آفاق التنمية الإنسانية في العالم العربي:

 


د· محمد إبراهيم الرميثي
أستاذ الاقتصاد - جامعة الإمارات


بالاطلاع على تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002 الذي صدر باللغة العربية عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي لا تملك الفئة المثقفة في العالم العربي إلا أن تتساءل: أين تذهب إذاً الموارد الاقتصادية ومقدرات الأمة بل والكنوز الاقتصادية العظيمة التي يحتويها هذا الوطن الكبير من المحيط إلى الخليج؟ وأين هي الآثار الإيجابية لخطط وبرامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية؟ وإذا كان هذا هو الواقع فما هي أسبابه؟ وكيف السبيل إلى تجاوز تلك الأسباب والعقبات؟ ولماذا تجاوزتنا بعض الدول النامية؟ وكيف سيكون حالنا في المستقبل مع تزايد حجم العقبات والتحديات التي لم نحسب لها الحسابات اللازمة؟
في الحقيقة أننا لا نستطيع من الناحية العلمية والواقعية أن نضع كافة أقطار الوطن العربي الكبير في سلة واحدة ونعطيها تصنيفاً واحداً، فهناك بعض الدول العربية الغنية بثرواتها وكنوزها الاقتصادية مثل الدول الخليجية ودول عربية أخرى قد قطعت شوطاً كبيراً في مجال التنمية الإنسانية وعرفت مبكراً أن الموارد البشرية هي أهم الموارد الاقتصادية على الإطلاق، حيث أن التنمية الاقتصادية لا تتم إلا بها ومن أجلها· فهي الدعامة الأساسية للتنمية الاقتصادية· وبالتالي بدأت هذه الدول تعد العدة لذلك الهدف وتسخر الموارد الاقتصادية بالفعل لخدمة الموارد البشرية ومن ثم أوجدت موارد بشرية قادرة على تحمل المسؤولية والسير قدماً في خطط وبرامج التنمية الاقتصادية ولا يعني ذلك أن هذه الدول جميعها قد سارت في هذا المجال بالصورة المثالية المنزهة عن الأخطاء، حيث تجد التفاوت التنموي الكبير يبدو واضحاً جلياً، في داخل القطر الواحد، ولكنه حكم نسبي عندما تقارنه ببعض الأقطار العربية التي تمتلك الثروات والمقدرات الضخمة ولا تستغلها لخدمة التنمية البشرية بالصورة المناسبة·
والحقيقة أننا كإقليم واحد ذي أهداف قومية مشتركة لا يمكن أن نفصل أقطار الوطن العربي عن بعضها بعضا وإنما يمكن تمييزها فقط كأمر واقع· ومن هذا المنطلق نجد أن تقرير التنمية قد ركز على الأسباب الحقيقية التي تقف وراء الصورة الواقعية القاتمة للتنمية البشرية في العالم العربي· حيث ركز التقرير على الأبعاد الأمنية وخصوصاً بعد أحداث 11سبتمبر 2002 وما تبعها من تغيرات استراتيجية وأمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية· فاعتبر التقرير أن الصراع العربي-الإسرائيلي بشكل خاص والنزاعات والصراعات والحروب والأزمات العسكرية والسياسية بشكل عام هي السبب الرئيسي والتحدي الأكبر الذي يواجه الأمة العربية ويحدث آثاراً سلبية مباشرة وغير مباشرة بالغة الأهمية في مسيرة التنمية الاقتصادية بشكل عام والتنمية البشرية بشكل خاص·حيث وضعت هذه الأسباب والتحديات في صدر الكتاب وبتحليل موسع وذلك من أجل إكسابها أهمية كبيرة·
وعلى الرغم من أن البعد الأمني ليس بعداً اقتصادياً محضاً بحد ذاته إلا أنه يشكل أهمية كبيرة في مجال التنمية الاقتصادية· فالاقتصاديون يقولون إن رأس المال جبان يهرب إلى حيث الأمان والاستقرار· والحقيقة أن هذه كناية عن أن الجبان الفعلي هو مالك رأس المال وليس رأس المال ذاته، فرأس المال مادة لا إحساس له· وهذا الجبن في الحقيقة ليس جبناً فعلياً وإنما هو رشد اقتصادي وحكمة وتعقل وفن لإدارة المال· وإذا قسنا على ذلك نقول أيضاً إن الموارد البشرية (أي القوة العاملة) من باب أولى أن تكون جبانة (أي رشيدة) هي الأخرى فتهرب إلى حيث الأمان والاستقرار والحريات والعدالة التي تتطلع إليها فئة المثقفين، وهذا ما يعبر عنه البعض بهجرة العقول العربية إلى خارج الوطن العربي· فيربط التقرير بين التنمية الإنسانية من ناحية والتنمية الاقتصادية من ناحية أخرى، حيث يعرف التنمية الانسانية بأنها هي تنمية الناس، ومن أجل الناس، ومن قبل الناس، وبما أن الناس هم محور التنمية الإنسانية ومن ثم التنمية الشاملة فبالتالي لابد وأن يكون لمشاركة الناس دور رئيسي في تطورها·
وبالطبع فالمشاركة تأخذ صوراً وأشكالاً عديدة من المشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية· ولضمان توفر وسيادة المشاركة والروح الديمقراطية فلابد من توفر الحرية والمنافسة في مختلف صورها وأبعادها والنظم التعليمية والإدارية المعاصرة المبنية على أسس علمية مدروسة· فإذا نظرنا إلى حال الأقطار العربية اليوم فلابد لنا من توفير ذلك المناخ الملائم للتنمية الإنسانية المناسبة ومن ثم التنمية الاقتصادية· إنها حقاً معادلة في غاية الصعوبة· فها نحن نشهد التطورات التي تطرأ على القضية العربية الفلسطينية وكيف يهيمن العدو الصهيوني على الأرض العربية المحتلة ويمارس على شعوبها أبشع ألوان الإرهاب والاغتيالات والتنكيل والتعذيب وبناء المستوطنات واغتصاب الأراضي ومصادرة كافة ألوان حقوق الإنسان التي أكدت عليها كافة القوانين والمعاهدات والمواثيق والبروتوكولات الدولية· فكيف للإنسان -الذي يعيش في هذا الجو الإرهابي من الدرجة الأولى والذي لا يتوفر فيه القدر الأدنى من حقوق الإنسان، أن ينال نصيباً مناسباً من التنمية الإنسانية؟ ويؤكد التقرير على أن القضية العربية الإسلامية الفلسطينية هي القضية المحورية التي ألقت بظلالها وآثارها على التنمية الإنسانية في العالم العربي وأثرت بشكل مباشر أو غير مباشر على البعد التنموي الشامل وعلى التنمية الإنسانية بشكل خاص· فإذا نظرنا إلى الفلسطينيين في الداخل نلاحظ أن سلطات الاحتلال تمارس ضدهم أبشع صور الإرهاب والتعذيب وسوء المعاملة والتفرقة العنصرية ومصادرة حقوقهم المدنية والإنسانية، فكيف بهم وهم يعيشون مثل هذه الظروف القاهرة أن يشاركوا في مجال التنمية؟ وإذا نظرنا إلى الفلسطينيين المهاجرين في الخارج فنجد أنهم لاجئون ويفتقد معظمهم أدنى الحقوق المدنية إلا من اكتسب جنسية دولة أخرى· وإذا نظرنا إلى الآثار المباشرة للقضية الفلسطينية في العالم العربي نجد أن الكثير من الموارد الاقتصادية يتم تسخيرها لخدمة هذه القضية عسكرياً ومدنياً· وإذا نظرنا إلى آثارها غير المباشرة نرى أن الكثير من الحروب والصراعات والأزمات والاضطرابات التي تحدث في العالمين العربي والإسلامي لها جذورها وأسبابها التي تمتد في الحقيقة إلى الصراع العربي-الإسرائيلي· وبالتالي فإن هذه الحروب والاضطرابات فضلاً عن كونها تستنزف الكثير من الموارد الاقتصادية والمالية والبشرية وتحدث دماراً في البنى الأساسية والمرافق العامة والبنى الفوقية وتدمر البيئة، فهي تؤدي أيضاً إلى خلق عدم استقرار اقتصادي وسياسي وأمني واجتماعي واستراتيجي، وهي تؤدي إلى هجرة العقول العربية والقوة العاملة بشكل عام وهجرة رؤوس الأموال وتفضيل البيئات الاقتصادية التي تتميز بالأمن والاستقرار· كما أنها تؤدي أيضاً إلى تركيز الحكومات العربية على البعد الأمني ومن ثم التوسع في الإنفاق العسكري والصناعة العسكرية على حساب الجانب المدني، وتوجيه الموارد الاقتصادية والبشرية أيضاً تجاه الجانب العسكري وهذا في الحقيقة هو الواقع الذي نعيشه نحن العرب تحت هذه الظروف· فإذا عرفنا أن هذه الأجواء الأمنية وعدم الاستقرار هي في الحقيقة الأسباب والتحديات الفعلية المحورية التي تقف وراء النظرة القاتمة التي صورها التقرير أدركنا بالفعل أن عملية تحقيق التنمية الإنسانية المناسبة تتطلب منا الوقوف صفاً واحداً لمعالجة تلك الأسباب والتحديات بالصورة التي تضمن الحقوق المشروعة لأصحابها وتحقق مبدأ العدالة·
وعلى الرغم من أن التقرير قد صدر عن جهة موثوقة وهو مكتنز بالمعلومات والبيانات والمعرفة والتحاليل العلمية والواقعية الدقيقة والتي لا تنقصها الصراحة والمصارحة والاقتراحات والتوصيات المفيدة النافعة، والتي من الممكن أن تستخدم وتستغل كقاعدة بيانات في عمل الكثير من البحوث والدراسات، إلا أننا يجب ألا نسلم بكل ما جاء في التقرير من بيانات ومعرفة وتحليل· وقد يرجع ذلك إلى عدة أسباب أهمها:
1-
أن هذ المنظمات والجهات الدولية والإقليمية تعتمد في استقاء بياناتها ومعلوماتها على المصادر الوطنية (المحلية) الرسمية بشكل رئيسي، فمن ناحية نجد أنه من المعروف عن الأجهزة الإحصائية وقواعد البيانات المحلية الرسمية أنها ليست دقيقة بالمستوى العلمي المعروف عالمياً حيث يوجد بها الكثيرمن الأخطاء الإحصائية، ومن ناحية أخرى نجد أن هذه الأجهزة الإحصائية مسيّسة وموجهة في أغلبها بما يخدم مصلحة الأنظمة السياسية الحاكمة· وبالتالي فإن الكثير من الأرقام والإحصائيات لا تعبر بدقة عن واقع الحال·
2-
أن التقارير بحد ذاتها تعبر عن وجهات نظر الجهات التي تصدرها· كما أن لشخصية الكتاب والمحللين دوراً بارزاً في التأثير على توجه التقرير وفلسفته وخاصة في الأبعاد التحليلية وذلك مهما كانت درجة الدقة العلمية المتوخاة فيه، فيبرز التقرير ما تريد جهته وكتابه إبرازه ويخفون ما دون ذلك حتى وإن كان ما تم إخفاؤه مهماً بالنسبة للجهة التي كتب عنها التقرير، وبالمثل حتى وإن كان ما تم إبرازه ليس بتلك الدرجة من الأهمية بالنسبة لها أيضاً·
وعلى الرغم من كل ما ذكرناه فنحن لا نقلل من أهمية التقرير بل إننا على العكس من ذلك نرى أنه في غاية الأهمية· ويرى التقرير أن عدد الأميين العرب من بين البالغين يصل إلى حوالى 65 مليون إنسان· وهم يشكلون حوالى 24 في المئة من إجمالي عدد السكان البالغ 273 مليون نسمة، إلا أن هذه النسبة سترتفع بالطبع لو قارناها على مستوى عدد البالغين فقط· وأن النساء يشكلن ثلثي هذا العدد وقد يرجع ذلك بالدرجة الأولى إلى ازدياد عدد النساء ذاته بالنسبة للرجال· ويرى التقرير أن معدلات الأمية هذه تزيد على معدلاتها في بلدان كثيرة أفقر من البلدان العربية ذات معدلات الأمية العالية· إذ يوجد حالياً حوالى 10 ملايين طفل تتراوح أعمارهم بين 6 سنوات إلى 15 سنة غير ملتحقين بالمدارس، وإذا استمر المعدل بهذه الصورة فقد تصل النسبة إلى 40 في المئة في عام ·2015 ويشير التقرير إلى أن نسبة البطالة في العالم العربي تصل إلى حوالى 15 في المئة وهي من أعلى النسب العالمية· وبشكل عام لا يزيد ما يستثمره العالم العربي سنوياً في مجال البحث العلمي والتطوير على 0,5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ولا تزيد نسبة السكان المستخدمين لـالإنترنت على 0,6 في المئة من إجمالي عدد السكان، ولا يزيد عدد المستخدمين للحاسب الشخصي على 1,2 في المئة من إجمالي عدد السكان، وتعتبر هذه النسب متدنية للغاية حتى بالنسبة لكثير من الدول النامية والفقيرة· أما بالنسبة للحرمان واللامساواة في القدرات والفرص، أي بمعنى آخر عدم توفر الجو الذي يضمن تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، فهو أكثر استشراءً وأشد خطورة من فقر الدخل أو اللامساواة الاقتصادية· فنسبة الحرمان كما يراها التقرير بمعايير التنمية الإنسانية الأساسية تبلغ 32,4 في المئة مقيسة بمؤشر الفقر الإنساني الذي يعرف الحرمان بقصر الأعمار وغلبة الأمية ونقص الخدمات الأساسية· وبالتالي نجد أن مؤشر قياس مستوى التنمية الإنسانية يركز على أبعاد ثلاثة لا رابع لها وهي: العيش حياة طويلة وصحية، واكتساب المعرفة، والوصول إلى الموارد اللازمة لمستوى معيشي لائق· لذلك نجد أن تقرير التنمية الإنسانية لا يركز فقط على الأبعاد الاقتصادية والتي يأتي على رأسها نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ومعدلات البطالة، بل يذهب إلى أبعد من ذلك وأشمل حيث يتناول التعليم واكتساب المعرفة والحريات بكل صورها وأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والخدمات الأساسية والتي يأتي على رأسها التعليم والصحة·
والحقيقة أننا لو نظرنا إلى حالة العالم العربي والتساؤلات التي تم طرحها من قبل نجد أن العالم العربي قد قطع شوطاً كبيراً في مجال العون الإنمائي العربي والذي يتدفق بالطبع من الدول ذات الفائض في الموارد المالية إلى الدول ذات العجز عن طريق أجهزة مالية واقتصادية أقيمت خصيصاً لهذا الغرض حيث نلاحظ أن هذا العون التراكمي من كافة مصادره خلال الفترة (1970-2000) قد بلغ حوالى 110 مليارات دولارات أميركي شملت كافة الدول النامية وتم استغلالها في مختلف القطاعات وفي مشروعات شتى· ولقد ساهمت المملكة العربية السعودية بنسبة 64,4 في المئة من إجمالي العون الإنمائي العربي تليها الكويت بنسبة 16,3 في المئة ثم الإمارات بنسبة 10,5 في المئة ثم العراق بنسبة 2,9 في المئة ثم ليبيا بنسبة 2,5 في المئة ثم قطر بنسبة 1,9 في المئة ثم الجزائر بنسبة 1,1 في المئة ثم عُمان بنسبة 0,4 في المئة· وقد حصلت الدول العربية على 61,3 في المئة من إجمالي ذلك العون الإنمائي العربي، وحصلت الدول الآسيوية غير العربية على 20,5 في المئة منه، وحصلت الدول الأفريقية غير العربية على 16,1 في المئة منه، وحصلت دول أميركا اللاتينية على 1,4 في المئة منه، أما النسبة الباقية والتي تمثل حوالى 0,7 في المئة منه فحصلت عليها دول أخرى متفرقة· وقد توزع ذلك العون على قطاعات اقتصادية مختلفة فكانت نسبة 25,4 في المئة منه قد ذهبت إلى قطاع الطاقة، ونسبة 20,1 في المئة منه قد ذهبت إلى قطاع النقل والاتصالات، ونسبة 16,5 في المئة منه ذهبت إلى قطاع الزراعة والثروة الحيوانية، ونسبة 15 في المئة منه قد ذهبت إلى قطاع الصناعة والتعدين، ونسبة 6,7 في المئة منه قد ذهبت إلى قطاع المياه والمجاري، وتوزع باقي النسبة والبالغ 16,3 في المئة على القطاعات الاقتصادية الأخرى· وعلى الرغم من أن ذلك العون الإنمائي العربي قد توزع على مختلف القطاعات الاقتصادية إلا أنه لا يشكل نسبة تذكر عندما يتم توزيعه على مختلف الدول، حيث بلغ بالمتوسط كما رأينا حوالى 3,7 مليار دولار سنوياً خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين وكان أغلبه يأخذ الصورة العينية، أي صورة سلع وخدمات ومشروعات تنموية وليس صورة نقدية· فإذا كان الحال كذلك فكيف السبيل إذاً إلى إحداث قفزة نوعية في مجال التنمية الإنسانية والخروج من الحلقة المفرغة للتنمية الإنسانية التي تنحشر فيها كثير من الدول النامية·

 

الاتحاد

23/09/2002م

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

z