|
مجلة فكرية سياسية تعنى بشؤون المغرب الكبير وتصدر مؤقتا مرة كل شهرين |
| |
الإسلاميون والانتقال الديمقراطي.. |
العدد
السـابع | |||
|
بقلم الشيخ راشد الغنوشي
(*) نلقي في هذه المداخلة أضواء
حول ما جرى ويجري في هذا البلد الكبير
المفتاح من تطورات، أفضت إلى ما يشبه الزلزال في تاريخ تركيا الحديث، جرف إلى
هاوية النسيان أحزابا وزعامات كبرى قد شاخت، وفتّ في عضدها الفساد، ونصّب في
مكانها فريقا سياسيا شابا، بزعامات صاعدة لم تتلوث بفساد، وجربت فنجحت في
إدارة وزارات مهمة سابقا، وحققت نجاحات على صعيد إدارة البلديات في امتحان
تنظيف الشوارع، وإيصال تمديدات المياه حتى إلى أشد الأحياء فقرا، وتسريح
قنوات الصرف الصحي، وإنتاج وتوزيع الرغيف على المعوزين بأثمان مخفضة جدا،
وتقديم المساعدات لآلاف الطلبة، فانعقدت عليهم آمال قطاعات واسعة في حل
المشكلات الكبار: الفساد، والبطالة، والتضخم، والعلاقة مع أوربا، ومصالحة
تركيا مع تاريخها وهويتها؟ فما حقيقة ما جرى؟ ما هي أبعاده؟ هل هو علمنة
للإسلام أم أسلمة للعلمانية؟ أم مصالحة بينهما؟
تركيا بحق بلد المتناقضات والألوان
المختلطة - من جهة الجغرافيا هي بلد يمتد بين
قارتين، رغم أن معظمه يقع في آسيا، وهو ما اتخذه الرئيس الفرنسي السابق تعلة
لتأسيس رفض انتمائه إلى أوروبا، بل اعتبر انتماءه للاتحاد بمثابة الإجهاز
عليه. - من جهة النظام السياسي هي بلد ديمقراطي،
بل لعلها أقدم ديمقراطية في المنطقة، إذ ظلت صناديق الاقتراع تفرز برلمانات
وحكومات، من دون أن يشكك أحد في مصداقيتها، مما هو غريب في دول حديثة مشابهة من جهة تاريخ
العلاقة بالحداثة، مثل مصر وتونس. ومع ذلك فالبلد تداولت عليه فترات
الديمقراطية والانقلابات العسكرية. وكان آخرها انقلاب 1980 الذي وضع حدا -أو
أراد- لفوضى الاقتتال بين الجماعات القومية واليسارية، كما أراد أن يضع حدا
لصعود الإسلاميين. ولم يعد الجيش إلى ثكناته إلا بعد أن أعاد
ترتيب الحياة السياسية، وضبط الهيكل العام للدولة على نحو يجعل للمؤسسة
العسكرية سلطة الرقابة على سير العملية الديمقراطية، ومدى انضباطها بالإطار
العلماني للدولة، وبجملة الاختيارات الكبرى الاقتصادية والعسكرية والعلاقات
الدولية، وذلك عبر سلطة مجلس الأمن القومي، الذي بلغ سلطانه حد طرده رئيس
وزراء منتخب، بل وإيقاف العملية الديمقراطية ذاتها، وحل الأحزاب، والزج
برؤسائها في السجون، من أجل إعادة ترتيب الأوضاع بما جعل العسكر هم الدولة في
المحصلة النهاية (أنظر مقال محمد نور الدين في مجلة "المستقبل العربي" عدد
يناير 2003). ولذلك كان من غرائب تركيا هذا التعايش الحذر بين العسكر
والديمقراطية. - من جهة الثقافة تركيا بلد القطائع
والمتناقضات الشديدة فقد، حولها انقلاب النخبة المتغربة (نخبة جماعة الدونمة
أي اليهود المتأسلمون بعد طردهم من الأندلس، والتجائهم إلى حاضرة الخلافة)
بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، من عاصمة الأمة الإسلامية المترامية الأطراف، عبر
القارات الثلاث، إلى دولة قومية شوفينية، في تعصبها للعنصر التركي، وعلمانية
متطرفة حاربت الإسلام بكل ما ملكت من وسائل، وراهنت على استبدال الهوية
الإسلامية العثمانية بهوية قومية علمانية أوروبية، عبر حملة شاملة على كل
مؤسسات الإسلام التعليمية والوقفية والشعائرية بله التشريعية والدولية. لقد غيّرت الدولة قبلتها بالكامل، ولم تدخر
جهدا في حمل الشعب على ذلك، رغم أن تجربة ثلاثة أرباع قرن أثبتت أن تغيير
هويّات الشعوب أمر بالغ العسر، بسبب ما أبداه الشعب من مقاومة متعددة
الأشكال، كان من بينها صعود حزب من داخل النخبة العلمانية العسكرية في
الخمسينات، بقيادة عدنان مندريس، فتح ثغرة محدودة في جدار العلمانية المتطرفة
في عدائها للإسلام، التي أرساها مؤسس الجمهورية. وتتمثل هذه الثغرة البسيطة في الاتجاه إلى
الاعتراف بالهوية الإسلامية لتركيا، عبر السماح بأداء الأذان بالعربية، ما
جعل الناس يخرون سجدا يبكون فرحا، وكذا الإذن بفتح معاهد لتخريج الأئمة
والخطباء. ورغم أن هذه السياسة لم تستمر أطول من
الفترة بين 1950 و1960، إذ تم التصدي لها بكل عنف، من قبل حراس المعبد
العلماني، الذين انقلبوا على الديمقراطية، بعد إن كانوا قد بدأوا بالانقلاب
على الإسلام، فعلّقوا رئيس الوزراء المنتخب عدنان مندريس، ورئيس
الجمهورية جلال بايار على المشنقة... وبعد أن أعادوا ترتيب الأوضاع، وبضغط من
الشركاء الأوروبيين، من أجل التحقق بقدر من الانسجام مع الوجه الأوروبي، الذي
تحرص عليه النخبة، أو المفروض عليها، تمت العودة إلى الديمقراطية، غير أنها
أفرزت- مرة أخرى- حزبا علمانيا معتدلا بزعامة شخصية معتدلة قريبة من الجماعات
الصوفية هو سليمان ديميريل، الذي استأنف على نحو ما سياسة مندريس من جهة
السماح بالممارسة الدينية، وهو نفسه كان معروفا بأداء الصلاة. وفي عهده استأنفت الحركة الإسلامية بزعامة
البروفسور نجم الدين أربكان عملها، ضمن حزب جديد هو حزب السلامة الوطني، بعد
أن حل سابقه، بل إنه ضمن صراعات اليمين واليسار وتشتت الأحزاب، أمكن لأربكان
أن يتحالف مع مختلف الأحزاب العلمانية لتشكيل الحكومة مرة مع اليسار بزعامة
أجاويد، رئيسا للوزراء، وشغل أربكان خطة نائب مع ست وزارات، ومرتين مع حزب
العدالة بزعامة ديميريل بنفس الخطة والعدد من الوزارات. وقدمت هذه التحالفات الغطاء السياسي
الضروري لنمو بنية تحتية قوية للإسلام، تتمثل في سلسلة واسعة من المدارس
الثانوية والابتدائية لتخريج الأئمة والخطباء، استقبلتهم كليات للشريعة
لمواصلة تعلمهم ثم انفتحت في وجوههم مختلف أبواب الاختصاصات، وفك الحصار على
المساجد والتدين عامة. غير أنه أمام صعود الإسلاميين وتفاقم الصدام العنيف
بين المتطرفين من اليمين واليسار، تدخلت المؤسسة العسكرية الوصي على تراث
أتاتورك لتضع حدا لصعود الإسلاميين المتفاقم مع اندلاع الثورة الإيرانية، من
جهة، وللفوضى من جهة أخرى. ولم تعد إلى ثكناتها إلا بعد أن وضعت الوثيقة
الدستورية الرابعة، التي نصّبت المؤسسة العسكرية عبر مجلس الأمن القومي حارسا
ووصيا على تراث آتاتورك، كما سبق، وتسلم تورغت أوزال رئاسة الوزراء، فلم يلبث
أن عاد إلى تراث مندريس في سعي لمصالحة تركيا الحديثة مع هويتها الإسلامية
بالتليين من تصلب علمانية أتاتورك في عدائها للإسلام. وتفاعلت عوامل خارجية من مثل عودة الحركة
الإسلامية في صيغة حزب الرفاه بزعامة نجم الدين أربكان، وفشوّ الفساد وسط
النخبة العلمانية للأحزاب، وتعطش الشعب للهوية، والأزمة الاقتصادية، واستمرار
انغلاق البوابة الأوروبية في وجه تركيا، وانتشار الكتاب الإسلامي بفعل
الترجمات السريعة لكل ما ينشر في العالم الإسلامي، ولاسيما من قبل كتّاب
الحركة الإسلامية في تيارها الوسطي، تفاعلت كلها لتعزيز جانب المد الإسلامي،
وتعاظم حتى وضع حزب "الرفاه" على رأس الأحزاب التركية بنسبة فاقت 22% من
أصوات الناخبين، فأمكن لما يسمى الإسلام السياسي أو الحركة الإسلامية تشكيل
الحكومة لأول مرة في تاريخ الدولة التركية الحديثة، متحالفا مرة أخرى مع حزب
علماني محافظ، تتزعمه سيدة هي
تانسو تشيلر، وذلك سنة 1996. غير أن حراس المعبد العلماني قد استنفروا
مصممين على الإطاحة بأربكان وحزبه، رغم كل التنازلات، التي قدمها للتواؤم مع
شعائر المعبد، من مثل الوقوف على قبر أتاتورك، وأداء التحية له، واستقبال
مسؤولين إسرائيليين، والمحافظة على الارتباطات الأطلسية والأوربية. ولكنهم
نقموا عليه جسورا قوية مدها مع الجوار العربي والعالم الإسلامي عامة،
بمبادرته بزيارة عدد من الأقطار العربية والإسلامية (ليبيا ومصر وإيران)،
وعمل على تأسيس نادي الثمانية G8 للدول الإسلامية الكبرى، مقابل نادي السبعة للدول
الرأسمالية الكبرىG7. واستضاف في رمضان رموز الصوفية والأئمة الكبار. ورغم أن أداءه الاقتصادي كان عظيما في
النزول بالتضخم والبطالة والتداين الخارجي إلى أدنى نسبة، بالقياس إلى
الحكومات السابقة. ورغم الأداء المتميز غير المسبوق للبلديات، التي تديرها
جماعة الرفاه، إلا أن ذلك وبقدر ما رفع مكانة الإسلاميين لدى الشعب، بقدر ما
رفع مستوى نقمة الباب العالي (
الهيأة العليا لرجال الأعمال والصحافة وقادة العسكر)، فصعّدوا الضغط عليه حتى
حملوه على الاستقالة، وحركوا أداة أخرى من أدوات سيطرتهم (المحكمة العليا)
فحلت حزبا في أوج عطائه، بنفس الاتهام الثقافي المعتاد: النيل من هوية الدولة
العلمانية. وشنت على التيار الإسلامي ما يشبه حرب إبادة، وذلك على إثر ما
استبد بأذهان حراس المعبد العلماني، من شعور بأن الحياة من حولهم بقيادة رئيس
الوزراء، زعيم الحركة الإسلامية، اتجهت قدما في اتجاه الإسلام، بما يهدد
بتغيير طبيعة الدولة، فانعقد مجلس الأمن القومي في اجتماع عاصف اشتهر باجتماع
28 فبراير 1997 الذي صدر عنه 18 بندا، هي جملة من الإجراءات الصارمة ضد
التيار الإسلامي على كل الصعد الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية، تأمر رئيس
الوزراء الإسلامي بتنفيذها، فماطل حتى اضطر غير بعيد للاستقالة، لتدخل تركيا
في طور عصيب من الاضطراب السياسي والثقافي والفساد الاقتصادي المهدد
بالانهيار. واستمرت هذه المرحلة العصيبة، التي عرفت
بمرحلة 18 فبراير، ولم تنته إلا بانهيار طبقة سياسية يمينها ويسارها، وجملة
أحزابها تقريبا، ليعود التيار الإسلامي بعد خمس سنوات في ثوب جديد بزعامة
شابة، تربت في أحضان المعاهد الدينية، ثم في الحركة الإسلامية خلال عقدين،
وشملتها موجة الاضطهاد.. إنه الطيب رجب أردوغان، الذي أطيح به من رئاسة بلدية
من أكبر البلديات في العالم، تجلت فيها عبقريته، إذ توفق إلى حل مشكلات
حياتية فشل فيها كل من سبقه، فأحاطه الناس بحب عظيم. ولم يشفع له ذلك من
العزل والزج به في السجن. لقد أفضى حكم العسكر إلى إقصاء زعيم الحزب
أربكان من السياسة، ما اضطره أن يمارسها من وراء ستار، من خلال حزب جديد هو
حزب الفضيلة، دفع إلى قيادته أحد رفاقه هو المحامي رجائي قوطان، وحافظ الحزب
على مكانه على رأس الأحزاب، لكن في المعارضة. ولم يرض ذلك الباب العالي، فصدر
قرار بحله، فتشكل حزب السعادة بديلا له. وفي مؤتمره تحدى تيار الشباب بزعامة
عبد الله غول وأردوجان قيادة الحزب المتمتعة بثقة أربكان. وكاد غول أن يفوز
بالقيادة، ليضع موضع تنفيذ البرنامج الإصلاحي الذي يطالب به هو وأردوغان،
فلما لم يحصل ذلك انطلق هذا التيار إلى تشكيل حزب جديد انحاز إليه 51% من
نواب الحزب في البرلمان. وكانت الفكرة الأساسية لـ"العدالة
والتنمية"، الحزب الجديد من أحزاب الحركة الإسلامية، تحمل جملة من التعديلات
على السياسات المعهودة في هذا التيار، اعتبارا بما حدث في السنوات الست
العصيبة الماضية، حيث تعرضت الحركة الإسلامية لمخطط إقصاء واستئصال وكسر عظم،
على يد صاحب السلطة العليا الجيش. والدرس: تجنب كل ما يفضي إلى
تجدد الصدام مع صاحب السلطة، بل العمل على كسب ثقته، وكذا تجنب الصدام مع
العسكر ومعبدهم العلماني، وهو ما لا يمكن تحقيقه مع استمرار زعامة أربكان،
الطرف المباشر في ذلك الصدام. وكذا إعطاء الأولوية للعلاقة مع أوروبا
وللاقتصاد، والابتعاد عن إثارة المعارك حول بعض القضايا الحساسة، مثل الحجاب،
باعتباره من أسخن ساحات الصراع بين التيار الإسلامي والتيار العلماني، الذي
لم يتردد في طرد نائبة من البرلمان، وشطبها، رغم أنها منتخبة.. فقط بسبب
إصرارها على غطاء الرأس، وهو ممنوع بنص دستوري، مع أن الزائر لتركيا يفاجأ
بالحجم الواسع لانتشار الحجاب، بما يترواح في مدينة مثل اسطنبول بين 70 إلى
80%، على حين أن أبسط معنى للديمقراطية أن تكون السلطة معبرة عن إرادة الشعب
كله أو أغلبه على الأقل، وهذا مثل آخر صارخ على ما تتلظى به الحياة التركية
من تناقضات، فهي خليط من إسلام وعلمانية، عثمانية وأوروبية، دكتاتورية
وديمقراطية، حكم الشعب وحكم العسكر، بين شارع يملأه الإسلام ودستور
يحاربه. هذا هو الواقع الذي يجب التعامل معه
بالحكمة، والرهان على النفس الطويل في التطوير، وتأجيل طرح المحاور المثيرة،
وإعادة ترتيب الأولويات، وإيلاء قضايا المعاش، وحقوق الإنسان، واحترام
القانون، ومقاومة الفساد في نخبة الحكم، وتهيئة البلد للانضمام إلى أوروبا
سبيلا آخر للتقوي على الباب العالي الجديد، والحد من سلطانه المطلق. ما حقيقة مشروع العدالة
والتنمية؟ هل هو استمرار وتواصل مع نفس المشروع الذي
بدأه مندريس واستأنفه ديميريل ثم تورغت أزال، ووصل إلى أوجه مع أربكان؟..
مشروع مصالحة تركيا الحديثة مع تاريخها وهويتها، من خلال الحد من التطرف
العلماني للدولة في عدائها للدين، في مسعى لاستبدال علمانية متطرفة بأخرى
معتدلة، هي أقرب إلى النوع الأوروبي، الذي يغلب عليه الحياد، إزاء المسألة
الدينية، وذلك بالإفادة من التجارب السابقة، باعتماد مرونة أكبر في خدمة نفس
المشروع، بما يحفظ جوهره، ويتخلى- ولو ظرفيا- عن بعض مظاهره، من أجل فتح
أبواب التطور في وجهه بعيدا عن أسباب التصادم مع "الباب العالي"؟
أم أن مشروع "العدالة والتنمية" هو تنازل عن
مشروع الحركة الإسلامية بل خيانة له. وفي أفضل الأحوال الرهان على ما سماه
البعض بالعلمانية الإسلامية، أو هو ما اعتبره أنصار مؤسس المشروع البروفسور
نجم الدين أربكان إيثارا لملاذ السلطة، والعيش تحت الأضواء، وإرضاء العسكر
ومؤسسة المال والإعلام والأمريكان؟ أم هو تنازل عن جوهر المشروع الإسلامي،
واستسلام للعلمانية، وانتصار ساحق لها، كما روج لذلك بعض عتاة العلمانية في
بلادنا، مبدين فرحة صفراء بانتصار العدالة والتنمية؟ الثابت أن حزب "العدالة والتنمية" بزعامة
النجم الصاعد من سنوات الشاب رجب أردوغان، رئيس بلدية اسطنبول، وهو إلى جانب
غول أبرز الشباب، الذين أعدهم أربكان لخلافته، قد نجح- إلى جانب احتفاظه
بشعبية واسعة داخل التيار الإسلامي- في استقطاب قطاع واسع من اليمين العلماني
المحافظ، الذي تخلى عن أحزابه التقليدية، وتركها تنهار بسبب فسادها وعجزها عن
تقديم حلول لمشاكل البلاد الكبرى، كما استقطب فئات أقل من ذلك من اليسار،
الذي تراجع بنسبة الثلث لنفس الأسباب. واستقطب كذلك حوالي ثلث الناخبين
الأكراد، فضلا عن استقطابه للقاعدة الإسلامية (حوالي 23%)، عدا نسبة ضئيلة
(2%) ذهبت إلى السعادة. وكل هذه الفئات الواسعة رأت في العدالة
والتنمية وزعامته الشابة منقذا للبلاد من كارثة الفساد الاقتصادي، أو من
الحرب الأهلية في كردستان، أو من التصادم مع العسكر. وكلها رأى فيه، رغم
التباين الثقافي، الأمل في إنقاذ تركيا من الفساد الاقتصادي، بما عرف عن
زعمائه من فعالية ونظافة خلال ممارستهم لإدارة البلديات. ولكن رغم تعدد واختلاف الأوعية التي غرف
منها العدالة والتنمية، تبقى الرافعة الكبرى التي رفعته إلى السلطة، في
انتصار ساحق، على أحزاب وزعامات عريقة، أحالها دفعة واحدة على المعاش، كما
تفعل رياح الخريف مع الأوراق اليابسة، إيذانا بتجدد شباب السياسة، هي قاعدة
إسلامية، قد وعت بيقين التمادي بنفس السياسات والوجوه بزعامة مباشرة أو غير
مباشرة لمؤسس الحركة الإسلامية، ليس من شأنه غير استمرار اشتباك غير قابل
للتسوية، قد غدا معوقا لتحقيق المشروع الإسلامي حتى في مطالبه الأولوية من
شعائر وحجاب ومدارس دينية، فلا مناص من تغيير في الخطاب والوجوه والتكتيكات..
فكان العدالة والتنمية، وذلك أن: أ- القاعدة الإسلامية التي رفعت أربكان إلى
سدة الوزارة الأولى، تجاوزت نسبتها 22% من أصوات الناخبين، ولم يذهب منها إلى
حزب السعادة غير 2%، فأين ذهب البقية إذا لم يكونوا هم غالبية من صوت
للعدالة؟ ب- إن أداء الإسلاميين في الحكم لم يكن
سلبيا، وكانت في إدارة المدن التركية الكبرى مثل اسطنبول وأنقرة وأرض روم
ممتازة، وهو الأداء الذي جعل من أردوغان نجما ساطعا في سماء اسطنبول، لا
بشعارات إسلامية- هي أصلا محظورة الاستعمال في تركيا- بل ببرامجه وإنجازاته،
التي جعلت الماء والكهرباء ووسائل النقل والخبز تصل إلى كل بيت، والطرقات
معبدة ونظيفة، وعشرات الآلاف من الطلبة يتمتعون بالمنح، وخزائن البلدية بها
فائض، بعد أن كانت مثقلة بعدة مليارات من الدولارات. وهو ما فرض على النخبة
السياسية أن تسلّم أن لا أحد قادر على منافسة الإسلاميين في إدارة شؤون
البلديات. كما فرض التسليم بحقيقة أخرى أن رصيد الإسلاميين في الحكم، وحل
مشاكل الناس، ليس مجرد شعارات تدغدغ المؤمنين، وتعدهم بالجنة، وتخوّفهم
بالنار، على أهمية أثر ذلك لو حصل، وإنما برامج عملية لحل مشكلات معيشية،
فشلت أحزاب العلمنة في حلها، بسبب انفصالها عن ضمير الشعب، وما تلوثت به من
مفاسد. ج- إن كل المؤشرات في العالم الإسلامي،
وحيثما وجد مسلمون، تشهد على ارتفاع مذهل لنسب التدين، حتى تلك التي طبقت
فيها بشراسة ووحشية وتواطؤ دولي ومحلي خطط الاستئصال وتجفيف الينابيع مثل
تونس، بسبب ما تعرض له التدين والمتدينون من قهر على يد حكومات قمعية فاسدة،
من مثل تسلط الدولة في تونس وتركيا، على المؤسسات الدينية، وعلى ضمير
المؤمنات بتجريم حقهن في التعبير عن تدينهن، بحمل رداء التُقى، ما تسبب في
طرد الآلاف، وكبت الملايين وقهرهن وذويهن، وكذا حرمان أصحاب المشروع الإسلامي
من حقهم الطبيعي والشرعي في المشاركة في الشؤون العامة، ومنها العمل السياسي،
وكبت كل تعبير ديني. وباعتبار أن الدين هو أعمق في ما الضمير الفردي والجمعي
لأمتنا، فإن كل مدافع عنه محبوب، وكل عدو له مبغوض، لاسيما والكبت والقمع لكل
حر هو شريعة الأنظمة القائمة، مما جعل الهوة تتسع بينها وبين الشعوب.
د- حملة رسالة الإسلام اليوم هم في الصف
الأول من جبهة الذود عن الأمة وعن دينها في مواجهة الحملات المتصاعدة عليها،
والتي لم يتردد الأمريكان في تعليق لافتة الصليب عليها، هذه الهجمة الدولية
على الإسلام وأمته من جهة، ولاسيما في فلسطين، ودق طبول الحرب على العراق،
وما ينهض به الإسلام من أدوار تعبئة وتجنيد للرأي العام، وما قدمته وتقدمه
الحركة الإسلامية من نماذج رائعة في الفداء، ونقل الرعب إلى صفوف الأعداء،
وتعديل موازين القوى.. كل ذلك أسهم في تأجيج المشاعر الدينية في الأمة، بما
ضاعف من شعبية الإسلاميين، على حساب الجماعات العلمانية، لاسيما وقد تعاضد
خنوع الكثير منها وتذيلها لقوى القمع في الداخل والخارج.. تعاضد مع فشوّ
الفساد في أوساط جماعاتها الحاكمة.. تعاضد على تدهور شعبيتها، وتضاؤل وزنها،
واتساع الهوة بينها وبين شعوبها. ظهر ذلك في مختلف أرجاء العالم الإسلامي من
جاكرتا إلى طنجة، مرورا بإسلام آباد والمنامة ومصر والجزائر وساراييفو وتونس
نفسها.. بما يجعل ما حدث من اكتساح إسلامي للشارع التركي ظهر في الانتخابات
الأخيرة في شكل فوز ساحق للإسلاميين بحوالي ثلاثة أرباع مقاعد البرلمان، ليس
ظاهرة شاذة ولا فريدة في الحالة العامة، التي تمر بها الأمة، بل هو من جهة
جزء من هذه الحالة العامة، التي تتعرض فيها الأمة لأشد التحديات، فتحتاج إلى
تجريد أمضى أسلحتها. وهل وقف في وجه تفوق السلاح الإسرائيلي
الساحق غير سلاح الاستشهاد، ورأسماله الإيمان بالله واليوم الآخر، وهو من جهة
أخرى تواصل وامتداد لمسار طويل بدأه الشعب التركي منذ خمسينيات القرن الماضي،
بل منذ قرن سبقها في اتجاه اكتساب الحداثة في إطار الإسلام وتراثه ولخدمته،
وذلك في مواجهة الخيار الآخر الذي طرحه الغرب على الأمة، وتبنته كل الأحزاب
العلمانية بمختلف تلوناتها، ولاسيما اللائكية منها على النمط الماركسي، أو
حتى النمط الفرنسي، الذي تأثرت به النخبة اللائكية في تركيا وفي تونس، وهو
النمط الذي لا يرى في الدين، في المحصلة، غير كونه عقبة في طريق التقدم،
مطلوب إزاحتها، والتفلّت منها بإحدى آليتي "الاجتهاد" العشوائي، أي غير
المنضبط بقواعد تفسير النصوص، والإهمال أو الإلغاء جملة، توصلا إلى إحالة
المسألة الدينية إلى زاوية الخصوصيات الفردية، ثم تنظيم الحياة بمعزل عنها،
بل على النقيض من تعاليمها، بما يفضي نهاية إلى انتزاعها من تلك الزاوية
نفسها، وإحالتها إلى سلة المهملات، إذ طبيعة الحياة لا تتحمل في النهاية غير
سلم أعلى واحد من القيم: إما أن تكون مرجعيته العليا الوحي، وفي ظله يمكن
تقبل العيش أقليات تتواءم معه، وتسالمه، على نحو أو آخر، أو أن تكون مرجعيته
أرضية، فتستقل بتنظيم المجال العام، وتفرض على الآخرين الانزواء إلى المجال
الخاص. ولأن مشروع التقدم على طريق التقليد للغرب،
والنظر إلى ديننا وحضارتنا وتاريخنا، ومكانة الإسلام القيادية فيهما، من
الزاوية الغربية، قد فشلا فشلا ذريعا في أن ينجزا أي شيء، مما وعدا به من
ازدهار اقتصادي، وتقدم حضاري، وعزة قومية، وعدل وحرية، فضلا عن تحرير فلسطين،
وتوحيد الأمة، وتركيا مثل في الخيبة، حتى إن وحدتها القومية مهددة بالتمزق،
بسبب تمزيق الخيط الناظم لشعوبها: الإسلام، وإحلال نزعة شوفينية متغربة بدله،
عزلت تركيا عن محيطها العربي الإسلامي، وزجت بها في حرب أهلية مدمّرة مع
المكونات العرقية والثقافية غير التركية، مثل الأكراد، الذين لم يسمع أحد
بمشكل معهم لا في تركيا ولا في العراق خلال تاريخ طويل من الحكم الإسلامي،
قبل ظهور النزوعات القومية، ولذلك لا عجب أن صوت الأكراد بكثافة لصالح
إسلاميي حزب العدالة. فليس إذن في ما حققه هؤلاء من فوز ساحق أي أمر مستغرب، باعتبار
ما غدوا رمزا له من تديّن، ونظافة يد، وقرب من الناس، وتفان في خدمتهم، ودفاع
عن الهوية الإسلامية للبلد.. إنهم التواصل لمشروع التصالح بين تركيا وهويتها
الإسلامية.. بين حاضرها وماضيها.. بين إسلامها وحركتها الإسلامية من جهة،
وبين عصرها وقوميتها وعلمانيتها من جهة أخرى. إنّهم طموح لمواجهة التحديات
الكبرى، التي تواجهها تركيا والعالم الإسلامي، واستجابة تتشكل من مزيج مركب
بين الإسلام والحداثة.. بين الإسلام والديمقراطية. |
رئيـس التحريـر نورالدين
العويديدي أسرة التحـريــر أحمد
قعلول
| ||||
|
© 2002 Aqlamonline . All Rights Reserved |