موقع مفهوم Concept
 
يقدم
 
خان الحرير
رواية
نهاد سيريس
 
(الفصل التاسع)

 

نظرية الفراغ تعني أن الأمريكان يريدون الحلول محل الانكليز في دول الخليج.
(رأي لمراد في صيف عام 1957)
ابو محمود.. يوولي..
(ولاويل صبيحة.. تلك الليلة، حين أصبحت أرملة)
ابن آدم نصفه خلقة ونصفه خرقة..
(من أقوال الشيخ علي)
الذي يبيعني بسوق الفرا، أبيعه بسوق الجوخ.
(هكذا هدد السيد كمال حين عرف أن الاولاد قد خدعوه)
جفنه، علم الغزل..
(أغنية لعبد الوهاب، كان مراد يستمع اليها في بيته بعد أن قابل سعاد وجهآ لوجه)
ذبحني الحاج عبد القادر.
(قول للسيد كمال حين عرف أن مراد قد طلب سعاد وأعطوه الرد بالإيجاب)

 عندما عاد محسن من ألمانيا، برفقة المحامي عدلي، لاحظت ذكية مقدار تغيره. فقد كان قد رفس مرض السل إلى الأبد وأصبح أكثر ثقة بالنفس، والأهم انه أصبح يهتم بها. أثناء وجوده هناك فكر بها عدة مرات، حتى أنه بحث لها عن هدية تفرحها. شعر أن عليه أن يقابلها، حين يعود إلى الوطن، بشيء من الاهتمام. بل بكثير منه رغم خجله الذي لم يستطع التخلص منه بعد، وشعوره المستمر بالذنب لأنه عاملها بقسوة، بينما جاءت هي لتبحث  عنه فوجدته بين الحياة والموت فأنقذته وعادت به إلى البيت. مكثت ترعاه حتى زال عنه الخطر ومن ثم رحلت إلى بيت أهلها. من أجل ذلك بحث لها طويلا عن هدية عظيمة تجعلها تفرح بها وتقتنع انه أصبح يحبها. لم يكن يريد الإفصاح عن خجله منها. اراد أن يجعل الهدية تنطق بما هو عاجز عن قوله.

اشترى لها ثيابآ ومحفظة جلدية، ولكنه وجد هذه الأشياء بدون شاعرية خاصة، حينها عاد إلى السوق وابتاع مجموعة عطور " سوار دي باريس". لقد وجد أن عصافير الحب المصورة على الزجاجات مناسبة جدآ لما يريد أن يوحي به. وعندما قدم لها الصندوق الأزرق، كان وجهه يصطبغ بحمرة خفيفة شعرت بها ذكية بكل وضوح. كانا يقفان في منتصف الغرفة كحبيبين شابين بدون أية تجربة ويلتقيان لأول مرة. أرادت أن تحتضنه وتقبله ولكن مئات العفاريت كانت قد تلبستها، واحد منها كان عفريت الخجل.

في ألمانيا فكر أيضآ بفضة. فضة الغجرية الشقية التي كاد يموت بين يديها. ماذا تفعل الآن؟ كيف حال ابنه، هل سمته نوفل كما قررا حين بشرته بحبلها؟ ولكن شيئاً كان يدفعه إلى طردها من ذهنه. حتى أنه قارن بين فضة وذكية. لقد أحب فضة وأحبته، ولكنه كان يشعر بالغيرة تنهش أحشاءه وهو يراها تغني لسائقي الشاحنات. كانت على استعداد لمخاصمة أهلها من أجله. حتى انها رفضت الغناء لفترة كرمى لخاطره، وبسبب ذلك كرهه الغجر الطيبون، وما إن وقع فريسة المرض حتى ضعفت مقاومته ومقاومتها. أمها همست لها انه قد يكون أحد الغجر قد طمر له طميرة من أجل التخلص منه لأنها ترفض الغناء للسواقين فيرفض هؤلاء التوقف في مضاربهم مما يجعل الغجر يجوعون. قاومتهم فضة حتى رمقه الأخير (رمقه هو). ومن أجله عادت إلى الغناء، فلربما كانت قصة الطميرة صحيحة، حينها وصلت ذكية برفقة أحمد وتم انتشاله من هناك.

هناك.. في غرفة الفندق في ألمانيا، شعر أن فضة لم تكن تلائمه. كان سيموت، بينما جاءت ذكية لتنقذه. على فضة أن تسامحه، فعليه أن يميت الحب الذي ربطهما معاً من أجل أن يعيش هو ويصير. على كل حال فموته لم يكن ليفيد فضة، بل كان سيجعلها أكثر سقماً. كان موته سيجعلها تجن. كان سيموت وهو يشعر بالغيرة من سائقي الشاحنات. ولكنه الآن في وضع أفضل مئة مرة بعد أن أنقذته ذكية وعادت به إلى البيت. فضة ستسامحه إذا عرفت أنه الآن عضو في مجلس ادارة شركة عمه السيد كمال وأنه في ألمانيا الآن للتعاقد على إقامة أكبر مصنع جاكار في سورية كلها، وهو نفسه، أي محسن، سمي مديراً له. هل يشتري لها هدية هي أيضاً ويرسلها لها سراً إلى خيمتها؟ هز رأسه يطرد هذه الفكرة. إنه يريد أن ينسى فضة ويريدها أن تنساه. لقد أنقذته ذكية وهاهو أبوها يصنع منه شيئاً مهماً، وعندما عاد من ألمانيا واستمع السيد كمال، منه ومن المحامي عدلي، إلى مافعلاه هناك، امتدحه كثيراً وأثنى عليه. قال له إنه عرف جيداً لمن زوج ابنته الوحيدة.

أصبح يرافقه إلى كل مكان ويقدمه إلى كل هؤلاء الذين سمع عنهم يوماً ولم يرهم. قدمه إلى رجالات السياسة ونشطاء العمل الحزبي، كما عرفه إلى مجلس إدارة غرفة التجارة. أصبح معروفاً ومرحباً به، وفي فترة قصيرة أصبح يمتلك مكانة مهمة، قسم كبير منها من مكانة عمه السيد كمال. وكمال هذا كان معروفاً كشخصٍ يحطم الرجال والتجار المعادين له والمنافسين لطموحاته السياسية بأعصاب باردة، أما الآن فهو يقوم بصنع رجل. انه لا يحطم فقط بل يبني حين الضرورة، وهل هناك ضرورة أعظم من بناء صهر له على هواه بحيث يتحول إلى ظلٍ له؟ صحيح أن الله لم يرزقه ولداً ينشئه على مزاجه (تجار المدينة اعتادوا على فعل ذلك بأولادهم) كما أنه لم يتمكن من سعاد التي أشاع أنه يريدها من أجل ولدها ناصر ومن أجل أن تلد له أولاداً يبنيهم حسب ما يريد ويشتهي، ولكن محسن يفي بالحاجة، وهو شاب أخطأ فسامحه، ثم كاد يموت فانتشله من الموت. وأخيراً، فقد تكشف عن شاب له طموحات وهو على استعداد لأن يساعده كي يصل. إنها مقايضة عادلة، سوف يقدم لمحسن كل مايحتاج ويستطيع، وما على محسن إلا أن يطيع. اشترى له بيتاً وسيارة وجعله يشرف على بناء المصنع مخولاً بجميع الصلاحيات، وشيئاً فشيئاً وجد نفسه يخوض معركة السيد كمال ضد الأولاد.

في إحدى المرات، وقبل أن ينتقل محسن إلى بيته الجديد، مر أحمد إلى بيتهم. كان يريد رؤية زينة، حبيبة العمر، أما مشاهدة محسن فهي ذريعة. في الممر سرق منها قبلة سريعة احمرت لها، ثم اتفقا على أن يطلب من محسن الذهاب إلى السينما، ولا مانع من أن تذهب معهم ذكية هذه المرة، حينها سوف يتمكن أحمد من الجلوس إلى جانب زينة بعيداً عن مراقبة أخيها. هكذا خطط أحمد، وقد خطط لأشياء سوف يقوم بها حين تطفأ الأنوار وينشغل الناس بالفيلم. ابتعدت زينة عنه حين سمعت صوت اقتراب محسن.

جلسا في غرفة الضيوف بينما ذهبت زينة لتصنع القهوة. كان محسن أكثر إشراقاً، بينما كشفت حركته السريعة وطريقة كلامه عن أهمية ما كان قد اكتسبها حديثاً. تكلما في السياسة بعد أن عرجا على أحوال أحمد فقد يحصل أخيراً على البكالوريا، وهو مشغول الآن بالمظاهرات وإلقاء الخطابات الحماسية التي تندد بمبدأ آيزنهاور. سأله أحمد:

- ماذا..؟ ألا تعلم أن هناك خطراً على سورية؟ كل الدول المحيطة تحشد الجيوش على الحدود. والأمريكان يهددون بإرسال الاسطول السادس إلى السواحل اللبنانية.

- انا مشغول كثيراً ومعلوماتي قليلة، أعلم بأن الجو مشحون ولكنني لاأتابع التفاصيل.

- علمت أنك كنت مسافراً.

- كنت في ألمانيا.. اشتهيتك معي ياأحمد.

- ألمانيا مرة واحدة.. وماذا فعلت هناك؟

- عمي السيد كمال يبني مصنعاً للنسيج، ماذا أقول لك؟ انه مصنع هائل.. مصنع للجاكار، مثلما يفعل الأولاد. ( انه يستخدم نفس التسمية التي يطلقها السيد كمال على مراد ونعيم ومقيم)

شعر أحمد أن هناك شيئاً غير طيب يجري وإلا لماذا جاء على ذكر الثلاثة؟ سأله يريد منه أن يستفيض:

- يعني مثل معمل مراد؟

- بالضبط، نفس الآلات.. من نفس الشركة، عمي السيد كمال يريد أن يحطمهم ويفلسهم، لهذا الأمر نبني مصنعاً مشابهاً ولكن أعظم بكثير.

- ولهذا الأمر ذهبت إلى ألمانيا.

-أنت ذكي يا أحمد ياعزيزي، ولماذا نشتري مصنعاً من إيطاليا إذا كنا سنحارب الأولاد؟

- وكيف عرفتم، اقصد كيف عرف عمك السيد كمال بمايقوم به مراد؟

- السيد كمال له أساليبه، إنه داهية وقد أصبحت أحبه. قاطعه أحمد بسخرية:

- عمك السيد كمال محبوب جداً.

- اقول لك الصدق، لقد وصل إلى نفس المحامي فاستطاع معرفة كل شيء عن مصنعهم، حين نبدأ بالانتاج سوف نغرق السوق بانتاجنا الذي سيكون مشابهاً لانتاجهم ولكن بأسعار أدنى.. حينها سيفلسون.

شعر أحمد بالتقزز. لم يستطع الجلوس بهدوء، فهو ليس تاجراً على كل حال. نهض واعتذر، لقد تذكر موعداً مهماً وعليه الذهاب فوراً. راح محسن يطلب منه البقاء، وعند الباب اصطدم بزينة التي كانت داخلة بالقهوة.

- ماذا حدث، إلى أين أنت ذاهب، ألن تشرب القهوة؟ فقال أحمد:

- مرة ثانية.. تريدك سعاد فمري عليها.. خرج وهو يشعر بالكراهية تجاه محسن. سألت زينة أخاها فقال إنه لم يفهم شيئاً. ولم يذهبوا إلى السينما.

لقد اكتشف أحمد أن السيد كمال يتجسس على أصدقائه مراد ونعيم ومقيم. اكتشف انه ينوي توجيه ضربة موجعة إليهم تودي بهم إلى الإفلاس. أزعجه هذا الأمر كثيراً وجعله يسرع إلى الخان لمقابلة الثلاثة لتنبيههم. لقد شعر أن الأمر يمسه شخصياً لاعتبارات عدّة، منها الأخلاقي ومنها السياسي ومنها الاجتماعي، فهو ومراد يقفان في خندق واحد ضد الرجعية (من تعابير أحمد التي يصر على استعمالها باستمرار) ثم هناك سعاد، وهو يشعر بأن مراد سيصبح صهراً له طال الزمن ام قصر.

دخل مراد إلى المحل فوجد نعيم ومقيم وأحمد في انتظاره. كانوا قد اتصلوا به إلى المصنع وطلبوا منه النزول إلى الخان لأمر هام. وجدهم متجهمين. حسب لأول وهلة أن الأمر يتعلق بامرأة النافذة (كانت في ذهنه باستمرار، في أحلامه وأحلام يقظته) من أجل ذلك شعر بقلبه يرتجف وزادت دقاته. ولكن الأمر يتعلق بمصنع العمر، الثورة التي حلم مراد بالقيام بها منذ أن كان طالباً في ايطاليا. السيد كمال قد تجسس عليه عند المحامي عدلي وعرف كل شيء عن المصنع. كل شيء كما طلب من عدلي. خانته ساقاه فجلس من فعل المفاجأة. قال يا إلهي..

في تلك الأمسية فاجأ الثلاثة المحامي عدلي وهو يعمل في مكتبه، وكان (ويا للمصادفة) يعمل على إضبارة مصنع السيد كمال. واجهوه بعلمهم بما فعل، حتى أن مقيم حاول أن يضربه لولم يمسك به مراد. كان الجو مشحوناً، بعد ذلك لمسوا مقدار ارتباك عدلي المحامي عندما هدده مراد بالشكوى إلى نقابة المحامين، ثم طلب منه أن يسلمهم إضبارة مصنعهم، لأنه، ابتداء من اليوم لم تعد له علاقة بهم. طلب منهم الجلوس بهدوء وقال إنه يريد أن يرضيهم. كيف..؟

- سوف أسلمكم اضبارة مصنع السيد كمال لتدرسوها، سوف يظل كل شيء على حاله، أي انني سوف أظل محاميكم ومحامي السيد كمال في نفس الوقت، سوف أنقل لكم كل قراراتهم وسوف أسرب له الأخبار التي تطلبونها.. المهم أن يبقى كل شيء كما كان. أي انه يريد أن يقبض أتعابه من الجهتين.

 وافقوا على اقتراحه، فهم ابتداء من اليوم في حرب مع السيد كمال، وعدلي سوف يساعدهم في توجيه ضربة أو إثنتين ثم يحلقون له.. المهم انهم لن يطلعوه ابتداء من اليوم على قراراتهم السرية.

واشتعلت الحرب بين الطرفين.

* * *

كانت الحرب بينهم بدائية ولكنها صعبة وقد تكون مدمرة. فقد بدأ مصنع الثلاثة بانزال انتاجه إلى السوق من قماش الجاكار مما أزعج السيد كمال وراح يضغط من أجل إتمام إنشاء مصنعه وبالتالي ليتمكن من انزال بضاعته المشابهة، كما وعد، بأسعار أدنى. كان قد استاء من مراد لأنه تزعم التجار أثناء وجوده في السجن ومشكلة التريفيرا. كان يستدعي دلالي الخيوط ويطلب منهم الامتناع عن التعامل مع (الأولاد)، ثم يروح يشكك بنوعية الجاكار الذي ينتجونه في مصنعهم، وحين كان يعلم أن الثلاثة يتعاملون بصنف معين من الخيوط، كان يشتري منه كميات كبيرة ليرفع سعره فيضغط عندئذ عليهم ويربكهم.

وبحكم الصداقة، كان أحمد يتردد إلى محل نعيم ومقيم ليتضامن مع الثلاثة في حربهم التجارية مع السيد كمال، وبسبب ذلك ضمه هذا إلى مجموعة أعدائه، خاصةً بعد أن احمرت عينه منه حين جاء إليه وأخبره انهم ليسوا بصدد تزويج اخته سعاد. هذا الأمر أزعج كمال، فلم يعد أحمد مجرد شاب متحمس من اليساريين وأصحاب الشعارات الرنانة، وواحد من دعاة الوحدة مع عبد الناصر فحسب، بل أصبح مشاكساً له ومتضامناً مع أعدائه، ومخرباً لمشروع زواجه من أخته سعاد.

وبطبيعة الحال وقف محسن من أحمد موقفاً مشابهاً لموقف عمه. راح يتهرب من مقابلة أحمد وأصبح ينصح أخته زينة بعدم مقابلته في غيابه. حتى أنه خطط ليصطدم بأحمد أمام سمع وبصر عمه السيد كمال. لقد أصبح حال خان الحرير شبيهاً بحال السياسة في سورية، فالاحزاب كانت قد تكتلت وراحت تتحارب. ومثلما كان يقال بأن الحمر أصبحوا يهيمنون على سورية، راح السيد كمال يشيع بأن الحمر يريدون السيطرة أيضاً على خان الحرير.

في هذا الجو المشحون، حدث تطور مهم على صعيد العشق (كانت التنهدات مستمرة رغم كل ذلك). كان أحمد ومراد قد تواعدا في إحدى الأمسيات، فشاهدا أحد الأفلام ثم شربا القهوة في مقهى للمثقفين وتحدثا في السياسة، ثم استمعا إلى أحد الشعراء الذي وقف بدون مناسبة وراح يلقي على الجميع إحدى قصائده المجنونة. خرجا وراحا يتمشيان، لقد توصلا في أحاديثهما إلى أن الأمور تسير نحو الحرب، فقد حُشدت الجيوش في مواجهة سورية فعادت المقاومة الشعبية لحمل السلاح، وتحولت المدارس من جديد إلى مراكز للتطوع والتدريب. تحدثا أيضاً عن المستقبل (ياللغرابة)، فقد صدرت نتائج الثانوية العامة وأذيعت من الراديو وسمعت سعاد اسم أحمد يلفظه المذيع بتؤدة فزغردت هي وأمها ثم هرعت إلى أحمد لتوقظه وتبشره بالنجاح.. استيقظ لثوانٍ ثم عاد للنوم وهو يردد أنه كان متأكداً من النجاح فلماذا كل هذا الضجيج..؟

كان الطقس بديعاً فلم يجدا نفسيهما إلا وهما قرب بيت أحمد فأصر هذا على أن يصعد مراد ليشرب كأساً من الشاي، ففي هذا الوقت (كانت الساعة تقترب من الثانية عشرة) يكون الجميع نياماً.

جلسا في الصالون يتحدثان بصوت خافت وهما يرتشفان الشاي. قال أحمد:

- انت لا تتكلم عن نفسك، قل لي هل لك أب، هل لك أم؟

- أمي موجودة، انها مثلك، تهتم بالسياسة.. انها مديرة مدرسة وهي تحب إلقاء الخطابات الحماسية، سوف أعرفك بها. سوف تعجب بها..

- أكيد.. وماذا عن الوالد؟

- قصته قصة. لقد رحل مبكراً. انه ابن ملاك اراضٍ متوسط. هو الوحيد بين أعمامي الذي نشأ دون أي اهتمام بالزراعة. كان يحب الرسم.. لا يرى إلا وهو يحمل دفاتر الرسم وأقلام الفحم. كان يهوى رسم الفلاحين في مواسم الحصاد. سأله أحمد عن اسمه، فقال مراد:

- اسماعيل صبري.. ردد أحمد الاسم، انه فنان معروف في المدينة.

- انه فنان مشهور.. لماذا لم تقل لي ذلك من قبل؟

- لم أكن أعرف انه مشهور إلى هذا الحد.

في هذه اللحظة انفتحت السماء. قلنا السماء لأنه لا يمكن أن يكون شيئاً آخر ذلك الذي انفتح، فقد تهيأ لمراد وكأن نوراً هائلاً قد عم حجرة الصالون فحل الصمت والخشوع والرهبة. لقد كانت سعاد هي التي فتحت باب غرفتها وخرجت منها. نظرت فوجدت مراد قبالتها ينظر إليها فتوقفت لا تعرف ماتفعل. كانت بثوب نومها، جميلة، شعرها مجنون والآن جن قلبها وخرج عن طوره (أحلى النساء هن اللواتي يكن أجمل حين يستيقظن من نومهن، وسعاد واحدة منهن.. إنها سكر نبات). هل تحلم؟ كلا، هاهو ذا متجمد في مواجهتها لا يعرف هو أيضاً مايفعل. ربما تمتمت مساء الخير.. وربما تمتم مساء الخير، ثم تراجعت ودخلت غرفتها وأوصدت الباب بلطف.

مر كل شيء كنسيم عليل، ولكن هذا النسيم جعله يحمر ويتعرق. مراد هذا لطيف حقاً، فله تجارب طويلة ومعقدة مع النساء الأوروبيات ومع ذلك يتصرف كمراهق أمام سعاد. وقد زاد من حرجه أن أحمد كان يرى إلى احمرار وجهه وارتباكه. أطرق أحمد ليريحه. هل حدث كل هذا في الحقيقة؟ سأل مراد:

- ماذا كنا نقول؟

في تلك اللحظة كانت سعاد مستندة إلى باب غرفتها وقد وضعت يدها على قلبها تهدئ جنونه، بينما كانت تقرض إصبع يدها الأخرى. كانت تستعيد في ذهنها الموقف كله. وبما انها كانت تبتسم برقة، فنحن نستطيع أن نؤكد انها عاشقة بدون أي جدال، وقد وضعتها الظروف قبل ثوان قبالة حبيبها، وهذه التجربة جعلت قلبها يخفق بجنون، وهي الآن تبتسم لارتباكه وارتباكها. وفجأة تذكرت نفسها، راحت تصفع خديها برفق، انها بثوب النوم وقد أفاقت من نومها، هذا يعني أن مظهرها كان فظيعاً، هرعت إلى المرآة لتتفقد حالها، نعم كانت فظيعة، صفعت نفسها من جديد وهي تنط(ولكن برفق طبعاً). أعادت جمع خصلات شعرها المنفلتة. وفي اللحظة التي شعرت فيها بالرضا عن نفسها، سمعت خبطة الباب.. لقد رحل مراد.

رحل ولكنه أبقى ذهنه عندها. كان كالمسحور. سار في الطرقات متمسكاً بذلك الشعور الذي تملكه حين دخلت عليهما في حجرة الصالون. أراد أن يحتفظ به مدة أطول. كان يسير وهو يبتسم، يلاحقه ظله وصوت نعليه على الطرقات الحجرية. إنه يحبها، وهي تحبه، ولكنه تصرف كرجل أخرق. أوقع نفسه وحبيبته في سوء تفاهم لن يرحمه أبداً. لن يخلص من لسان الشيخ علي ولا من عنتريات ابو عادل. ولكن ماذنبها هي؟ لماذا عليه أن يظلمها؟ إنه يعرف أنها تحبه، ولكن عليها أن تنتظر ريثما يحل تلك المشكلة التي لا حل لها، ألا وهي تفهم ابو عادل والشيخ علي لما حصل.. ولربما اضطرت أن تميت مشاعرها وأن تعمل علىنسيانه، كما سيفعل هو، إن لم تحصل معجزة.

بعد هذا اللقاء شعر كل من حول مراد بانشغال ذهنه. أمه الست نادرة ونعيم ومقيم. كذلك شعر الشيخ علي الذكي. أصبحوا يجتمعون كثيراً في محل نعيم ومقيم بسبب الحرب القائمة في الخان (انضم الشيخ علي وابو عادل إلى الثلاثة). كان مراد يطيل من حضوره في الخان خوفاً من أن يأتي مقيم بحماقة تعقد الموقف أكثر فأكثر. لاحظ الجميع بأن مراد يكثر من صمته ويقلل من تواجده في باحة الخان (خوفاً من أن ينظر دون إرادته إلى النافذة) ويكثر من تنهداته. لقد كان عاشقاً مسكيناً.

ولكن بعض الأصدقاء يهرعون دائماً لنجدة المرء، وقد تتولد عن هذه النجدة مصائب أكبر، وهذا ماحصل لمراد حين هرع نعيم ومقيم والشيخ علي لمساعدته.

سأل الشيخ علي حين كان جالساً معهما دون أن يكون هناك شخص آخر وخاصة ابو عادل:

- هناك أمر ما لا يعرفه إلا الله يشغل بال صديقنا الاستاذ مراد. تطلع الولدان برهة في أعين بعضهما البعض. كان هناك تصميم لدى كليهما لفتح الموضوع مع الشيخ. أجاب نعيم:

- نعم ياشيخي، مراد مشغول البال.

- لا شغل الله بال صديقنا..

- الاستاذ مراد عاشق. قال مقيم، فتغيرت هيئة الشيخ علي وانطرب لما سمع. قال وهو يضحك:

- إذن اسمعونا الأخبار الطيبة.. ومن هي صاحبة الحظ السعيد؟ فقال نعيم:

- لن تصدق ياشيخي إن قلنا لك.

- لقد شوقتماني. فقال مقيم:

- إنها سعاد ياشيخي.. فعبس الشيخ وراح يتمتم:

- الله أكبر، حتى أنت يابروتس؟

- اسمعنا ياشيخي وسوف نحكي لك القصة كلها..

حكيا له القصة من أولها إلى آخرها. قالا له كيف تعرف مراد على سعاد حين أطلت من نافذتها فأحبها دون أن يعرف من هي. ذكراه كيف كان يقف مع ابو عادل في صراعه مع السيد كمال على يدها دون أن يعرف أنها هي نفسها.. كان يحسب أن امرأة النافذة امرأة أخرى، ولم يسأل عنها خوفاً على سمعتها. وخلص نعيم:

- كان مراد عاشقاً مثالياً وأحمق. فأضاف مقيم:

- لقد قرر أن ينساها لأن الناس، وخاصة أنت ياشيخ علي وابو عادل، قد يحسبوه نذلاً، لعب على الجميع وحصل عليها لنفسه.

هز رأسه مطولاً وهو صامت. كانا ينتظرانه ليقول رأيه، فإن جاء لصالح مراد فستحل المشكلة. فكر الشيخ طويلاً ثم قال:

- الأستاذ مراد ليس نذلاً، اتركا ابو عادل علي انا.. ابتسما، فقد حلت برأيهما مشكلة سعاد ومراد، ولكن الأمر لم يسر كما اشتهيا، فأبو عادل رجل صعب، وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بملهمة شبابه الذي عاد إليه من جديد.

عندما خرج الشيخ علي من دكان نعيم ومقيم، حسبا انه ذاهب في هذه اللحظة ليتكلم مع ابو عادل، ولكنه ذهب من فوره إلى الجامع الكبير ليتابع مصالحه مع النساء اللواتي اعتدن المجيء إليه ليقرأ لهن الموالد أو ليبيّت لهن الاستخارات، أو، وهذا شيء فظيع ولا يتمناه رغم أنه يدر عليه شيئاً من المال، أن يصدف موت شخص ما فيأتون إليه ليحيي العزاء ويقرأ على روح الميت العزيز. أراد أيضاً، أن يجلس في رواق المسجد الجامع ويفكر بديباجة يقولها لابو عادل ويجعله لا يشك، من فوره، بنوايا الاستاذ. وهذا ماكان يفعله حين جاؤوا يخبرونه بأن الحاج محمد قد مات.

* * *

ترملت صبيحة. عندما نظرت إليه فوجدته قد أسلم الروح، أطلقت صرخة طويلة ومجروحة، هي بين الولولة والعواء. لقد ترملت بعد سبعة أشهر من خروجها من بيت أبيها عروساً لطالما حلمت بأن تكون يوماً. سبعة أشهر لا شيء قياساً إلى السنين الطويلة التي قضتها تحلم وهي محرومة. سنين حرمان وأحلام واستراق النظر إلى الرجال من خلف ستارة سطح بيتهم. أطلقت صرخة هي بين عواء كلبة متوحدة ونعيب غراب. كانا يعيشان في حرمان لا طاقة لكليهما على تحمله. أما بعد أن تزوجته فقد منحته كل ما كان يحتاج إليه من حنان. هي أيضاً أخذت منه ماكانت تحتاجه، ولكن مامنحته اياه كان أعظم. ليس مهماً انه كان مسناً، بعمر أبيها وربما أكثر.. المهم انه كان رجلاً، مثل كل الرجال، يملأ البيت بصوته الرجولي الخشن، يتنحنح بضجيج، ينظر إليها بعينين ذابلتين ولكنهما عينا رجل، تسوحان برغبة على جسدها وتتأملانه في كل الاوقات.

- آه.. ياابو محمود..

أصبح جسده بارداً بعد أن أشعل جسدها، ومات قبل أن يطفئه. كان يحبها وهي تتحرك في البيت. ترتدي له فساتين النوم التي تظهر جسمها المكتنز وتشف تقاطيعه وتبحث عن أية مناسبة لتتحرك أمامه. كان (رحمه الله) يحب رواحها ومجيئها، يتابعها بعينيه الذابلتين، واللتين راحتا تلتمعان منذ أن أصبحت عنده. كان يطلق عليها أسماء غريبة تجعلها تضحك برنة عالية( صبيحة، صبوحتي، ملاكي، صبحي وليلي، ياسمينتي، شمسي وقمري، بقلاوتي، زيتي وزعتري..) كانت تعجبه حينما تضحك بتلك الرنة العالية، ثم، وحينما تراه وقد اعتراه الذبول، تمد يدها إلى صدره الذي امتلأ بالشعر الشائب، فتقتلع شعرة ثم تهرب فيلحقها يريد الانتقام منها وهي تضحك. تدخل إلى الحمام وتغلق على نفسها وهي تتأوه من الضحك، فيقف خارجه يرجوها أن تفتح الباب. ترفض وهي تصطنع الخوف من رجولته ولكنها في الأخير تفتح لأنها لا تريده أن يمل اللعب، وحينما يصبح في الداخل يغلق الباب ثم يقبض عليها. هذا اللعب يجعله يموت شوقاً إليها، إلى جسدها، فينسى انها صبية وهو قد تجاوز الستين. يشتعل. كان يريدها على أرض الحمام ولكنها كانت تجره إلى الفراش وتتركه يحرثها ويلهث، ومن ثم تعيده إلى الحمام، تجره من يده وهو عار، فتقوم بتحميمه، وأثناء ذلك، دائماً، كانت تدلل بأصابعها آلته دون أن تتركها تنتعش من جديد خوفاً على صحته.

- أسفي عليك يا زينة الرجال..

كان، رحمه الله، بخيلاً (لم يكن بخيلاً في الحب) كان يحب التوفير ويكره التبذير. كان قنوعاً. يكره اللحمة وزنخها، ويكره أن يتعبها بتحضير الأطباق المتنوعة. كان يكفيه طبق واحد، ويفضل الخضار المسلوقة والمطبوخة بالزيت. أما السلطة فقد تكون وجبة عشاء رئيسية. كان يضحك عندما تناديه بألقاب البخل (يابخيلي، ياشحيحي..) ربما أحبها بهذا القدر لأنها سايرت أيضاً بخله. ساعدته على عدم التبذير. لم تكن تطلب شيئاً لنفسها، وعندما كانت تشتهي الكبة النيئة كانت تصنعها بالزيت عوضاً عن الهبرة. كان يعدد لها مساوئ اللحمة فتخلت عن اشتهائها فرضي عليها، أما هو فلم يخطر في باله أن يشتري لها سوى فساتين النوم الرقيقة والشفافة والسراويل الداخلية الحريرية الملونة ذات الدانتيلا (المسكين.. كان يعز الدانتيلا كثيراً). اما الثياب الخارجية فلم يشتر لها منها شيئاً منذ أن تزوجها.. فلم يكن هناك ضرورة إلى ذلك، فهما لم يكونا يخرجان ويذهبان لزيارة أحد إلا نادراً.. كان يحبها وهي تتفتل في البيت أمام عينيه بثوب النوم، أو بدون ثياب على الإطلاق. كان، رحمه الله ألف مرة، يحب الطبيعة..

- يوولي.. ياابو محمود!!

بقي أن نشير إلى انه كان يحب الرقص. كان يعز كثيراً هذا الفن الجميل. برأيه أن أية امرأة لا تعرف كيف ترضي زوجها بالرقص وبهز الأرداف، هي زوجة خاملة ولا تستأهل الاهتمام. مشكلته مع ام محمود زوجته الأولى (اللعينة) والتي تخلص منها بشق الأنفس، هي انها لم تكن تجيد هذا الفن البديع. أما صبيحة هذه فقد بدت وكأنها امرأة خبيرة. لم تكن خبيرة ولكنها كانت تتحرك بطريقة الخبيرات. تهتز وتتمايل وتنحني وتغمز بعينها وتشهق. أجمل حركة كانت تقوم بها عندما تقف في منتصف الغرفة منفرجة الساقين وتدير ظهرها إليه ثم تميل إلى الأمام وهي تهتز فتتركه يشخص بعينيه إلى مؤخرتها الجهنمية. كانت عيناه تجحظان ويسيل لعابه ويروح يصفق لها حسب لحن الاسطوانة على البيك آب. هكذا كانت ترقص آخر مرة حينما مر وقت طويل وهي تضحك وتناديه ( دون أن تراه فقد كان يجلس على الكنبة خلفها) ولكنها فطنت إلى انه لا يصفق كعادته. استدارت لتفهم السبب (هل مل مؤخرتها لا سمح الله ؟) فوجدته يمسك صدره وقد ازرق وجهه ويمد يده الأخرى نحوها متشبثاً بالهواء، يريد أن ينطق بكلمة ما، لم يسعفه الوقت لنطقها (ماذا كان يريد أن يقول؟)، فسقط رأسه إلى جانب ثم نفخها. أما هي فقد ابتعدت عنه مروعة، وصارت تصرخ وتولول وتندب حظها.

دفنوه وقرأوا عليه. قرأ الشيخ علي في العزاء الذي عملوه له في بيت ابنه محمود. كان التجار من أصدقاء المرحوم يترحمون عليه متجهمين إكراماً له، ولكن بعد مرور الأيام الثلاثة، أصبحوا يتندرون ضاحكين بميتته الرائعة، وقال أحد الخبثاء إنه مات ميتة مشرفة، وتمنى آخر، وهو يترحم عليه، أن يموت مثله في أحضان زوجة جديدة وشابة. عادت صبيحة إلى بيت أبيها لتبدأ رحلة طويلة من البكاء (على المأسوف على رجولته رغم سنه). رحلة في الذكريات وأحلام اليقظة والتنهدات.

* * *

مات الحاج محمد وترك خلفه المشاكل. ولكن مشاكل المرء لا تأتي هكذا.. بمفردها، فهي تأتي مجتمعة مع مشاكل الآخرين لتشكل حمى تنتاب الجميع. كل يغرق في مشاكله، وتتقاطع الهموم وتسخن الصراعات، أما في خان الحرير فقد اقتنع السيد كمال بأن الاستاذ مراد هو أصل كل المصائب. كان الخان قد انقسم إلى فريقين متناحرين، وكان كل فريق يمتنع عن التعامل مع الفريق الآخر ويسعى لتوجيه ضربة إليه. لم يكن السيد كمال يقصر في هذا المنحى (كان يستمتع بالحروب التجارية) لذا فقد جمع الدلالين الذين يتعامل معهم وطلب منهم الا يتعاملوا مع الثلاثة. حاولوا التملص من إعطاء وعد بذلك ولكن السيد كمال كان حازماً وصريحاً، من يريد التعامل معي عليه أن يتوقف عن الوساطة للثلاثة، فهم أعدائي. كاد ابو يوسف يبكي وهو يوافق أخيراً، عندها كافأه السيد كمال بأن طلب منه أن يبحث له عن طنين من الخيوط. في هذه الأثناء قرر الثلاثة (مراد ونعيم ومقيم) الضرب بسيف السيد كمال ومعاقبته، فقد طلبوا من المحامي عدلي أن يهمس للسيد كمال بأنهم على وشك استيراد خمسين طناً من الخيوط وأنهم قرروا تنزيل نصف الصفقة إلى السوق لبيعها نقداً (لدفع سندات مستحقة). هذا الخبر أثار السيد كمال وجعله يطمع في العمل على التسبب بخسارة لا بأس بها لهؤلاء الثلاثة، لذا فقد طلب من دلاله ابو يوسف أن يشتري له، وبالسرعة الممكنة، خمسة وعشرين طناً من نفس الخيوط التي سيطرحها الثلاثة في السوق. ظل السيد كمال يشتري رغم ارتفاع السوق بسبب الطلب، وعندما اشترى كل الكمية اللازمة أوحى الثلاثة إلى ابو يوسف بأن لديهم كمية كبيرة من الخيوط يريدون بيعها بالنقدي وأنهم يطلبون منه طرحها في الاسواق بين التجار. هرع ابو يوسف إلى السيد كمال وأخبره بما وصل إلى أسماعه. قال السيد كمال:

- إذن فقد وصلت بضاعتهم؟

- لا أعرف شيئاً عن أية بضاعة ياسيد كمال.. كل ماهنالك أن مقيم قابلني في السوق وطلب مني أن أعمل على تصريف خمسة وعشرين طناً من الخيوط.

أخذ السيد كمال نفساً عميقاً ثم أحاط كتفي ابو يوسف بذراعه:

- بكم سوق الخيط اليوم ياابو يوسف؟

- باربع ليرات وربع ياسيد كمال.

- اذهب واعرض كل الكمية التي اشتريتها لي بسعر أربع ليرات إلا ربع.

- ولكن السعر أعلى من ذلك ياسيدي!!

فطرده وهو يأمره:

- كما قلت لك، أبيع بأربعة إلا ربع.. هيا، مع السلامة.

هرع ابو يوسف ليبيع بضاعة السيد كمال، وبالتالي ليكسر السوق، عندها تدخل الثلاثة وطلبوا من بعض حلفائهم (كان منهم ابو عادل وجاره عبد السلام) بشراء الكمية لصالحهم بهذا السعر المتدني.. وهكذا انتصروا على السيد كمال في هذه الجولة.

بعد عدة أيام دخل ابو يوسف إلى محل السيد كمال ليخبره بأن سوق الخيط بدأ بالارتفاع، فجن جنونه وبدأ يتساءل عن مصير بضاعة الثلاثة التي كان عليها أن تنزل إلى السوق، ولكن.. قد يكون ذلك ملعوباً من قبلهم، لذا فقد راح يخابر أصدقاءه في مديرية الاقتصاد، ليسألوا له عن رخصة استيراد باسم واحد من الثلاثة، وجعل ينتظر وهو يرتجف.

في هذا الوقت دخل محمود (ابن الحاج محمد) وهو يتميز غضباً.

- ماذا حصل؟

- أمي..

- ماذا بها؟

- لقد جاؤوا بناء على طلب قدمته في المحكمة وأغلقوا المحل وختموه بالشمع الأحمر لريثما يتم حصر الارث. قال من بين أسنانه:

- العمى.. أمك؟ ولكنها انسانة بسيطة، كيف خطر لها؟

- لقد دفعها الثلاثة وعرفوها بأحد المحامين. انهم يساعدونها..

خبط السيد كمال طاولة مكتبه بقبضته.. ماذا يفعل هؤلاء الثلاثة؟ كان يعتبر محمود من جماعته.

لقد جرت الأمور كما يلي، فقد جاءت ام محمود، بعد مرور الأيام الثلاثة على وفاة مطلقها الحاج محمد، إلى الخان تصحب ولديها الآخرين. وقفت بوجه ابنها (المغضوب) محمود وطلبت منه أن يغلق الدكان لأن لأخويه حقاً فيها. رفض محمود وحاول طرد أمه وأخويه (كان يريد أن يستأثر بالدكان لنفسه) فرفعت ام محمود صوتها وحاولت ضربه، واشترك أخواه بالعراك، فتجمع الناس، وراحت تبكي داعية الله ليقتص منه لأنه هو السبب في كل هذه المصائب. حينها جاء الثلاثة وأدخلوها إلى محلهم. هدأوها ثم بينوا لها الطريق الصحيح إذا أرادت أن تحصل على حقوق ولديها الصغيرين.

رن جرس الهاتف فالتقط السيد كمال السماعة. كان على الخط أحد أصدقائه من الذين كلفهم بالسؤال عن رخصة الاستيراد.. بعد دقيقة أغلق الهاتف وهو محتقن. لا يوجد مثل هذه الرخصة. لقد فعلها به هؤلاء الثلاثة.

في هذه الأثناء، كان هؤلاء يضحكون بصوت عال، فقد وجهوا إلى السيد كمال ضربتين قاسيتين.. قضية ام محمود وقضية الخيوط التي أصبحت في مستودعاتهم. ضحكوا كثيراً.. ليس السيد كمال وحده من يجيد مثل هذه الألعاب. ثم انهم شاهدوا ابو عادل يتجه نحو دكانهم. جاء في وقته، سوف يضحك أربعتهم على السيد كمال. ولكن ابو عادل دخل وهو متجهم السحنة. كان ينظر إلى مراد نظرة عدائية. كان حاقداً عليه، كارهاً له، فزال جو المرح وجو الانتصارات على السيد كمال. أما نعيم ومقيم فقد حدسا بما جرى.

كان الشيخ علي قد فكر طويلاً قبل أن يذهب إلى ابو عادل. فكر بأن يحكي له قصة قال إنه سمعها مؤخراً. حكاها له ولجاره عبد السلام. قال لهما:

- كان ياما كان في قديم الزمان، كان هناك شاب خلوق ومتعلم، عاد من بلاد برا بعد أن تعلم وأصبح ذا شأن. توظف أخونا في إحدى الادارات وكانت لغرفته التي يعمل فيها نافذة تطل على بناية سكنية. كانت هناك نافذة لأحد بيوت هذه البناية. كانت مغلقة باستمرار فأصحابها محتشمون والحمد لله. وفي إحدى المرات، وبينما كان صافناً في ملكوت الله، فتحت النافذة وأطلت منها امرأة عظيمة الجمال.. على وجهها مسحة من الحزن الغريب.

اهتم الاثنان للحديث، فهو عن امرأة جميلة، هذا يعني أن القصة ستكون ممتعة. ابديا اهتماماً زائداً فأكمل الشيخ قصته:

- أعجب أخونا بامرأة النافذة وهي ايضاً اهتمت به. صار ينتظرها لتفتح نافذتها، ينتظر انبلاج الفجر ليأتي قبل جميع الموظفين لعله يتبارك بوجهها الصبوح. هي أيضاً كانت تسرع لتنهي أشغالها في البيت كي تعود إلى النافذة، فتفتحها لتمكن عاشقها من النظر إلى وجهها. لم يسأل الرجل عنها خوفاً على سمعتها، فهو محب صادق ومهذب.

- ما شاء الله كان..

- بعد فترة، وكان يلتقي ببعض الاصدقاء مساءً في احد المقاهي، طلب منه أحدهم أن يتواسط له عند صديق لهما ليخطب ابنته. ذهب أخونا إلى الأب وتواسط لديه ليعطي ابنته إلى هذا الصديق. رحب الاب وطلب مهلة كي يسأل الابنة، وبعد أيام جاءه بالخبر، فالابنة تريد أن تنهي دراستها وتحصل على البكالوريا أولاً.

- عظيم.. وبعد ذلك؟..

- بعد ذلك، يجب أن تعلما أن ابنة الصديق هي نفسها امرأة النافذة. صاح ابو عادل وعبد السلام من المفاجأة.. الله أكبر.. فتابع الشيخ:

- حزنت المرأة الجميلة. قالت في سرها، كيف يهتم بي ويأتي لي بعريس؟ فسأل عبد السلام:

- هل كانت تعرفه؟

- نعم، ولكنه لا يعرفها.. انت تعرف العادات والتقاليد؟ فسأل ابو عادل:

- وكيف انه لا يعرف اين يسكن صديقه؟ كاد ينكشف الشيخ علي لأنه لم يفكر جيداً بقصته فوجد ذريعة:

- لا يعرف، سبحان الله.. كان يذهب إلى دكانه.

- وبعد ذلك؟

- بعد ذلك عرف أخونا من تكون امرأة النافذة.. عرف انه قد تصرف بغباء، انه الآن يتعذب، يقول إن صديقه الذي طلب وساطته سيتهمه بالخيانة إن هو تقدم إلى خطبتها.

حل صمت في دكان ابو عادل. كان الأمر محيراً لهما، اما الشيخ علي فقد كان ينتظر شيئاً يقولانه.

- ماذا حدث لكما..؟

- قصة مؤثرة، قال عبد السلام، صاحبك هذا رجل شريف، عليه أن يفاتح صديقه بالقصة.

- ومارأي ابو عادل؟ سأل الشيخ.

- رأيي أن على الصديق أن يتفهم قصة صديقه.. قلبي على امرأة النافذة، فالله أعلم، انها تتعذب الآن..

تركهما الشيخ علي وذهب. ظل ابو عادل وجاره عبد السلام يتداولان في هذه القصة الغريبة، وعندما عاد ابو عادل إلى بيته، لم يستطع أن ينام، فقد كان ذهنه مشغولاً.. فالقصة التي سمعها تذكره بأشياء كثيرة لا يعرف كيف ومتى وأين صادفها. خرج إلى باحة الدار وراح يتمشى. كان يردد بصوت خافت ومسموع: امرأة النافذة.. امرأة النافذة.. عاد إلى الفراش وفجأة لمعت في ذهنه. امرأة النافذة هي الست سعاد، والرجل الموظف هو الاستاذ مراد، بينما الصديق هو نفسه.. ابو عادل.

نهض من جديد من فراشه وهمس: اللعنة.

في الصباح الباكر، وعن غير عادته، ذهب إلى الجامع الكبير وبحث في الأروقة عن الشيخ علي حتى وجده ينوس. ألقى عليه سلاماً جافاً ثم أعلمه انه عرف معنى القصة التي حكاها له ولعبد السلام.

- وماذا فهمت ياابو عادل؟

- فهمت أن صاحبك هو الاستاذ مراد بالذات.. شف النذل، لقد خدعنا جميعاً.

- لا تسيء الظن ياابو عادل.

- الاستاذ مراد ضحك علينا جميعاً.. كنت أحسب أن السيد كمال هو الذي كان يقف في وجهي.. سأريه هذا المخادع.

ثم نهض وسلم وأسرع إلى الخارج. ناداه الشيخ ولكنه لم يرد.. بل خرج وهو ينوي شراً. قال الشيخ:

- حسبنا الله ونعم الوكيل.. حسبنا الله..

قبل أذان الظهر كان ابو عادل قد دخل إلى محل نعيم ومقيم متجهماً وعدائياً. كان يحسب انه قد خدع، ومن من؟ من شخص يدعي انه صديق.. ياللعار!! قال له مراد وقد فوجئ بكم كبير من التهم والتحديات:

- انت غلطان ياابو عادل.

- اذهب وخذها، لقد أصبحت لك، ولكنني قد فهمتك على حقيقتك ياأستاذ. صاح نعيم:

- ابو عادل.!

- لقد انتصرت علينا كلنا بدهائك.. اذهب وخذها يا.. أستاذ.. مراد.

ثم خرج. لحق به نعيم ولكنه لم يرد عليه، وعندما وصل إلى محل السيد كمال تمهل، فقد فكر أن يعيد علاقته به نكاية بهذا المخادع الماكر مراد. شاهده السيد كمال فخرج من محله مستعداً لاستقباله. ولكن معدنه الطيب تغلب على حقده ونزقه، فترك السيد كمال واقفاً غير فاهم مايجري وابتعد ثم خرج من الخان. اما داخل محل نعيم ومقيم فقد كان مراد يلقنهما درساً قاسياً، ثم قال بنبرة باتة:

- اسمعا، لا اريد أن اسمع في المستقبل أي كلمة عن ابنة الشباك.. سوف ننساها إلى الأبد.

كانا مطرقين يشعران بذنب كبير بسبب حماقة ابو عادل. ثم سمعا صوت الباب ينصفق، فقد خرج مراد يتميز غضباً.

كان يوماً عصيباً لكل تجار خان الحرير.

* * *

خلال الصيف اشتد الصراع على سورية من جديد، فالتاريخ يعيد نفسه. وبدأ الناس يتخوفون من الحرب كما في السنتين الماضيتين. كانت سورية محاطة بالأعداء، فقد اتهمت بأنها وقعت تحت نفوذ الشيوعية الدولية (حسب تعبير دالاس وزير الخارجية الأمريكية) فحشدت تركيا فرقتين عسكريتين على الحدود معها،  وكذلك فعلت اسرائيل والعراق، ثم أن لبنان كان يخاف من النفوذ المصري المتصاعد في دمشق فاستقبل الأسطول السادس الأمريكي في موانئه، وراح يتلقى المساعدات العسكرية الأمريكية لتسليح جيشه أسوة بالأردنيين.. كان كل ذلك يجري تحت ذريعة بأن سورية (الشيوعية) تحضر للهجوم على كل جيرانها لتجعلهم شيوعيين مثلها..!!

أما سورية المسكينة فقد قررت الا تخاف وأن تدافع عن استقلالها بطريقتها، معتمدة على الحماس الشعبي وخاصة حماس الشباب أمثال أحمد ورفاقه، فتسلحوا من جديد وتم إرسالهم إلى إحدى الجبهات الكثر، وهكذا.. ودع أحمد أهله من جديد ورحل، حاملاً بندقيته على كتفه.

أصبحت المدينة تعيش أجواء حرب، فعادت الإذاعة تبث المارشات العسكرية والتعليمات إلى الأهالي ليعرفوا كيف يتصرفون في حال وقوع عدوان او غارات جوية، فدهنت المصابيح الكهربائية وزجاج النوافذ باللون الأزرق، وراح المتطوعون يوقفون السيارات العامة لدهن مصابيحها، فقد تحدث هذه الغارات ليلاً.. وازدادت لهجة العداء لأمريكا في بيانات الحكومة التي كانت تذاع من الراديو باستمرار. وفي كل يوم كان هناك خبر أو تهديد من بولغانين أو دالاس أو كميل شمعون، أما أحزاب المعارضة فقد كانت تتهم حكومة صبري العسلي باستفزاز أمريكا، حتى أن السيد كمال راح يتهم كل الوطنيين والمستقلين، وجماعة خالد العظم والبعثيين بالشيوعية، هذه العقيدة التي ستأتي إلينا بالويلات والحروب والدمار.. أما الكساد (حسب رأيه) الذي أصاب الأسواق التجارية فهو أقل المصائب.. والويل الويل للشيوعية ولرأس حربتها في الخان الاستاذ مراد. ومن أجل الخلاص من الحروب والدمار علينا القضاء على الحكومة، وخاصة على ذاك المليونير الأحمر خالد العظم (كان وزيراً للخارجية)، ولا بأس من القضاء على هيئة أركان الجيش وخاصة عفيف البزري الذي هو، دون شك، ضابط في الجيش السوفييتي الاحمر الذي يستعد لاحتلال سورية..!! ومن أجل ضمان استقلال البلد (مازلنا مع السيد كمال) يجب أن يفلس الاولاد الثلاثة، انه يتجهز لهم، فقد شارف مصنعه على الانتهاء وقريباً سينزل انتاجه إلى الاسواق ليضارب بضاعة الاولاد تمهيداً لضربهم وإفلاسهم وإخراجهم من السوق، فهذا كله لمصلحة البلد.

حتى مؤازرة محمود في حربه ضد أمه وأخويه الصغيرين كانت لمصلحة البلد، فقد نصحه بأن يتفاهم مع أمه ويقوم بشراء حصة أخويه من الميراث قبل أن يتم حصر الأرث، ثم عرض عليه أن يقوم هو (أي السيد كمال) بشراء هذه الحصة ليكون شريكه فيما بعد. عرضا عليها الفكرة ومن ثم المبلغ الذي سيدفعانه، وحينما عرف السيد كمال بأن ام محمود تقوم باستشارة الاولاد الثلاثة هددها بأنه سيتراجع عن وساطته بينها وبين ابنها، واستطاع أخيراً شراء الحصة بمبلغ بخس، ولم يدر الثلاثة إلا وام محمود تدخل محلهم وبيدها المبلغ والعقد. كان السيد كمال يحسب أن هذا الاتفاق سوف يغيظ الثلاثة (وهكذا كان) فقد شعروا بمبلغ الغبن الذي وقع على هذه الأم المسكينة، خصوصاً وأن السيد كمال اشترى الحصة من الميراث، أي حتى انه حصل على معظم أسهم البيت الذي تسكنه مع ولديها. وعندما عرفت المسكينة حقيقة ماحصل راحت تلطم نفسها وتبكي، حينها نصحوها برفع دعوى ضده لإلغاء عقد البيع والشراء بسبب ضآلة الثمن المدفوع مقابل الحصة من الميراث.

* * *

كانت ام أحمد تنتظر بفارغ الصبر حصول ابنها على شهادة البكالوريا كي تخطب له زينة ابنة السيد محسن. الجميع كان يعرف انهما يحبان بعضهما. لا أحد يقول ذلك بفصيح العبارة، فكلمة الحب لا تقال صراحة. كانوا يقولون: أحمد يريدها وهي تريده.. أو انهما يريدان بعضهما البعض. أما أحمد فلم يكن يخاف من ترداد كلمة الحب، فقد كانت طبيعية بالنسبة إليه لأنه فعلاً يحب زينة.

ها قد مرت الاسابيع بعد أن علق الشهادة على الجدار ومع ذلك لم يطلب من أمه الذهاب إلى بيت السيد منير لتخطب له زينة. كان مشغولاً بالأخبار والمظاهرات وبالتدرب على حمل السلاح. كان يعود إلى البيت ليسرع إلى الراديو. كان ينتقل من محطة إلى محطة، ومن نشرة أخبار إلى أخرى، حيث يتردد اسم سورية عشرات المرات يومياً. في تلك الليلة كانوا متجمعين حول سفرة العشاء أما هو فقد ألصق أذنه بجهاز الراديو.

تحدثوا عن زينة. كان من رأي أبيه أن عليهم خطبتها فوراً، فأهل البنت ينتظرون منهم هذه البادرة بعد أن أخذ الشهادة المنتظرة، وعلقت سعاد بأن زينة، لهذا السبب، قد توقفت عن زيارتهم وكأن الخطبة أصبحت حقيقة واقعة. سألوا أحمد عن رأيه، فقال وهو يهتم بما تذيعه محطة صوت العرب إنه يريدها طبعاً. سأله أبوه:

- وهل تريد أن تذهب أمك وتخطبها لك؟

فهز رأسه دون أن يستدير إليهم.. نعم انه يريد ولكنه الآن مشغول بأمور الحصار المضروب على سورية من كل جيرانها. تبادل الأب والأم والأخت نظرات الاستغراب ثم تبسموا، ثم قرروا أن يتصرفوا من تلقاء أنفسهم، فأحمد مشغول البال ولكنه يريد زينة، وزينة وأهلها ينتظرون قدومهم.. ولهذا السبب عليهم التحرك دون إبطاء. ذهبت ام سعاد وابنتها إلى بيت السيد محسن في اليوم التالي، فطلبتا يد زينة بعد مقدمة طويلة عن الحب والتفاهم الذي يربط الأسرتين. ورغم أن زينة كانت تنتظر هذا الحدث منذ زمن، الا أنها خجلت واحمر وجهها فهرعت إلى الخارج بحجة غلي القهوة، فلحقتها ذكية وسعاد، وهناك في المطبخ، ترددت زغاريد النسوة الثلاث.

كان الأمر يبدو وكأنه سيقتصر على الروتين فحسب. ام محسن سوف تعرض الأمر على السيد منير، أما هو فسوف يستشير أحد أصدقائه مثل الشيخ قدري أو السيد كمال.. كما انه سوف يضع ابنه محسن في الصورة. وبما أن محسن وأحمد أصدقاء منذ أيام الطفولة، وبما أن الحديث يجري منذ زمن بعيد بأن أحمد لزينة وزينة لأحمد، وبما أن الشاب قد حصل أخيراً على البكالوريا، وبما أن اباه الحاج عبد القادر رجل طيب وابن حلال، فقد توقعت زينة وتوقعت امها وأبوها أن كل شيء سوف يكون على مايرام.

كما أن أحمد وأهله كانوا متأكدين من جواب أهل العروس. حتى انهم راحوا يخططون متى عليهم أن يلبّسوا الخواتم، ومتى سوف يكتبون الكتاب، أما العرس فقد قرروا أن يجروه بعد أن يصبح أحمد في السنة الثانية في كلية الحقوق التي يعتزم الدخول إليها. ولكن أحمد فاجأهم حين دخل عليهم وهو يحمل بندقية وأخبرهم انه راحل للدفاع عن البلد. قالوا له:

- انت في كل عرس لك قرص..

- وهل عليك أن تذهب إلى كل حرب يمكن أن تشتعل؟

- وماذا عن زينة؟ فقال لأمه وأبيه وأخته سعاد:

- لا تخافوا، سوف تنتهي أزمة البلد سريعاً، حتى قبل أن يجيب أهلها على طلبنا..

ثم ودعهم ورحل بعد أن أخذ خرجية وبعض الاطعمة، وبعد عدة أيام وصلهم الجواب الصاعق. لقد رفضوا اعطاءهم زينة لابنهم أحمد.

عندما سمع محسن بموضوع زينة وأحمد، برم شفتيه ولم يقل شيئاً، فقد كانت العلاقة بينهما ليست على مايرام ولم يعد يحب أحمد بسبب وقوفه إلى جانب الاولاد الثلاثة، وهو لا يريد أن يتدخل خصوصاً وأن عمه صار يكره أحمد ولم يعد يطيق سيرته. كان السبب الرئيسي لهذه الكراهية رفضهم اعطائه سعاد، وهو يعتقد أن لأحمد كلمة مسموعة في هذا الأمر، لهذا، فعندما استشاره السيد منير في الأمر، تكهرب السيد كمال وراح يعمل ضد هذا الزواج. أول من قام بإقناعه كان صهره محسن بالذات. قال له إن هذا الزواج يسيء إليه شخصياً، وإن تم فإنه (اي السيد كمال) سيعيد النظر في كل شيء، وقد فهم الصهر وأبوه أن كل شيء يعني أن مصلحة محسن في خطر.

الدنيا مصالح، والمصنع الذي بناه السيد كمال وجعل صهره عضواً في مجلس إدارته ومديراً له سوف يبدأ انتاجه خلال أيام، وليس من المعقول الآن أن يطعنه صهره وأهل صهره من الخلف وذلك بإعطاء ابنتهم إلى عدوه، أو على الأقل إلى متحالف مع أعدائه. خاف محسن على مصلحته وخاف منير على مصلحة ابنه. رفضوا الخطوبة كرمى للسيد كمال، وبهذا الرفض أمسك سيد خان الحرير  بالخيوط من جديد وعاد ليسترق النظر إلى النافذة وعاد إلى إطلاق الزفرات.

كانوا في بيت عبد القادر يعرفون سبب الرفض ويعرفون من وراءه. انه السيد كمال.. وكذلك كانت زينة المسكينة تعرف. كانت تبكي وتدافع عن نفسها. كانت تتهم أخيها بأنه جاحد. كان يرتب لقاءاتهما بنفسه فماذا حصل له؟ ذكرته كيف كان يأخذها إلى السينما مع أحمد، حينها كان ينفجر ويطلب منها أن تنسى الماضي، فأحمد الآن عدوه (انه عدوه مادام عدواً للسيد كمال). وماعلاقة زينة اللذيذة بالسياسة والأحلاف والحروب التجارية؟ كل ماتريده هو أحمد ولتذهب التجارة والجاكار إلى الجحيم، فالناس باستطاعتها العيش بدون جاكار، اما هي فلا يمكنها العيش بدون أحمد. كانت تبكي على صدر ذكية او على صدر أمها. انهما تفهمانها جيداً، أما في الليل حين تأويان إلى فراشي زوجيهما، فقد تعاتبانهما على موقفهما من أحمد.. قد تحاولان تليين موقفهما الصلب (من يستطيع مخالفة رأي السيد كمال؟) ولكنهما في النهاية تغفوان وقد دستا انفيهما تحت ابطي زوجيهما، بينما على زينة أن تظل تبكي بمفردها حتى الصباح.

في بعض الأحيان، كانت تهدأ وتتوقف دموعها عن السيلان. تظل هكذا مدة لا ترف عينيها لأنها، في هذه اللحظة، تبحث في ذهنها عن طريقة تبعد بها السيد كمال عن طريقها. هل تذهب إليه وتبكي بين يديه وهي ترجوه أن لا يتدخل في شؤونها؟ أم عليها أن تأخذ معها سكين المطبخ تهدده به فيخاف منها ويعتذر ويحلف أغلظ الايمان بأنه لن يتدخل في حياتها وحياة حبيبها؟ أم انها ستطعنه مباشرة في ظهره لتريح الناس منه وتريح نفسها؟ ولكن، ماإن تتذكر بأنها فتاة ناعمة لا حول لها ولا قوة حتى تعود إلى البكاء المر على نفسها وعلى أحمد.

- آه يا أحمد..

تبكي بغزاره أكثر حين تتذكر عيونه وتلميحاته، حين تتذكر ابتساماته لها وغمزاته.. اما عندما تتذكر قبلاته التي يسرقها منها على عجل في ممر بيتهم فتكاد تختنق من النحيب. وفي النهاية، عندما يرتفع صوت المؤذن لصلاة الفجر.. تكون قد أنهكت نفسها فتقرر انتظار أحمد ريثما يعود من حروبه التي لا تنتهي. أحمد سيجد الحل لمشكلة السيد كمال، نامي يازينة، توقفي عن البكاء واهدئي.

* * *

بدأ مصنع السيد كمال بانزال انتاجه إلى الاسواق. في عز الازمة راح المصنع يغرق السوق ببضائع مشابهة لبضاعة الأولاد وبسعر أرخص. كان السيد كمال ينفذ تهديده ووعيده بإفلاس مراد ونعيم ومقيم. فقد همس لصهره وهما يعاينان قطعة من الجاكار بأنه لن يرتاح له بال حتى يرى الثلاثة يأتون إليه يرجونه كي يشتري منهم مصنعهم.

شعر مراد بجدية مايجري، فقد بدأ العديد من التجار بإرجاع بضائعهم لأن سعرها أعلى من سعر بضاعة السيد كمال. انهم أضعف من كمال. إنه يعرف أنهم لن يستطيعوا مجاراته في كمية الانتاج وسعره، من أجل ذلك سيطر الوجوم على الشركاء الثلاثة.. ما العمل؟

كانت الاسواق متوقفة وليس هناك من أمل قريب بتحركها، فالحرب قد تندلع في أية لحظة والتجار يفتحون محلاتهم بحكم العادة ليقعدوا إلى جانب اجهزة المذياع وليتابعوا بخوف أخبار الأزمة السورية. في هذا الوقت العصيب والمخيف وجه السيد كمال ضربته فبدأ منافسته الهائلة. كان قد استعد من أجلها جيداً، فقد أسس شركة مساهمة أدخل فيها أقوى التجار والصناعيين ورجال المال في البلد. (كانوا من أصدقائه وعلى شاكلته) أي أن مصنعهم لا حدود لإمكانياته. إنه لاعب ذكي هذا السيد كمال، فقد أغرق السوق بالبضائع الرخيصة وهو يعلم أنه لا بد يوماً من أن تنتهي الازمة ومهما كانت النتيجة، وعندما يعود السوق إلى طبيعته، ويعود الناس إلى التبضع، سيكون جاكاره على كل الرفوف وفي كل الفيترينات. اما بضاعة الاولاد فستكون قد عادت إلى مستودعات أصحابها.

تابع الثلاثة تشغيل مصنعهم مدة ليثبتوا للسيد كمال أنهم مستعدون للحرب معه، ولكن اليوم الذي كان عليهم الجلوس لبحث الأمر بجدية قد جاء.. إنهم لا يستطيعون الاستمرار إلى الأبد، فالأسواق تصفر صفيراً والكآبة قد احتلت الوجوه خوفاً من اندلاع حرب تحرق الأخضر واليابس.. في هذا الوقت، من يفكر بالجاكار؟ فالجميع يتمونون بالأطعمة خوفاً من مجاعات الحروب، وتوقف التجار هذه المرة أيضاً عن دفع السندات المستحقة، وبدأت تسمع كلمة الرجاء التي تطلق في الأوقات العصيبة: يالطيف..

أوقف الثلاثة مصنعهم. أوقفوه بعد أن امتلأت مستودعاتهم بأقمشة الجاكار. أوقفوه بينما استمر مصنع السيد كمال في العمل وإغراق الأسواق بأقمشته.

علمت زينة بخبر إيقاف مصنع أصدقاء أحمد الثلاثة من أخيها محسن الذي دخل يحمل الخبر بابتهاج. كان عمه السيد كمال قد امتدحه في آخر اجتماع لمجلس الإدارة لأنه نجح في إدارة المصنع حتى أطلق انتاجه ومن ثم استطاع إيقاف مصنع الاولاد.. تأوهت زينة وقد ملأها التشاؤم، فمادام الثلاثة خسروا معركتهم التجارية مع محسن وعمه، فهل يستطيع أحمد أن ينجح في معركته (معركة الحب) ضدهما؟ زينة تخشى انه لن يستطيع.

ولكن الأمور لا تجري دائماً حسب ما يريد السيد كمال، فبينما كان يتفاخر أمام ضيوفه وزواره في باحة الخان بأنه استطاع ايقاف مصنع الأولاد ، وأنه سيفلسهم لا محالة، حدث أمر جديد لو عرف به في وقته لحاول إيقافه ومنعه. فقد تقدم مراد لخطبة سعاد.

* * *

كل من يعمل في سوق النسوان يعرف العلاقة الحميمة التي تربط كلاً من الشيخ علي وابو عادل. فهما يشكلان ثنائياً طريفاً، فإذا كان كل تاجر في سوق المدينة يسير خلف عباءة شيخ (وهذه قاعدة) فإن ابو عادل لم يجد سوى الشيخ علي ليسير (ولكن) إلى جانبه وليس خلفه. إن طرافته وتسامحه هما اللتان تدفعانه لمصادقة تاجر في سوق النسوان. هذا السوق الذي يهرب الشيوخ الورعون من المرور من خلاله لأنه يغص دائماً بالنساء ولأن تجاره أكثر مرحاً وانفتاحاً بسبب تعاملهم مع هذا الجنس من الزبائن. لم يكن يمر يوم دون أن تسمع أدعية الشيخ الضرير، في سوق النسوان، يطلقها لينبه الناس إليه فيبتعدون عن طريقه لكيلا يصطدموا به. كان يفتح طريقه بوساطة عكازه وصوته الجهوري ونكاته الطريفة. أما الناس فقد كانوا يعرفون وجهته الدائمة.. إلى دكان ابو عادل الذي ما إن يسمع صوته من بعيد حتى يخرج لملاقاته، تلك الدكان التي شهدت مزاحهما ومماحكاتهما وسمعت نوادر الشيخ دائم البحث عن الولائم. وبما أن ذكاء ابو عادل من النوع المتواضع فقد كان الشيخ يدله إلى الطريق الصواب ويقوم بنصحه وتنبيهه، وما تحالفه معه في قضية الأرملة سعاد سوى مثال صغير على ما يمكن أن يفعله في سبيل صديقه.

ولكن الأمر اختلف حين أساء ابو عادل التصرف مع مراد، فالشيخ علي لا ينصر صديقه في كل الظروف (ظالماً أو مظلوماً) بل ينصره مظلوماً فقط، لذا فقد قرر أن يعاقب صديقه. بكلمة واحدة فقد هجره. لم يعد يزره في دكانه على الرغم من استمراره في ارتياد سوق النسوان. صار يأتي ليجلس في دكان عبد السلام. في اليوم الأول أسرع ابو عادل ليمسك بيد الشيخ ويدله إلى الطريق، إلا أنه أهمله ونادى عبد السلام:

- أين أنت يا عبد السلام.. تعال دلني إلى دكانك فعندي لك أخبار طيبة؟

أسرع هذا فأخذ بيد الشيخ بينما كان ابو عادل يعود إلى دكانه مقهوراً بجد. أما في المرات التالية فأصبح عبد السلام هو الذي يسرع إليه حين يسمع أدعيته تتردد من بعيد. وفي إحدى المرات تطوع أحدهم:

- تفضل يا شيخي لأدلك إلى دكان ابو عادل. رفض الشيخ اعطاءه يده ورد عليه بصوت عال ليسمعه صديقه القديم:

- أنا لست ذاهباً إليه.. لقد خاصمته.. إنه أحمق.. إلا الحماقة أعيت من يداويها.

كان الشيخ علي يجلس في دكان عبد السلام ويروح يغيظ ابو عادل. يلقي بداية النكتة بصوت عال ثم يخفت صوته لكي لا يسمع النهاية. يضحك عبد السلام بينما يراقب ابو عادل كيف يروح ويأتي في دكانه مغتاظاً. ينظر اليهما بعينين مترددتين بينما يزفر قهره وانزعاجه. في تلك اللحظات ينقل الجار ما كان يفعله إلى الشيخ الضرير، وكلما كان قهر ابو عادل أعظم كانت سعادة الشيخ أكبر.

وفي النهاية، استسلم ابو عادل. فهو لم يعد يطيق ابتعاد صديقه عنه ومقاطعته له. شعر بنفسه منبوذاً. لم يكن مرد ذلك إلى مقاطعته لمراد ولنعيم ومقيم.. كان يمكنه أن يصبر على مقاطعتهم سنين طويلة. ولكنه لم يستطع الصبر على مقاطعة الشيخ له إسبوعين كاملين. المصيبة هي في لسان الشيخ علي الذي يطلقه بحق من ينتقده ولقد عانى ابو عادل الأمرين من هذا اللسان حتى اعتاد عليه. لم يكن هذا الأمر وحده الذي دفعه للذهاب صباحاً إلى الجامع الكبير ليعتذر لصديقه ويطلب رضاه، بل لأنه، أيضاً، افتقد نصائح صديقه الحكيمة ونكاته وأحاديثه التي لا تنتهي عن الولائم.

لم يعطه الشيخ ريقاً حلواً إلا بعد أن وعده بالذهاب فوراً إلى خان الحرير وطلب الصفح من مراد على سوء الظن به. وبالفعل فقد انطلق ابو عادل إلى محل نعيم ومقيم، وهناك، ولحسن الحظ، وجد مراد يقلب بين موجات الراديو. سلم وجلس. أهمله مراد فترة عندها، رجاه أن يطفئ المذياع لأنه جاء يقول له كلمتين ويرحل. استجاب له مراد، عندها راح يستغفر ربه لأنه أساء الظن به ثم نهض وعانقه طالباً منه السماح. عاد المرح بين الأصدقاء الأربعة من جديد وعندما قال لهم ابو عادل انه شال فكرة الزواج من جديد استغرب الجميع، فهذا تصريح لم يسمعوه منه من قبل:

- إنني خائف، لأول مرة أشعر بأنني قد شخت.. حدث هذا بعد وفاة الحاج محمد. لا أريد أن يكون مصيري كمصيره. ضحكوا وحاولوا رفع معنوياته. أين ذهب الشباب الذي يروح ويأتي كالنواس؟ لم يعد هناك شباب جديد قال، ثم تواعدوا على اللقاء من أجل الاحتفال بالصلح. هتف نعيم بأن حلاوة الصلح عليه هو.

ما إن خرج ابو عادل حتى طرح مقيم قضية سعاد:

- لم يعد هناك من حجة.. عليك يا مراد التقدم بطلبها من أبيها. أيده في ذلك نعيم. كان رأي مراد أن يتمهل ليفكر في الأمر فقد فاجأه الموضوع بعد أن كان حسب أنه خسر إلى الأبد امرأة النافذة. نهض نعيم وأمسك به. خير البر عاجله، عليهم الذهب فوراً إلى الحاج عبد القادر لطلب يد سعاد. حاول أن يثنيهما عن فعل ذلك اليوم (كان يشعر وكأنه مراهق هذا الذي عركته الحياة في أوروبا، فأجواء سوق المدينة قد أثرت فيه) كان يريد الاستعداد لهذا الأمر نفسياً كما ادعى. حاول تأجيل الأمر إلى الغد دون نتيجة فقد كانا متحمسين. سأل:

- وهل الوقت مناسب، الجو جو حرب والناس مهتمة الآن بمصيرها ومصير البلد؟ فقال نعيم:

- إنه الوقت المناسب.. سعاد تنتظر. فقال مقيم:

- هذا الأمر سوف يضفي بعض البهجة على هذا الجو الرمادي.

استطاعا إيقافه على رجليه ومن ثم دفعه إلى الخارج. لم يجد في الأمر بداً فسار هو ونعيم باتجاه سوق الحبال. في الطريق همس لنعيم:

- لا أعرف ما جرى لي.. كأنني أدخل امتحاناً صعباً.

في ذلك الوقت كان الشيخ قدري يستعد للرحيل بعد أن انتهت زيارته إلى دكان الحاج عبد القادر . كانا واقفين ممسكين يداً بيد.  قال الشيخ:

- على كلٍ، الدنيا نصيب يا حاج.

- نعم شيخي، الدنيا نصيب، فابنتي سعاد لا\ تزال متأثرة بوفاة زوجها وهي ترفض الزواج من أيٍ كان. تريد أن تهتم بتربية ابنها.

- هكذا نصيبها.. أن تقعد في بيت أهلها. سلام عليكم. ولكن عبد القادر أمسك به وطلب منه التوسط عند السيد كمال في موضوع زينة وأحمد. وعده خيراً. ودعه الحاج عبد القادر ثم عاد للجلوس. أخرج سيكارة وراح يعالج عود الثقاب ليشعلها.

لم يكن الشيخ قدري قد ابتعد عشرة أمتار وإذ به يصطدم بمراد ونعيم. كانا في طريقهما إلى نفس الدكان التي غادرها منذ لحظات. ألقوا على بعضهم السلام سائرين إلى وجهتيهما. استدار الشيخ دون قصد فعرف إلى أين كان مراد ونعيم ذاهبين. شاهد الحاج عبد القادر يصافح مراد بينما كان نعيم يقوم بتقديمه إليه.

- أنت لا تعرف بعد الأستاذ مراد يا حاج. كان هذا يتمتم بآية الكرسي مأخوذاً بالشبه الكبير بينه وبين صهره المتوفى. تابع نعيم:

- كيف وجدته؟ فقال عبد القادر:

- ما شاء الله.. الخالق الناطق. يخليك لأهلك يا أستاذ.. ابني أحمد حكى لي كثيراً عنك.

- يخليه ويعيده بالسلامة.

تحدثوا فترة عن أحوال الدنيا وحالة الترقب التي تعيشها البلد.  حلف الحاج عبد القادر مائة يمين بأنه لم يبع ليفة واحدة منذ أسبوع. إنه ينزل إلى الدكان لأنه لا يملك شيئاً آخر يفعله. همس لهما مستفسراً:

- يقولون إن السيد كمال قد صمم على محاربتكم وإنكم قد أغلقتم مصنعكم. فقال مراد:

- هذا صحيح يا حاج، لقد أغرق السوق بالجاكار الجيد والرخيص.

- يقولون إن مصنعه مازال يعمل رغم الظروف. كاد مراد يجيبه إلا أن نعيم استلم دفة الحديث فقد خشي أن يسترسلوا بالكلام عن المعارك التجارية وينسوا الأمر الذي جاؤوا من أجله:

- يا حاج، إن مراد قريبنا وشريكنا وهو مهندس نسيج تعلم في إيطاليا.

- بارك الله. تابع نعيم:

- جئنا في طلبٍ غالٍ ونريدك ألا تخجلنا..

طلب؟ لم يفهم الحاج عبد القادر. بماذا يمكن أن يفيدهما وهو البائع البسيط لليف وأكياس الحمام؟ حسب أن الأمر متعلق بالوساطة بينهم وبين السيد كمال. قال مراد دون أن يجاهد في إخفاء ارتباكه غير المفهوم:

- رغم أن الوقت غير مناسب، فالبلد في خطر وقد تنشب الحرب في أية لحظة.. أيضاً كنا نتمنى أن يكون معنا أحمد في هذه اللحظات. هز عبد القادر رأسه وهو ينقّل عينيه بين مراد ونعيم. لماذا لا يقولان ما يريدان؟ أخذ مراد نفساً ثم قال:

- جئنا في طلب القرب منك.. يا حاج.

احتاج الأمر لعدة دقائق بين شرح وتفسير وكلام صريح ليفهم أن مراد جاء يطلب منه يد ابنته سعاد. لم يكن يتوقع مثل هذا الأمر، ولا في الأحلام. ومن ارتباكه لم يفهما فيما إذا كان يرحب بهذا أم لا. وجد في إشعال السكائر وسيلته لإخفاء ضياعه. ودعاه ورحلا بعد أن اتفقوا على زيارته مرة ثانية ليسمعا جوابه، أما هو فلم يستطع البقاء جالساً. ماذا حدث في الدنيا، ألم يتبق في الدنيا امرأة أخرى غير سعاد ابنته؟ لمّ بضائعه التي يعلقها خارج دكانه ثم هرع إلى البيت. في الطريق، راح يرتب في ذهنه الكلام الذي سيقوله لابنته كي يقنعها بالموافقة هذه المرة، فهو يعرف جيداً ابنته العنيدة. هذه المرة غير كل مرة. جاء هذا الأستاذ بنفسه ليطلبها. ماذا تريد أكثر من هذا الرجل الذي تعشقه أمه؟ شاب ومتعلم وأعزب. لن يأخذها على ضرة وهو ليس كحاج محمد أو ابو عادل أو السيد كمال. شعر بالغضب لأنه تصور ابنته تقول لا.. لن أتزوج. سوف يحاول إقناعها باللين، أو يمكن أن ينتظر أحمد ابنه لريثما يعود من الحرب التي لم تشتعل بعد. أحمد يحب هذا الشخص وسيساعده على سعاد. ولكن، هل حدث هذا في الحقيقة فعلاً، أم إنه يتوهم؟ قرص نفسه فعرف أنه لا يحلم.

طرق الباب بقوة وعندما فتحت له سعاد جرها من يدها وأجلسها ثم راح يعيد عليها دروسه السابقة عن السترة والحياة والموت. اختصر دروسه هذه المرة وأخبر سعاد وأمها بما حدث. كادت الأم تفقد صوابها هي أيضاً فقد فوجئت بتقدم ذلك الأستاذ الذي تحدث عنه ابنها أحمد مطولاً وقال إنه يشبه المرحوم. أما سعاد فلم تبكي. كانت تجاهد لكيلا تبتسم وتكشف سعادتها. كادت تفتح فمها ولكن الأب المسكين طلب منها التريث. أرادها ألا تتسرع فترفض هذا الشخص أيضاً. طلب منها أن تفكر ملياً.. أعطاها مهلة يوم أو يومين فأنقذها من نفسها. كانت ستقول موافقة حتى ولو ماتت بعدها من الخجل. دخلت إلى غرفتها وأغلقت على نفسها الباب. فتحت النافذة بعد أن تأكدت من أن مراد كان هناك في الأسفل يمسك بجريدة ولكنه لم يكن يقرأ. كان ينتظرها. وعندما أطلت عليه مبتسمة انشرح صدره فقد حصل على موافقتها.

في تلك الليلة، لم تنم سعاد. لم تنشغل بخلطتها العجيبة بين الحلم والواقع.. بل قضت الليلة مفتوحة العينين تتذكر أحداث هذا اليوم.

* * *

عرف السيد كمال بتقدم مراد لخطبة سعاد وموافقة الأب من الشيخ قدري. كان الشيخ قد ذهب إلى دكان الحاج عبد القادر يخبره بنتيجة وساطته في موضوع زينة وأحمد. فقد كان السيد كمال قد تساءل أمام صديقه الشيخ عن السبب الذي يدفع السيد منير للموافقة على زواج زينة وأحمد في حين يرفض الحاج عبد القادر إعطاء سعاد له. نظرية غريبة اخترعها السيد كمال استلهمها من تجارة الجوخ. إن أعطونا أعطيناهم. ضحك الشيخ قدري معاتباً صديقه:

- يعني واحدة بواحدة؟ فقال السيد كمال:

- افهمها هكذا يا شيخ قدري.. الدنيا أخذ وعطاء. أمين وخائن في نفس الوقت لا يجوز.

- هل تريدني أن أنقل اقتراحك إلى الحاج عبد القادر؟ فأجابه السيد كمال:

- أكون لك من الشاكرين.

ذهب الشيخ قدري باقتراح المبادلة إلى الحاج عبد القادر. طرحه أمامه بغير اقتناع فقد كان الشيخ خجلان منه. لم يقم من قبل بمثل هكذا مهمة، وعندما استمع إليه عبد القادر انتفض وأطفأ سيكارته وراح يرد بقسوة على الإهانة التي وجهت إليه. قال له:

- ما علاقة موضوع أحمد وزينة بالمواضيع الأخرى؟ فقال الشيخ وهو غير مقتنع:

- يقصد السيد كمال.. لماذا هنا نعم وهناك لا.. الحال واحدة.

- يقصد واحدة بواحدة؟

- ربما.

- اسمع يا شيخ قدري.. لقد قرأنا فاتحة سعاد.. انخطبت سعاد والسيد كمال ليس له نصيب عندنا. كانت مفاجأة للشيخ. شعر بالهزيمة نيابة عن صديقه. تمتم:

- مبروك.

- الله يبارك.. خطبت لشخص تعرفه جيداً. نحن وافقنا لأنه يناسبها وكما قلت الجازة قسمة ونصيب. أرجوك أن تقول للسيد كمال إننا مازلنا نحترمه ونقدره.

- ومن هو صاحب النصيب؟

- الأستاذ مراد.

شعر الشيخ بالمصيبة التي ستنزل على رأس صديقه. سلم وهرب. مر على مسجده وأم الناس لصلاة الظهر ثم جلس يبحث عن أدق الكلمات التي سينقل بها الخبر إلى السيد كمال، وعندما لم يجدها قرر أن يصمت، فليعلم بالأمر من شخص آخر إلا أنه لم يستطع مقاومة نفسه فمر على خان الحرير وعندما أصبحا بمفرديهما همس للسيد كمال به بعد مقدمة طويلة عن إرادة الله والقسمة والنصيب.

شعر السيد كمال بأنه قد هزم. اعتبر أن غريمه قد انتصر عليه. لم يكن يعلم أن سعاد فوق الصفقات. من أجل ذلك قرر أن يستمر في ضربته التي وجهها لمصنع (الأولاد) لكي يفلسهم تماماً. إن جعلهم يبيعون مصنعهم فإنه سينتقم لهزيمته في المعركة على سعاد. ولكن، قبل ذلك عليه أن يقوم بزيارة قصيرة إلى دكان الحاج عبد القادر.

اصطحب معه السيد منير (يعرف فائدة الرفيق في مثل هذه الزيارات). دعاهما عبد القادر للجلوس فرفض السيد كمال (كان يستجيب جيداً في الماضي فيجلس ويظهر بعض التواضع) بادر إلى الهجوم فوراً:

- لم آت إلى هنا لأجلس. جئت لأقول لك كلمتين. فقال الحاج عبد القادر وهو يرتجف:

- هذا لا يجوز.

- يجوز ونصف.. لماذا فعلت بي هذا؟ أنت يا حاج اصبحت تعمل ضدي. حاول عبد القادر قول كلمة ولكنه أسكته بحركة من يده وتابع. طلبت منك ابنتك فرفضت وأعطيتها لهذا الذي لا أحد يعرف قرعة ابيه من أين. من هذا الاستاذ مراد ، من هو أبوه أو جده.. لماذا أتى إلى الخان؟ فقال الحاج عبد القادر كلاماً منطقياً ولكن بشكل ضعيف:

- المنطق والشرع يأمران بأن نأخذ رأي البنت.. وهي قبلت به.. أنت صديقي يا..

- لست صديقك.. مفهوم؟ حاول منير التدخل ولكن السيد كمال استمر في هجومه موجهاً الأوامر هذه المرة.. انظر، ابنتك ستقعد في البيت طوال عمرها. أنت لا تريد إعطائي إياها، حسن، أنت حر. ولكن، أن تعطيها لغيري فهذا لن يحدث. نحن لسنا أولاد، توافق مرة وترفض في أخرى.

اندهش الحاج عبد القادر لمنطق السيد كمال. وجد أن عليه أن يكون شجاعاً إن أراد أم لم يرد. قال:

- أعطيها لمن أريد.. فأنا حر.

- إن أعطيتها لخصمي فأنت عدوي. هنا، اضطر السيد منير للتدخل فقد بدأ الحاج المسكين يتمرد ويتجرأ. وقف بينهما وراح يهدئهما. استمر عبد القادر ولكن بنبرة أضعف (تراجعت شجاعته حبة):

- أخي الكريم، إنني لست عدوك. قلنا لك لا.. لن تخرب الدنيا. فرد عليه السيد كمال:

- بل خربت.. أنا السيد كمال ولم أتعود أن يقال لي لا.

- طول عمرنا نحبك ونحترمك. ابنتي لا تريد الزواج على ضرة وأنا لن أرغمها على الزواج من شخص لا تريده.

- على ضرة؟.. من أين أتيت بهذه الحجة؟

- هذا الذي حدث. فأمره السيد كمال لينهي المواجهة ويرحل:

- ارفضوه..

- لمن؟

- لذلك الأستاذ.. أستاذ الزفت وأعدك أنني لن أتقدم لها. راح عبد القادر يرجوه:

- يا سيد كمال.. ربنا يخليك.

- ليس هناك من حل آخر، وإلا قسماً بالله ستصبح عدوي كما هو عدوي.

رحل (السيدان) بينما عاد الحاج عبد القادر للجلوس والتدخين. كاد يبكي.  وفجأة عادت إليه الشجاعة. لا أحد يعرف كيف أن هذا المسكين تأتيه الشجاعة ثم تختفي ثم تعود من تلقاء نفسها. قرر ألا يتحدث عن هذه الزيارة في البيت وأن يستمر في مشروع زواج سعاد ومراد وكأن شيئاً لم يكن. قرر أن يواجه السيد كمال بمفرده، والسبب هو أن مراد قد أعجبه ولا يحب أن يفرط به.

أعطى السيد كمال أوامره الصريحة إلى محسن في أن يستمر مصنعه بالإنتاج إلى ما شاء الله حتى ولو استمرت الأزمة في البلد سنة كاملة. أمره بطرح الجاكار في كل مكان وبأرخص الأسعار ثم عاد وذكره بتهديده له ولأبيه إن وافقا (لا سمح الله) على إعطاء زينة لأحمد. وبالفعل، فبالرغم من أن سعادة مراد لم يكن لها حدود فقد بدأ الثلاثة يشعرون بضغط السوق عليهم وأصبح مشروع عمرهم في خطر. كانت مستودعاتهم تغص بالأقمشة المنتجة في مصنعهم، وهي لم تكن تنقص بسبب التصريف بل أصبحت أخيراً تزداد بسبب إعادة البعض لأقمشتهم لأن التجار أصبحوا يفضلون أقمشة السيد كمال بسبب جودتها ورخصها. كان الجميع في بيت مراد وبيت نعيم ومقيم والآن في بيت الحاج عبد القادر يتساءلون ما العمل..؟ حتى أن سعاد قد عادت إليها الهموم بعد فترة قصيرة من الزمن قضتها في سعادة حقيقية. أصبحت تفهم بالخيوط والأقمشة والسوق والحروب التجارية. كان مراد يزورهم وعوضاً عن أن يقضي ساعة الزيارة بالمناجاة والتلميحات ونظرات الوله فقد كان يقضيها بالتحدث عن حرب السيد كمال.

ولكن حقاً، ما العمل؟ كان مراد يعرف أن الجميع ينتظرونه ليحل الأمر.. فهو أقدرهم وكانوا يؤمنون بأنه يستطيع إيجاد الحل الذي بواسطته سيتمكنون من إنقاذ المصنع. ولكن، كيف؟ هل يضاربون بالأسعار فيبيعون إنتاجهم بسعر أدنى من سعر السيد كمال؟ هل بإمكانهم الصمود والى متى في ظل البيع بخسارة؟ من يستطيع الصمود أطول فترة ممكنة، هم أم السيد كمال وزمرته؟ كانت الأجوبة على هذه الأسئلة معروفة سلفاً.. إنهم لا يساوون شيئاً أمام قدرة السيد كمال وشركائه. أما سعاد فقد عادت إلى قرض إصبعها مفكرة في مشاكل حبيبها الصناعية.

لكن مراد هو مراد، فقد وجد الحل بينما كان يسير في سوق المدينة قادماً إلى خان الحرير. شاهد في أحد المحلات سجادة حريرية صغيرة تستخدم للصلاة كان صاحب المحل قد علقها في مكان تصل إليه أيدي المشترين بسهولة.  عاينها مراد ثم اشترى واحدة وعاد بها إلى سيارته. ذهب إلى المصنع وجلس يتفحصها. إنها مصنوعة على مبدأ الجاكار ولكنها أثخن من الأقمشة التي يقومون بانتاجها. أي أن مصنعهم يمكن ينتج السجاد الحريري إن قاموا ببعض التعديلات على الآلات. طلب من بعض المساعدين ومعلمي الصيانة المجيء إلى المصنع المغلق لمساعدته في تنفيذ الفكرة. وما هي إلا أيام حتى كان المصنع ينتج السجاد الحريري ولكن بالسر.. فقد أراد (الأولاد الثلاثة) مفاجأة السيد كمال، الذي كان مصنعه مستمراً في إنتاج أقمشة الجاكار وإغراق السوق به بسعر متدنٍ، بالهروب من منافسته.

* * *

استنتج محسن أن حظوظ زوجته في الخلفة ضعيفة جداً أثناء زيارة لأحد الأطباء، فقد كان يريد إهداء عمه السيد كمال حفيد لتزداد متانةً الرابطة التي تجمعهما. ارتعد محسن خوفاً بسبب قيام عمه بتحذيره بأنه سيعيد النظر في كل شيء إذا ما قاموا بإعطاء زينة لأحمد. أطلق تحذيره له ولأبيه عدة مرات مما جعله يعيش في كابوس حقيقي ولذلك وجد أن الحفيد سيجعل عمه يتوقف عن مثل هذه التهديدات. من أجل ذلك أخذ ذكية إلى الطبيب وهناك سمع النتيجة. الأمل ضعيف في أن تحمل زوجته فقد ورثت ذلك عن أمها الست مطيعة. اسودت الدنيا في عينيه، فلا يكفي أن تعبده ذكية لكي يتمسك به عمه السيد كمال، ففي المصالح التجارية لا قيمة لقضايا القلب. ثم إنه لا يمكن لشيء أن تتفوق أهميته على أهمية وجود حفيد ذكر يمكن أن يرث المال الذي تفنى الأبدان في جمعه. لذا، فقد تذكر وهو في حالة سيئة أن له ولداً جاءت به فضة كثمرة لحبهما الذي شهدت عليه البرية. حبهما الذي انطفأ في قلبه ولكنه ظل مستعراً في حشايا الغجرية الحسناء.

ركب سيارته دون أن يتفوه بكلمة لزوجته وانطلق على طريق الرقة. وعندما وصل إلى مخيم الغجر تجمع حوله الغجر الطيبون وقد تملكتهم المفاجأة. وقفوا يعاينون سيارته الفارهة ثم جحظت أعينهم حينما شاهدوه يترجل مرتدياً البدلة وقد عقد ربطة عنق حريرية حمراء. رفع يده يسلم عليهم ثم سار بخفة ونشاط وبصحة لم يعهدوه فيها من قبل متجهاً صوب خيمة أم فضة. آخر مرة شاهدوه فيها كان بين الموت والحياة.

جلس في خيمتها وهي ترنو إليه بعينين فاحصتين ومشككتين. ماذا أتى به الآن؟ كان زوجها يصب له القهوة بينما راح الغجر يتجمعون أمام الخيمة للفرجة على صهرهم القديم الذي أصبح فعلاً ابن مدينة محترم. سرت إشاعة سريعة بين الغجر المتجمهرين أمام الخيمة بأنه ربما أتى ليأخذ فضة. ابنتهم التي هي رأسمالهم في هذه الحياة. نادوها فأتت تحمل طفلها. حسبت بأن حبيبها قد عاد إليها. عاد ليعيش معها هنا في المخيم وليدعها تغني. ولكن ما إن خطت داخل الخيمة وشاهدت محبوبها ينهض لملاقاتها حتى شعرت بغبائها لأنها سمحت لمثل هذه الأفكار أن تراودها. لقد وجدت شخصاً آخر غير محسن محبوبها الذي طالما غنت له (وحياة خصيرك، ما بهوى غيرك).

في الحقيقة لم يكن محسن مهتماً بها ولا بلهفتها حين دخلت، بل بنوفل ابنه الذي كانت تحمله. التقطه منها وراح يهدهده بينما اقتعدت فضة ترنو إليه بعينين فاحصتين. سألت أمها بإشارة عما أتى به فرفعت هذه كتفيها، فهي لا تعلم. كادت تسأله إلا أن أمها سبقتها:

- كيف الحال يا محسن، هل عدت لتعيش معنا؟ أجابها وهو يقبل ابنه:

- لا يا أم فضة، جئت لأسترد ابني. نهضت فضة وهي تصرخ. حاولت التقاط ابنها منه إلا أنه احتضنه فمنعها من ذلك. إذن هكذا، لم يعد محسن يأبه لحبيبته فتنفس الغجر الصعداء. قالت أم فضة:

- ولكنه ابننا، إنه غجري مثلنا. دع زوجتك التي جاءت لتعيدك إلى البيت أن تلد لك واحداً.

- حظها في الحبل قليل يا أم فضة، ثم انه ابني وأنا أبوه. أنتم الغجر تفضلون البنات. سوف آخذه وما عليكِ إلا أن تطلبي.

أمسكوا بفضة التي أصابتها موجة من الهيستريا بينما راحت أمها تساوم محسن. كان الفارق ألف ليرة ثم تقلص إلى الخمسمائة. أخرج محسن النقود وقدمها لأم فضة ولم ينتظر حتى تنتهي من عدها فخرج يحتضن ابنه تلاحقه ولاويل فضة. أسرع إلى سيارته فركبها ثم ساقها والأولاد يتراكضون خلفها. وما إن ابتعدت حتى أفلتوا فضة فركضت تحاول اللحاق بها وهي تبكي وتصفع نفسها. وعندما غابت السيارة سقطت على أرض البرية مغمىً عليها.

ولسوف تسجل البرية هذه المأساة وتتناقل أخبارها الألسن. أخبار فضة الغجرية التي أحبت ابن المدينة الذي عاد وفطر قلبها فخطف ابنها. قالوا إن الغجر تركوا فضة مغمى عليها مدة لتهدأ وحين قرروا إعادتها إلى خيمتها لم يجدوها. بحثوا عنها في كل الأرجاء دون فائدة فحسبوا أن الوحوش قد التهمتها. ولكننا نستبق الأحداث لنقول إن فضة قد استيقظت فنهضت ثم سارت وهي تحسب أنها تسير في نفس الاتجاه الذي ذهبت فيه سيارة محسن. إلا انها ضاعت فقد كانت كأنها فقدت عقلها. لم تأكلها الضباع كما أشيع عنها، بل وجدها ابن أحد الرعاة فأخذها إلى منازل أهله فتركوها تعيش معهم دون أن يعرفوا قصتها فهي لم تكن تقو على الكلام.

عاد محسن إلى بيته مع الولد. قدمه لزوجته وطلب منها أن تربيه. أما أبوها السيد كمال فلم تكن الدنيا تسعه من الفرحة فقد حصل أخيراًعلى حفيد. ولكن الأفراح في حياتنا لا تدوم طويلاً. والناس تخاف منها لأنها قد تجر الأحزان أو الهزائم أو الضربات التي تقصم الظهور كما حصل أخيراً للسيد كمال، ومن أجل ذلك كان الشيخ قدري يردد دائماً.. اللهم أعطنا خير هذا الضحك.

* * *

كان السيد كمال جالساً، ذلك الصباح، في سقيفة محله محاطاً بأصدقائه الخلص. كان يدخن الأركيلة، منشرحاً، يضحك باعتداد للنكات التي كان أصدقاؤه يطلقونها لتسليته. كل شيء كان يبشر بالخير فقد استطاع أن يخيف الحاج عبد القادر وجعله ينصاع لإرادته في موضوع زواج ابنته سعاد من ذلك التعس مراد. وفعلاً فقد كان عبد القادر يسوّف ويرفض القيام بأي اجراء يغضب السيد كمال اتقاءً لشره كما كان يقول، فلم يسمح بإعلان الخطوبة أو بعقد القران منتظراً فرجاً لا يعرف هو نفسه ما هو. كما أن حرب السيد كمال على الأولاد الثلاثة قد اقتربت من نهايتها كما كان يعتقد فقد طال ايقاف المصنع وراحت بضائعهم تعود إليهم لتتكدس في مستودعاتهم، وهو الآن ينتظرهم ليأتوا إليه ويعرضوا عليه مصنعهم بعد أن يقبلوا يديه لاسترضائه. ثم ان الحكومة بدأت تترنح أخيراً بفعل الحصار على سورية وآن لها أن تسقط ليقوم حزبه بتشكيلها وقد يصبح وزيراً فيها.

كل هذه الأسباب جعلته في ذلك الصباح منشرحاً وسعيداً غير منتبه إلى ماكان مخبأً له. إلا أنه هو وأصحابه تنبهوا إلى حركة غير عادية فقد كانت هناك بضائع جديدة تدخل إلى الخان لتستقر أمام محل نعيم ومقيم. أرسل أحدهم ليأتي له بالأخبار فانصعق حين سمعها. لقد وجه له مراد ضربة لئيمة حين هرب من مواجهته وتركه يستمر في انتاج الجاكار وعرضه بأسعار متدنية بينما راح مصنع الثلاثة ينتج السجاد الحريري وحان الوقت لإنزال البضاعة الجديدة إلى السوق.

الضربة الثانية التي تلقاها السيد كمال كانت سياسية هذه المرة، فقد قطعت اذاعة دمشق بث المارشات العسكرية والأغاني الحماسية لتعلن نبأ نزول القوات المصرية في ميناء اللاذقية وبذلك حسمت قضية الصراع على سورية لصالح معسكر الوحدة مع مصر. تهاوت أحلام السيد كمال السياسية على الفور حتى أنه شعر بهزيمته فور سماعه النبأ ومشاهدته للتجار يخرجون من محلاتهم ليتبادلوا التهاني، فقد انتهت الأزمة ومنذ الغد ستعود أعمالهم إلى سابق عهدها. لقد ارتفعت معنوياتهم وشعروا بالأمان على أنفسهم وعلى أموالهم، ومن أجل ذلك راحوا يزورون محل نعيم ومقيم مستفسرين عن تلك البضاعة الجديدة التي فوجئوا بها حتى أنهم بدؤوا يطلبونها للاتجار بها دون خوف من السيد كمال الذي توالت عليه الهزائم.

لقد هزم السيد كمال تجارياً وسياسياً وقبلها انهزم عاطفياً حين فشل في الحصول على سعاد. وكان مراد الخصم الذي هزمه في جميع هذه الوجوه. إلا أن ذلك اليوم لم ينته بهذا القدر من الهزائم، فقد شوهد واقفاً على رجليه محاولاً أن يظهر بأنه صلب وليس هناك من ريح يمكن أن تقتلعه، حتى قبيل صلاة العصر حين دخل أحمد الخان حاملاً بندقيته وفي عينيه تصميم على الإتيان بفعل خطير.

كان أحمد قد عاد عند الظهيرة حاملاً بندقيته. عاد رث الثياب وقد طالت لحيته. كانوا قد أخذوهم ليعسكروا في مكان قريب من الحدود التركية التي لا تبعد سوى خمسة وثلاثين كلومتراً عن المدينة. كان جائعاً كذئب، وبينما كان يتناول طعامه كانت سعاد تسرد عليه أفعال السيد كمال الذي كاد يفلس مراد ثم راح يفرض نفسه في أمورهم الخاصة (ومنها بالطبع موضوع زينة). هل مايزال السيد كمال يتدخل في أمورهم ويقف في طريقهم؟ عرف أحمد بأن الزمن قد حان لاستخدام البندقية التي عاد بها. لقد تطوع مرتين في المقاومة الشعبية ولكنه أخفق في استخدامها لصالح الوطن أما الآن فإنه سيستخدمها لصالحه. لم يكن قد خلع بنطاله بعد. ضم قميصا نظيفاً ثم حمل البندقية وخرج بينما أمه وأخته تناديان عليه. لم تفهم أمه ما حصل له بينما دخل الشك إلى قلب سعاد.

كان السيد كمال يجادل أحد التجار حين اقترب أحمد. فزع حين شاهده يحمل بندقية على كتفه ويخطو باتجاهه. من مسافة مترين أنزلها ولقمها ووجهها نحو صدر السيد كمال. خاف الرجل فتراجع. تساءل:

- ماذا تفعل يا بني؟ فصرخ فيه أحمد:

- جئت أقتلك، فأنا أمتلك الآن بندقية محشوة.

- ولكن ماذا فعلت لك؟

انتبه كل من في الخان إلى ما كان يجري. كانت المفاجأة عظيمة خاصة لمراد ونعيم ومقيم. هرع الجميع، حتى الشيخ علي هرع ماداً يديه غير آبه إلى أنه قد يصطدم بأحدهم. هناك تحلقوا حولهما وراحوا يرجون أحمد كي يكف عما كان مصمماً على فعله. كان السيد كمال يرجو أحمد ماداً يديه وكأنه سيصد بهما الرصاصة التي ستنطلق نحوه لتقتله:

- سوف يحاكمونك ويعدمونك.

- فليكن، لقد سئمت منك ومن مؤامراتك. صاح مراد:

- أحمد، كبر عقلك، إياك أن تتورط.

وجد السيد كمال في مراد منقذاً. راح يستجدي:

- تكلموا معه.. أقنعوه. ثم إنني لم أعد أهتم بشيء يا احمد يابني. زوّج أختك لمن تريد. اذهب وافرح بزينة أنت أيضاً فأبوها موافق.. من قال إنني تدخلت في غير صالحك؟ أليس كذلك يا ابو محسن؟ هز السيد منير رأسه مؤيداً كلامه:

- إنني موافق يا احمد يا بني.. ومحسن أيضاً موافق.. إنه يحبك، نحن جميعاً نحبك فتابع السيد كمال:

- هل تأكدت؟ لم أعد أهتم.. أنزل هذه البندقية.

بتردد، أنزل احمد بندقيته بينما ساد الصمت في أرجاء الخان. كان الجميع ينتظر لينزلها بشكل تام ليمسكوا به ويبعدوه. شعر السيد كمال بارتياح فقد لاحظ التردد على احمد فابتسم، إلا أن هذا عاجله بحركة خاطفة ببندقيته فأسقط له طربوشه الذي راح يتدحرج على أرض الخان. تدحرج الطربوش وراح يدور كالدولاب حتى وصل إلى قدمي مراد واصطدم بحذائه.

أمسكوا بأحمد ثم ساروا به إلى محل نعيم ومقيم. رفع عينيه إلى نافذة سعاد فوجدها واقفة هناك مصفرة الوجه تكاد تنهار بسبب خوفها مما كان يجري. رفع مراد عينيه بدوره فأهدتهما ابتسامة لكليهما. أما السيد كمال فقد حمل له السيد منير الطربوش ولحق به، فقد كان يخرج من الخان وهو يشعر بأنه لن يعود إليه أبداً.

أما الشيخ علي فقد عبس شاعراً بنذير شؤم من تلك البندقية التي تجاسر أحمد ورفعها.

 

                                                                                      حلب 1992 - 2001


TOP

Copyright © 1999 - 2001 Nihad Sirees All rights reserved