موقع مفهوم Concept
 
يقدم
 
خان الحرير
رواية
نهاد سيريس
 
(الفصل الثامن)

 

آ آ آ ه..
(تنهيدة لصبيحة العانس أطلقتها وهي تتلصص علىأخيها وزوجته..)
عندما يغيب القط، تمرح الفئران...
(هكذا قال السيد كمال من بين أسنانه وهو يستمع الى السيد منير ينقل له ما فعله مراد في غيابه)
ولكن صبيحة ابنة خالي لن ترضى أن تأتي على ضرة..
(من أقوال حميدة زوجة محمود لحميها الحاج محمد.)
مو كل من لبس برنيطة صار على الموضة..أرفع يدك بريحة طيبة.
(رسالة تهديد أرسلها السيد كمال الى ابو عادل)
أَفحِشوا في النكاح..
(قول لأحنف بن القيس اتخذه الحاج محمد مبدأً له بعد زواجه من صبيحة)
يالي من غبي..
(قالها مراد لنفسه حين اكتشف من تكون امرأة النافذة)
أعطاني الرجل أملاً ثم استرده..ألايقولون بأن مراد يشبه المرحوم سعيد..؟
(قول لسعاد وهي تذرف الدموع..)

لم يكن الحاج محمد خصماً عنيداً لكل من ابو عادل والسيد كمال في السباق للوصول الى يد سعاد (نقول يدها ولانقول قلبها، فهي تكرههم جميعاً) فهو لم يزد عن طلب يدها والانتظار حتى يرد الحاج عبد القادر الجواب إليه، بالإضافة الى محاولات متواضعة لكسب وده مثل إهدائه علبة لبن غنم اشتراها له خصيصاً من محل مقرِشْ الشهير في بانقوسا، أو شراء بيت مستقل وفرشه بكل مايلزم لتستقل فيه العروس ، فسعاد ليست أية امرأة على كل حال، وكانت هذه البادرة فريدة من نوعها في تاريخ الحاج محمد، وقد علقت ام سعاد على ذلك بقولها: كنا نحسب أن أبو محمد بخيل ولكنه أظهر كرماً أكثر من الجميع.

وبما أنه يعتبر صديقاً للسيد كمال فقد تصرف الإثنان في موضوع سعاد وكأن شيئاً لم يكن، فلم يتحدثا في الموضوع مطلقاً، فقد كان السيد كمال يعتبر بأن الحاج محمد لايشكل خطراً على مشروعه ذاك، وقد كان مصيباً في هذا، وانحصرت المنافسة بينه وبين ابو عادل، حتى لحظة خروجه من السجن.

لماذا لم يهتم الحاج محمد كثيراً في الوصول الى سعاد؟..ولماذا لم يقاتل من أجلها كما فعل ابو عادل وكما سيفعله في المستقبل؟ ولماذا تخلى عن طلبه ليدها حتى وقبل خروج السيد كمال من السجن، رغم أنه كان أكثر الثلاثة حرماناً للحضن الدافئ والكلام العذب؟

الجواب: صبيحة ابنة خال كنته حميدة.

لم تجد حميدة زوجة محمود نفسها إلا وهي متورطة في الصراع المرير بين حميها وزوجها من جهة، وحماتها من جهة أخرى. فقد تربت في أسرة جرت العادة فيها أن لاتُحترم الحماة، بل توجه إليها أقسى الشتائم والكلام اللاذع مثل: الحماية حُمّى، أو الماء والنار ولاحماتي في الدار..الخ. لذلك فقد كان من الطبيعي أن تصطف منذ صبيحة عرسها الى جانب زوجها وأبيه، وبما أنها كانت تمتاز بلسان سليط (ليس له مثيل) مثل حماتها وأكثر، فقد كانت عوناً عظيماً لحميها، الذي كان عليه مواجهة زوجته ومكنستها بمفرده، فقد كان ابنه محمود جباناً رعديداً وخاملاً مثل الدب، ولهذا اعتبر مجيء حميدة هبة من السماء ونصراً من الله. شعرت حميدة بأهميتها (الاستراتيجية) بالنسبة لعمها الحاج محمد فاستنفرت كامل طاقتها لدعمه، وتفتق ذهنها عن أساليب جديدة ومهمة لإغاظة حماتها، وكانت تطلق عليها من الأوصاف ماأنزل الله بها من سلطان، مثل: الحرباء، الكلبة، الدبة، النورية، الكلبانة (كانت تعض أيضاً) أم أربعة وأربعين، حية تحت التبن، العقربة، الساحرة، القحبة، ولكن عمها لم يستسغ الشتيمة الأخيرة فلم تعد الى إطلاقها مرة ثانية.

وعندما انتقل للسكن في بيتها، وفي الغرفة التي كان قد جهزها للطوارئ، أبدعت حميدة في الاهتمام به الى درجة أنه شعر وكأن الحياة قد عادت إليه بعد موت (لكي لانقول نوماً) طويلٍ مثل أهل الكهف. فقد اهتمت حميدة كل العناية بملبس عمها ومأكله، كانت ترفو له جواربه وتحيي القديم المهترئ من ثيابه، وهذا ماأسعده كثيراً، فقد كانت المرأة الجيدة في رأيه هي تلك التي تهتم بجيوب رجال البيت. كما أنها نجحت في الاهتمام بمعدة زوجها وأبيه دون مصاريف زائدة عن اللزوم، فقد جاءت بوصفات كثيرة لأطعمة تطبخ بالزيت وليس باللحمة، كما أنها أثبتت لهما بأنها أفضل من استفادت من قطع الخبز المتيبسة والمتعفنة، فعوضاً عن تقديمها للقرويين الذين يتجولون على حميرهم في أحياء المدينة منادين على الخبز اليابس لتقديمه علفاً للحيوانات، فقد أصبح طبيخ الخبز الطبق الدائم على مائدة العشاء في بيت محمود ابن الحاج محمد.

الشيء الوحيد الذي كان يغيظ حميدة هو اهتمام حميها بسعاد. كانت تنفلق كلما جاء على ذكرها. وقد فعلت كل مابوسعها من أجل أن تبعد تفكيره عن تلك الأرملة، التي أطارت لبه ولب الآخرين. كانت تكرهها أكثر من حماتها، والسبب هو جمال سعاد ذائع الصيت. ولكن أهم شيء في كراهيتها لها هو خوفها على مكانتها في نظر الحاج محمد، فإذا ماتزوجها فعلاً كما كان يحلم ويتمنى، فإنها ستسلب له لبه، ولن يعود في مقدورها حين ذاك السيطرة على الأب والإبن..عندها ستحدث المصيبة الأكبر وسوف تندم على أيام حماتها. لهذا الأمر سعت من أجل تزويجه بنفسها.

كانت صبيحة ابنة خالها قد تقدمت في السن دون أن يأتيها خاطب جدي واحد، فلو حسبنا الخاطبات اللواتي يطرقن الباب ويدخلن لشرب فنجان قهوة والتفرج على البنات المؤهلات للزواج، فإننا نقول إنها كانت ذات حظ لابأس به، ولكن لاتجري الأمور كما تشتهي الفتيات المرشحات للزواج، فقد يصدف وتخرج الخاطبات دون عودة رغم الانطباع الذي تتركنه في البيت بأن كل شيء على مايرام. ظلت صبيحة تُعرض على الخاطبات حتى أصبح عمرها يثير القلق لديها ولدى أمها وأبيها. ولاواحدة من الخاطبات اللواتي تمعن فيها عادت، فقد كانت عادية الجمال ولكن إن هي تجملت وصبغت شفتيها بأحمر الشفاه وخدودها بأحمر الخدود وأطّرت عينيها بالكحل العربي، فإنها سرعان ما تتحول الى امرأة جميلة بحق، ولكن الخاطبات مؤهلات في العادة لاكتشاف مثل هذا التزييف بسبب الخبرة الطويلة (فهن نساء أولاً وأخيراً).

كانت صبيحة تسرق نفسها من أشغال المنزل كل يوم مساءً لتصعد الى السطح وتطل على الشارع المحاذي لبيتهم وتروح تراقب الناس، والرجال خاصة، وهي تتأوه وتشرق بدمعها على حظها النكد. أما في حلم اليقظة، فقد كانت تحلم بشاب ذي شاربين عرمرمين يفتلهما وهو يقترب منها ليخطفها ثم يرحل بها بعيداً عن هذا البيت الذي تحول الى سجن صغير، فقد كان أبوها من المرتعبين دائماً على الشرف الذي قد يهدر في غمضة عين..وهو يعرف جنس النساء، كما كان يردد، إنهن قحبات في ثوب من العفة.

وبمرور السنين تغير حلمها. كان يصبح أكثر واقعية وتواضعاً كلما خرجت احدى الخاطبات ولم تعد، حتى أصبح بائساً الى درجة الرغبة بالزواج حتى ولو من شيخ في التسعين من عمره، وذلك عندما بكت على كتف ابنة عمتها حميدة التي نجحت في تبييض حظها وتزوجت من ابن تاجر كبير في خان الحرير.

لقد ذرفت الكثير من الدموع أمام حميدة، وأقسمت إن أتاها النصيب لتجعل رجلها أسعد انسان في التاريخ، حينها ربتت ابنة عمتها على خدها وهي تهمس لها:

- لاتبكِ ياابنة خالي، فوالله لن يهنأ لي بال حتى أزوجك من رجل يستأهلك.  ثم أضافت وهي تمسح دمعة انفلتت تضامناً مع قريبتها العانس الشقية، لقد وجدته لك.

اهتمت صبيحة بالموضوع، فقد كانت تعابير حميدة جدية الى أبعد الحدود، فسألتها وقد كفت عن البكاء ووضعت على وجهها نقاباً من الخجل والحياء اعتادت عليه منذ أن كانت في السابعة عشرة من عمرها:

- ومن هو هذا الرجل..هل أعرفه؟

- نعم، قالت حميدة وهي تبتسم بخبث، تعرفينه، إنه الحاج محمد حماي. كانت حياته جحيماً خالصاً مع حماتي الحرباء أم المكنسة، وهو كما تعلمين يعيش عندنا، وقد اشترى بيتاً وجهزه بالكامل، ويريد الزواج من أرملة ستجلب أجله وأجلنا معاً..ولكنني له ولها بالمرصاد..لاتبك ياابنة خالي الحبيبة، سترين كيف سيركع قريباً عند قدميك.

- ولكنه متزوج ياحميدة، وامرأته قادرة على تسويد حياتي وحياته أيضاً..  فقالت حميدة تخفف من رعب صبيحة من أم محمود وسلاطة لسانها:

- ومن قال لك إنني سأتركه يرى ظفرك إن لم يطلقها أولاً..؟

عندها انشرح صدر صبيحة واحمر وجهها..فقد شعرت بأن أزمتها في طريقها الى الحل..قبلت حميدة ثم عانقتها بقوة وهي تتنهد..ياحبيبتي ياحميدة.

كان الحاج محمد قد سئم الانتظار، كما أنه كان شاهداً على صراع ابو عادل والسيد كمال الذي لم ينته بعد على يد سعاد رائعة الجمال. كان حلمه قد غادره منذ زمن بعيد بعد أن استرجع هديته من سعاد التي كانت تأتيه في الحلم متخفية بظلام الليل، وكانت تتسبب له بزيارة صباحية الى حمام النحاسين. ثم إنه وجد أنه ليس من المناسب منافسة صديقه السيد كمال، وليس من الضروري أن يتخاصما من أجل امرأة..فالمدينة مليئة بالنساء، بل عليه أن يتضامن معه ضد ابو عادل، زير النساء الذي يدّعي أن الشباب قد عاد إليه من جديد. كان على هذه الحال عندما فاتحته كنته بالموضوع على مائدة العشاء بعد أن كالا (كان محمود يأكل بصمت كالدب) كمية هائلة من الشتائم الى عنوان زوجته ام محمود: هذه الحية الرقطاء، ابليس في ثوب امرأة بدينة، آجوج وماجوج..الكوليرا..خراء اسهالات الصيف، الجدري والعياذ بالله.

قالت له كنته وقد انتهوا من العشاء:

- تخلص منها ياعمي..تخلص منها وأنا سأزوجك بواحدة لايوجد لها مثيل في حلب.  قال الحاج محمد وهو ينفث غضبه على زوجته:

- سأتخلص منها ولابد.  سأله محمود الذي كان ينتظر نهاية الحديث كي ينتقل وزوجته الى غرفة النوم، فبعد تناول العشاء اعتاد ألاّ يشتهي سوى هذا الجسد الرجراج ثم النوم:

- ماذا حدث بابنة الحاج عبد القادر؟  فقال الحاج محمد:

- يبدو أنه لا يوجد نصيب..  فأسرعت حميدة الى القول:

- دعك منها هذه الأخرى..تحسب نفسها ملكة عصرها، قل لي فقط ليس عندي مانع وأنا سأزوجك بواحدة أفضل مني بمئة مرة..قل فقط..صبيحة ابنة خالي ملكة من الملكات، رفضت العشرات من العرسان، كانت تنتظر ابن عمها ولكنه مات في حرب فلسطين (من أين أتت بهذه الكذبة؟!) والمسكينة ظلت أمينة لذكراه، تجاوزت الثلاثين من عمرها، هذا يعني أنها مناسبة لك ياعمي.  قال محمود وهو يتثاءب:

- صبيحة ابنة عمها لابأس بها.  أضافت حميدة وقد رأت حماها يتابع الحديث باهتمام:

- ولكنها بصراحة، لاتحب أن تتزوج على ضرة. يجب عليك ياعمي أولاً أن تطلق تلك السفيهة، تخلص منها وسترى كم من سنوات عمرك هدرتها هكذا..هل تريد أن تراها، أستطيع أن أدعوها الى هنا لتزورني؟

حاول التملص ، فقد كان يريد أن يفكر..فصبيحة ابنة خال حميدة هذه، وإذا كانت مثلها فهي ليست بتجارة رابحة على كل حال..هناك أشياء كثيرة لايحبها في حميدة كنته.  لم تتركه يتهرب أو يؤجل الموضوع، قالت:

- ألا يكفي ماتفعله معك تلك الحية السامة وأنت لست بمعلق بها ولا بمطلق منها..؟ طلقها اليوم وغداً سأزوجك بصبيحة، على كل أنت لاينقصك شيء، بيت واشتريت، ماذا ينقصك آ..غير زوجة حنون تهتم بك وتعيدك الى الحياة..؟

حنون..؟ وهل يمكن أن تكون ابنة خال هذه الثرثارة امرأة حنون..؟ نظر في عيني كنته فخاف أكثر. سمعها تسأله:

- كيف تراني أنا؟  فغمغم..ممتازة، والنِعمْ..  فقالت له تنهي الحوار:

- صبيحة ابنة خالي أفضل مني بمئة طاق.

ظل يفكر حتى ساعة متأخرة من الليل. ولكن ماذا عن المصاريف؟ بيت آخر وأفواه أخرى..؟ (اللعنة). وفي الصباح لم ينزل فوراً الى الخان، بل ذهب الى المحكمة الشرعية وقدم دعوى تفريق ضد زوجته بهيجة التي انفصل عنها منذ أمد طويل. وعندما غادر المحكمة كان يتنفس الصعداء.

لم تتمالك حميدة نفسها فزغردت طويلاً بعد أن سمعت بالخبر. وفي اليوم التالي دعت صبيحة ابنة خالها لزيارتها بعد أن أوصتها بارتداء أجمل ما عندها في خزانة ملابسها. طلبت منها أيضاً ألا تخجل كثيراً من عريس المستقبل، وأن تبتسم له، ووعدتها ألاّ تتركهما بمفردهما مدة طويلة، فقد راحت ترتجف منذ الآن، فسجن البيت والعنوسة الطويلة جعلاها ضعيفة الشخصية، تخاف من الناس وخاصة من الرجال ناهيك عن الخاطبات اللواتي كن يرحلن دون عودة. لم تكن تمارس حريتها إلا في أحلام يقظتها وهي مستلقية تحاول النوم، أو على السطح وهي تراقب المارة وخاصة الرجال منهم. كانت تعرف كل شيء عن العلاقة التي تنشأ بين الرجال والنساء المتزوجين، وفي كثير من المرات استطاعت أن تلْمَحَ (دون قصد منها!!) أخاها وزوجته وهما متلاحمان، حين كانا يأتيان للزيارة ويضطران للنوم في بيت العائلة. هذه الأمور أصبحت واضحة بالنسبة إليها..وهذا ماكان يعذبها أكثر فأكثر. وفي حلم يقظتها كانت تمنح نفسها بسخاء لامثيل له لرجل أحلامها، الذي كان يتحول من الأفضل الى الأسوأ كلما مضى على عنوستها مدة أطول. كانت تتصور أموراً كانت تفعلها معه (مع رجل الأحلام طبعاً) لو حدث أن قالتها لأحد لوصفها بأنها عاهرة مخضرمة، ولكن لسانها لم يزلّ ولامرة، ولذلك ظلت بالنسبة للجميع صبيحة العانس الخجول.

وفي الموعد المحدد، تأنق الحاج محمد وارتدى قنبازاً جديداً أخاطه للمناسبات فقط، وعندما دخل الى غرفة الجلوس، حيث كانت حميدة كنته تنتظره مع ابنة خالها، وجدها جالسة تموت من الخجل. لم ترفع عينيها اليه إلا بعد أن شعرت أنه يستلطفها. لقد أعجبته صبيحة، فلأول مرة يقابل انسانة تخجل حتى من خيالها ولاتمتلك لساناً سليطاً كأمه وزوجته الأولى وكنته، بل ليس لها لسان بالمرة. وعندما خرجت حميدة لتأتي بالقهوة، لم يجد شيئاً ليجعلها تتكلم سوى سؤالها عن صنعة أبيها، فقالت إنه يمتلك ورشة لصنع الموبيليا..

                                          * * *

كما كان متوقعاً، أفرجوا عن السيد كمال ورفاقه لعدم توفر الأدلة. جاءت مطيعة خانم وذكية لاستقباله على باب السجن. كما جاء كل من الشيخ قدري والسيد منير، وعندما أطل السيد كمال مودعاً من قبل الشرطي حسين وأحد ضباط التحقيق، بكت مطيعة وانحنت على يده تقبلها وهي تهمس: فليسامحني ربي، فلم يكن ضميرها حتى ذلك الوقت قد ارتاح. وقرب البناية التي كان يقطنها، وقفت فرقة موسيقية متأهبة لبدء العزف والترحيب بالسجين البريء والوطني الجسور. وماإن اقتربت السيارة التي أقلتهم، حتى صدحت موسيقى المارشات العسكرية ونُحرت غنمة، ودفعوا السيد كمال للقفز من فوقها وسط فرح وتصفيق المتفرجين والمهنئين من أهل الحي.

وفي المساء، بدأت وفود المهنئين تصل. وعندما وصل الحاج عبد القادر، نهض السيد كمال واستقبله فور دخوله وأجلسه الى جانبه في صدر الغرفة، ثم قدمه الى التجار الخمسة الكبار، الذين جاؤوا يحملونه جميل مافعلوه من أجله فربما أصبح سياسياً مرموقاً على مر الأيام، على أنه واحد من أفضل أصدقائه، حتى أن الحاج عبد القادر مكث يمسح عرقه لمدة طويلة من فرط الحرج الذي أحس به.

ظلت وفود المهنئين بخلاص السيد كمال تتوارد الى بيته في الأيام الثلاثة التالية أيضاً، ولكن ذلك لم يرضه بالتمام..فقد غاب عن التهنئة نصف التجار الذين كان يتعامل معهم، كما غاب العديد من تجار خان الحرير، وفوراً عرف بحدسه القيادي الذي لايخطئ، وبسبب المعلومات الأكيدة التي زوده بها السيد منير، بأن الاستاذ مراد ونتيجة لسجنه وقصة التريفييرا قد أفقده نصف هيبته في السوق.

كان يتحرق للعودة الى محله في الخان، فقد حان الأوان ليضع هذا المتسلل، الذي دخل الى الخان بلاضجيج وراح يرتقي على حسابه، عند حده. وفعلاً راح يرسم الخطط لما يجب أن يفعله حال نزوله الى محله. وقد همس الى المقربين إليه، وبالتحديد الى السيد منير والحاج محمد، بأن الاستاذ مراد هو الآن خصمه اللدود. وكانت إحدى خططه لضرب مراد ، التي تفتق بها ذهنه المحارب، دفعه الى الإفلاس هو وقريبيه نعيم ومقيم وإخراجهم من الخان نهائياً. أما ابو عادل، الذي كان الاستاذ مراد يشجعه على منافسته على أغلى انسانة الى قلبه فله حساب عسير. ولكن كان عليه في البداية أن يحل مشكلة ابنته ذكية ليتفرغ فيما بعد لمشاكله في الخان.

استمع السيد كمال الى ابنته مطولاً دون أن ينبس، فقط كان مستغرباً كيف يمكن لمحسن أن يفعل كل هذا، حتى أنه ضحك في داخله..هل يعقل؟.. هكذا تساءل، وربما شعر بحب لصهره المتمرد يحل محل الفظاعة التي كانت ذكية تريد تصوير مشاعرها بها في ذلك الوقت..كان يعتقد بأن محسن أبسط من ذلك بكثير، وعندما كانت ذكية تؤكد بأنها لن تعود إليه إلا بعد أن يطلق الغجرية، كان السيد كمال يهز رأسه، فقد وجد غايته. لقد كسب الى طرفه صهراً جيداً ورجلاً يمكن الاعتماد عليه، فهاهو محسن صهره قد كسب تجربة ليست بعادية، والمهم أنه في نفس الوقت الذي تمرد وهرب وتزوج من أخرى، مرض مرضاً شديداً وكاد يموت، ومن أنقذه سوى زوجته ذكية التي هرب من بيت ابيه بسببها؟ إنه يحب مثل هؤلاء الشباب ويحب أن يضمهم إليه. شعر بحزنٍ بسيطٍ حين كانت ذكية تشرح له مشاعرها المهانة وهي تبكي. قالت له بإنها لم تشعر بالوضاعة والصغار إلا بعد أن تزوجت..كان عليك أن تتركني هنا في البيت ولاتزوجني حتى أموت عانساً ياأبي..ربّت على يدها المرتبكة والحائرة بين دموعها وشعرها وفستانها الذي تدعكه وقال لها:

- ولكنك بشجاعتك كسبت زوجك الى الأبد ياذكية..أحمد الله على أنك لم تعودي إليه قبل أن أخرج من السجن، لقد جاء دوري لأثبت لك بأنه صار يحبك.  نظرت الى ابيها غير مصدقة. هل يمكن أن يحبها كما أحبته هي؟ كانت تشك في ذلك. إن مأساتها تكمن في حبها له، حتى أنها لم تذكر شيئاً عن حمل الغجرية لكي يظل هناك أمل في العودة. ولكن أن يحبها..فهذا ترف زائد عن اللزوم. يكفيها قبوله لها فحسب، يكفيها أن يدعها الى جانبه، تتأمله وهو نائم.

كان اللقاء في بيت السيد منير..وفي غرفة الضيوف بالتحديد. وكان طلب من الشيخ قدري، الذي أصبح يلازم السيد كمال كظله، أن يصحبه لإعادة محسن الى جادة الصواب كما قال حرفياً. وفور دخول محسن، ارتاح السيد كمال الى صدق ماتوقعه، فهو فعلاً قد كسب صهره الى جانبه مدى الحياة. لقد لاحظ ضعف وهذال محسن، وأكثر من ذلك لمس الخجل والحياء والضعف في النفس المتمردة. مد له يده ليقبلها ففعل بدون تردد، حتى أن انحناءته ليقبل اليد الممدودة إليه كانت انحناءة يعرفها السيد كمال جيداً ويقدرها كثيراً. أجلسه الى جانبه وراح يمازحه..أين كنت يارجل، قلبنا الدنيا عليك، كان عليك أن تقول لي منذ البداية بأنك تحب المغامرات..ومع من؟ مع الغجر..

كانت مجرد ابتسامات، ولكن السيد كمال عبس فجأة وقال:

- لو كنت أعرف بأنك ستعذب ابنتي هكذا ماكنت وافقت على هذا الزواج، فذكية غالية علي، أكثر مما تتصور.

ساد الصمت للحظات، فلم يشأ الشيخ قدري التدخل في هذه اللحظة، فالوقت مايزال مبكراً. تابع السيد كمال وهو يرمق محسن المطرق بدون أية مقاومة باقية لديه:

- ولكنني أعرف بأنك لم يهن عليك أن تُضرب أمام عروسك..لو كان أبي قد فعل بي ذلك لكانت ردة فعلي كما كانت ردة فعلك. الشاب عندما يتزوج يصبح رجلاً، وأصعب شيء عليه أن يُضرب أمام زوجته. ليس معك حق ياابو محسن.  فقال السيد منير متابعاً مسرحية السيد كمال:

- فقدت أعصابي..من محبيتي له.  ودون أن يبعد عينيه عن محسن قال السيد كمال يسأله:

- والآن قل لي..ماهي قصة فضة الغجرية؟

كان الثلاثة ينتظرونه ليسرد على مسامعهم قصته مع فضة مصاغة بطريقة التائبين. أراده السيد كمال أن يستسلم له نهائياً، ولكنه لم يرد أن يحدث له ذلك. فجأة شعر بأن عليه أن يدافع عن عشقه لفضة أمامهم ولو بكلمة واحدة. سأل وقد عاد الاحمرار الى وجنتيه:

- الغجرية؟  فقال السيد كمال بنبرة أعلى:

- نعم الغجرية، ذكية حكت لي كل شيء. هجرت بيتك وعروسك، بنت الناس، لتتزوج من غجرية؟..

ألن يكف عن استخدام كلمة الغجرية؟ عليهم أن يكتفوا باسمها الحقيقي. قال محسن وهو يفجر قنبلة:

- أنا وفضة كنا نحب بعضنا البعض.

توسعت عينا السيد كمال واستقام ظهره كأن شيئاً قد لسعه. نظر في عيني السيد منير وهو يخاطب محسن:

- كنتما تحبان بعضكما البعض..؟ ولماذا تزوجت ابنتي ياسيد محسن؟  فأجابه محسن:

- هذا الذي صار..ثم صمت.

كاد السيد كمال يفقد أعصابه..هنا تدخل الشيخ قدري:

- على مهلك ياسيد كمال..محسن يشرح فحسب ماكان بينهما، ولكن الأمر، حسب اعتقادي قد تغير.

- أنا لاأقبل أن تهان كرامة ابنتي..  فنهض السيد منير مستنفراً، كان مصفراً كعادته عندما يفقد أعصابه ويهم بضرب ابنه. قال وأسنانه تصرف:

- انتبه الى ألفاظك ولك..  أمسك به الشيخ قدري، فبحماقته قد يزيد السيد منير الطين بلة. قال محسن ببرود:

- أنا لم أقل شيئاً يسيء..وكأنه أراد أن ينهي الأمر، استقام السيد كمال وقال:

- أنا أريد أن تطلق ابنتي. 

كل شيء إلا هذا..نهض السيد منير وهجم على ابنه مرة ثانية، ولولا الشيخ قدري لكان خنقه. ارتفعت أصواتهم، أما محسن فكان يسعل، ومن خوفها فتحت ام محسن الباب وراحت ترجو الشيخ قدري، وهي تولول، أن لايدع ابو محسن يفعل شيئاً لابنه فهو لايدري مايفعل حين يغضب. وبما أن السيد كمال كان يرغب بنهاية سعيدة لهذا الاجتماع، فقد نهض بنفسه ليمسك بالسيد منير ويجلسه بعيداً عن ابنه. بعد ذلك استلم الشيخ قدري الحديث، يبدو أن السيد كمال قد غمزه بعينه ليفعل:

- هيا يامحسن يا بني..ألا تعلم أنك قد أهنت عمك السيد كمال..اعتذر منه أرجوك..

- لم أفعل شيئاً..  فألح الشيخ قدري:

- اعتذر لتعود المياه الى مجاريها.  صمتوا في انتظار الاعتذار الذي سيعيد الهدوء الى سحنة السيد كمال. رفع محسن عينيه اليه فوجد نفسه يعتذر:

- اعتذر..  فغمغم السيد كمال: مقبول..  تابع الشيخ قدري:

- وكيف تزوجتما انت وال..أقصد فضة؟

- كيف يعني؟

- يعني هل سجلتما عقد القران أم على بياض؟

- على بياض..شيخ الغجر وشاهدان..

تنفسوا الصعداء، وكأن مجرد تسجيل العقد كان سيعقد الأمر، فبالنسبة لمتحابين ليست هناك اية مشكلة. قال السيد كمال وهو يجمع الحزم باللين:

- ذكية لن تعود إلا بطلاق الغجرية.  راقبوا باهتمام ماسيقوله محسن. ولكنه ظل صامتاً، إنه بين نارين، يريد عودة ذكية التي فعلت المستحيل من أجله وشعر بأنه في حاجة إليها..ويريد أيضاً فضة لأنه يحبها أكثر مما يتصورون..ثم هناك الجنين الذي في بطنها. قال السيد منير يجيب عنه:

- سيطلقها ياسيد كمال.  فقال السيد كمال شاكراً له تدخله:

- أريد أن أسمع ذلك منه.

ظل محسن صامتاً..ياربي ماذا أفعل..ماذا أقول؟ أما الثلاثة فقد كان منظرهم مضحكاً وهم ينتظرون أن يفتح فمه ويقول نعم..كان مصفراً، ضعيفاً، السل جعل منه نصف رجل..هل يمكن أن يقول لن أطلقها؟ من يستطيع؟ ولكن لماذا لايطلقها؟ لقد كرهوه الغجر لأنه سلب منهم سبيل رزقهم، وهو لن يقبل أبداً أن تغني لسائقي الشاحنات..وذكية..؟ شعر معها أثناء مرضه أنها تعبده، تهتم به، تدللـه. إنه لن يستطيع مواجهة الغجر بعد اليوم، أما ذكية فستعينه على الحياة، هي ستكمل له شخصيته التي فقد الكثير منها، ثم السيد كمال الذي ينتظره الآن على أحر من الجمر ليطلق فضة، عندها سيفتح له كل الآفاق، فهو ضعيف ويحتاج الى كل ذلك.

- نعم..  فصرخ السيد كمال فاهتز لصرخته الباب الذي وقفت خلفه ام محسن تتنصت وقد اصفر لون وجهها:

- نعم ماذا..؟

- سأطلق فضة.

عندها انفرجت الأسارير، وانطلقت الزفرات..وراح الثلاثة يهنئون بعضهم البعض وهم يبتسمون. نهض محسن واعتذر، قال إنه قد تعب ويريد أن يستريح، ثم غادر الغرفة ليصطدم بأمه وأخته زينة الملتصقتين بالباب. أرادت أمه أن تقبله إلا أنه أبعدها برفق وتابع الى غرفته. حينها تذكرت أن عليها أن تضع القهوة على النار، فهرعت الى المطبخ.

اتفق الثلاثة على الاجتماع في اليوم التالي وفي نفس المكان ليطلق محسن زوجته فضة أمام الشيخ قدري ومن ثم ليوكِّل أباه ليذهب وينهي الموضوع مع فضة وأمها. وهذا ماحصل، ولكن دون أية منغصات، فلم يتأخر محسن ولالحظة واحدة (رغم أنه قضى الليلة الماضية كلها وهو يبكي حبه الراحل) عن ترداد ماكان الشيخ قدري يطلب منه، حتى نهاية الأمر حين أعلن الشيخ بأن محسن ابن منير قد طلق فضة الغجرية نهائياً ولم يبق سوى سفر الأب الى مخيم الغجر موكلاً عن ابنه ليرمي يمين الطلاق على الزوجة البائسة ويدفع لها معجل صداقها. وفعلاً سافر في صبيحة اليوم التالي الى الرقة ثم الى مخيم الغجر وأنهى الموضوع الذي أتعبهم وجعلهم يعيشون قلقين مدة طويلة من الزمن. وقد فرح الغجر بذلك حتى أنهم رقصوا على أنغام الموسيقى وكأنهم كانوا يقيمون حفل زفاف وليس حفل طلاق مغنيتهم المفضلة لدى سائقي الشاحنات فأصبحت مصدر رزقهم الوحيد، وبينما كانت فضة تبكي بحرارة في خيمتها كانت امها تعيد تلمس النقود المركونة بين ثدييها التي حصلت عليها من السيد منير لقاء موافقتها على الطلاق، وقد طلبت مبلغاً إضافياً زيادة على المؤخر بسبب حمل فضة الظاهر والذي تفاجأ به السيد منير (لم يجرؤ أحد على مفاتحته بالموضوع رغم معرفة زينة بذلك) فدفع ماطلبت دون أن ينبس.

وفي المساء كان موعدهم في بيت السيد كمال بعد صلاة العشاء، وهناك كان الجميع سعداء فيما عدا محسن الذي كان مطرقاً دون أن ينبس بحرف، وعندما طلب الشيخ قدري من السيد كمال أن يسمح لمحسن ليدخل الى ذكية للسلام عليها، وافق على الفور، فنهض محسن ودخل الى زوجته التي كانت تنتظره بفارغ الصبر. رحبت به الست مطيعة ثم تركتهما بمفردهما لتنشغل في المطبخ، ورغم أنها أسرعت في الخروج من الغرفة، إلا أن محسن وذكية ظلا واقفين لايعرفان مايفعلانه، حتى خطر لذكية أن تدعوه للجلوس ففعل أيضاً، فجلست الى جانبه لاترفع عينيها عنه، ومتأهبة لفعل أي شيء يطلبه منها. قالت له:

- الحمد لله على سلامتك يامحسن.  هز رأسه وغمغم يتشكرها ثم عاد الى صمته، وبينما كانا كذلك أحس بانتفاضتها المعهودة تهز الكنبة التي كانا جالسين عليها، رفع رأسه ليراها تبكي وهي تنظر إليه. كانت تبكي حبيبها محسن الذي آذته الحياة..آه كم كانت تريده أقوى، فهي تريده رجلها، جميلها الذي عشقته في الليالي القليلة التي كانت تراقبه فيها وهو نائم. لقد بدله المرض..جعله ضعيفاً ببشرة صفراء. قال لها بصوته الضعيف:

- جئنا لتعودي معنا الى البيت..  مسحت فوراً دموعها بيديها (كم مسحت هاتان اليدان من دموع!!) وحاولت أن تبتسم، فقد كان لذيذاً وهو يكلمها. تابع:

- هل تريدين الذهاب؟

انتفضت من فورها، حسبت أنها يجب أن تنطلق معه في الحال، راحت تطلق كلماتها وهي تشرق:

- حالاً..فوراً، أنا جاهزة، ولكن ألن تشربوا القهوة أولاً..؟

كانت المسكينة قبيحة، عيناها باكيتين وفرحها عارماً، فوجدها على شيء من الجمال..

                                          * * *

في اليوم التالي زار الشيخ قدري الحاج عبد القادر في دكانه. سلم وجلس على كرسي خارج الدكان. رحب به وأوصى له على كازوزة فيجب الاحتفال دائماً بالشيخ قدري. ارتجف صوته وهو يطلب له الكازوزة. مامعنى أن يزوره بعد أن خرج السيد كمال من السجن؟ لم يطل قلقه، فقد بسمل الشيخ قدري وسأله عن أحوال الشغل والبيت، ثم دخل في الموضوع مباشرة. قال:

- في الأمس كنا واسطة خير، فقد عادت ذكية الى بيت زوجها الذي شفاه الله..

- مبروك سيدي، الحقيقة خبر مفرح.  فقال الشيخ:

- نعم، واليوم أيضاً أجيئك في واسطة خير..

أطفأ الحاج عبد القادر سيكارته قبل أن تنتهي ثم ندم على ذلك فأشعل واحدة أخرى. كانت يده ترتجف:

- واسطة خير..؟

- نعم، الظروف لم تسنح لنا بأن نفرح بالسيد كمال وكريمتكم..الله سبحانه وتعالى لايعيدها على أحد. فمارأيك؟ هذه المرة علينا أن نسرع..اقترح أن نزوركم مساء الخميس القادم بعد صلاة العشاء.

كان الحاج مرتبكاً..لقد وعد أن لا يتدخل في هذا الموضوع، ولكن من سيصدقه؟ فضل أن لايقول شيئاً، بل أن يجد ذريعة أخرى ليكسب وقتاً، فهو يريد أن يسأل ابنته على كل حال..ثم هناك أحمد ابنه، ماذا سيحصل في البيت؟ هل سيختلفان مرة أخرى بسبب هذا الموضوع؟ إنه يحتاج لوقت إضافي من أجل التفكير وطرح الأمر مع ام سعاد بهدوء..حسناً، سوف يكذب كذبة بيضاء وسيطلب السماح من رب العالمين:

- ياشيخي، لقد فاجأتني والله..كنت أحسب بأن السيد كمال غير رأيه، وبصراحة نحن في البيت قد اعتقدنا ذلك. (جميلة هذه المقدمة من الحاج عبد القادر، الذي اعتاد ألا يكذب) أنزل الشيخ زجاجة الكازوزة عن فمه، فقد كاد يختنق. سعل قليلاً ثم قال:

- غير رأيه..أنتم في البيت؟ ماذا تقول ياحاج، والله كلما كنت أزوره في السجن كان يسأل عن أحوالكم وخاصة عن أحوال؟..(يقصد سعاد، ولكن مجرد ذكر اسمها يعتبر من قلة الحشمة). قال الحاج:

- هذا الذي صار ياشيخ قدري، ولكن دعنا نفكر في الموضوع مرة أخرى وإن شاء الله سيحصل خير.

- القضية لاتحتاج الى كل هذا التفكير ياحاج..أعقل وتوكل، نهض الشيخ قدري وقد أنهى كازوزته، وضعها على المسند الخشبي وتابع، على كل من حقكم أن تفكروا، تشاور مع أهل بيتك ورد لي الخبر، سلام عليكم.

قال وعليكم السلام ثم جلس يتعرق من الجهد الكبير الذي بذله. لقد عاد الهم وعاد بكاء سعاد والجدل مع أحمد..وهذا السيد كمال، من يستطيع أن يرفض له طلب؟ فحتى أنه خرج من الإفلاس الأكيد بسهولة ويسر ، وحتى أكثر قوة. ولكن ماذا عنه هو، هل هو موافق؟ سؤال صعب جداً، خاصة وأن سعاد تصعب عليه كثيراً وهي تكره السيد كمال. أكمل تدخين سيكارته ثم أشعل أخرى..سوف يموت من هذا التدخين يوماً، قال ذلك لنفسه ثم أطفأها. أما الشيخ قدري فقد ارتأى أن يخبر السيد كمال فوراً بمخاوفه، فذهب إليه وحكى له ماجرى وكيف أن الحاج عبد القادر، والله أعلم، قد تغير عن ذي قبل، فنهض السيد كمال عن كرسيه وهو يدق الطاولة بقبضتيه قائلاً:

- ابو عادل اللعين..لقد فعلها أثناء غيابي.

وبعد ذلك، وفي وقت متأخر من النهار، وبينما كان الشيخ علي يزور السيد كمال، وبعد أن انتهيا من المزاح والضحك والحكي عن الولائم، عبس السيد كمال وقال للشيخ علي يطلب منه أن ينقل لصديقه ابو عادل رسالة منه. قال الشيخ علي:

- أية رسالة ياسيد كمال؟  فقال ببطء ولكن بحزم:

- قل لصديقك ابو عادل أن لايقف في وجهي، لقد خرجت الآن من السجن، إنه يمد يده الى المكان الذي ليس له فيه شغل، وقل له بأن ماكل من لبس برنيطة صار على الموضة.

وبعد ساعة كانت الرسالة قد وصلت الى ابو عادل، مع شرح لها، فلم يكن بمستوى ذكاء الشيخ علي. فقد حسب المقولة من إحدى مزحاته كي يضحكه هو وجاره عبد السلام فضحكا حتى كادا أن ينقلبا. قال له الشيخ وهو ينوس كعادته:

- مسكين أنت ياابو عادل..انت وعبد السلام. هذ الرسالة مرسلة من السيد كمال، وهو غير معتاد على المزاح. هذا يعني أن تغسل يدك من ابنة الحاج عبد القادر. أن تنسحب برائحة طيبة.

حل الوجوم في الدكان. صمت عبد السلام بينما نهض ابو عادل يدور في وسط الدكان وهو يحاول قضم شاربيه. لقد وصلت الوقاحة بالسيد كمال الى حد أن يهدده..كان مصفراً. سأل الشيخ عما حل به، فاقترب ابو عادل منه وقال بتصميم أعظم من تصميم السيد كمال:

- لن أغسل يدي ياشيخي..اذهب وقل له ذلك، وقل له أيضاً أن يبلط البحر.

أما بعد أن ذهب الشيخ علي، فلم يستطع الاستقرار في مكانه. طلب من جاره الانتباه الى الدكان ثم ذهب الى محل نعيم ومقيم، ولكنه وجد مقيم بمفرده. قال له إن الاستاذ مراد لم يعد بعد من بيروت. حكى له عن رسالة السيد كمال ثم وجد أن يسأله المشورة. قال له مقيم الذي كان همه الوحيد إغاظة السيد كمال:

- انظر ياابو عادل، يبدو أنك استطعت استمالة قلب سعاد إليك مما أغاظ السيد كمال.

- وأنا أعتقد هذا..يبدو أن الأمور جرت لصالحي في بيت الحاج عبد القادر.  فقال مقيم يشجعه على الاستمرار:

- استمر ياابو عادل ولاتخف منه. نحن معك.  فقال ابو عادل وقد ازداد شجاعة:

- سأتابع ولن أخاف منه..ثم إنني قد طلبتها قبله..ولكن أين انت يااستاذ مراد، أريده أن يعرف لي من أحمد، ماذا يجري في البيت بالضبط ؟

                                          * * *

عندما عاد الحاج عبد القادر الى البيت مساء، لم يكن ينوي التحدث في الموضوع. ولم يكن يعلم شيئاً عن الحديث الذي جرى بين أحمد ومراد حول سعاد وابو عادل، ولم يكن قد علم بعد بموافقة أحمد على ذلك..ولكن امرأته التي كانت تعلم مابه من نظرة واحدة الى سحنته، سألته، وقد تجمعوا حول مائدة العشاء، عن الشيء الذي يؤرقه فيجعله بطيء الحركة وشارد الذهن وكثير التنهدات، فوجد نفسه يسرد عليهم ماجرى عندما حضر اليه الشيخ قدري. ارتعدت سعاد في داخلها، ولكن برعدة خفيفة وليست كذي قبل،حتى أنها ابتسمت بنعومة وهي تراقب أخاها أحمد،فقد كان يمتعها أن ترى ماسيقوله بعد أن جاء ليخبرها بمااتفقا عليه هو و(صديقه) الذي أقنعها بتصرفاته بأنه يحبها وجعلها تعيش قصة حب، ثم قدمها هدية الى صديقه ابو عادل.

كانت سعاد تستمع الى أبيها وأخيها وهما يتناقشان حول بمن يجب أن تقترن سعاد..فعندما سمع الحاج عبد القادر ابنه أحمد يتكلم في صالح ابو عادل، أخذته المفاجأة العظيمة ولم ير نفسه إلا وهو يدافع عن السيد كمال، فلو كان ظل أحمد صامتاً لما انبس الأب بكلمة لصالح أحد، ولكن هل يمكن ترك السيد كمال، هذا الرجل العظيم ذي الوجاهة وقبول ابو عادل النسونجي؟ غريب والله أحمد هذا!!

لم يكن أحمد يملك ذريعة في صالح ابو عادل سوى أنه أكثر شباباً وظرفاً..ولكن هذه الأمور تسقط أمام حقيقة أن ابو عادل لا يصغر السيد كمال كثيراً، وأنه وإن عاد إليه الشباب من جديد فهذا قد يكون مؤقتاً، ثم أن ابو عادل رجل يهوى مغازلة النساء وهذا كما يعلم الجميع، طبع سيء.

نهضت سعاد وهي تتثاءب. كانت تميت كل دفقة حب في نفسها لاترضى عنها، وكل ذكرى تعبر في خاطرها قد تسبب لها ألماً. لقد أصبحت موهوبة في تسيير عواطفها الى الوجهة التي تجعلها متوازنة وطبيعية..قالت وسط استغراب أبيها وأخيها:

- اتفقا على الشخص الذي علي الزواج منه ثم قولا لي..أنا ذاهبة الى النوم.  تركتهما ودخلت غرفتها. ظل أحمد يتابعها حتى إلى ما بعد اختفائها خلف باب غرفتها..كيف ذلك؟ ظل صامتاً، أما الأب فقد بدأ بتدخين سيكارة بعد العشاء الأولى. كان يريد أيضاً إخفاء انزعاجه..فلم يعجبه قول ابنته، شعر وكأن الأمر يشبه قيادة نعجة الى جزارها..استغفر ربه بصوت مسموع ثم صمت. لقد أنهت سعاد كل الجدل بكلمة جعلتهما يذوبان خجلاً. نظر أحمد مرة جديدة الى الباب المغلق، راهن بحياته بأن سعاد تقبع الآن خلفه وهي تبكي، فلم يجد نفسه إلا وهو ينهض. فتح الباب بسرعة بعد نقرة خفيفة. أراد أن يفاجئها، وفعلاً..لقد كسب الرهان، فقد رفعت سعاد رأسها وواجهته بعينين حمراوين. كانت متهالكة على سريرها تبكي كما لم تبك من قبل أبداً.

أغلق الباب واقترب منها بحذر..كان ابنها ناصر نائماً. جلس الى جانبها على السرير، أما هي فقد كانت تبعد عنه وجهها وتمسح دموعها. بعد قليل سيقول لها إنه فقد الحماسة لأبي عادل. قال يتعاطف معها بنبرة صوته:

- أنت ضائعة بيني وبين أبي أليس كذلك، ضائعة بين ابو عادل والسيد كمال، وفي الحقيقة إنك لاتحبين الإثنين، لاتريدين ولاواحداً منهما.  قالت دون أن تستدير..فقد كانت بائسة ومهزومة الى درجة أنه يمكن أن يعرف سبب يأسها حال رؤيته لعينيها:

- سوف اتزوج الذي تشيران لي عليه.

- ولكنك تسايريننا..أليس كذلك؟

- إذا أردت الحقيقة..؟ نعم.  لمس يدها، أراد أن يشجعها:

- ولكنني غيرت رأيي. استدارت رغم تصميمها ألا تفعل. سألته:

- لأنني أبكي؟

- عندي شعور بأنك يئستِ عندما نصحتك بأبي عادل. كنتِ تجاهدين أكثر أما الآن فقد دب فيك اليأس. لهذا السبب لم أعد أحبذ أحداً، خاصة ابو عادل..لم يعد يهمني، عودي الآن الى طبيعتك وسأحميك مثلما فعلت دائماً.  نظرت إليه بامتنان. كم هو رائع، ولكنه ليس السبب. آه لو تستطيع أن تقول له أو أن يفهم بمفرده دون مساعدتها. سألته مخاطرة بمكانتها لديه:

- وإذا تراجعت عن موقفك، كيف ستبرر ذلك أمام صديقك؟

- صديقي، من صديقي؟  لم يعد يهمها شيء لذلك استمرت بشجاعة رغم اختناق الكلمات في حلقها:

- الاستاذ مراد.. ثم استدارت تتركه في حيرته. تمنت لو يفهم عليها، لو يريحها ويعرف ماجرى لها وماخلفه صديقه في نفسها من آلام. قال:

- صديقي نعم، ولكن هذه حياتك انت، من هو ابو عادل كي أوافق عليه ضد رغباتك؟

تمعنت فيه سعاد. كم هو رائع وكم يثق بها، تخلت عن محاولتها للتلميح له بمراد. شكرته، أفهمته بانه أخ عظيم. قال لها إنه أخوها الصغير..عندها أخبرته مغالبة إجهاشها بالبكاء الذي يلح عليها، بأنها فعلاً تريد إنهاء هذا الموضوع الذي بدأ بعد وفاة زوجها سعيد بأن تتزوج. ولكن ممن؟ قالت:

- ابو عادل أم السيد كمال..سيان، كنت أفكر بأنه قد تخلق امكانية في أن يأتيني شخص ثالث مختلف. شاب مثقف، يحبني وأحبه كما أحببت سعيد. كان لدي هذا الأمل ولذلك كنت أناضل..(ضحكت بألم) مثل نضالك، ولكن مثل أمل إبليس بالجنة..كلام وأوهام.

ماذا يريد منها أكثر من هذا التصريح..ولكن يبدو أنه قد تأثر جداً..فقد دمعت عيناه واحمر وجهه. لمست يده هي هذه المرة..أرادت أن تطمئنه الى أنها ليست نهاية العالم إذا ما انهزمت أحلامها. قال لها:

- ياأختي، ابتداء من اليوم سنعود كما كنا، لن تتزوجي من الشخص الذي لاتريدينه. سوف ننسى ابو عادل والسيد كمال، عيشي كما تحبين وربي ابنك وستجدينني دائماً جاهزاً لحمايتك.

قبلها على رأسها ونهض ليغادر..كان يريد الخروج لزيارة رياض وحسان ولعب الورق، فقد تلقى شحنة انفعالات لن تتركه ينام حتى الصباح. سألته قبل أن يخرج:

- خارج لزيارة صديقك الذي تذهب معه الى السينما؟

- مراد..؟ كلا..الى رياض وحسان.

- ولكن ماذا حدث بمراد؟

استدار ونظر  في عينيها..مكث هكذا لحظة، هل فهم؟ (لن يفهم حتى تقول له صراحة، فهو يثق بها جداً):

- مراد مسافر الى بيروت من أجل العمل.  ثم ودعها وخرج.

ظلت على وضعها مدة طويلة. كانت تفكر، سوف تفعل ماقاله لها أحمد..سوف تعيش من أجل ابنها فحسب، وهاهو أحمد قد عاد ليدعمها من جديد، فمما تخاف؟ أما مراد هذا فعليها أن تنساه..لافائدة، لاحظ لها في الحب مرة أخرى بعد الآن..ولكن لماذا فعل بها مراد مافعل، هل يعلم من هي؟

                                          * * *

في ذلك الوقت الذي كانت فيه سعاد جالسة في سريرها، تقنع نفسها بأن الحياة يمكن أن تعاش دون حب، ودون أمل، وبأنها (أي الحياة) يمكن أن تكون محتملة، فقط بوقوف أخيها الى جانبها، كان مراد يراقب عملية تفريغ صناديق الآلات من الشاحنات بواسطة الرافعات، بعد أن رافقها خطوة خطوة من بيروت حتى حلب. فمراد من الناس الذين لايثقون بمبادرات الغير..ويحب أن يتأكد من كل شاردة وواردة خوفاً من الأخطاء القاتلة، فمصنع الجاكار كلفه أجمل سنين حياته الماضية، وهو لن يترك خطأً بسيطاً يرتكبه أيٍ كان ليدمر له ما بناه.

كان يتحرق شوقاً للخان ولفتاة النافذة. ينظر في ساعته بلهفة، فهو يتمنى أن تشرق الشمس حالاً ليذهب من فوره الى خان الحرير، دون أن يمر على البيت أو يرتاح، من أجل أن يراها..ولكن الفجر بعيد، وها هي الشاحنات تقف بالدور من أجل التفريغ، وهو يطلب من العاملين عدم التسرع في العمل خوفاً من ارتكاب الأخطاء. وعندما انتهى العمل قبيل الفجر، وبعد أن أوصل نعيم ومقيم الى البيت، لم يقد سيارته الى منزله، بل ساقها إلى الجامع الأموي ثم أوقفها وترجل. ومن هناك سار مشياً على الأقدام حتى أصبح في الشارع الخلفي لخان الحرير. أي شيطان دفعه الى البحث في هذه الساعة المتأخرة من الليل عن احدى البنايات التي يطل طرفها الخلفي على باحة الخان..؟ إنه شيطان الحب والشوق الى أجمل انسانة رأتها عيناه. لقد كان قرر أن يتعرف على مكان سكن فتاة النافذة ليتمكن من وصف العنوان الى أمه الست نادرة لتأتي وتراها وتعرف من هي وماهو اسمها واسم عائلتها؟ بحث طويلاً..سار في الشارع مراراً دون نتيجة، ففي الظلمة تصبح المباني متشابهةً والشوارع غريبةً والدنيا كلها ذات شكل آخر فعاد خائباً يطارده صوت رضيع بكى من أجل أن يُرضع.

وفي البيت نصحته أمه بسؤال نعيم ومقيم عن الفتاة، ولماذا الخجل من ذلك؟ فكل انسان معرض لأن يقع في حب انسانة لم تظهر له إلا من نافذتها، فوجد كلامها مقنعاً وخاصة في غياب حل آخر فتهالك على فراشه ليغفو من فوره وقد صمم على كشف سره لقريبيه. ولكنه حلم حلماً غريباً..رآها في منامه وهي تطير من نافذتها، تعلو في السماء ثم تغيب عن عينيه. انتظرها طويلاً لتنزل، صار يناديها فاستيقظ على صوت أمه وهي توقظه. أخبرته بأنها خافت عليه لأنه كان يصرخ في نومه. حلق ذقنه ثم أفطر. لبس ثيابه ثم أسرع الى خان الحرير. كان قلبه يدق كأي عاشق تواعد مع حبيبته أول مرة.

حاول أن يقرأ جريدته خارج محل نعيم ومقيم كعادته بحيث يتمكن من النظر الى الأعلى، نحو النافذة ليراها وتراه. ولكن مضى وقت طويل دون أن تنفتح النافذة. كان ينهض، يدخل الى المحل حيث يجلس مقيم وهو يراجع الحسابات، يخرج من جديد وأول شيء كان يفعله هو التأكد فيما إذا كانت النافذة انفتحت أثناء غيابه في الداخل، الذي لم يدم سوى ثوان أم لا.

أما هي فقد كانت تتابع قلقه من خلف نافذتها. كانت حائرة من تصرفاته التي لاتفسير لها. لماذا يصر على تعذيبها، يصر على اقناعها بأنه يحبها؟ هاهو قد عاد من بيروت، لولا أحمد لما عرفت سر غيابه الطويل في نفس الحظة التي انهار فيها أملها وحبها. كانت تعبة وهي تنظر إليه كيف يروح ويأتي، كيف لايستطيع المكوث في مكان واحد، تعبة من تدريب نفسها على العيش في ظروف متغيرة. لماذا يحاول اليوم نسف ماأقنعت به نفسها قبل ساعات؟ ولكن ماذا لو أنه لايعرف من تكون؟ هل يعرف أنها سعاد؟ ارتجفت عندما فكرت بأنه لايعرف. دق قلبها بعنف. لم تعد هي أيضاً تمكث في مكان واحد. صارت تبتعد عن النافذة وتعود إليها. فوراً لمعت في ذهنها فكرة. أخرجت قلماً وورقة وكتبت: (أنا سعاد أخت أحمد التي نصحت بتزويجها لأبي عادل). فكرت، ماذا لو أنه كان يعرف، قد يضحك عليها..مزقتها وشعرت بالغثيان من كل القصة. وعندما شاهدته كيف يقتنص الفرص لينظر الى نافذتها أعادت كتابتها من جديد. لن تخسر شيئاً، على الأقل ستفهم كل شيء. اقتربت من النافذة لتفتحها، فوجدته يتحدث إلى ابو عادل.

كان الرجل منفعلاً..ضائعاً بدون مراد أما الآن فقد وجده، عادت إليه ثقته بنفسه. قال ابو عادل:

- الحمد لله على السلامة..أين هو نعيم؟

- نعيم لم ينزل اليوم، إنه متعب من السفر الطويل والبطيء. أخبرني مقيم بأنك بحثت عني؟

- نعم، مرات عديدة. السيد كمال يهددني. طلب مني أن أرفع يدي بريحة طيبة. ولكنني لن أتراجع، ماذا تقول أنت؟  شعر مراد بالتعاطف معه. ظريف هذا الانسان. قال له:

- وماذا سيفعل لك؟ رأيي أن تستمر ولن يستطيع أن يمس شعرة منك.

- لماذا لاتسأل أحمد عن آخر التطورات، يبدو أنهم يميلون إلي وإلا لما هددني السيد كمال، فإن كان كذلك فلنسرع بالإجراءات.

وعده خيراً. ابتسم ابو عادل ثم رحل. استدار مراد لينظر إلى الأعلى، فهذه عادته. عندما يتحدث مع أحد يدير ظهره الى النافذة كي لايخطئ فينظر. حينها انفرجت النافذة. شعر بارتباك وبحرارة تهب عليه. قرر أن يجلس على كرسيه امام المحل ويمسك بالجريدة، بهذا الشكل يستطيع أن يطيل النظر.

ابتسم لها ولكنها ظلت جامدة. لم تتجاوب مع تلميحاته إليها باشتياقه الشديد. سألها بإشارة عما بها، ولكنها لم تجبه أيضاً. لاحظ كم هي شقية، متعبة، ومحطمة. وبهدوء مدت يدها تلوح له بيدها التي تمسك بقطعة من الورق. وعندما تأكدت بأنه شاهد الورقة قذفتها الى باحة الخان ثم أغلقت النافذة وغابت.

كان كل من في الخان مهتماً بشأنه الخاص. نهض ممسكاً بالجريدة واقترب من مكان سقوط الورقة، أسقط الجريدة بشكل عفوي ثم التقطها والتقط معها الورقة وعاد بهدوء الى كرسيه. جلس وهو ينظر ليطمئن الى عيون المتطفلين. كان كل شيء عادياً ففتح الورقة وقرأ.

شاهدته من خلف نافذتها كيف نهض غير مصدق. قذف بجريدته بشكل عنيف. كان ضائعاً، يتعرق، يتمتم بشيء ما، أحمر الوجه ويكاد يجن. لم تره على هذه الشاكلة منذ أن عرفته من نافذتها. لقد تأكدت من أنه لم يكن يعرف من هي..ياللشقاء. في تلك اللحظة دخل نعيم باحة الخان واقترب منه. ماذا حصل؟ أعطاه الورقة ليقرأها، وكانت مفاجأة له أيضاً..هي؟ سحبه نعيم الى داخل المحل. كان يقول له بأنه يكاد يجن.وقبل أن يغيب نظر الى الأعلى. شاهدت نظرته المجنونة. ابتعدت عن نافذتها وجلست على سريرها تقرض اصبعها. يكفيها شقاء، ابتسمت، ولماذا لاتبتسم؟ ألم تتأكد من أنه يحبها وهو صادق في ذلك؟

أما حظها السيء فهذا موضوع آخر..

                                          * * *

اجتمعوا في بيت صبيحة وكتبوا الكتاب، أما خطبة المناسبة فقد ألقاها الشيخ قدري. كان السيد كمال الشاهد الأول والسيد منير الشاهد الثاني. كان الحاج محمد سخياً هذه المرة فكتب لها مهراً لابأس به (ثلاثة آلاف ليرة) أما محمود فقد قبل أباه وقال له مبروك ياأبي.

بكت صبيحة من فرط تأثرها. كان هذا اليوم حلماً راودها طويلاً حتى ظنت أنه لن يتحقق. فقدت الأمل في أن تكون زوجة لرجل، وهي حسبت، حين اجتمع بها في بيت ابنة عمتها حميدة، بأن الحاج محمد لن يطلب رؤيتها من جديد مثله مثل الخاطبات الكثر اللواتي شاهدنها وتفحصنها ورحلن دون عودة. وعندما سمعت موافقة أبيها وموافقته على أسئلة المأذون القادم من المحكمة الشرعية، سدت فمها بيدها كي لاتشهق بصوت مسموع ثم انزوت تبكي حتى حسبت أمها بأنها غير سعيدة بنصيبها على رجل اقترب من الستين من عمره. أما عندما انفض المدعوون وبقي الحاج محمد بمفرده، فقد سمح لهما ابوها باللقاء بعد أن أصبحا زوجاً وزوجة شرعاً (لم يكن يعلم بلقائهما في بيت حميدة) ثم كان أكثر أريحية فاعتذر بسبب انشغاله في ورشة الموبيليا وخرج وهو يتنفس الصعداء، لقد تخلص من همها الذي كان يؤرقه، هم ابنته الذي اعتقد بأنها ستظل عانس مدى الحياة.

جلست صبيحة الى جانب زوجها الحاج محمد في غرفة الضيوف دون أن يخطر في بالها أنها تستطيع أن تخرج أمامه ابتداء من الآن دون حجاب. كانت تموت خجلاً..وعندما طلب منها أن ترفع حجابها ليمتع نظره برؤية شعرها وتسريحته أذعنت ولكن بخجل شديد..جلس يتمعن فيها وهو يحلم بليلة الغد التي سيأخذها فيها إلى بيته، بعد حفلة صغيرة قرر السيد كمال إقامتها على شرفه حيث سيغني فيها مطربهم المحبوب بكري كردي. كان لعابه يسيل لضم هذا الجسد الذي انتظر ساعدي رجل مدة طويلة، وليقبل هذا الفم الذي تنهد كثيراً وتأوه أكثر.

في تلك الليلة، لم تغفُ صبيحة بل ظلت صاحية حتى الفجر وهي تتقلب في الفراش. كانت تعيش في تصوراتها لليلة الغد التي طالما انتظرتها والدموع تنفر من عينيها.(لقد أصبحت على درجة هائلة من المقدرة على التصور بعد تدريب طويل دام سنوات طوال، وهذا طبعاً موهبة عظيمة، ولو كانت تعرف القراءة والكتابة لتحولت الى كاتبة روايات من الدرجة الممتازة، حتى أنها كان بإمكانها استحضار أي مشهد وأي رجل والعبث معه ومنحه الكثير من الحنان).

وفي اليوم التالي رقصوا على أنغام فرقة بكري كردي، وأبدع عازف القانون شكري الانطاكلي فأخرج الآهات من الحناجر، كما رقص محمود بجسده الشبيه بجسد الدب فرحاً بزفاف ابيه. وقبل منتصف الليل انفض الحفل، فالعريس ليس شاباً وقوته على احتمال السهر ليست قوية. وهمس بعض الأشقياء بأن أمامه عملاً مرهقاً عليه أن يوفر له قوته، كما همس الشيخ قدري للسيد كمال متمنياً أن يروه عريساً هو أيضاً في القريب العاجل، فشكره وشد على يده وهو يطلق تنهيدة حرّة.

لم يذهب الجميع مع العريس الحاج لإحضار العروس، بل ذهب معه الرجال من الخاصة فقط. وقد التزموا الصمت حين اقتربوا من بيتها بناء على تعليمات العريس، فهو ليس شاباً ولامعنى لضوضاء الشباب ولكن محمود زغرد مثل النساء حين سمع الزغاريد تنطلق من بيت العروس، ثم خرجت صبيحة برفقة حميدة وهي تلبس الأبيض فتلقفها الحاج محمد ودفعها فوراً الى إحدى السيارات ثم أغلق بابها بعد أن جلس الى جانبها وأمر السائق أن ينطلق بهم الى بيته دون أن ينتظر الآخرين.

صعد معهما محمود وزوجته حتى باب الشقة ثم تركاهما ونزلا، وعندما أحكم الحاج محمد إقفال الباب بالمفتاح استدار الى عروسه فوجدها مطرقة تنتظره بخفر شديد. اقترب منها ورفع الطرحة البيضاء عن وجهها وهو يرتجف. كانت جميلة، شهية بخجلها، لاترفع عينيها مهما حصل لها. أمسك بيدها وقادها بلهفة الى الأريكة التي جهزت أمامها مائدة بالمكسرات والفاكهة والأطعمة الخفيفة (تسمى في حلب آلة الخزانة). جلس الى جانبها وهو لايكاد يرفع عينيه عنها. لقد قرر أن يتبع معها اسلوب الصبر ويطعمها قبل أن يدعوها الى السرير. قدم لها لوزة مالحة فأخذتها، ولكي تشكره رفعت عينيها إليه. رأته كيف ينظر إليها كأنه يأكلها أكلاً..ففرحت بذلك. كانت تود أن تشكره على كل شيء، فنهضت وقد امتلأت عيناها برغبة مفاجئة، أمسكت بيده وقادته كحمار كهل الى غرفة النوم.

لن يصدق أحد ماجرى تلك الليلة، لذلك فلن نطيل في الشرح، ولكننا نستطيع التلميح الى أنه اكتشف في زوجته الجديدة موهبة عظيمة في فن إرضاء الزوج، مقدرة كانت تخفيها تحت رداء الخجل والحياء، ولكن لاحياء في الدين، فمادامت زوجته وحلاله فقد انساق معها في التعويض عن حرمانه وحرمانها اللذين طال أمدهما. قال لها في الصباح وهو فاقد القوى بين يديها، بأنها درة خالصة، ثروة عظيمة، أم الفنون وأخيراً..مربى الورد.

لم ينزل في الصباح الى محله، فقد كان عريساً وعليه أن يبقى قرب زوجته الصبية. وحتى لو أراد لما استطاع، فقد كان وجهه وعنقه وبعض الأماكن الأخرى، المكشوفة، من جسده تحمل آثاراً زرقاء، تنبئ بليلة غرام عنيفة وفريدة من نوعها قد تثير البسمات لدى الحاسدين من الأصدقاء فيما لو شاهدوها. ولن نستبق الأحداث إذا قلنا بأنه لم يغادر بيته إلا لماماً والى السوق فحسب للتبضع ولمجرد الخروج من البيت فحسب.

كان محمود يمر عليه يومياً ليقدم له تقريراً عن العمل في الدكان وعن أحوال الخان. وكان ينقل له التعليقات الساخرة التي كان يطلقها الأصدقاء حول زواج أبيه الذي جعله لايغادر البيت، وفي أحد الأيام جاء ليخبره كيف جاءت أمه الى الخان برفقة أخويه تحمل ورقة طلاقها بيدها وتبكي وتولول. كانت المسكينة قد عانت كثيراً من بخل الحاج محمد، وكان يقتصد كثيراً حين يتطلب الأمر دفع الأموال من أجل معيشتها ومعيشة ولديها. وقفت في باحة الخان وراحت تصرخ، تقطع ثيابها وتولول. عندها خرج جميع أصحاب المحال من دكاكينهم على أصواتها وأصوات أولادها الذين كانوا يتعاركون. ماذا فعلت كي تظلم هكذا..؟ لقد أرسل لها مؤخر صداقها، (خمسمئة ليرة لاتساوي شيئاً في تلك الأيام) وتركها تربي ولدين من أولاده. حاول الشيخ قدري الذي كان حاضراً تهدئتها. اذهبي ياأختي ام محمود..حسبي الله ونعم الوكيل، دعينا نحل الموضوع بهدوء..من حقك أن تحصلي على نفقة، عندها هدأت ورحلت تجر ولديها وتجر بؤسها وتمسح دموعها. دعت عليه بالموت وهي تبتعد. لم يكن يضرها أنه طلقها وتزوج من أخرى، بل كان كل ماتريده هو أن ينفق على ولديها الآخرين كي لاتضطر للعمل في بيوت الناس من أجل إطعامهم وتعليمهم. ولكن محمود لم يكن منصفاً في نقل ماجرى وماكانت تطلبه أمه، وحتى لو أنصف فلن يموت أبوه حزناً عليها وعلى ولديها كما كان يقول، فقد عانى منها كثيراً وآن الأوان لأن يرتاح من سيرتها و(سبحان الدايم).

                                          * * *

في ذلك الوقت كان السيد كمال يخوض حربه على كافة الجبهات. فبعد أن استطاع إرجاع ابنته ذكية الى زوجها، طلب من محسن أن يزوره في المحل. هناك تكلم معه رجلاً لرجل. أخبره بانه دائماً كان يتطلع الى ولد من صلبه يساعده في عمله، ولكن الله لم يرزقه هذا الولد، فماالعمل بعد أن أرهقته السنون وكثرة الأعمال؟ لقد زوجه ذكية ليجعله كولده ويعتمد عليه ويسلمه المسؤولية. وبطريقة من يهمس سراً، رغم عدم وجود أحد في المحل سواهما وعبد الله المشغول دائماً في الخلف، قال له وهو يلمس يده بطريقة يتقنها ببراعة فيجعل محادثه يثق به ويصدق عواطفه:

- كل ماأريده هو الصدق والأمانة، أما من طرفي فسأجعلك خليفتي بين الناس.

كان محسن يحتاج الى أقل من ذلك بكثير لتعود الثقة الى نفسه، فمرض السل كان قد زعزعه وتركه ضعيف الشخصية، حتى أنه شعر يوماً بأنه مرفوض من الجميع..من الغجر ومن أهله على السواء..ولكن هاهو السيد كمال يعيده الى الحياة بصفقة ليس مطلوباً منه فيها سوى الطاعة وتنفيذ أوامر عمه السيد كمال. ومن الطبيعي أن يوافق محسن على ذلك ويتعهد له بالطاعة والوقوف الى جانبه في السراء والضراء، فأمر السيد كمال من فوره عبد الله بأن يجهز الطاولة التي كان يعمل عليها المرحوم الاستاذ سعيد، وتسليم دفاتر الحسابات الى محسن، ومن الآن فصاعداً، كما قال له، أنت سيد هذا المكان من بعدي. وعندما عاد محسن مساء الى البيت كانت ذكية تنتظره قرب الباب وقد تجملت له وشكلت وردة حمراء في شعرها ولكنها من خجلها من زينة ومن حماتها وضعت على رأسها منديلاً لتخفيها، وكادت تزغرد عندما أخبرها ماعرض عليه السيد كمال من مكانة لم يكن يحلم بها. وفعلاً صدق السيد كمال بوعده لصهره محسن فأصبح يقدمه الى التجار بوصفه صهره وشريكه في آن معاً، حتى أنه كان يطلب من محسن أن ينفذ مايعتقد ويؤمن به حين يتطلب الأمر أخذ المبادرة في العمل، وفي كثير من الأحيان كان يطلب من عبد الله أن يسأل محسن عن أمر ما يتعلق بإرسال بضاعة الى أحد التجار أو قبض أو دفع مبلغ من المال، ولم يجد محسن نفسه إلا وقد انخرط في العمل بكل جهده مع مراعاة وضعه الصحي، فقد كان حتى ذلك الوقت يأكل ويشرب بأدوات خاصة به خوفاً من نقل العدوى إلى الآخرين وكان صدره قد عاد سليماً إذا استثنينا سعالاً خفيفاً كان ينتابه بين حين وآخر. أما أكبر الخاسرين بشفاء محسن وبدئه العمل لدى السيد كمال فقد كان أحمد، الذي كان بحجة زيارة صديقه محسن والاطمئنان عليه، يدخل الى البيت ويتحدث بحرية الى زينة، ويتواعد معها للذهاب الى السينما. حتى أنه، وفي غفلة من الجميع، استطاع سرقة قبلة سريعة وخاطفة احمر لها وجه زينة لساعات طوال، وكانت هذه القبلة الوحيدة حتى الآن التي استطاع أحمد الحصول عليها من حبيبته رغم انشغاله الكبير بالسياسة، خاصة في هذه الأيام التي عادت فيها الحرارة الى الأحاديث السياسية وعادت من جديد الاجتماعات الحامية والمظاهرات والهتافات المنددة بآيزنهاور وبمبدئه المريب.

كان هم السيد كمال هو إعادة جبروته وهيبته اللتين تأثرتا بصعود نجم الاستاذ مراد أثناء فترة حبسه. وبما أنه من التجار الذين لايفهمون سوى لغة المنافسة الحامية والحروب التجارية فقد وجد أنه لايستطيع أن يعيد مكانته الى ماكانت عليه إلا بمحاربة مراد هذا وقريبيه نعيم ومقيم..فماداموا أقوياء في السوق فلن يستطيع ازاحة مراد عن طريقه وكسب التجار الذين غادروه وأصبحوا محسوبين عليه.

كان قد عرف من السيد منير ومن بعض التجار الآخرين شيئاً حول المصنع الذي يقوم الثلاثة ببنائه. كل ماكان يعرفه هو أنه مصنع جاكار ألماني حديث، وأن المصنع سيبدأ الانتاج قريباً بعد أن وصلت الآلات وتم تركيبها..هنا يجب أن يضرب ضربته الأليمة..أن يقيم مصنعاً مشابهاً ولكن أكبر وأكثر قوة لمنافستهم، ومن أجل هذا السبب بحث عن عنوان ذلك المحامي، الاستاذ عدلي، الذي شاهده أحد الأيام يزور محل نعيم ومقيم في خان الحرير لترتيب أمور شركتهم ومصنعهم..والعالم صغير جداً والبحث عن عنوان مكتب أحد المحامين، في هذه المدينة، ليس على كل حال كالبحث عن ابرة في كومة من القش..وفعلاً توصل الى العنوان بسهولة وذهب لزيارته. وكمعظم المحامين استقبله الاستاذ عدلي بلطف شديد، فقد عرفه فور دخوله، حتى أنه رحب به بإسمه، وفوراً شرح السيد كمال سبب زيارته له:

- انظر ياأستاذ، أنا محتاج لمحام قدير. محام صاحب خبرة في تأسيس الشركات ومتابعة الأمور القانونية للمصانع. أنا بصدد القيام بتأسيس شركة صناعية مساهمة، وقد سألت عنك فنصحوني بالتعامل معك. قالوا لي إنك تخدم زبائنك بشكل جيد.  ابتسم عدلي لهذا المديح ثم انتظره ليتابع:

- إن كل من يعمل معي يصبح صديقاً لي، وصديقي أفديه بمالي وروحي..

- بارك الله بك ياسيد كمال.

- لذلك، سأجعلك محامي شركتي وكل أعمالي..فأنا منذ زمن أفكر بتبديل مستشاري القانوني، والآن.. أريدك أن تثبت لي بأنك أهل لذلك.  فسأل الاستاذ عدلي:

- وكيف أستطيع إثبات ذلك؟

- أنت محامي الأولاد.  لم يفهم المحامي..أولاد من؟

- نعيم ومقيم والاستاذ مراد..نحن نعلم بأنهم قد أنشأوا مصنعاً للجاكار، وأنا بصدد بناء مصنع للجاكار أيضاً، ولكن أكبر بكثير..والسوق منافسة ياأستاذ عدلي، لذلك أريد أن أعرف كل شيء عن مصنعهم. الآلات، الرأس مال، خطط التمويل، خططهم الانتاجية، الزبائن..كل شيء.

ابتسم المحامي..إنه يعرف الكثيرين أمثال هذا الزبون. نهض وأغلق الباب. الأمر يحتاج الى حذر شديد، أراد أيضاً أن يكسب وقتاً للتفكير. هل يرفض طلبه؟..فهو راض على كل حال مع الأولاد كما يسميهم السيد كمال.

قال له وقد عاد الى كرسيه:

- انت تطلب الكثير ياسيد كمال.

- نعم، لأنني سأدفع مقابل ذلك الكثير أيضاً.  قرر ألا يجيب، عليه أن يفكر، والأهم من ذلك أن يفكر بالمقابل اللازم:

- أريد مهلة للتفكير، فهذه أول مرة يعرض علي مثل هذا العرض.  نهض السيد كمال وهو يقول:

- لامانع، سأعود إليك في الغد..ولكن لاتنس، أريد منك أن تعمل لحسابي في كل مكان وفي كل شيء.

ثم خرج السيد كمال. جلس عدلي المحامي وهو يبتسم، هذه فرصة العمر ياعزيزي عدلي.

لم ينتظر حتى المساء، فقد وجد من المناسب أن يتصل به في خان الحرير ليخبره بأنه يحضر له إضبارة عن مصنع الأولاد وإضبارة عن المصنع الجديد.

لقد عرف السيد كمال من خلال المحامي كل شيء عن مصنع الثلاثة، كل شيء. حتى أنه طلب منه أن يستمر في العمل كمحام لديهم ليستمر في تسريب مايستجد من أمور ، وهنا كانت الضربة القاصمة لمراد، الذي كان يؤمن بأن السرية أهم بند من بنود أي عمل صناعي أو تجاري ناجح، وقد اهتم بها كثيراً وكان يطلب باستمرار من عدلي المحامي إبقاء كل معلوماته عن مشروعهم طي الكتمان. كان يرد عليه باستمرار:

- وهل أنا ولد ياأستاذ..؟، حسناً، إنه ليس ولداً..فقد استطاع أن يبيعهم لقاء عقد مهم مع السيد كمال.

انتهز السيد كمال انعقاد اجتماع لنشطاء حزب الشعب ليعلن أمام أصدقائه التجار ورفاقه في الحزب عن تأسيس شركته المساهمة. كان يريد منهم مشاركته في مشروعه الكبير، فهنا يتواجد أغنى أغنياء البلد، وكما استطاعوا في الماضي إنقاذه من ورطته في مشروع التريفييرا،فهم بإمكانهم الآن المساهمة معه في بناء المصنع، على أن تبقى له نسبة الواحد والخمسين بالمئة.

كان الهدف من اجتماعهم بحث التطورات السياسية الأخيرة في سورية من وجهة نظر المعارضة، فقد تمادت حكومة صبري العسلي في سياستها اليسارية فتحالفت مع الشيوعيين، ونصبت الأقطاعي الأحمر وزيراً للدفاع، وعقدت الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية مع الاتحاد السوفييتي، وتسير قدماً من أجل توقيع اتفاقية الوحدة مع عبد الناصر. كان الذعر باد على الوجوه، فسورية عليها السلام إلا إذا تضافرت الجهود من أجل انقاذها. وقف السياسي الكبير القادم من دمشق (لانستطيع ذكر اسمه بسبب سرية الاجتماع ونكتفي بدعوته بالأُستاذ) وألقى كلمة حماسية بالفصحى قاطعها الحضور بالتصفيق المديد (كان خطيباً لايشق له غبار في المجلس النيابي) :

- ماتزال سورية في خطر، انظروا حولكم، السلطة في أيدي هؤلاء الذين يريدون تسليمها الى مصر والى بلاد المسكوب. يجب على الحزب وكل العقلاء والمتنورين أن يقفوا في وجه من تسول له نفسه بيع سورية. عندنا أصدقاء مخلصين..ومبدأ ايزنهاور وجد لمنع سورية من أن تتحول الى بلد أحمر. فأمريكا لم تشترك في حرب السويس لذلك فهي مقبولة. علينا الوقوف في وجه مخطط الحكومة بكل حزم.

صفق الحضور ثم تابع الأستاذ خطبته مهدداً ومتوعداً أعداء التقدم، ثم أخبرهم( وقد فوجئوا بذلك) بأن هناك انتخابات تكميلية للمجلس النيابي، وإذا ماتمت هذه الانتخابات في حلب، فإن الحزب سيرشح السيد كمال بعد الأخذ بعين الاعتبار صموده في وجه جلاديه في غياهب السجون، فصفقوا أيضاً وقد أخذتهم الحيرة، ولكنهم نهضوا وهنأوا مناضلهم الكبير الذي ألقى بدوره كلمة شكر فيها الثقة التي أولاه بها الحزب وأكد بأنه سيكون عند حسن ظن رفاقه والقيادة وعرج على مشروعه الصناعي ودعاهم للمشاركة فيه وقال بالحرف الواحد:

- إذا لم أخدم رفاقي وأصدقائي الأعزاء..فمن سأخدم؟  شكروه على ذلك وقبله البعض، وبما أن انتخابه الى المجلس النيابي أصبح في شبه المؤكد فقد وافقوا فوراً على المساهمة في المشروع بعد أن شرح لهم بأن القوة السياسية تتأتى من المقدرة الاقتصادية (سمع هذا الكلام مرة من المرحوم الاستاذ سعيد) وبأن أعداءهم السياسيين، من أمثال ذلك المتسلل الاستاذ مراد، يريدون السيطرة على السوق وعلى خان الحرير من خلال مشروع مشابه عندها سيكون الخطر على سورية مضاعفاً.

خرج السيد كمال من هذا الاجتماع شخصية سياسية واقتصادية مرموقة جداً. وقد شعرت زوجته الست مطيعة بزهوه، ودون أن تسأله قال لها بأن الحزب قد رشحه الى المجلس النيابي..هل تعلمين معنى ذلك يامطيعة؟ إنني أسير في الطريق الصحيح. فرحت له مطيعة، فكل نجاح يحرزه هو نجاح لها أيضاً. أحضرت له الأركيلة وصنعت له فنجاناً من القهوة ثم جلست تتمعنه وهو مزهو بنجاحه. لقد أحرز اليوم انتصارين يامطيعة، أسس شركته المساهمة، ورشحه الحزب الى المجلس النيابي..بقي أن تجري هذه الانتخابات التكميلية في مدينة حلب، ولكي تجري يجب أن يموت نائب عن حلب في المجلس..نظر إلى السماء يدعو الله أن يحقق له شيئاً كتمه في سره.

في الحقيقة، ارتعدت الست مطيعة. فهي لاتعلم ماتمناه في قلبه، هل تمنى أن يموت نائب ما كي تتم الانتخابات التكميلية في المدينة، أم أنه تمنى من الله أن يحقق له طلباً آخرَ..؟ سألته كيف هو محسن، أرادت أن تستنطقه. قال لها بأنه ممتاز، يعمل بجد ويسمع الكلام..ولكن يامطيعة،هل تريدين الحق أم شيئاً آخر؟ الولد ليس مثل الصهر..الولد أغلى، ومهما كان الصهر جيداً لن يحل محل الولد.

هكذا إذن..لقد رجعت نغمة الولد والصهر. لم يرفع من ذهنه فكرة سعاد. راحت تسبح وهي تتمتم، ورغم أن الليلة مرت على خير وتركها تنام الى جانبه وتدفئ ظهره لأنه كان سعيداً، فقد أسرعت في الصباح الى الشيخة خديجة وشكت لها همها من جديد. ماذا أفعل ياشيخة خديجة، لقد نجح الحجاب نجاحاً باهراً .. ولم يبطل مشروع الزواج من سعاد فحسب، بل سجنوه أيضاً، ولكنه هاهو يعاود التفكير فيها، خاصةً بعد أن شعر بالزهو والجبروت من جديد..ونجح في السياسة والأعمال. انقذيني ياشيخة خديجة واكتبي لي حجاباً آخر. ولكن الشيخة خديجة لم تكتب لها واحداً جديداً، فما دام موجوداً في بيت المرأة فلن ينجح مسعاه من أجلها. اطمأنت الست مطيعة وأسرعت الى البيت.

بعد ذلك بأيام، سجل الشركة في غرفة الصناعة (شركة الكمال للنسيج المساهمة) وتشكل مجلس الإدارة برئاسته وعضوية التجار الخمسة شركائه بالاضافة الى القائد الحزبي الذي أطلقنا عليه اسم الأستاذ، وسمى محسن عضواً في مجلس الإدارة ومديراً للمصنع، رغم إلحاح الشركاء على ترك منصب مدير المصنع لأحد منهم والاكتفاء برئاسة مجلس الإدارة (كانوا يعتبرونهما رجلاً واحداً). ثم أرسل محسن برفقة المحامي الى ألمانيا لشراء الآلات وعقد الصفقات السرية مع الشركة المصنعة والسعي معها لإيقاف مد مصنع الأولاد الثلاثة بقطع الغيار والتصاميم. وهمس وهو في عز انشراحه الى السيد منير، بأنه في طريقه الى توجيه ضربة قاصمة الى مراد لن يقوم منها أبداً. ثم أرسل الشيخ قدري مرة أخرى الى الحاج عبد القادر ليسمع منه جواباً على طلبه في الاستمرار في مشروعهم الذي توقف بسبب اعتقاله، ولكن..عاد الشيخ قدري دون أن يحصل على الجواب الشافي، فانزعج وتغير مزاجه، وأمضى النهار كله يعمل بقرف.

                                          * * *

كانت صدمة هائلة تلك التي تلقاها مراد في باحة خان الحرير. كيف لم يخطر في باله أن تكون امرأة النافذة هي ذاتها سعاد؟ أي شقاء هذا؟ لو أنه سمع نصيحة أمه الست نادرة وسأل عنها نعيم أو مقيم وتأكد من شخصيتها قبل أن يقف الى صف ابو عادل في صراعه مع السيد كمال على سعاد. ثم ياالله ماأغباه.. في اللحظة نفسها التي يتودد إليها ويغازلها، كان يدفع ابو عادل الى التمسك بها والاستمرار في مشروعه والوقوف في وجه غريمه السيد كمال.

لقد صوّب سهامه الى قلبه وقلبها بيديه الإثنتين..هو جنى على حبهما الذي ترعرع في غفلة عما كان يجري في خان الحرير. وعندما فاجأته الورقة التي قذفتها له سعاد انهار داخل المحل. قبض على رأسه بيديه وصمت. لم يكن يسمع ماكان يقوله له كل من نعيم ومقيم بأن لايتأثر كثيراً مماحصل، فالمرأة تحبه هو وقد رفضت ابو عادل..هذا يحل المشكلة. كان في واد آخر..لقد دمر بحماقته ومبالغته بالحرص، ذلك الحلم الجميل الذي نما في حمى التجارة والمنافسة على السوق. عندها نهض وقد صمم على شيء، صمم على ترك الخان الى الأبد، فمكانه ليس هنا، بل في المصنع على طريق عين التل حيث تزعق صفارات المصانع كل صباح تدعو العمال لبدء يوم جديد من العمل..هناك مكانه وليس هنا، حيث تقف النافذة في الأعلى تعلن له وتذكره في كل دقيقة كم هو أبله.

ترك مراد الخان. لم يستطع نعيم ومقيم فعل شيء، فقد كانا يخجلان أيضاً من قول حقيقة تنفي كل ماكانا يقولانه في الأمس. تركاه يتصرف كما يريد، فقد كانا مرتبكين هما أيضاً ويفضلان انتظار ماقد يحدث دون تدخل منهما ومنه. أما في محلهما فقد ساد ابتداءً من ذلك اليوم، الصمت المتزن الذي يخفي ارتباكاً وخجلاً عظيمين، وخاصة عندما كان يزورهما الشيخ علي أو ابو عادل..

اكتشفت أمه شروده الطويل وعودته الى التدخين. كان يطلق أيضاً تنهدات حارة ممزوجة بدخان الغليون الذي أهمله منذ أن عاد الى الوطن. لم يكن منظره منظر عاشق فحسب، بل كان يتعذب أيضاً..كان هناك ألم في ملامحه. لايمكنه أن يكذب عليها ويقول بأنه على مايرام.. سألته بعد أن اقتربت من كرسيه الهزاز:

- هناك شيء يامراد..قل لي ماهو.  لم ينظر في عينيها خوفاً من أن ينفضح. أراد أن يبعدها عن ألمه هذا، فلا يمكن للمرء أن يشارك الآخرين بحماقاته. قال لها وهو يلاعب الغليون بفمه:

- لاشيء.

- لم أرك تدخن منذ زمن طويل. هناك شيء يؤلمك..قله لي، افتح لي قلبك.

- كل ماهنالك أنني مشغول في تركيب الآلات..ننتظر أن ينطلق المصنع الأسبوع القادم. خانه صوته، ففي حالات انشغاله بالعمل يصبح أكثر عصبية وصوته يتوتر ويصبح طليقاً ليشاركها بخططه، أما الآن فهو هادئ، صوته حزين ونفسه ضيق..هناك شيء.

- كيف هي علاقتك بنعيم ومقيم؟

- ممتازة..بل أفضل مما كنت أتمنى.

- إذن امرأة النافذة..ماذا حصل بينك وبينها؟ هل عرفت عنها أي شيء يجعلك غير سعيد؟  نظر إليها وابتسم، إنها امرأة ذكية الست نادرة هذه. سألها إن كانت مصرة على أن تعرف ماجرى، فأجابت بأنها كذلك، حينها قال لها:

- عرفتني بنفسها.  هذا خبر عظيم..ولكن ماذا عرف عنها لكي يحزن؟ فقال لها متابعاً:

- إنها أخت صديقي أحمد الذي حدثتك عنه.

جلست الست نادرة من المفاجأة. راح ذهنها يعمل بسرعة شديدة وهي تكرر ماقاله، انتقل إليها قلقه. قال وهو يشعل غليونه وينفث دخانه:

- أرملة الاستاذ سعيد الذي كان يشبهني كما كانوا يقولون..والتي يتنافس عليها كل من صديقي ابو عادل والسيد كمال.

- وكيف لم يخطر في بالك؟

- لم يخطر هذا الأمر ببالي أبداً..يالي من شقي.  همست له دون أن ترمش لها عين، والآن؟..

- والآن، قال ثم زفر، لاأعرف..فقد كنت أغبى إنسان في الخان. أحببتها وأحبتني وبكل بساطة وقفت الى جانب ابو عادل كي تصير من نصيبه، حتى أنني تكلمت مع أخيها أحمد بناء على طلب ابو عادل كي يقنعها به. كل من في السوق يعرف القصة وموقفي منها. المسكينة اضطرت الى التعريف بنفسها بعد تلك الوساطة التافهة التي قمت بها..لاأعرف كم تعذبت. كم يؤلمني ذلك..كانت محطمة وضائعة عندما قذفت لي بورقة كتبت فيها أنها سعاد أخت أحمد الذي أريد تزويجها لأبو عادل..

حل صمت ثقيل في حي السبيل حيث يسكنان. زفرت الست نادرة وهي تلفظ: ياإلهي.. كان عقلها يعمل بسرعة كي تجد حلاً، ولكن أي حل؟ تابع ولكنها لم تكن تستمع إليه:

- أنا متأكد من أنها تعذبت حين تكلم معها أحمد..ضميري مثقل، وقلبي يسخر مني..لم يعد لي وجه بعد اليوم لأرفعه نحو النافذة. ومن أجل ذلك تركت الخان وأصبحت لاأبارح المصنع..

قاطعته الست نادرة. قالت وهي غير متأكدة من أن ماتقوله سيكون مقنعاً:

- دعني أتدخل، سوف أزورها وأشرح لها ماجرى، سوف تتفهم موقفك.

نهض عن كرسيه وقد ازداد ألماً:

- القضية ليست هنا، سعاد وأهلها سوف يتفهمون سوء التفاهم، الناس هم الذين يهمونني، سوف يقولون، انظروا الى مراد، إنه انتهازي وحشرة، لعب على كل الناس وغشهم وغش أصدقاءه..بعمري لن أهرب من لسان الشيخ علي، وإذا ماتقدمت إلى سعاد وخطبتها فلسوف أسقط في عيون الناس، وإذا لم أتقدم سأكون قد ظلمت أرق وأجمل انسانة صادفتها في حياتي.

عادا الى الصمت، فالمشكلة ليست سهلة.

                                          * * *

لأول مرة يحصل للسيد كمال مثل هذه الأمور.

 هو السيد كمال، فكيف يتجرأ أحد ما على معارضته أو منافسته؟ يطلب القرب من أحدهم، هو الذي يتمنى الجميع التمسح به، فيظهر له منافس ويتسبب هذا المنافس في تمنع أهل الفتاة عن إعطائه الجواب، أو ربما اقتنعوا به ويبحثون الآن عن طريقة لطيفة للاعتذار منه ورفضه!! شيء يجعله يجن. هو السيد كمال، فكيف يجرؤون على رفضه واعطائها لخصمه؟

اقتنع بأن الحاج عبد القادر يتهرب منه لأنه أعطى وعداً لابو عادل. إذن لايمكن لأحد أن يحل الموضوع سواه، عليه أن يتصرف فوراً وإلا راحت سعاد من يده وتبهدل أمام الناس جميعاً..ومن أجل ذلك طلب من الشيخ قدري أن يرافقه ثم انطلقا في اتجاه سوق النسوان. كان يحيي الناس بيده فحسب، فقد كان يخاف أن يفتح فمه فيسيل السم الذي امتلاً به جوفه . وقد فاجأ ابو عادل بوجهه الأصفر وعينيه القاسيتين. حاول ابو عادل أن يكون لطيفاً، فكل من يعمل في سوق النسوان يتحلى بالمقدرة على الملاطفة، حتى روحه تتأثر بجو الحرائر والتفتا والخرز الأزرق والمصوغات التقليدية والأغاني العاطفية التي تنطلق من اجهزة الراديو والتي تميز بها سوق النسوان، أما الأثر الأكبر على طباع تجار هذا السوق فتتركه زبوناته من العرائس والعازبات والأرامل والمطلقات والنساء الشهوانيات اللواتي يتركن خلفهن جواً من البهجة وغمامة من (سوار دي باريس)..هذا إذا لم نذكر النظرات الناعسة والتنهدات والتعليقات المنتقاة بعناية، كل ذلك معاً يجعل شخصاً مثل ابو عادل محبوباً وقريباً من القلب ولطيفاً حتى مع ألد أعدائه مثل السيد كمال. ولكنه لم يأت الى سوق النسوان من أجل البهجة وسماع الكلام المعسول، فبادر السيد كمال من فوره في إطلاق التهديدات، بحيث أفهمه بأنه سيندم إن هو حاول الاصطياد في الماء العكر، وكل من سمعه يفهم دون صعوبة بأنه قد تحدث له مصيبة وهو (أي السيد كمال) لايحب الأذى لأصحابه..فربما احترقت دكانه أو سرقت ليلاً، أو..أو..وقد حاول الشيخ قدري تهدئة الموقف والوقوف بينهما (ومن أجل ذلك أحضره السيد كمال) كي لايزداد الموقف تعقيداً، إلا أن ابو عادل ترك لطفه الذي اصطنعه في بداية الأمر وتصدى لخصمه وغريمه، وأنذره بأنه إذا ماحصل أي مكروه له أو لدكانه فإنه سيرد الصاع صاعين. وعندما تطور الأمر أكثر مما يحتمله السوق الضيق والغاص بالنساء أذعن السيد كمال للشيخ قدري الذي كان يدفعه بعيداً عن دكان ابو عادل وهو يصرخ، حسبي الله ونعم الوكيل.. ولكن هذا الأخير ظل يلاحقهما وهو يتحدى السيد كمال حتى خرجا من السوق الناعم..

ومن سوق النسوان ذهبا فوراً الى دكان الحاج عبد القادر، وهناك، ودون حتى أن يسلم، (أمره) السيد كمال بأن يجهزوا أنفسهم للخطبة يوم الخميس القادم وإنه لن يقبل أي تسويف أو أعذار من أي نوع كان ثم ودعه وابتعد وسط دهشة وخوف الحاج عبد القادر الذي، ودون أن يدري مايقول، هز رأسه وكأنه طفل ينصاع لأوامر ولي أمره، وعندما حاول الاستفهام من الشيخ قدري بحركاته الخرساء لم يزد الشيخ عن ترداده، حسبي الله ونعم الوكيل، ثم تركه يتخبط في خوفه وحيرته ولحق بالسيد كمال.

وما إن ابتعدا حتى وصل ابو عادل وهو يرغي ويزبد حتى أن كل من شاهده خاف عليه من الجلطة، وراح يتكلم رشاً عن مكانته ومنعته، وقال إنه لايخاف لامن السيد كمال ولامن أي سيد على وجه الأرض وإنه لايخاف إلا من ربه، لذلك لاتخف ياحاج، أعقل وتوكل، ونحن على العهد ولن يثنينا تهديدات السيد كمال ثم رحل بعد أن كاد يختنق بدخان السكائر التي كان الحاج عبد القادر يطلقها في دكانه(الثقب في الحائط) وهو غارق في حيرته وارتباكه العظيمين. وماإن رحل ابو عادل وأحرق كل السكائر التي كانت بحوزته حتى نهض وأقفل دكانه وهرب الى البيت وهو يتطلع خلفه بهلع.

كاد الحاج عبد القادر يجن في ذلك النهار..والدليل على ذلك طريقة دخوله الى بيته ومفاجأته لأسرته. كان أحمد يتناول طعام الإفطار بهدوء شديد في ذلك الوقت المتأخر من النهار، فقد اعتاد على السهر حتى الصباح وهو يقرأ ويستمع الى الإذاعات متابعاً تطورات الأزمة السورية كما كانت تسمى آنذاك. نقل الأب شحنته العصبية المتفجرة الى أهل بيته، فقد دخل وهو يصيح:

- ابو عادل..السيد كمال..السيد كمال، ابو عادل، سأجن لامحالة، من أين يارب جئتني بهذه البلوة..كان عليك أن تأخذ روحي أنا وليس روح سعيد..لعنة الله على يوم الخميس..من هذا السيد كمال كي يفرض علينا أن نستقبله يوم الخميس ونقدم له ابنتنا..؟

وتفوه بأشياء أخرى..لعن السيد كمال وابو عادل ولعن نفسه وابنته.

هرع الجميع إليه يحاولون تهدئته ومعرفة ماجرى..أما سعاد فقد كانت في وضع لاتحسد عليه رغم محاولتها تهدئة ابيها. ظل يصرخ ويدعو الله بشتى الدعوات غير المستحبة حتى نهضت سعاد وصرخت بصوت ينفطر له الفؤاد وهي تبكي وتصفع نفسها، بأنها هي التي عليها أن تموت لترتاح وتريحهم ثم هربت الى غرفتها وسط بكاء ابنها وأغلقت على نفسها الباب، وظل صوت بكائها يتردد في البيت لفترة طويلة.

كادت تميت نفسها المسكينة من البكاء. دخلت أمها تهدئها ولكنها رجعت دون أن تفلح بذلك، فقررت على الأقل أن تهدئ ناصر الصغير الذي كان يبكي لبكاء أمه، بينما كان الأب يطفئ سيكارة ليشعل أخرى صامتاً لاينبس، وأحمد غارقاً في أفكاره يجاهد من أجل إيجاد حل يريح أباه وترضى عنه أخته التي لو تطلب منه المستحيل لأمنه لها فماذا حدث لكي لايعرفوا طريقة تخرجهم من هذا المأزق الذي وضعهم فيه السيد كمال وابو عادل؟. في تلك اللحظة التقت عيناه بعيني أبيه. ظلا هكذا لفترة. وبدون أن ينبسا بكلمة اتفقا على كل شيء. نهض أحمد وقال لأبيه:

- امهلني حتى الغد ياأبي..كيف يمكن لنا نحن الأثنين أن لانجد طريقة نقف بها الى جانب سعاد؟ هز الحاج عبد القادر رأسه وهو ينفث دخان سيكارته.

خرج أحمد. كان عليه أن يفكر، ومن أجل أن يفكر كان عليه أن يسير وحيداً في شوارع المدينة. بينما ظلت سعاد حابسة نفسها في غرفتها تتمنى الموت الذي لايأتي حسب الطلب.

عندما عاد الى البيت في ساعة متأخرة، لم يكن قد توصل الى أي حل. فقد وجد نفسه دون أن يقصد في خضم أحد الاجتماعات الحاشدة ضد مبدأ آيزنهاور، ثم سهر مع أصدقائه يتحدث في السياسة وخلصوا الى أن عبد الناصر لن يترك سورية فريسة للأمريكيين. وماإن أغلق الباب وأشعل النور حتى فتحت سعاد باب غرفتها وطلبت منه الدخول. فقد كانت في انتظاره لتتحدث معه.

لحقها. كانت شقية بشعرها المنفوش وعينيها المنتفختين من البكاء. أنبه ضميره، فقد كان عليه أن يفكر أكثر في المأزق الذي أصبحوا جميعاً فيه..وعندما كان ينتظرها لتتكلم خطر في باله أن يرسل السيد كمال وابو عادل الى الجحيم..سوف يقف هو في وجهيهما ولن يتركهما ينفردان بأبيه المسكين، عندها ابتسم.

احتارت سعاد كيف تبدأ. هو أخوها الأصغر، كانت تتساءل في سرها هل يمكن البوح له بألمها..بمراد؟ قال لها وهو يبتسم:

- أنا مستغرب ياأختي من الذي حصل اليوم، الحل بسيط..سوف أذهب اليهما غداً وأعتذر باسمنا جميعاً. لاأعرف كيف سرى الخوف والغضب من أبي إلينا جميعاً..كل شيء ممكن أن يحصل بالإكراه إلا الزواج. اليوم هو الثلاثاء وبعد غدٍ الخميس ولسوف أقول لا للسيد كمال وإن لن يعجبه الأمر فلينتحر.

كانت محتارة كيف ستتكلم أما الآن فهو يثير فيها الضحك..ابتسمت، أشرق وجهها. قال لها:

- هيا ابتسمي، عندما تفعلين ذلك نسعد كلنا. أسفي على البندقية التي حملتها أثناء أزمة السويس ثم أعدتها دون أن استخدمها. كان علي أن أرفعها في وجه السيد كمال، سترين حينها كيف كان سيلوذ بالفرار.

صارت تضحك. بكت طوال النهار أما الآن فهي تضحك(سعاد لذيذة). ضحكا معاً حتى استلقت سعاد على سريرها. بعد قليل انتهيا من الضحك. قال إنه جائع فعرضت عليه المساعدة ثم خرجا الى المطبخ حيث سخنت له وجلست معه تشاركه ببعض اللقيمات (ازداد وزنها في الفترة الأخيرة ). تحدثا في بعض الأمور، حكى لها عن اجتماع اليوم. نشطت عيناها وارتجفت وقد قررت أن تفاتحه بأمر النافذة. سألته:

- ومن كان معك في الاجتماع..؟ صديقك مراد؟

صمتت وهي تحملق في عينيه. مراد مرة أخرى..لماذا لايسألها عن اهتمامها بمراد؟

- لم يكن معنا..ولكن قولي لي..هل تكرهينه لأنه نصحني المرة الماضية؟ جمعت شجاعتها وقالت بصوت مرتجف:

- صديقك مراد جبان.

- جبان..؟ (ضحك مستغرباً) ليس له علاقة في كل الموضوع..بالعكس إنه شجاع وقد أصبح في فترة قصيرة نداً للسيد كمال.

- لو كان شجاعاً لاتخذ قراراً..  أبعدت نظرها عن أحمد وجعلت تعبث بشعرها. كانت تتوقع منه هذا الاستغراب الذي جعله يتوقف عن الطعام.

- أي قرار..أنا لاأفهم شيئاً؟ ليس للرجل أي علاقة. أجابته دون أن ترفع عينيها:

- بل له علاقة.

- هل هناك شيء لاأعرفه؟

- نعم.

- قولي.

أخذت نفساً عميقاً ونظرت إليه. كانت هناك قطعة ضئيلة من فتات الخبز على زاوية فمه. توجهت إليها تقول:

- خجلانة، أنت أخي الأصغر، ومع ذلك سأقول. أنا أعرف مراد.

- تعرفينه؟

- نعم، ولكن من بعيد، من النافذة. كنت في حالة بائسة، السيد كمال وابو عادل والحاج محمد، ثم هناك أبي الذي كان يحارب من أجل أن أتزوج..وعندما شاهدت مراد ولاحظت اهتمامه بي، عادت إلي الحياة، وفي إحدى المرات أفهمني بأنه..(بخجل شديد) يحبني..

صمْت. كان ينظر إليها وقد فهم كل شيء..حتى الأسئلة التي لم يستطع طرحها على نفسه عرف الإجابة عليها. كانت المسكينة كتلة من الانفعالات، صدرها يعلو ويهبط. تعبث بشعرها. تقرض اصبعها. تنظر إليه مرة ثم تبعد نظرها عنه..امتلأت عيناها بالدموع ثم انسالت بهدوء على خديها. مدت يداً واحدة وراحت تسحقها لترطب بشرتها. آهٍ..كم شعر بغبائه، أراد أن يحضنها لتسامحه. تابعت تقول:

- سأقول لك الصدق، فقد أحببته، (اختنق صوتها ولكنها جاهدت لتتابع) ولكنني صدمت حين اقترح عليك ابو عادل. قلت لنفسي، هل من المعقول أن يضحك علي طوال هذه المدة كلها؟ اسودت الدنيا في عيني، قلت في نفسي حظي هكذا..إما ابو عادل أو السيد كمال..

جاهدت في أن لاتبكي، لو كان الأمر متروكاً لها لضحكت. شجعها حين سألها عما جرى بعد ذلك..

- كنت تمدح أخلاقه، فقلت في نفسي: ماذا يجري..هل يحسبني امرأة أخرى؟ كان قد غاب فترة طويلة بعد ذلك، أنت قلت إنه سافر الى بيروت في عمل، وعندما عاد وجدته يهتم بالنافذة من جديد، فأردت أن أتأكد. كتبت له ورقة وأسقطتها له من النافذة. كتبت له: إنني سعاد أخت أحمد التي تريدها لأبي عادل. وعندما قرأها جن جنونه.

صمتت ولكن عينيها لم تتوقفا عن البكاء. مد يده ولمس يدها. شعر بأنه تعيس هو أيضاً..سمعها تقول:

- اختفى منذ ذلك اليوم..عزائي هو أنه يحبني ولم يكن يضحك علي..ولكنني تأكدت من حظي في هذه الحياة..طريق مسدود ومكتوب علي الشقاء. مكتوب علي أن أعرف السعادة كي يكون فقدانها أكثر لوعة وأكثر فظاعة. المهم، أعطاني الرجل أملاً ثم استرده واختفى، مثل سعيد زوجي تماماً، الذي رفعني الى الأعلى ثم رحل وتركني أسقط. والآن..إنني أموت خجلاً منك، فأنت أخي، ولكن كان علي أن أسمع نفسي أخرج ألمي من داخلي وإلا كنت انفجرت.

                                          * * *

في الصباح، استيقظ أحمد باكراً على غير عادته (لم يكن قد نام). لاحظ وهو يرتدي ثيابه كيف كانت سعاد تبعد ناظريها عنه خجلاً منه. كانت نادمة لأنها قصت عليه حكايتها، لكنه طمأنها بابتسامة عذبة ثم خرج. ذهب في البداية الى الخان. كان عليه أن يقطع طريقاً دائرياً طويلاً حتى يصل الى هناك، حيث يقبع الخان خلف بيتهم. اجتاز الباحة مسرعاً حتى دخل محل نعيم ومقيم. استقبلاه بترحاب، ولكن بشيء من الخوف. فقد سأل عن مراد وأصر على معرفة عنوان المصنع ليذهب إليه..وعندما خرج بعد أن أعطياه العنوان ظلا صامتين، فقد حسبا بأنه ذاهب إليه ليبشره بأنهم وافقوا أخيراً على وساطته لصالح ابو عادل. وفي المصنع وجده أحمد وقد ارتدى ثياب الفنيين الزرقاء وهو يساعد في تركيب الآلات. كان غارقاً في العمل، ربما لينسى مااقترف من حماقة. قاده الى غرفة اتخذها مراد كمكتب له. جلسا يرتشفان القهوة ويتحدثان في الموضوع المحبب إليهما: السياسة. فقد كانت الأوضاع تزداد سوءاً، والبدايات تشبه بداية أزمة السويس.

لاحظ أحمد كيف أن مراد يحاول إبعاد الحديث عن أي شيء يتصل بالسيد كمال وابو عادل، ولاحظ أيضاً ظل مرارة في عينيه. ولكن أحمد جر الحديث الى الوجهة التي يريد عندما سأله مراد:

- ألا تذهب الى السينما هذه الأيام؟  فقال أحمد:

- كلا..أين أنت كي نذهب معاً ونحضر فيلماً جديداً..؟ لقد هجرت الخان..

- ألا ترى بأنني مشغول جداً في التشطيبات؟ المصنع سوف يقلع خلال أيام لذلك فأنا مشغول.

- وهل هناك شيء آخر؟  فقال مراد دون أن يدري بأن أحمد يلمح الى أنه يعلم ماجرى:

- لايوجد شيء آخر..

- هل أنت متأكد؟ 

احتار مراد، فهل يعرف أحمد قصته مع أخته سعاد أم أن السؤال بريء وعادي؟..أصر على أنه لايوجد سبب آخر، حينها نظر أحمد في عيني مراد وراح يوحي له بأنه يعلم وقال بنبرة حميمة:

- هل تريد أن تقول لي شيئاً ما..؟

هنا عرف مراد بأن أحمد مطلع على كل شيء. نهض ووقف أمام النافذة وجعل ينظر الى الخارج. فكر طويلاً قبل أن يقول:

- ماهي أخباركم مع السيد كمال وابو عادل؟

- لم يعد هناك لاسيد كمال ولا ابو عادل.

استدار مراد من فعل المفاجأة. كان أحمد سعيداً لتواطؤ صديقه معه في التحدث بهذه الطريقة فالعادات والتقاليد تمنعهما من التكلم صراحة:

- لم أفهم. قال مراد فأجاب أحمد:

- كما سمعت، لايوجد نصيب.

- ولا ابو عادل؟

- نعم..ولا ابو عادل.

- السبب؟

- الإثنان لا يناسبان سعاد.

عاد مراد بعد أن اطمأن الى سير اللعبة الى النافذة وراح يتكلم وهو ينظر الى الخارج، سأله:

- هل هناك...شخص ثالث؟ فأجاب أحمد:

- يبدو أنه يوجد.  أغمض مراد عينيه وسأل:

- يوجد..من هو؟

- لا أعرفه..فضل أحمد أن يوحي بأنه لا يعرف تجنباً للإحراج. استدار مراد وهو يبتسم:

- إذن كيف تقول يوجد شخص ثالث وأنت لاتعرفه؟

- لا أحد يعرف هذا الشخص سوى سعاد، على كل حال سعاد لن تتزوج إلا من الشخص الذي تريد، وأنا سأعمل المستحيل من أجل ذلك. هل هذا الكلام مقنع؟  فقال مراد:

- مقنع جداً..ولكن.. فقال أحمد وكأنه يشير إليه بأنه هو الشخص المعني:

- أنا منتظر هذا الشخص أن يأتي ويفتح معي الموضوع.

استدار مراد الى النافذة وهو يتعذب، فلن يستطيع فتح الموضوع.

خرج أحمد من المصنع عائداً الى سوق المدينة. اختلط فوراً بين المارّة الذين كانوا يتحركون وكأنهم جدول ماء يسيل في ممرات السوق الضيقة. وجد نفسه أمام دكان أبيه. أخبره بأنه ذاهب الآن الى كل من ابو عادل والسيد كمال ليخبرهما بهذه الكلمة الذهبية: لايوجد نصيب. ضحك الحاج عبد القادر ضحكة تواطؤ وهو يدخن بشراهة. نهض من فوره ليغلق دكانه ويسرع الى البيت. قال لأحمد:

- يعينك ويساعدك يا بني..كم أريد أن أرى السيد كمال وأنت تقول له ذلك.

ضحكا ثم أسرع أحمد الى سوق النسوان. وعندما خرج من دكان ابو عادل كان هذا مصفر الوجه. صمت كما يصمت الميت. بلع ابو عادل هزيمته واسودت الدنيا في عينيه، وعندما عرف فيما بعد بأن السيد كمال قد سمع نفس الكلام تحسنت حاله. أما السيد كمال فقد كان أكثر عنفاً مع أحمد. كان فظاً. سأل عندما سمع من أحمد ماجاء يخبره به:

- ولماذا لم يتفضل ابوك ليخبرني بنفسه، بل اكتفى بإرسالك؟

صبر أحمد على إهانته. أراد أن ينهي الأمر على خير. سأل السيد كمال أيضاً:

- ولمن ستعطونها..لابو عادل..هذا الـ..؟

- كنت منذ قليل عنده وقلت له نفس الكلام.  فسأله السيد كمال وهو يرتجف:

- هل هناك شخص ثالث..؟ (من قال إن السيد كمال لايفهم؟)

اندهش أحمد لذكائه فتأخر بالنفي، حينها قال السيد كمال:

- هذا يعني ان هناك شخصاً ثالثاً.  فأجابه أحمد:

- يبقى هذا شغلنا ياسيد كمال..

- وصل..سلم لي على الحاج عبد القادر وقل له..مسكينة ابنتك، من بعد المرحوم الاستاذ سعيد ليس لها نصيب عند غيره. مع السلامة.

نهض أحمد وخرج يريد أن يختفي بسرعة من الخان. لقد هددهم السيد كمال. مادام لم يحصل هو عليها فلن تكون لغيره أبداً..مع ذلك تنفس الصعداء، فقد نجح في الوقوف في وجه أكثر الرجال جبروتاً في خان الحرير، بل في سوق المدينة كله.

                                          * * *


TOP

Copyright © 1999 - 2001 Nihad Sirees All rights reserved