إطبع المقالة
مسلسلات
بارزاني: شاب مندفع اسمه صدام ابرم اتفاق الحكم الذاتي (3)

لم يجرؤ أي مسؤول عراقي على التوقيع على اتفاق ينص على حق الاكراد في حكم ذاتي. وحده صدام حسين فعل ذلك في 11 آذار (مارس) 1970 حين وقع على الاتفاق الشهير مع الملا مصطفى بارزاني. وتختلف التفسيرات لما اقدم عليه (السيد النائب) يومذاك. فثمة من يعتقد بأنه أراد فعلاً معالجة هذا الجرح النازف في الجسد العراقي. ويعتقد آخرون بأنه اراد وقف الحرب لأنها تعطي الجيش ثقلاً في القرار في بغداد وهو كان يخطط للامساك بالآلة العسكرية بعدما دعم حضوره في الداوائر الامنية والاعلامية والحزبية.
ابتهج العراقيون باتفاق آذار, لكن محاولات تطبيقه كشفت حجم الصعوبات واختلاف الحسابات والنيات. اعادت محاولة اغتيال الملا مصطفى الشكوك, وفي 1974 رفض الاكراد الاستسلام لتفسير بغداد للاتفاق, فاندلع القتال. وبعد عام وقع صدام حسين مع شاه ايران محمد رضا بهلوي اتفاق الجزائر مفضلاً التنازل لايران على التنازل للاكراد الذين سرعان ما انهارت مقاومتهم ودفعوا باهظاً ثمن لمسات وزير الخارجية الاميركي هنري كيسنجر.
في ليل صلاح الدين عرفت ان الرجل الساهر معنا كان شاهداً في لقاء استثنائي بين صدام والملا مصطفى. سألته ان يروي لـ(الحياة) ما شاهد وسمع فقبل بعد تردد مشترطاً عدم ذكر اسمه. قال: (كان ذلك في 1970. وصل صدام في هليكوبتر عسكرية بعدما سبقته سيارات الحماية الى منطقة نوبردان, مقر المكتب السياسي للحزب الديموقراطي الكردستاني. كان المنظر مخيفاً واجراءات الامن استثنائية لضمان سلامة الضيف. جاء (السيد النائب) مرتدياً بزة غامقة وأنيقة وصافح حتى الحراس الذين اعجبوا بدماثته. لم يتوقع الطقس البارد وشكا منه مرات للملا مصطفى وهو كان يناديه ابو ادريس. كان الملا يرتدي معطفاً من الصوف وعرض على الزائر ان يلبسه. هم صدام بأخذه فرفض الملا وتعمد ان يلبسه إياه ثم وضع يده على كتفه ومازحه قائلاً: (هذا الذي تسمونه رداء العمالة خلعناه وألبسناك إياه)! واضاف: (بعدها نادى صدام نقيباً مرافقاً وقال له: اذهب واجلب هدية السيد الرئيس للملا مصطفى. ذهب الضابط وعاد بصندوق فيه نسخة من القرآن الكريم بطباعة فاخرة. لم يعجب الامر الملا مصطفى, اذ عندما أدى الضابط الكريم التحية وقع الكتاب الكريم أرضا فتسابق الملا مصطفى وصدام لتناوله وكان السبق للملا الذي خاطب ضيفه: (يا صدام, لا تلمس القرآن. هذا ليس شغلك)! فبادر صدام: (جئت بالقرآن الكريم ليكون حكماً بيننا). فقال له بارزاني: (اترك هذا الموضوع, انت رجل كافر). بدا على صدام الاشمئزاز من المزاح المثقل بالمعاني وراح يدافع عن نفسه.
كان مسعود بارزاني حاضراً الى جانب والده في تلك المحطات, لكن عبء القرار لن ينتقل الى يده الا جزئياً في 1975, وبالكامل حين توفي الملا مصطفى ودفن في ايران عام 1979 وقد نقل جثمانه لاحقاً الى مسقط رأسه. سألت (الحياة) مسعود بارزاني عن تلك المحطات وهنا نص الحلقة الثالثة:

* ما هي صعوبة ان يكون المرء نجل الملا مصطفى بارزاني واي اعباء يرث?
- هناك شعور بالفخر والاعتزاز بسبب ما قدمه والدي لقضية شعبه على مدى مسيرته الصعبة. لكن علاقة القربى هذه لا تعطي ميزة خاصة اذ ان كل فرد في هذه الدنيا مطالب باظهار كفاءته وقدرته, خصوصاً حين يتصدى لمهمات تستلزم التضحية وشعوراً عالياً بالمسؤولية. ان يكون المرء إبناً للبارزاني يرتب عليه مسؤوليات كبيرة, اذ عليه ان يرتفع دائماً الى مستوى الارث والاسم ليستحق هذا الانتساب. في السؤال قدر من الاحراج لانني أتحدث عن عائلتي, لكن الحقيقة هو ان هذا النسب يجعلك تولد في خضم معركة شعب بطموحاته وآماله وآلامه, وهكذا تجد نفسك جزءا من هذه المسيرة.
* يرث نجل الملا مصطفى صداقات لكنه يرث معها عداوات وحساسيات, الى اي مدى يؤثر هذا الارث في وضعك ومصيرك?
- ما تقوله صحيح تماماً. يرث المرء صداقات ويرث معها عداوات. لكن ما اريد ايضاحه هو ان العدوات, كما الصداقات, ليس لها طابع شخصي اصلاً اذ أنها تتعلق بالقضية القومية. العداوات تكونت بسبب مواقف قومية ووطنية وسياسية, وكذلك الصداقات. يتمنى المرء الا تبقى هناك عداوات, لكن الحقيقة هي انها موجودة لأنها قائمة على مواقف وليست على اعتبارات شخصية.
* ولدت في (جمهورية مهاباد) التي لم تعش طويلا وامضيت عقودا تحلم بجمهورية كردية او كيان كردي يبدو صعب المنال. هل افهم انك تسعى الى ترويض الحلم الكردي لمصالحته مع وطأة الجغرافيا?
- بالتأكيد حياتي حافلة باحداث غريبة وعجيبة: لا وضع كردستان العراق سهل ولا وضعي سهل (يضحك). صحيح لقد ولدت في مهاباد (على الارض الايرانية). والقصص التي سمعتها لاحقاً من والدتي عن عودتنا الى العراق مليئة بالمعاناة. ومسيرة والدي من مهاباد الى الاراضي السوفياتية للاقامة طويلاً في المنفى هناك مثقلة بدورها بفصول من المعاناة. ربما شاء القدر ذلك. ولعلها الصدفة أيضاً شاءت ان يترافق موعد ميلادي في مهاباد مع تأسيس الحزب الديموقراطي الكردستاني. وبغض النظر عن الجوانب الشخصية فإن تلك المحطات تعبر عما عاشه الأكراد وعن قسوة الظروف التي حاولوا في ظلها الحصول على المطالب الطبيعية والبديهية التي يتمتع بها أي شعب آخر.
* ما هي الوصية التي تركها لكم ملا مصطفى?
- منذ 1962 كنت الى جانب والدي حتى وفاته. كان يعتمد على شقيقي المرحوم ادريس, وهو أكبر مني, وقد توفي في 1987. اكد والدي مرات عدة على وجوب الا يحصل اي خلل في العلاقة بيننا. ويمكنني القول ان التزامنا هذه الوصية كان كاملاً. على الصعيد العام حدثنا مراراً انه لن يتاح له أن يشاهد ثمار نضال الشعب الكردي لكنه كان واثقاً بأن هذه التضحيات لن تذهب سدى. كان واثقا بأن شعبنا سيجني ثمار تضحياته مهما اخرت المعطيات الاقليمية او الدولية ذلك الوعد. طبعاً كانت لديه مرارات واستخلص عبرا كثيرة من تجاربه. وبأمانة اقول انه اذا كان شعبنا اليوم في حال افضل من السابق فإن الفضل يعود الى عقود من الجهد والنضال والتعب والعرق والدم.
وهنا كان دوره كبيراً اذ ترك مجموعة من القيم والمثل والخطوط العريضة التي بنينا عليها سياستنا بعد غيابه. من الثوابت في تفكير والدي تأكيده الدائم ان النزاع ليس بين الاكراد والعرب, وان لا مصلحة للاكراد في نزاع من هذا النوع. بل ان مصلحتهم تكمن في خلاف ذلك, اي في التعايش والتعاون مع العرب. كان يقول ان معركتنا هي ضد نظام جائر فرض نفسه بالقوة على الشعب العراقي. ويحذر باستمرار من خطر الانجرار الى ممارسات تؤذي مشاعر الاخوة الكردية - العربية.
وهناك مجموعة احداث تؤكد تمسكه بهذه القناعة. في 1971 كان مدير الامن العراقي ناظم كزار يعتمد اسلوب ارسال الطرود الملغومة لتنفيذ عمليات اغتيال, مستخدماً ايضاً آلات التسجيل المفخخة وقد قتل كثيرين. في تلك المرحلة ابلغنا جهاز الاستخبارات التابع لنا ان باستطاعته ايصال متفجرة وزنها 20 كيلوغراماً الى منزل خيرالله طلفاح (خال صدام ووالد زوجته).
اذا اردنا الرد على حملة ناظم كزار. اذكر انني كنت معه وأشرت الى قدرة جهاز الاستخبارات ولمحت الى ان القنبلة جاهزة وقد يتم تحريكها الى الهدف خلال ايام. طبعاً اسلوب الاغتيالات مرفوض ولكن في الحرب لا بد احيانا من الرد على الرسائل القاتلة بمثلها لوقف اللعبة. وأقول صادقاً انني لم أره يوماً متأثراً كما رأيته يومها بعد كلامي. قال: (من يضمن لكم ان الانفجار لن يتسبب في سقوط نساء واطفال او ابرياء?). والواقع ان لا احد يستطيع ضمان ذلك. وسارع الى القول: (لن اسمح لكم بارتكاب جريمة من هذا النوع. وعليك ألا تفكر في مثل هذا الاسلوب مستقبلاً. لا امانع في ضرب المجرمين وجعلهم يدفعون ثمن جرائمهم ولكن لن اسمح بالتسبب في مقتل نساء او اطفال او ابرياء.
* غريبة قصة صدام حسين معكم. اول من اعترف بحق الأكراد في حكم ذاتي ووقع الاتفاق مع والدكم. ثم وقع اتفاق الجزائر مع الشاه.
عرفته وتعاملت معه فماذا تقول عنه? هل كان صادقاً في البداية?
- لا يعلم الاّ الله بماذا يفكر الناس في دواخلهم. اذا أردنا الانصاف نقول انه في اتفاق 11 آذار 1970 كان لصدام حسين دور كبير جداً. كان جريئاً ومنذفعاً. لم يكن غيره يجرؤ على مجرد التطرق الى موضوع الحكم الذاتي. كانت الخطوة كبيرة, وللمرة الاولى اقرت السلطة المركزية بحق الاكراد في حكم ذاتي. لعب صدام الدور الاساسي في اخراج اتفاق 11 آذار الى الوجود ووقعه مع والدي ليل 10 - 11 آذار 1970.
* هل كان صدام زار ملا مصطفى قبل التوقيع?
- زاره في اواسط كانون الثاني (يناير) 1970 ثم زاره ثانية في 8 أو 9 اذار وظل في ضيافة الوالد الى حين التوقيع, ثم عاد الى بغداد وذهبنا معه أنا وشقيقي ادريس ونصف القيادة الكردية.
في 1975 وقع صدام اتفاق الجزائر مع الشاه. للاسف لو تنازل للشعب الكردي وللشعب العراقي عموماً عُشر ما قدمه من تنازلات الى الشاه لما حصلت كل هذه المآسي.
* ماذا تتذكر من زيارات صدام لوالدكم?
- زاره قبل الاتفاق وخلاله, كما زاره ثلاث مرات بعد التوقيع.
* هل نشأت علاقة بينك وبين صدام في تلك المرحلة?
- نعم. كنا نستقبله ونودعه ونشارك في مسائل تنفيذية.
* هل كان ملا مصطفى يثق بصدام?
- السؤال صعب.
* هل قامت بينهما علاقة شخصية جيدة?
- في البداية نعم. اندفاع صدام لابرام اتفاق آذار 1970 لقي صدى عند الاكراد. وحتى بعد التوقيع سارت الاوضاع بشكل جيد الى ان بدأت العقبات بالظهور. وللتاريخ اقول ان خروقاً حصلت بدأتها السلطة المركزية. اعتقد بأن من بين اسباب الفشل قيام السلطة المركزية بعملية تزوير متعمدة لسجلات الاحصاء ثم جاءت عمليات التعريب القسرية ومحاولات الاغتيال. الآمال التي احياها الاتفاق لم تعمر اكثر من سنة.
* في تلك المرحلة جرت محاولة لاغتيال الملا مصطفى بمشاركة عدد من رجال الدين?
- حدث ذلك في 29 ايلول (سبتمبر) 1971. قبل اسبوعين من ذلك التاريخ زار عالمان دينيان الملا مصطفى بحجة السعي الى تحسين العلاقات بين الثورة والنظام, لكن السائق الذي رافقهما جاء في مهمة استطلاع. وفي التاسع والعشرين من الشهر نفسه حضر الوفد المنتظر. ولدى استقبال الملا مصطفى الوفد دوى انفجار هائل. الواقع ان وجود شاب يقدم الشاي امام والدي هو الذي انقذه من القتل. اغلب الظن ان رجال الدين لم يكونوا على علم بالخطة. واعتقد احد اعضاء الوفد بأن الجهاز الذي اخفاه تحت ثيابه هو مجرد آلة تسجيل. لكن رجال الاستخبارات الذين كانوا في سيارتين مسلحتين ومفخختين كانوا على اطلاع. أدى الانفجار الى سقوط اربعة من القادمين في غرفة الاستقبال. السائقان وهما ضابطا استخبارات شرعا في القاء القنابل بعدما فشلا في الوصول الى السيارة المفخخة. وبعدما هدأ الاشتباك انفجرت احدى السيارتين. وكانت حصيلة المحاولة مقتل تسعة من رجال الدين مع السائقين واستشهاد اثنين من البيشماركة و14 جريحا.
حاولت السلطة لاحقاً تحميل مدير الامن العام ناظم كزار المسؤولية لكن قراراً بهذا الحجم لا يمكن ان يتخذه وحده.
اذكر تماماً كيف رفض والدي ان تؤدي الحادثة الى استئناف القتال وخاطب الوافدين قائلاً: ( لا اري كم ان تقاتلوا من اجلي).
* ما هي المحاولات الاخرى?
- احبطت محاولات عدة قبل بلوغها مرحلة التنفيذ. حاولوا ارسال عناصر كوماندوس بحجة انهم من عائلات جاءت للاصطياف. حاولوا القيام بعمليات تسميم هدايا الحلوى. هناك عشرات المحاولات عبر القصف الجوي. كما جرت محاولة لاغتيال شقيقي ادريس لكنه لم يكن في سيارته وكان غادر بغداد تنفيذاً لتعليمات من الوالد.
* ماذا عن محاولة اغتيالك في فيينا?
- في بداية 1979 كنت في فيينا في الثامن من شهر كانون الثاني (يناير). كنت ازور صديقاً هناك. عرف رجال الاستخبارات النظام بوجودي في المبنى لكنهم لم يتأكدوا من الشقة ولم يكن امامهم غير انتظار موعد خروجنا. شاءت الصدفة ان أتاخر قليلاً وسبقني رفاقي في النزول, وما ان وصلوا الى الباب حتى انهمر الرصاص فجرح اثنان. الواقع انهم اخطأوا. خرج الرفيق آزاد (عضو قيادي في الحزب الديموقراطي الكردستاني) فظنوه مسعود وامطروه بالرصاص.
* هل اعتقلت السلطات النمسوية المنفذين?
- لم يسقط قتلى في الحادث. ولم ترغب السلطات النمسوية في تهديد مصالحها (مع السلطة العراقية) ولم ترد اقحام نفسها في مشاكل. من غريب المصادفات انني كنت في طريقي الى قبرص وخلال توقفي في قاعة الترانزيت في مطار اثينا شاهدت مسؤولاً عراقياً ومعه المجموعة التي نفذت العملية ضدنا في فيينا.
* هل كانت لك علاقات مع برزان التكريتي?
- نعم كانت هناك علاقات قبل اتفاق 11 آذار (مارس) 1970 وبعده. التقينا مرات عدة.
* متى رأيت صدام حسين للمرة الاولى?
- في كانون الثاني (يناير) 1970.
* كيف كان اللقاء? وماذا كان انطباعك?
- حين بدأت المفاوضات التي اسفرت لاحقا عن اتفاق 11 اذار 1970 كان وفدنا في بغداد تسلم رسالة من قائد اللواء في رواندوز ان وفداً رسمياً عراقياً ينوي زيارة الوالد وطلبوا ان نستقبل الوفد في نقطة معينة. ذهبنا لاستقبال الوفد واذا به يضم صدام حسين (نائب الرئيس) ومعه سعدون غيدان (وزير الداخلية) وبرزان التكريتين. قبلها كان دارا توفيق ممثلا لملا مصطفى ويعقد لقاءات في بغداد. قال لنا دارا توفيق ان بين اعضاء القيادة العراقية شاباً اسمه صدام حسين, وهو مندفع وقوي. ويبدو انه يمتلك صلاحيات اكثر من الآخرين. لا بل ان دارا وصف صدام بأنه مندفع جدا.
انا كنت اعرف سعدون غيدان من قبل فقد كان قائدا لكتيبة دبابات في الحرس الجمهوري ايام عبدالرحمن عارف.
قال صدام: (اريد ان التقي ابو ادريس (ملا مصطفى) واحكيلو دردي واسمع دردو (اي احكيلو همي واسمع همه).
اجتمع والدي بصدام على انفراد. قال له صدام نحن لا نريد هدنة بل نريد اتفاقاً ونعوّل على دعمك لهذا التوجه وتعاونك معنا. عبر والدي عن رغبته في حصول اتفاق قائلاً: القتال فرض علينا ولم يكن خيارنا او بمبادرة منا. نحن ندافع عن انفسنا حين نجبر على ذلك. اذا كنتم جادين في الموضوع فنحن على استعداد ومطلبنا هو الحكم الذاتي.
هنا لا بد من الاعتراف بأن ذلك اللقاء وضع اساساً جيداً للحوار الذي أسفر لاحقا عن اتفاق آذار. وللانصاف اقول, بغض النظر عما حصل لاحقاً, ان صدام لعب دوراً كبيراً في التوصل الى ذلك الاتفاق.
* هل هكذا تقرأ تجربة والدك ملا مصطفى الذي تبدو متأثرا به?
- نعم انا متأثر بتجربة والدي. حتى لو لم اكن نجله كان يمكن ان اتأثر نظراً الى المسيرة التي قطعها من اجل رفع الظلم عن شعبه. طبعا من يتولى القيادة في ظروف بالغة الصعوبة ينتصر ويخسر ويخطئ ويصيب. لكن الاهم هو ان يكون الهدف نبيلاً وان يبقى الأمل حياً.
* ما هي برأيك الصفات التي تختصر والدك?
- التواضع والصدق والثقة بالنفس. كان والدي متواضعاً في اسلوب عيشه. وكان يستمع الى المحيطين به. وكان صادقاً في تعامله مع الآخرين, فإن تعهد وفى. اسلوبه لم يكن يقبل التنكر للالتزامات. واقصد هنا الصدق مع نفسه والصدق مع شعبه تماماً كما اقصد الثقة بالنفس والثقة بالشعب.
* هل يمكن قيادة كفاح معقد في منطقة بالغة التعقيد على قاعدة الصدق?
- لهذا تحول ضحية لهذا الصدق مرات عدة.
* من خدع ملا مصطفى البارزاني?
- كثيرون خدعوه وبينهم اكراد, وهذا مؤلم ان تأتيك الخديعة من داخل البيت الكردي. هناك من خدعه وازعجه لبعض الوقت لكن الخدعة الكبيرة جاءت من هنري كيسنجر (وزير الخارجية الاميركي السابق). الخدعة الكبيرة والمؤثرة جاءت من كيسنجر.
* تقصد اتفاق الجزائر في 1975 بين صدام حسين والشاه محمد رضا بهلوي?
- نعم. لولا خدعة كيسينجر لما كان الشاه في موقف يسمح له بخداع بارزاني.
* لم تكن العلاقة بين الشاه ووالدك جيدة?
- على الاطلاق. غاب عن هذه العلاقة العنصر الاساسي الذي تبنى عليه اي علاقة جدية وهو الثقة.
* لكن ايران قدمت دعماً للاكراد?
- نعم. كانت لها مصلحة. ونحن كانت لنا مصلحة. لكن الواضح هو انها لم تكن راغبة في انتصار الثورة. الاكراد كانوا بحاجة الى اي مساعدة فقد كان وجودهم مهدداً. ايران كانت لديهاخلافات مع العراق وتريد استعمال الاكراد ورقة لمفاوضة النظام العراقي على شط العرب ومسائل اخرى. لكن قدرة الشاه على خداع بارزاني كانت محدودة. حين دخل كيسنجر على الخط صار باستطاعة الشاه ان يبرم صفقة على حساب الاكراد. وهذا ما حدث.
* هذا يعني ان الشعب الكردي يحتفظ بذكريات مؤلمة عن دور كيسنجر?
- طبعا, المأساة التي حلت بالشعب الكردي بعد 1975 يتحمل مسؤوليتها كيسنجر بالدرجة الاولى. في 1993 كنت في واشنطن وطلب ان يراني فرفضت. بالنسبة اليّ هو العدو الرقم واحد. لا استطيع ان انسى ما دفعه الاكراد بسبب موقفه ومناوراته والصفقات التي أبرمها من دون ان يأخذ في الاعتبار المآسي التي نتجت منها.
* الى اي حد كان قاسيا عليك انهيار الثورة الكردية في 1975?
- كانت الظروف صعبة الى درجة لا يمكن تصورها. هول الصدمة شل القدرة على التفكير في المرحلة الاولى. بعد فترة قصيرة التقطنا انفاسنا وقررنا ان نتحدى الواقع وبدأنا بالعمل ليلاً ونهاراً لاعادة تنظيم الصفوف في الداخل والخارج. وفي فترة قياسية اعدنا بناء الماكينة الحزبية والعسكرية وانطلقنا للتصدي لفكرة ان الثورة توقفت. قلنا ان العمل المسلح مستمر.
* اين كنت حين حصل الانهيار?
- كنت في حاج عمران وخرجنا الى ايران.
* ومتى عدت الى كردستان?
- عدت شخصياً للمرة الاولى في 1979. عدت سراً بالتأكيد اذ كان الاستطلاع الجوي متواصلا. لم يكن وارداً الاقامة في مقرات علنية. دخلت الى منطقة حاج عمران نفسها. زرت المقاتلين هناك وتحدثت اليهم واطلعت على حاجاتهم. بعدها كنت ادخل واغادر الى ان حصلت الانتفاضة في 1991. قبل ذلك مكثت في زاخو وفي دهوك في 1986 و 1987. تجولت في مناطق مختلفة. اقمت في سيدابان فترة طويلة. مع الانتفاضة عدت نهائياً.

(غداً: حلقة رابعة)


غسان شربل