة قد
اغتسلت وتجملت. هذا هو يوم عرسها. تطيبت
أيضاً بروائح كانت أمها تحتفظ بها منذ
صباها حين كانت تستعملها عندما تريد
الاختلاء بأصحابها من السائقين. لبست
ثوباً عتيقاً ولكنه كان يفوح بروائح
الصابون الحلبي الذي كان محسن قد جاء به
يوماً من حلب. جلسا أمام الغجري الكبير
الذي كان يدخن التبغ بقصبة طويلة، ثم
راح يقرأ القرآن ثم أعلنهما زوجاً وزوجة.
كان هناك شهود حسب ما يقتضيه الشرع. قبلا
الغجري الكبير ثم انطلقا الى ساحة
المخيم. هناك كان الغجر يرقصون ويغنون .
استمر الفرح حتى المساء. كان محسن يضحك
ويغني معهم. نسي في البدء آلامه، وعندما
اشتدت عليه من جديد سحبته فضة بهدوء الى
خيمتها. ساعدته على خلع ثيابه ثم تركته
يستلقي في الفراش الذي كان أبو فضة قد
مده من أجل هذه المناسبة. أمسكت البزق
وراحت تغني له. جعلته يهدأ وينسى آلامه.
وفي الليل، وصلت اليهما أغنيات أم فضة
التي راحت تغنيها اكراماً لزواج ابنتها
وتحت إلحاح السائقين الذين جاؤوا لقضاء
الليل في المخيم. تركت
فضة البزق ونهضت. ذهبت الى خلف الستارة،
وهناك خلعت ثيابها. أصبحت عارية. ولكنها
خجلت من أن تسير إليه بهذا الشكل. أمسكت
ثوبها الذي خلعته وضمته الى صدرها وخرجت
لمحسن. على نور الفانوس رآها قادمة إليه.
جميلة ووحشية بسواد شعرها وعينيها. رفع
جذعه ليلقاها..إنه يحبها ومنها قد تزوج..أما
ذكية فلا وجود لها في حياته. وعندما
أصبحت بجانب الفراش توقفت. كانا ينظران،
كل الى الآخر يريدان العناق..كل منهما
يريد الالتحام بالآخر..كان محسن يلهث من
شهوته التي بانت في عينيه. همست له وهي
واقفة تتمسك بثوبها.. حبيب قلبي يامحسن.
قال لها تعالي. عندها أسقطت الثوب، أي
جمال هذا الذي يطل عليه من الأعلى. هذه
هي المرة الأولى التي يراها فيها عارية.
تمنى على نفسه لو أنه وفر علاقتهما
الماضية الى هذا اليوم، فالآن كل شيء له
نكهته الخاصة. كانت بيضاء تحت ثيابها..مكتنزة
قليلاً يترجرج نهداها عند أدنى حركة،
وينسال شعرها الأسود المجنون على
كتفيها حتى نهديها..لم يستطع الصبر أكثر
فمد يده والتقط يدها الممدودة إليه.
شدها برفق بعد أن أفسح لها مكاناً
تستلقي فيه الى جانبه. وعندما صارت بين
يديه التحما بالأيدي والقبل..ولكنه صرخ
من الألم..أمسكت بيديه وراحت تقبلهما
وهي تردد حبيب قلبي بطريقتها الغجرية
العذبة.. عندها وجدت الطريقة التي
بإمكانهما أن يحبا بعضهما دون أن يتألم،
فقد جعلته يستلقي على ظهره ثم اعتلته.
* * * دخل
السيد منير الى بيته وهو يلهث. تجمعت
النساء حوله وهن قلقات، وماإن هدأ حتى
أخبرهن بماحدث مع السيد كمال. قال لهن
إنهم قبضوا عليه بتهمة الاشتراك في
المؤامرة التي كان يحوكها بعض المؤيدين
للوحدة مع العراق وضد الخيار المصري. لم
يقل لهم بأنه كان مشتركاً في هذه الجهود
كما لم يخبرهن بأنه كان خائفاً من أن
يقبضوا عليه هو أيضاً كيلا يقلقهن، ولم
يقل لهن أيضاً الى أين كانوا ذاهبين، بل
اكتفى بأن أظهر قلقه ذاك بأنه على السيد
كمال لاغير. لم يستطع النوم ، تلك
الليلة، ولافي الليلة التالية. كان قد
أمضى ساعات الليل وهو يتجول في البيت،
ينصت الى أية حركة على درج البناية التي
يسكنها، أو الى أية حركة غير طبيعية في
الشارع. أما في النهارات التي تلت، فقد
توارى عن الأنظار ولم ينزل الى الخان
ليفتح محله، فبقي دكانه ومحل السيد كمال
مغلقين، إذ لم يكن لدى عبد الله
المفاتيح. وعندما مرت عدة أيام ولم
يأتوا للقبض عليه، ارتاح قلبه وعاد
الهدوء الى نفسه ففتح دكانه وقعد فيه
ليتابع تنفيذ تعهد السيد كمال أثناء
غيابه. أما
ذكية التي تلقت خبر القبض على والدها،
فقد بكت تلك الليلة التي دخل فيها حماها
وهو يلهث بوجه أصفر. بكت على أبيها الذي
أصبح مصيره مجهولاً، وبكت على أمها التي
أصبحت في البيت بمفردها، فطلبت في اليوم
التالي من حميها أن يسمح لها بالعودة
الى بيت أهلها مؤقتاً ريثما يطلق سراح
أبوها من السجن. كان، في الماضي يرفض
السماح لها بالعيش مع أهلها على الرغم
من إلحاحها. كان يقول لها إنها أصبحت
ابنتهم رغم هرب زوجها محسن، ثم ماذا
سيقول الناس..؟ كان يرفض، أما الآن فقد
سمح لها فحزمت ماهو ضروري من ثيابها
ورحلت الى بيت أهلها. عادت
ذكية الى بيت أهلها. تمنت أن يكون كل
الذي جرى لها منذ أن خرجت منه الى بيت
زوجها محسن، مجرد حلم ثقيل ماإن تستيقظ
حتى تنساه ويزول. ولكن ماجرى لم يكن
أبداً حلماً، بل حقيقة. حقيقة أربكت
حياتها وأنهت الى الأبد ثقتها بنفسها. من
هي ذكية الآن؟ إنها امرأة، متزوجة
وعذراء، قبيحة وعندما اكتشف عريسها
قبحها تمرد على وضعه فكاد يقتله أبوه
بسببها فهرب من البيت. هرب منها ومن كل
عالمه الذي وجد نفسه فيه. لم
تكن تدري في البداية أن محسن سوف يهرب
فعلاً. قالوا لها إنها فشة خلق، سيغيب
يومين أو ثلاثة ثم يعود..حتى أمها
طمأنتها بأنه سيعود. قالت لها إنها (قرأت)
وإنه لابد سيعود. أصبحت تقضي أيامها
منتظرة عودته. كانت تنتفض كلما سمعت
قرعاً على الباب. تهرع لتفتح وقلبها يدق
بعنف. ولكنها سرعان ماتكتشف أن ذلك بعيد
عن الحقيقة، فمحسن هرب من البيت ليهرب
منها، اكتشف كم هي دميمة فهرب، فتعود
الى غرفتها باكية. تستلقي على فراش
الزوجية الذي لم يمس وتروح تبكي. في
الماضي لم تكن تأبه لمظهرها، لقبحها،
ولكنه أصبح قهرها وسبب تعاستها. لولم
تتزوج لاستمرت في حياتها، تبني عالمها
كما يحلو لها. لم يكن قبحها ذا أهمية،
أما الآن فهو سبب كل هذه المصائب. وعندما
اقترحت فور هروب محسن العودة الى بيت
أهلها لم يتحمس أحد لذلك..سوى زينة التي
كانت تكرهها لأنها تحب أخاها. تكرهها
لأنها كانت سبب كل ما جرى، حتى أنها قالت
مرة لأمها وكانت تقصدها هي. قالت بأنها
تشعر بأنهم قد استبدلوا أخاها محسن بشخص
آخر غريب..حينها تمنت أن تموت، تمنت أن
تكون ميتة ولاتسمع ذلك. يارب..لماذا
خلقتني على هذه الصورة؟ رفضوا
أن تعود الى بيت أهلها لتعيش هناك..حتى
أبوها السيد كمال رفض. كتبوا عليها أن
تعيش في غرفة زوجها منتظرة إياه. وعندما
أصرت، لأنها كانت تشعر بعدائية زينة،
بكت حماتها ورجتها ألا تفكر بذلك.. محسن
سيعود في نهاية المطاف. ولكنه لم يعد
واستمرت زينة تواجهها بنظرات الكراهية
والغضب. كانت تتهمها صراحة بأنها سبب كل
المصائب التي حصلت في البيت. وعندما
حاولت التقرب منها صدتها زينة. صدتها
بوقاحة من فقد شخصاً عزيزاً. معها حق،
ولكن ماذنب ذكية؟ لو كانوا خيروها لما
تزوجت أبداً، فقد كانت سعيدة في بيت
أهلها، قانعة بوضعها. قبحها لم يكن
مشكلة. ولكنهم هم الذين اتفقوا على
تزويجهما. الآباء يتفقون وعلى الأبناء
أن يرضخوا. عبرت عن خوفها لأمها
فطمأنتها الى أن زوجها سيحبها مع العشرة
الطويلة، ولكن ماذا حدث؟ تزوجت وعاشت مع
زوجها لعدة أيام دون أن يلمسها. كان يشعر
بالقرف منها، لو لم يكن يشعر بذلك لكان
تصرف معها كزوج حقيقي، بينما لايراها
قبيحة فحسب، بل مقرفة أيضاً. هذا الأمر
يجعلها تبكي، يجعلها تموت قهراً على
ماآلت إليه. العشرة
الطويلة..؟ لم تكن سوى أيام معدودة،
عاشرت خلالها زوجها بطريقة الأعداء
وليس بطريقة الأزواج..كل ينام على سرير.
لم يحدثها بكلمة واحدة. لم ينظر في وجهها.
كان إذا اضطر لتوجيه كلمة لها، يطرق في
الأرض ويطلق كلمته. بينما كان عليها أن
تسترق النظر إليه حينما يكون نائماً أو
غافلاً عنها. أكثر تلك الأوقات كانت
سانحة عندما يكون نائماً على الكنبة.
هذه كانت متعتها الوحيدة..وبسبب هذه
المتعة أحبته. عرفت كم هو جميل الوجه، كم
هو وسيم وكم هو محسن. اسم على مسمى. أمها
أخطأت، فعوضاً عن أن يتقبلها زوجها
بالعشرة، زاد رفضه لها بينما هي أحبته..زاد
عذابها فوق عذاب. وعندما كانت تقضي
الليالي وحيدة بعد أن هرب، كانت تبكي
بسبب ألمها من نفسها ومن مشكلتها،
وأيضاً كانت تبكي لأنها أحبته. آه لو
أنها كانت أحسن حالاً ويعود محسن
فيتقبلها وتعيش معه تخدمه مدى الحياة..تصير
له خادمة وزوجة مطيعة. ولكن هيهات..هذه
الأمور لاتحدث بالتمني. إن قبحها فوق كل
قوة. في
إحدى المرات اصطدمت بزينة في المطبخ.
صاحت بها الصبية الجميلة أن المطبخ صغير
ولايسعهما معاً..قالت لها إما أنا أو أنت.
سألتها لماذا تكرهها الى هذا الحد، فردت
عليها بسخرية: -
انظروا ياناس..إنها لاتعرف لماذا..؟ حاولت
في مرات عديدة أن تتقرب إليها. أن تبني
جسراً بينهما ولكنها كانت باستمرار
تواجه سداً منيعاً. لو أنهما تصبحان
صديقتين لهان عليها وضعها ولأصبح
محتملاً. وفي إحدى المرات كسرت زينة
مزهرية جميلة. كان أبوها يحبها كثيراً
فقد كانت من الصيني العتيق. كانتا
حينذاك بمفردهما، وبينما كانت زينة
راكعة الى جانب الحطام وقد احمر وجهها
من جراء ذلك تقرض شفتيها وهي خائفة،
اقتربت منها ذكية وناولتها المكنسة. لم
تتكلما، ولكن نظرات ذكية كانت تعرض
تواطؤاً..تعرض تكتماً على الموضوع. ولكن
أم محسن سرعان ماسألت زينة عن المزهرية
حين عادت من مشوارها. ارتبكت زينة، فهي
تعرف قساوة أبيها وحماقته، وقتها أسرعت
ذكية واعترفت بأنها
هي التي كسرتها،
فوضعت أم محسن يدها على خدها أسفاً عليه
ولكنها ابتسمت وقالت إن أبا محسن قد
لاينتبه إليها وإن انتبه فستقول إنها هي
التي كسرتها. لم تكن زينة تتوقع منها هذا
الموقف. أطرقت ثم دخلت الى غرفتها. وفي
المساء، وبعد العشاء، دخلت ذكية الى
غرفتها. كانت زينة أقل عدائية ولكنها لم
تكن ودودة على الإطلاق. توقفت عن تسريح
شعرها أمام المرآة واستدارت إليها. لم
تطردها زينة من غرفتها، ولكنها كانت
تودها لو تخرج. قالت ذكية تستبقها في
الكلام: -
هل من الممكن أن نتكلم كلمتين بدون
صراخ؟ فاضطرت
زينة لأن تهز رأسها بالموافقة، فقالت
ذكية: -
يجب أن تعرفي أنني أحبكم وأنكم قد
أصبحتم أهلي الجدد. أنا لم أكن أتصور أنك
ستكرهينني الى هذا الحد.. -
أنا حزينة على أخي محسن. -
الحق معك. أخوك على العين والرأس..يجب
أنا أن أتحمل كل الذي جرى وكل الذنوب..أنا
التي فرضت عليكم أن تزوجوني من أخيك..؟
فقالت زينة بشيء من الخجل، فقد
أرادت أن تبرر موقفها: -
لو كنت مكاني لتصرفت بالطريقة ذاتها. -
وأنت لو كنت مكاني..ماذا كنت ستفعلين؟
لم تجد زينة الجواب فظلت صامتة
فتابعت ذكية: -
كنت أريد أن نكون صديقتين..ولكنك قلت
للأعور أعور. أنا هنا شعرت بكل عيوبي.
بصراحة كنت خائفة من أن يحصل ماحصل.. طفرت
الدموع من عيني ذكية. صارت تمسح دموعها
وهي تجاهد للقول: -
عندي كرامة..إنني انسانة، ويمكن أن أكون
حساسة أكثر من اللزوم، عندكم أصبحت
أتمنى الموت لنفسي من أجل الخلاص، أصبحت..
ولكنها لم تستطع الاستمرار في
الكلام. جلست وراحت تبكي بألم..لم يكن
يُسمع أي شيء سوى بكاؤها وأنينها. وقفت
زينة محتارة. كانت متألمة هي أيضاً..رق
قلبها على ذكية هذه المرة. لم تتصور أن
تكون ظالمة معها الى هذا الحد. قالت
لمجرد القول: -
أنا لاأكرهك..كل ما في الموضوع هو أنني
حزينة على محسن..فهو أخي وأنا أحبه. راحت
تبكي هي أيضاً..انسالت الدموع من عينيها
الزرقاوين بهدوء وسلاسة. وبعفوية همست
ذكية: وأنا أحبه أيضاً. ثم رفعت عينيها
الى زينة. كانت صادقة كل الصدق. ركعت
زينة وأمسكت بيد ذكية. ظلتا على هذا
الوضع، تبكيان متشابكتي الأيدي. همست
زينة تطلب منها أن تتوقف عن البكاء،
ولكن ذكية استمرت بالانتفاض والأنين،
حينذاك عانقتها واعتذرت لها. قالت لها
سامحيني..وعندما حملت ذكية أغراضها
لتذهب الى أمها رجتها زينة بأن تبقى،
فقد كانتا قد أصبحتا صديقتين. عاشت
الأم والابنة لوحدهما، فقد كانتا في
حاجة ماسة الى هذه الساعات التي مرت
ببطء تتحدثان فيها
بشؤونهما وآلامهما. كانتا
متشابهتين، فقد هرب زوج الابنة وكاد زوج
الأم أن يهرب منها ولكن يد القدر منعته
وغيبته في نفس الوقت. الإثنتان كانتا
تحبان زوجيهما، ولكنهما يهربان من
محبتهما. كانت ذكية تقول لأمها إنها
أفضل منها ، فهي على الأقل تمتلك وجهاً
مقبولاً، أما ذكية فهذا ماكان ينقصها..أن
تكون مقبولة، لم تكن تحلم أن تكون على
شيء من الجمال، ولكن كانت لترضى أن تكون
عادية مثل أمها. كانت تبتسم وهي تعبث
بشعرها وتنظر الى البعيد وتقول: -
لقد جعلني القدر أتمنى. لم أكن في حياتي
وأنا فتاة أتمنى شيئاً أعرف أنه لن يحصل.
أما الآن فقد أصبحت أتمنى وأخجل وفي بعض
الأحيان أرغب في الموت. المشكلة هي أنني
أحببت محسن وأنا أعرف أن ذلك ترف
بالنسبة لي. لم
تكن الأم تعرف كيف تجيب على تمنيات
ابنتها، فقد كانت تفهمها جيداً..كانت
فقط تداريها وتكذب عليها بطريقة لايمكن
لذكية أن تصدقها. كانت تقول لها إن كل
شيء سيكون على مايرام وإن محسن سيعود
إليها ويحبها. عندها كانت ذكية تنظر في
عيني أمها وتبتسم لسذاجتها. وعندما عرفت
ذكية في اليوم ذاته لعودتها الى بيت
أهلها ماكان أبوها ينوي فعله أصبحتا
أكثر قرباً من أي يوم مضى..لهذا فقد
أمضيا الأيام التالية في الانشغال في
أعمال الخياطة وفي الأحاديث التي
لاتنتهي عن الحياة والنصيب والحظ
والأزواج. كانتا متشابهتين في كل شيء
حتى في النصيب. وفي
إحدى المرات حكت الست مطيعة لإبنتها كيف
ناضلت حتى آخر رمق من أجل منع زوجها
السيد كمال من الزواج من سعاد. حكت لها
كيف كتبت لها الشيخة خديجة أهم واخطر
حجاب وكيف طلبت منها أن تزرعه في مكان ما
في بيتها لكيلا يتم هذا الزواج. كانت
لحظات راهنت فيها على كرامتها ومكانتها
من أجل المحافظة على زوجها. حدقت ذكية في
وجه أمها مندهشةً. لم تكن مصدقة ماكانت
تسمعه منها: -
هل تقولين أنك ذهبت الى بيت سعاد؟
فقالت الست مطيعة وهي تبتسم لظفرها: -
نعم..ذهبت. كان علي أن أفعل المستحيل. -
وكيف استقبلوكِ؟ -
هذا غير مهم..لم أكن وقتها أفكر بكرامتي،
ولكنني استطعت أن أضع الحجاب في مكان ما
في بيتهم. وهكذا ترين كيف استطعت أن أمنع
زواج أبيك.. ضحكت
ذكية حتى سال دمعها. ضحكت طويلاً بينما
كانت أمها ساهمة. قالت بحزن بعد أن توقفت
ذكية عن الضحك: -
ولكن ضميري يعذبني ياابنتي..أشعر بأنني
قد سببت لأبيكِ الأذى.
عادت ذكية الى الضحك. أضحكها تأنيب
ضمير أمها هذه المرة. قالت الست مطيعة : -
هل تريدين أن آخذك الى الشيخة خديجة؟
يمكنها أن تكتب لك ليعود محسن. رفضت
ذكية العرض..قالت لأمها وقد تحول ضحكها
الى حزن دفين يعتم عينيها إنها لن تفعل
ذلك حتى لو صدقت الشيخة خديجة، فهي
خائفة من مواجهة محسن عندما يعود..عندها
قالت الأم بحماس: -
ابحثي عنه ياابنتي..لاتيأسي، يجب ألا
نترك الرجال يتصرفون على هواهم.
فسألتها ذكية وهي مستغربة: -
أبحث عنه..أبحث عن محسن؟ -
نعم..ابحثي عن محسن، يجب أن تعيديه الى
بيته، ومن ثم لكل حادث حديث. صمتت
ذكية مفكرة. هل تبحث عنه، أين؟ ولماذا؟
أجابت الست مطيعة دون أن تسمع سؤال
ابنتها: -
كيف لماذا..المرأة عليها أن تقاتل من أجل
استرجاع زوجها..أسمعي مني ياذكية، لو لم
أكافح لكانت سعاد الآن هنا بيننا؟. -
ولكنه يكرهني. -
عندها سيحبك. صمتت
من جديد. العرض ليس سيئاً، ولكن أين؟
سألت أمها: -
أين يمكن أن يكون..بحث عنه أبوه ولم
يجده؟ تابعت
الست مطيعة طرق الحديد وهو حام فقالت
تزيد من حماس ابنتها: -
السيد منير مشغول جداً..وهو يحسب أن محسن
سيعود من تلقاء نفسه. ابحثي عنه، لو كنت مكانك
لأخرجته من تحت الأرض. المرأة إذا لن
تكافح..يطير منها زوجها. في
تلك الليلة لم تنم ذكية. كانت تفكر
بماقالته أمها، حتى أنها نهضت عدة مرات
بحجة عطشها لتتمشى في الصالون العريض
وهي تفكر. وفي الصباح جاء القدر بزينة
لزيارتها. وعندما سمعت باقتراح الست
مطيعة تحمست للأمر، حتى أنها رجت ذكية
تنفيذ الفكرة. ولكن السؤال يبقى أين
وكيف وهي امرأة غير مجربة، عندها فكرت
زينة أن أحمد قد يكون على علم بمكان
تواجد محسن، فهما أصدقاء وربما يعرف
شيئاً. تحمسن، ومن حماسهن نسين شرب
القهوة، فخرجت زينة من بيت السيد كمال
الى بيت الحاج عبد القادر. هناك
وجدت لحسن الحظ أحمد ولم يكن قد خرج بعد.
جلسوا في غرفة سعاد. لم يكونا قد تقابلا
منذ يوم هروب محسن. كان هو الذي ينظم
لهما لقاءاتهما في الحديقة العامة وفي
السينما. كانت زينة تتطلع إليه دون شبع،
تنتظر منه أن يقول لها كلمة يعبر لها بها
عن اشتياقه..كانت قد نسيت بوجوده ماكانت
قد جاءت مسرعة من أجله. أما هو فقد كان
غارقاً في حديثه عن أيام الأزمة: -
وزعوا علينا البنادق وأركبونا في
سيارات الشحن. أخذونا الى المناطق
القريبة من الحدود العراقية. حلف بغداد
المرتبط بالاستعمار والصهيونية كان
ينوي الهجوم على سورية مثلما فعلوا بمصر. نظرت
سعاد الى زينة مبتسمة، فقد كانت بعيدة
كل البعد عما كان أحمد يحدثها عنه، ولكن
حبها له يجعلها تتابعه بانتباه..وربما
لم تكن تتابعه بل تنظر إليه وتراقب
قسمات وجهه المتوترة بسبب طبيعة الحديث.
هزت زينة رأسها تريد أن تغير موضوع
الحديث ولكن أحمد تابع: -
قضينا أياماً عصيبة. كنا في كل يوم نتوقع
أن تبدأ الحرب عندنا أيضاً. كنا نستمع
الى أخبار المعارك في بور سعيد. كانت
رهيبة. قلنا، سيحدث عندنا مثلما حدث
هناك. صمت
أحمد وهو ساهم فاستغلت زينة فترة صمته
لتقول وهي تتنهد: -
على كل حال الحمد الله على سلامتك
ياأحمد. تابع
على نفس المنوال: -
لم تحدث الحرب، ولكن الجماعة كانوا
يخططون لمؤامرة من الداخل. انقلاب على
الحكومة الشرعية التي انتخبها الشعب من
أجل اتمام عملية الوحدة مع مصر، ولكنها
فشلت.. فعقبت
سعاد وهي تبتسم: -
فشلت فانتهينا من السيد كمال.. فوافق
أحمد بقوله : -
طلع متآمر الأخ. عندها
قالت زينة: لم نكن نعلم أنه تقدم لك. فأبي
لم يتكلم لكيلا تعرف ذكية بالموضوع.
فقالت سعاد: -
دعونا لانتكلم في هذا الموضوع، فقد
عانيت بما فيه الكفاية..ثم نهضت لتخرج من
الغرفة وهي تسأل: -
سأصنع القهوة.. خرجت
سعاد. عندها فرحت زينة لأنها استطاعت
الانفراد بأحمد. أمالت رأسها ناحيته
بدلال وهمست له: -
الحمد لله على سلامتك..اشتقت لك.. أمسك
بيدها، ولكنه عوضاً عن أن يغازلها كما
كانت تحب قال: -
دعيني أكمل لك ماحصل..فقاطعته محبطة:
البقية معروفة. اشتقت إلي ام لا..؟
فقال لها وهو ينظر في عينيها نظرة
المحب هذه المرة: -
اشتقت إليك يازينة..كنتِ معي هناك. -
صحيح..؟ -
بشرفي. -
ولماذا لم تحاول رؤيتي بعد أن عدت؟
ابتسم محرجاً..هذا خطأ كبير.. -
كنا مشغولين بالمظاهرات.. -
ومتى ستهتم بي بمقدار اهتمامك
بالسياسة؟ دخلت
سعاد فأنقذته. سحبت زينة يدها وهي محمرة
الوجنتين. قدمت لهما القهوة وجلست،
حينئذ خطر في بال زينة أن تدخل في
الموضوع الذي جاءت من أجله. رشفت قليلاً
من قهوتها ثم قالت لأحمد: -
أحمد..يجب أن نبحث عن محسن. أنا متأكدة من
أنك تعرف مكانه. حاول
التملص من ذلك ولكنها ألحت. قالت له
إنهما أصدقاء ولابد أن يكون قد ترك
إشارة ما عن مكان تواجده. فقال بسخرية: -
يعلم الله..ولكن ماذا تفعل ذكية ملكة
الجمال؟ فردت
عليه زينة تمتدحها: -
ذكية انسانة ممتازة ياأحمد.
استغرب رأيها في العروس القبيحة.
كان يتوقع أن تتكلم عنها بالسوء، فتدخلت
سعاد لتقنع أخاها بالفكرة: -
حرام..ماهو ذنبها. ذكية طيبة وابنة حلال..فقالت
زينة: -
ذكية غير أبيها السيد كمال، لقد ظلمناها
كثيراً. فقال
أحمد ممازحاً: -
لولم تقبض عليه الشرطة لكان الآن الله
يرحمه.. ابتسمتا، ولكن زينة عادت من جديد
للإلحاح: -
دعنا في الجد ياأحمد..يجب عليك أن
تساعدنا في البحث عن محسن.
فنهض أحمد وهو يريد انهاء الحديث: -
محسن لاتلزمه كل هذه الطبخة..
ولكن زينة أسرعت فأمسكت بيده برفق
لتوقفه. عاد للجلوس وهو يشعر بالدفء
الذي انتقل من يدها الى يده. قالت له
زينة برجاء وهي تغامر بإبقاء يدها في
يده: -
أحمد أرجوك..محسن يجب أن يعود الى بيته،
وإذا لم يكن يريد ذكية فعليه أن يطلقها.
فسألها: -
والسيد منير؟ فأجابته
وهي تحاول سحب يدها من يده: -
أبي اقترب من الاقتناع بأن الذي رتبه هو
والسيد كمال كان خطأ في خطأ. ظُلم الولد
وظُلمت البنت. حاول
التهرب مرة أخرى، فنهض وهو يدعوهما
للذهاب الى السينما، ولكنها تركته
ممسكاً بيدها وهي تشترط عليه: -
عنوان محسن أولاً..فسألها إن كانت تعده
بذلك، فأقسمت يميناً بغلاته عندها. عاد
للجلوس للمرة الثالثة. كانت زينة قد
سحبت يدها خجلاً من سعاد. قال أحمد: -
أظنه عند الغجر. فصاحت
زينة وسعاد باستغراب: الغجر..؟
فقال: -
نعم. كان محسن يحب فتاة من الغجر تدعى
فضة، وعندما كان يسافر الى الجزيرة من
أجل التجارة كان يبيت عندهم. حكى لي
كثيراً عنها. كان يحبها وهي تحبه، حتى
إنه كان يكتب لها قصائد الغزل فتغنيها
له. صمتت
المرأتان. أية قصة هذه التي حكاها لهما
أحمد؟..لفترة قصيرة كانتا مأخوذتين
بوقائعها، فالمرأة في سنيهما تحب مثل
هذه الأشياء. كأنهما نسيتا التضامن مع
ذكية لفترة ثم عادت زينة الى رشدها. ظلت
تلح عليه حتى وافق أخيراً على الذهاب مع
ذكية للبحث عن مخيم الغجر وإعادة محسن. في
صباح اليوم التالي، التقيا في محطة
الباصات الشرقية. استقلا الباص المسافر
الى الرقة. كانا صامتين طوال الرحلة
التي استغرقت أكثر من ثلاث ساعات. كانت
ذكية قد دخلت هذه المغامرة وهي لاتدري
تماماً ماكانت تفعله. لقد وقعت تحت
تأثير أمها ودون أن تدري كيف، وافقت على
ركوبها. كيف ستقابل محسن، وكيف
سيقابلها؟..قد يطردها أو يهين كرامتها.
أو أنه قد يجرحها أكثر مما فعل حتى الآن.
لماذا عليها أن تبحث عنه؟ وضعها يختلف
عن وضع أمها. لقد عاشت مع أبيها خمسة
وعشرين عاماً. عمر طويل هذا الذي عاشاه
معاً مما يجعل صراعها من أجل الاحتفاظ
به مشروعاً..أما هي فوضعها مختلف جداً..قد
لايكون من حقها أن تفرض نفسها على محسن
مادام لايحبها. ولكنها كانت قد قررت..ستدعوه
للعودة الى بيته وستعود هي الى بيت
أهلها. ستطالبه بطلاقها، فهذه ليست حياة
التي تعيشها في بيت حماها. ارتاحت
للذريعة التي انطلقت بها في هذه
المغامرة فتنهدت. نزلا
من الباص في محطة الرقة وراحا من فورهما
بالسؤال عن محسن لدى باعة ثياب العرب.
دخلا أكثر من عشرة دكاكين دون فائدة. كان
الباعة يحدقون في صورة محسن التي كانت
تحملها ذكية ثم يشيرون الى أنهم
لايعرفونه. وعندما كانا يسألان عن مخيم
الغجر كان الجميع يطلبون تحديد أي غجر
هؤلاء الذين يبحثون عنهم، فهم كثر
ومخيماتهم متناثرة في الجزيرة والبادية.
كان عليهما ألا يخرجا في البحث عن محسن
بهذه المعلومات الضئيلة عن مكان تواجده.
كانا قد فقدا الأمل. سارا على الرصيف
صامتين. كانت ذكية متجهمة، تكاد تبكي من
قهرها. سألها
أحمد برقة، فقد راح يحترمها منذ ان
انطلقا من حلب بعد أن لمس انسانيتها
ورقة أحساسها: -
وماذا الآن..هل نستمر في البحث أم نعود
الى حلب؟ توقفت
مفكرة. إنها نفسها لاتعرف ماالعمل. همست
بسرعة كي لاتجهش بالبكاء: -
لاأعلم.. استندا
الى الجدار صامتين ومتعبين. كانت هناك
شاحنة متوقفة الى جانبهما. قال لها: -
يمكنك الجلوس في مكان ما بينما أقوم
بالسؤال عنه في أماكن أخرى.
فقالت: -
اتعبتك معي. -
ليس هناك من تعب..أنا ومحسن أصدقاء. في
تلك اللحظة كان سائق الشاحنة ينزل من
شاحنته. لاأحد يعلم لماذا سألهما عما
إذا كانا يبحثان عن شخص ما. أجاب أحمد
بالإيجاب وأبرز له صورة محسن. تمعن
السائق بالصورة ثم قال بحماس: -
أعرفه. إنه حلبي يعيش عند غجر أم فضة.
انتفضا. لم يكونا يتوقعان أن يعرفه
السائق. قال أحمد بسرعة: -
اسمه محسن. فأكد
السائق ذلك: نعم..اسمه محسن.. ثم أضاف وهو
ينظر الى ذكية التي شعّت
عيناها وبان عليها الارتياح: -
إنه يعيش منذ زمن عند أم فضة، وأعتقد أنه
تزوج ابنتها. إذا أردتما الذهاب الى
هناك، خذا الباص المسافر الى دير الزور
وانزلا بعد ثلاثين كيلومتراً..اطلبا من
السائق أن ينزلكما عند أول مخيم للغجر
يصادفه. همس
أحمد: -
شكراً لك..ثم ابتعد السائق. استدار الى
ذكية. كانت تبكي. كان عليه ان يأتي
بمفرده فهو لم يحسب حساباً لاحتمال أن
يكون متزوجاً..ماذا سيفعل الآن؟ أما هي
فقد كانت ضائعة. لم يخطر في بالها أنه قد
يكون متزوجاً من أخرى. يالها من ساذجة..سمعت
أحمد يسألها: -
هل تريدين العودة الى حلب أم نذهب إليه..؟
مسحت عينيها بمنديل وقالت بصوت
متهدج: -
نعود الى حلب. قال
كما تريدين ثم سار ا باتجاه محطة
الباصات. كانت
قد توقفت عن البكاء. كانت تسير وهي تفكر
في نفسها هذ المرة. لماذا عليها أن تعذب
روحها؟ لقد تزوج التي كان يحبها حتى ولو
كانت غجرية. ماهمها هي..فليتزوج. إنه
لايحبها وهي غير مضطرة للعيش معه، فعليه
أن يطلقها. حزمت أمرها وتوقفت فجأة عن
السير. نادت أحمد، وعندما عاد إليها
قالت له وهي تبدي قوة كانت تفتقدها حين
انطلقا معاً هذا الصباح.
سالها أحمد: -
ماذا ياذكية؟ -
أريد أن نذهب الى مخيم الغجر..أريد أن
اراه هناك معها وأطلب منه الطلاق. حدق
فيها لحظة ثم قال لها كما تريدين. وبعد
ساعة كان باص آخر يقلهما على طريق دير
الزور.
* * * عاش
محسن وفضة معاً في هناء وسلام مدة من
الزمن. كانت الحياة وسط الغجر بسيطة
وغير معقدة. أحب محسن الحياة معهم
وأحبهم، فهم أناس يحبون الحياة ويغنون
لها باستمرار. يعيشون على الطبيعة.
لايعرفون هموم الحياة التي يعاني منها
ابن المدينة، فهم لايحسدون ولايغارون،
كما أنهم لايملكون ولايورثون. كانوا
يكرهون كل الأمور التي كرهها محسن
وأبعدته عن بيت أبيه، ولذلك فقد أحب
العيش معهم وأحبوه بدورهم. كانوا
يفتخرون بمصاهرته لهم، يتحدثون بذلك
الى كل زائر جديد وهم يشيرون إليه
بأصابعهم..هذا هو صهرنا محسن الذي قدم
إلينا من المدينة. كانت
فضة مضطرة لأن تغني للسائقين لكي
يتوقفوا في مخيمهم للراحة وتناول
المشاوي التي كان يقوم بعضهم بتحضيرها.
ومن أجل ذلك كان على محسن أن يصبر على
زوجته فضة حين يكون هناك ضرورة لأن تغني
للزبائن. وعندما كانت تعتذر، كان
السائقون يلحون في طلبها لتغني لهم.
كانوا يعشقون صوتها وغناءها ولايطيب
لهم التوقف للراحة في المخيم إلا إذا
كانت فضة مستعدة لتطربهم بغنائها
وألحانها. وفي
كثير من الأحيان، كانوا يسكرون ويصرخون
طرباً فيضجون وتضطر أم فضة للتدخل من
أجل تهدئتهم. عندها بدأ محسن يكرههم
ويخاف على فضة منهم. راح ينصحها بالتوقف
عن الغناء والظهور أمامهم، ولكن هكذا
أمر يبدو مستحيلاً في مخيم الغجر، فقد
كانت أم فضة له بالمرصاد. كانت تعارض
رغبة محسن لأن حياة الغجر متعلقة
بمسايرة الزبائن والغناء لهم ضمن حدود،
وماداموا يطلبون فضة فعليها أن تغني لهم. كان
يخاف ويغار عليها من السائقين. وفي إحدى
المرات هجم عليها أحد السكارى وأراد
اغتصابها تحت سمعه ونظره، ورغم أنهم
استطاعوا إبعاد السائق السكير إلا أن
تلك الحادثة جعلت محسن يعارض من جديد
وبقوة غناء فضة في الخيمة العامة. كانت
فضة تريد وتحب إرضاء زوجها، ولذلك قررت
التوقف عن الغناء. أصبحت تغني لمحسن
فحسب. صارت ترفض طلبات السائقين
المخمورين. كانوا يتوقفون لقضاء الليل
مع الغجر، أما هي فكانت تحبس نفسها في
خيمتها مع زوجها. وماإن يمضي قسط من
الليل حتى تتعالى أصواتهم المخمورة
مطالبين بفضة. كانت أمها تمسك البزق
وتشرع في الغناء لترضيهم دون جدوى، فقد
كانت قد فقدت صوتها الجميل منذ زمن طويل.
عندها كانوا يقتربون من خيمتها صاخبين
ويحاولون انتزاعها من أحضان محسن لتغني
لهم، فتحدث المشادات، حتى أن محسن كان
يضطر في كثير من الأحيان للخروج من
الخيمة للصراع معهم معرضاً نفسه للأذى.
كان يحبها ويريدها أن تكون له لوحده. كان
يخاف عليها وعلى الجنين الذي راح ينمو
في أحشائها (كانت حبلى).. ولكن حياة الغجر
لاتأبه بذلك. بسببه
لم تعد الشاحنات تتوقف عندهم. أصبح
السائقون يفضلون غجراً آخرين يرضونهم
بالطعام والشراب والغناء وبأمور أخرى.
عندها جن جنون الغجر وأصبحوا يكرهون
محسن. كانت فضة تحاول الدفاع عنه دون
فائدة..فقد بدأ الجوع يهددهم، وهم
لايحسنون العمل في مهن أخرى. أصبح محسن
بالنسبة إليهم قاطع رزقهم، حتى كادوا
يطردونه. ولكن فضة هددت بأنها ستلحق به
إن هو غادرهم بسبب
منهم. كانت تهددهم فيصمتون ولكن على
فساد، فقد كانوا يخافون أن يفقدوها، أما
محسن فهو سيغادرهم في يوم قريب. أصبح
يشعر أنه في مكان غريب وسط أناس يكرهونه.
ولكن هل يستطيع الرحيل، والى أين؟ إنه
لايستطيع العودة الى البيت فهناك
ينتظره أب ظالم وزوجة لايحبها، كما أنه
لايستطيع ترك فضة أو الطلاق منها، فهو
لايملك في هذه الدنيا شخصاً آخر يحبه
ويعتني به، لذلك فقد بقي هناك يدفع عنه
نظرات الغجر المعادية بصمت. ولكنه مالبث
أن وقع فريسة للمرض. في البداية راح يسعل
في أوقات متباعدة. عزا ذلك الى البرد
الذي كان يتسلل الى أعماقه في ليالي
الشتاء دون أن يستطيع مقاومته، فالحياة
في الخيام في الشتاء تختلف عنها في
الصيف، وهو ابن المدينة المدلل الذي
اعتاد دفء البيوت الحجرية. وعندما كان
المطر يهطل طوال ساعات طويلة، كان كل
شيء يتشبع بالرطوبة وبسرطان البرد.
حينذاك، كان يمضي الليالي الطويلة وهو
يرتعد رغم احتضان فضة له لتدفئته. كان
البرد يتسلل الى عظامه من الجهة الأخرى
للفراش ومن أسفله. ازداد
سعاله قوة وتواتراً، وفي إحدى المرات
بصق دماً، فعرفت أم فضة بأنه قد أصيب
بالسل فراحت تعالجه بالأعشاب المغلية
التي كانت تضيف إليها عن عمد قليلاً من
منقوع الخشخاش لتجعله ينام. ضعف
محسن وأصابه الهزال، وضعفت أيضاً
مقاومته للغجر. كان سعاله هو الشيء
الوحيد الذي كان يسمع من جهة خيمة فضة.
وفي تلك الأثناء أمرت أم فضة بعضاً من
الغجر للوقوف على الطريق ودعوة
الشاحنات للعودة إلى مخيمهم. كانوا
يزفون إليهم خبر عودة فضة الى الغناء.
وهكذا عادت الشاحنات للتوقف، وأشعل من
جديد المنقل وعادت الخيمة العامة تمتلئ
بالسائقين المخمورين. ولم يعد صوت سعال
محسن هو الذي يتردد في أرجاء مخيم الغجر
فحسب، بل كان أيضاً صوت غناء فضة والبزق
وإيقاع الدف الذي كانت أم فضة تنقر عليه
لمساعدتها في الأداء. كانت
فضة تغني وهي مهمومة على صحة زوجها،
تبتسم مسايرة لزبائن أمها، وعندما كان
أحد السائقين يأتي بحركة غير لائقة،
كانت تغضب ويغيب حماسها للغناء، وتترك
أمها تعالج الأمر كي يرجونها فيما بعد للعودة إلى
الغناء. في مابين الوصلات، كانت تهرع
لتفقد زوجها المريض، وفي كثير من
الأحيان كانت تقعد الى جانبه تبكي،
فتنسى نفسها والزبائن الذين يذكرونها
بوجودهم من خلال صراخهم وضحكهم الداعر،
فتنهض من فورها لتعود اليهم. أما
محسن الذي أصبح لاحول له ولاقوة، فقد
كان ينام طوال الوقت، وعندما كان السعال
يوقظه كان ينهض بصعوبة ويخرج من خيمته
ليدخل الخيمة العامة حيث تغني فضة،
ويحاول جرها وطرد السائقين منها. ولكن هيهات ان
يكون هناك أحد يهتم به، فقد كان أضعف من
أن يحتمل الوقوف على قدميه وعندما تكرر
نهوضه ليلاً راحت أم فضة تزيد له كمية
منقوع الخشخاش مع الدواء كي ينام بشكل
أعمق ولايعود يسمع صوت فضة وهي تغني أو
أصوات السائقين وضجيجهم. وما إن
تنتهي فضة من غنائها ويعتقها السائقون
حتى كانت تهرع الى خيمتها لتضم محسن إلى صدرها علها
تدفئه بينما تنخرط في بكاء طويل على
حبيبها وماآل إليه من بؤس. توقف
الباص العتيق الذي كان يفوح بروائح
النفط بجانب مخيم الغجر ثم استدار
السائق الى حيث كان يجلس أحمد وذكية
وقال: -
تفضل ياأخ..هنا يعيش غجر أم فضة. أسرع
أحمد وذكية بالنزول ثم انطلق الباص
مخلفاً وراءه ضجيجه الهائل. وقفا
يستطلعان المخيم. ياإلهي كم هو فقير
وتعيس. كان عبارة عن عديد من الخيام
السوداء والمتناثرة. نظر أحمد الى ذكية،
كانت مرتبكة ولاتعرف ماتفعل..كانت أيضاً
حزينة..ربما على محسن الذي اضطر الى
الالتجاء الى هذا المكان هرباً مما فعله
به القدر. خطا
أحمد باتجاه الخيام ولحقت به ذكية.
أصبحا صديقين أثناء السفر، تبين لها كم
هو مخلص وودود وتبين له كم هي حساسة
وعاقلة هذه الانسانة. اقتربا من الخيام
فانتبه إليهما بعض الأطفال فأسرعوا
نحوهما، وعندما عرفوا أنهما قادمان من
أجل محسن راحوا يتكلمون دفعة واحدة وهم
يشيرون الى خيمة فضة ويسبقانهما إليها.
صاحوا قرب مدخل الخيمة: ها هنا محسن..هنا
محسن..إنه مريض..هل ستأخذانه معكما؟ دخل
أحمد وذكية الخيمة وكأنهما يدخلان
عالماً غريباً لايعرفان مايفعلان فيه.
كانت ذكية صامتة. وفي الداخل شاهدا
رجلاً هزيلاً ومصفراً، مهمل الذقن تعلو
شعره القذارة. كان الرجل يبدو ميتاً. لم
يستطيعا الاقتراب، حسبا أنهما قد أخطآ
العنوان، ولكن الصبيان صرخوا يقولون:
هاهو محسن. هل
هذا هو محسن، صديق أحمد وزوج ذكية،
الشاب الوسيم المليئ بالصحة والعافية؟
اقتربا بحرص من الفراش، قرفص أحمد الى
جانب رأس محسن فعم الصمت في أرجاء
الخيمة. إنه فعلاً محسن، ماذا حصل..؟
وفجأة انتابت محسن نوبة سعال قوي اهتز
لها أحمد وجمّدت أوصال ذكية. همس أحمد
ينادي: - محسن..محسن. فتأوه ثم فتح عينيه.
همس له مرة أخرى: -
محسن..أنا أحمد. في
البداية لم يكن يعرف أن ذلك يجري في
الواقع، فقد حسب أنه يحلم فبقيت عيناه
مطفأتين، ثم تنبه شيئاً فشيئاً فسأل،
أحمد..؟ أحمد من..؟ -
أنا أحمد يامحسن.. تأكد
من وجود أحمد في الحقيقة، أراد إبعاد
عينيه بعيداً عنه خجلاً من حالته فاصطدم
بنظرات ذكية، عرفها على الفور..فبسببها
حصل كل هذا. همس، أنتِ..؟
فقال له أحمد: -
جئنا أنا وذكية لنأخذك الى البيت يامحسن..
حينذاك سمعا ضجة خلفهما. استدار
أحمد ليجد فضة وقد وقفت تراقب كلبوة
جاؤوا يسلبونها صغارها..صرخت: -
أين ستأخذونه..؟ لايمكن..لايمكن. إذن
هذ هي فضة..زوجته الجديدة وضرتها. إنها
نعم، جميلة..ولكنها ياإلهي حامل. انتفخ
بطنها من تحت الثوب. ظلت ذكية وفضة
تحملقان في بعضهما البعض، بينما عاد
أحمد يقول لمحسن: -
محسن، يجب أن تذهب معنا الى حلب. انتابته
موجة جديدة من السعال القوي، وفجأة شاهد
أحمد دماً يلوث شفتي محسن فارتعد..إنه
السل. أسرعت ذكية للقول: -
يجب أن يعود الى حلب فوراً وإلا مات.. حاول
أحمد إنهاض محسن فأسرعت إليه فضة تمنعه،
ثم جلست الى جانبه تحتضنه. قالت بتحد: -
محسن يجب أن يبقى هنا..هو لي..
فقال لها أحمد: -
محسن مريض يافضة. يجب أن ينزل الى حلب
للعلاج. هنا قد يموت. السل ليس لعبة. -
أمي تعالجه بالأعشاب..سوف يشفى. وبينما
هم على هذا الوضع وإذ بأم فضة تدخل. ظلت
واقفة تراقب بصمت. كانت تريد رحيل محسن
ولكنها لم تقل شيئاً يساعد أحمد على
الخلاص من إصرار فضة. كانت ماتزال
تحتضنه لتمنع أحمد من أخذه، بينما كان
هو يسعل ويكاد يختنق. عندها أصبح غضب
أحمد وذكية في ذروته. راحا يتلاسنا مع
فضة. صرخت
فضة بأن على محسن أن يبقى هنا لأنه بين
أهله. هنا سيشفونه وسيعود كما كان وأفضل..قالت
إن الغجر لم يضربوه وكادوا يقتلونه كما
فعل أبوه في المدينة. فقال لها أحمد إنها
ستقتله بعنادها لأنه مريض جداً..وعندما
لم تقتنع بذلك كادت ذكية تفقد أعصابها
وكادتا تتضاربان..وعندما وصل الأمر الى
هذا الحد تدخلت أم فضة. قالت إنه من
الأفضل أن يسألوا محسن، فإن أراد البقاء
فأهلاً وسهلاً، وإن أراد الرحيل فليس
لديهم مانع. أعجبته
الفكرة. تحمس أحمد وقال لمحسن: -
محسن..قل لهم إنك تريد النزول الى حلب
لتتعالج. سعل
محسن وكاد يختنق من ضغط فضة على صدره.
نهرتها ذكية لتبتعد عنه. كان المريض
يريد قول رأيه ولكن السعال كان يمنعه من
ذلك، وعندما هدأ فتح فمه ليقول ولكن فضة
تدخلت. كانت تريده أن يبقى..كان لديها
أحساس بأنه ماإن يخرج من هنا فإنها
ستفقده الى الأبد. قالت له: -
محسن..قل لهم إنك تريد البقاء..فتأوه ،
إلا أنها تابعت: -
قل لهم يامحسن إنك تكرههم وإنهم يضربونك
ويهينونك..هنا أفضل لك يامحسن بين
أحبابك..قل لهم حبيب قلبي..
أغمض محسن عينيه..كان يتألم. إنه
لايكرهها بل يحبها..ولكنه لم يعد يحبها
كما كان في السابق..إنها تغني للسائقين،
ثم إن عليه أن يشفى من مرضه الخطير. همس
لفضة: -
اسمعي يافضة..يجب أن أذهب معهم. سأموت إن
بقيت. صرخت
فضة لا..ثم انكبت عليه وراحت تبكي. راح
أحمد يدفعها عنه بعنف، كذلك حاولت أن
تفعل ذكية، فقد كان محسن يختنق. اقتربت
أم فضة وأمسكت بابنتها لتبعدها عن محسن
لتدع أحمد وذكية ينهضانه. وعندما فعلا
التقت من جديد عينا محسن بعيني ذكية عن
قرب. لقد شاهدت فيهما ظل الموت. أغمض
عينيه ألماً وحزناً وخجلاً..قاده أحمد
الى الخارج، وهناك تطوع أحد السائقين
بنقلهم الى الرقة في شاحنته. صعدوا إلى
الشاحنة وسط عويل فضة، وعندما انطلقت
بهم استدار محسن وهو يكاد يغمى عليه.
كانت فضة تبكي وهي تقطع ثيابها، تبكي
رحيل محسن. رحيل حبها الكبير الذي أصبح
بؤساً..كانت صورتها تبتعد وسط الغبار
ودخان الشاحنة. استطاعت
ذكية إعادة زوجها الهارب الى البيت.
سمعت كلام أمها التي نصحتها بأن تبحث
عنه وتعيده. قالت لها إن على المرأة ألا
تترك زوجها يتصرف وفق مايحلو له.
فالرجال كالأطفال، يجب على النساء
الاهتمام بهم وإلا ضاعوا في هذه الحياة
وأضاعونا معهم. كانت
دهشة عظيمة تلك التي ارتسمت على السحنات
حين دخلت ذكية وأحمد وهما يسندان محسن.
هرع الجميع لمساعدتهما. كانت أم محسن
وزينة تبكيان بينما وقف أبوه لايعي
جيداً ماقد حصل. وعندما عرفوا مقدار مرض
ابنهم قعدوا يبكون فحسب. عندها اهتم
أحمد بما يجب فعله..فقد كان الوحيد مع
ذكية اللذين لم يفقدا أعصابهما. أحضر
الطبيب الذي لم يكتشف شيئاً جديداً، ثم
هرع يبحث عن الأدوية ليبدأ محسن رحلة
العلاج الطويلة. كان في خطر. هكذا قال
الطبيب للسيد منير الذي كان يشعر بتأنيب
الضمير. كان يفتل في البيت وهو يتمتم..أنا
السبب..أنا السبب. وبفضل الأدوية والدفء
والفراش الوثير والدلال الذي اعتاد
عليه محسن واهتمام ذكية به زال عنه
الخطر..ما كانت تنام أبداً..تراها دائماً
جالسة الى جواره تتمعن فيه بدموع في
عينيها أو بلا دموع، تنتظر موعد الجرعة
التالية من الأدوية والحقن. وعندما تحسن
وأصبح يجلس في سريره صامتاً خجلاً،
يسترق النظرات الى زوجته،
انتقلت لتجلس في مكان آخر من الغرفة
لتبتعد عن نظراته. وعندما جاؤوا بالطبيب
من جديد أكد
هذا زوال
الخطر وأن العلاج سيصبح روتيناً لمدة
طويلة من الزمن. حينذاك، جمعت ذكية
أشياءها في حقيبة ثم ارتدت ثياب الخروج
وتأهبت للرحيل الى بيت أهلها. لم يكونا
قد تحدثا كما ينبغي طوال هذه المدة،
ولكنه حينما رآها خارجة، انتفض قلبه
وشعر بأنها قررت أن تتركه. سألها بصوته
الضعيف الذي يشوبه سعال السل: -
الى أين ياذكية؟ وقفت
مطرقة وقالت: -
الى بيت أهلي..لقد اطمأننت عليك..زال
الخطر، علي الآن الاهتمام بنفسي.. -
ولكن.. ولكنها
لم تستمع إليه. حملت حقيبتها وخرجت الى
الصالون. كانت أم محسن وزينة تهتمان
بأمور البيت، وعندما شاهدتاها ترحل
تجمدت ايديهما..هل حقاً سترحل؟ -
نعم..إنني راحلة. لقد قمت بواجبي على
أكمل وجه. حاولتا
منعها بكافة السبل. بكت زينة، ولكنها
أصرت على الرحيل. وقرب الباب سمعن صوت
محسن وقد خرج الى الصالون: -
ابقي ياذكية..إلا أنها خرجت وأغلقت
الباب خلفها.
* * * |
Copyright © 1999 - 2001 Nihad Sirees All rights reserved