دائرة العالم المالي المغلقة

يمثل تطور التهريب وتعاظم الشبكات الاجرامية والمافيوية الوجه الأكثر قتامة للعولمة. لكن السلوك الإجرامي ليس مجرد تضخم مرضي للعولمة الاقتصادية والمالية. بل بدأ هذا السلوك داخل النظام المالي نفسه ونتج في الواقع عن آلية عمله بحد ذاتها.

انطلقت العولمة المالية خفية في السبعينات مع تعويم أسعار العملات وظهور البترودولار.  فاكتشف عالم المال عندها أن لا رقابة للدول على الحسابات المصرفية في الخارج المودعة بعملتها. ثم تفجرت العولمة والتحرر من القيود بفضل الثورة التقنية للاتصالات وقد ترجمت سياسيا في الثمانينات من خلال رونالد ريغان ومرغريت تاتشر. وقد أدى زوال الطبيعة المادية للعمليات وتواصل جميع الفاعلين الماليين عبر الشبكة إلى إعادة تأطير المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمالي في الكرة الارضية.

 

جنات مزيفة

 تبقى إحدى أهم نتائج هذه الثورة غير بادية للعيان: أن المال والأسهم توقفا عمليا عن التنقل. وحدها العملة الورقية، التي لا تصلح إلا للمبادلات القريبة وتمثل نسبة ضعيفة من الكتلة النقدية (15 في المئة من طرق الدفع في فرنسا مثلا)، ما تزال تعتبر أموالا متنقلة حقيقية. في كافة الحالات الاخرى، يستبدل التسديد بعمليات محاسابية للتقاص الالكتروني. فعندما لا تنتقل الأموال ويصار إلى احتساب التقاص الكترونيا، وحدها محصلة العمليات يتم تبادلها في قاعات المقاصة. وهكذا اتخذت هذه المؤسسات، ومن دون ضجة، أهمية رئيسية في النظام المالي العالمي لا سيما شركتا التقاص ("كليرنغ") الأوروبيتان اللتان تتمتعان بموقع دولي "كليرستريم" في لوكسمبورغ و"يوروكلير" في بلجيكا واللتين تحتفظان بالسندات وتتبادلانهما.

وبعكس الفكرة الشائعة فإن العولمة لم تزد من صعوبة الرقابة على الرساميل كون القسم الأكبر منها يمر عبر النظام المالي الرسمي. ولا يمكن لهذا الأخير أن يعمل إذا لم يبادر إلى ابتداع الوسائل الآيلة الى تنظيم المبادلات ومركزتها . لكن في الوقت الذي كان النظام المالي يعقلن آليات العمل ويسهلها، رأينا كيف بدأت تتعقد في موازاة ذلك البنى القانونية التي يختبىء الأطراف الفاعلون في السوق وراءها: فشركات الأوراق المالية والجنات المصرفية والضريبية والشركات خارج الحدود، إلخ، استنسخت آليات عمل بسيطة وقليلة تجعل من الصعب التحقق من واقع المبادلات. 

يمكن التشكيك في التبريرات المنطقية لهذه التعقيدات التي تهدف أساسا إلى التعتيم على العمليات داخل دائرة العالم المالي. وقد أظهرت فضيحة انرون في الولايات المتحدة الطريقة التي تستخدم فيها المصالح المالية هذه العتامة من أجل الالتفاف بسهولة على القيود القانونية في البلدان المتقدمة. كذلك تسلل المجرمون من خلال هذه الثغرة. فالجنات المصرفية والضريبية ليست في الواقع سوى ابتكارات اصطناعية من قبل البلدان الغنية وليست مناطق غريبة خرجت على القانون الدولي.

هذه الخديعة هي التي أوقعت في الشرك القضاة والمحققين في الجرائم المالية. ففي مطاردتهم للتدفقات المالية الضائعة في الجنات المصرفية والضريبية ما انفكوا يتوغلون في المتاهة التي اقتيدوا اليها. بينما في الواقع لا تتحرك الرساميل كثيرا، أو إلا قليلا، كونها ليست سوى شارات الكترونية تجري عليها المقاصة في العمليات المحاسبية للمصارف وللمؤسسات المالية. إذا يجب عدم البحث عنها في شركات باناما ولا في المصارف خارج الحدود (أوفشور) بل في قاعات التقاص حيث تتلاقى جميع الصفقات المعقودة داخل الجهاز المالي. وقد أدرك أعضاء المافيات والفاسدون والمفسدون والمهربون على أنواعهم، ذلك منذ زمن طويل فأوجدوا دائرة مالية عصية إلا إذا قرر أحدهم خلع بابها.


جميع الحقوق محفوظة 2003© , العالم الدبلوماسي و مفهوم