|
صُــحــبـة إدوارد
ســــــعـــيــد |
آخـــر
الـنــهـضــويــيـن
فـوّاز
طـرابـلـسـي
لم تعرف كم
نحبّك.
اول الكلام: ادوارد يحيلني على ادواردو.
يروي ادواردو غاليانو:
"حدث هذا في ادغال الامازون الاكوادورية.
هنود حمر من قبيلة شوار يبكون جدّة تُحتضر.
يتحلقون حول سريرها وينتحبون. سألهم مراقب آتٍ من عالم آخر:
- لماذا تبكون في حضرتها وهي لا تزال على قيد
الحياة؟
اجابه الباكون:
- لتعرف كم نحبها".
تذكّرت هذه الحكاية البديعة عن بداهة العبقرية
الشعبية وأنا أهمّ بالكتابة عن ادوارد سعيد. يساورني شعور بأننا، نحن
اصدقاءه ورفاقه في النضال، لم نقل لادوارد بما في الكفاية: إنّا نحبك.
لقد اثار هذا الرجل من الكراهية والعداوة في دفاعه عن الحق وعن فلسطين
وقضايا الحرية والعدالة في العالم، وخاض سجالات فكرية وسياسية بالغة
العنف، وكان صارماً على نفسه واصدقائه بقدر صرامته في مواقفه واحكامه
ودأبه، ناهيك بضراوة مقاومته للموت وصراعه معه، الامر الذي جعلنا ننسى
انه هش مثل اي كان. وكان يزداد هشاشة وشفافية كلما اخذ منه المرض
مأخذاً. في المرّات الاخيرة التي شاهدته فيها، هنا في بيروت، هممت بأن
اقول له ببساطة: إنّا نحبك. ثم انكتمت. ربما هي المكابرة الذكورية لا
اكثر. مهما يكن، فعشرات حفلات التكريم والشهادات الفخرية لم تكن لتعوّض
ربما عن مثل هذه الكلمات العادية او تلك الدموع البسيطة التي تقول: كم
نحبك.
من الآن فصاعداً، كل ما نقوله في ادوارد سعيد،
وكل الدموع التي ذرفناها ونذرفها، سوف تكون عن ادوارد سعيد ولن تكون
لادوارد سعيد.
***
التقيت ادوارد سعيد للمرة الاولى عام 1971
عندما دعاني في صفته مسؤول النشاطات الثقافية في "رابطة المتخرجين
العرب الاميركيين" الى مؤتمر الرابطة في بوسطن. كان الحدث على خلفية
هزيمة 1967 وصعود المقاومة الفلسطينية وفوران الحماسة الشعبية لقلب
الهزيمة على اعقابها وارهاصات الفكر النقدي العربي الذي حفزته الهزيمة.
وكنت عائداً من زيارة للمنطقة المحرّرة من ظفار فقرأت مداخلة عن ثورة
الرعاة والارقاء والفلاحين الفقراء في جبال ظفار وانعكاساتها على
مستقبل الخليج العربي. لم اصل الى بوسطن دون عناء. فبعدما نلت تأشيرة
الدخول من السفارة الاميركية، جاء احد موظفيها الى المنزل في غيابي
وطلب جواز السفر من والدتي، بحجة تصحيح خطأ ما فيه، فأعطته اياه ببساطة
فأعاده في اليوم التالي وقد جرى تشطيب التأشيرة. والحجة ان صاحب الجواز
شيوعي. تدخلت الرابطة لدى الادارة الاميركية بواسطة محاميها (عابدين
جبارة، على ما اذكر) الذي نجح في استصدار امر خاص من وزير العدل
(ادوارد كينيدي آنذاك) بالسماح لي بالمجيء لمدة المؤتمر لا غير. هكذا
امضيت في بوسطن اربعة ايام طرق باب غرفتي صباح الخامس شرطيان اقتاداني
الى المطار للتأكد من مغادرتي البلاد. لم ارَ ادوارد سعيد كثيراً
خلالها وإن كنت التقيته صيف ذلك العام وقد امضى القسم الاكبر منه
وعروسه مريم قرطاس في لبنان.
تقابلنا قليلاً بعد ذلك خلال زياراته النادرة
لبيروت زمن الحرب. فقد منعت من دخول الولايات المتحدة فترة عشرين
عاماً. خلالها، وما بعدها، كانت كتابات ادوارد، ولا تزال، بالنسبة اليّ
مصدر إلهام في جهد متواضع للكتابة في تلك العلاقة الخصيبة بين الثقافة
والسياسة. وعلى المستوى نفسه من الاهمية، كانت كتابات ادوارد سعيد عن
الولايات المتحدة والسياسة الخارجية الاميركية خصوصاً تجاه المنطقة
العربية والنزاع العربي - الاسرائيلي ليست فقط مصدراً رئيسياً
للمعلومات والمعارف والمقولات وانما ايضاً البوصلة التي بها أقيس
مواقفي وكتاباتي في هذه الامور. واني ادرج في رأس تلك التأثيرات نقد
ادوارد سعيد لاتفاق اوسلو.
وكان ان تراجعت الادارة الاميركية عن قرار منعي
من دخول اراضيها بعد انتهاء الحرب الباردة والغاء "اللائحة رقم 2" كما
سمّتها بشيء من الغموض، القنصل التي فاجأتني بمنحي تأشيرة الخمس سنوات.
هكذا زرت الولايات المتحدة عام 1991 لالقاء كلمة في الذكرى العشرين
لتأسيس مجلة "ميريب ريبورتس" التقدمية المعنية بشؤون الدراسات عن
العالم العربي. زرت ادوارد سعيد في شقته في وقت حرج وكئيب اذ كان قد
تبلّغ منذ فترة ليست ببعيدة انه مصاب بسرطان الدم. تحدثنا عن كل شيء
الا عن المرض. وكان حذقاً ولامعاً كعادته.
تجددت الصداقة ونمت بسرعة مذذاك في لقاءات
ومبادلات عدة. مطلع حزيران ،2000 بعد اسابيع معدودة من التحرير، زار
ادوارد سعيد بيروت ورغب في زيارة الشريط الحدودي المحرر حديثاً حيث رمى
حجراً عند احدى البوابات على مركز عسكري اسرائيلي عند الحدود. ما ان
نشرت احدى وكالات الانباء الخبر والصورة المرافقة حتى انطلقت حملة في
الولايات المتحدة ضد ادوارد سعيد استعادت تهمة "بروفسور الارهاب"
وطالبت بفصله من جامعة كولومبيا. استمرت الحملة شهوراً عديدة إن لم يكن
اكثر. دافع ادوارد سعيد عن نفسه في تلك الحملة بالشجاعة التي له وبقوة
البرهان، ورُدّت الحملة الصهيونية على اعقابها عندما رفضت ادارة
الجامعة اعتبار رمي الحجر خرقاً لاعراف اكاديمية يستوجب فصل احد ابرز
اساتذتها. كنت برفقة ادوارد سعيد في تلك الزيارة وتشاركت مع ابنه وديع
في تشجيعه لرمي ذاك الحجر على الموقع الاسرائيلي. ولعلني لم ادرك، وانا
في بيروت، مدى الاذى والألم اللذين تعرّض لهما ادوارد سعيد من جراء تلك
الحملة المسعورة. كتبت اليه على البريد الالكتروني رسالة تضامن وتأكيد
للثقة بمناعته وقوته في وجه الحملة. قصرت مشاعري عن مستوى الحملة التي
كان يتعرّض لها. لكن مشكلتي الكبرى كانت مع عدد من المثقفين اللبنانيين
والعرب الذين اعربوا لي عن استهجانهم ان يتولى مثقف من منزلة ادوارد
سعيد قذف حجارة. فتلك ليست من شيم المثقفين. عبثاً حاولت ان افهمهم ان
هذا الفعل الرمزي انما هو فعل تضامن مع الشعبين الفلسطيني واللبناني.
وان ادوارد سعيد يرجم الصهاينة والامبرياليين الاميركيين وحراسهم من
المثقفين بجلاميد الصخر يومياً في كتاباته ومواقفه وسجالاته وظهوره
الاعلامي منذ دخل الحيّز العام. او عكسا، ادوارد سعيد الانيق الجميل هو
المناضل الذي لا يتأفف من استخدام الحجر للتعبير عن غضبه وعن... آرائه.
كانت رمية حجر "استباقية" حسب تعابير هذا الزمن. فكأنها ارهصت
بالانتفاضة الثانية التي اندلعت بعد اشهر معدودة من ذلك.
***
أفي كل مرة يدعوني ادوارد سعيد، أمنَع من دخول
اميركا؟ دعيتُ بناء على طلبه للمساهمة في الندوة التي نظمتها جامعة
كولومبيا في نيسان الماضي لمناسبة مرور خمس وعشرين سنة على صدور
"الاستشراق". لم استطع الحضور لأن طلب التأشيرة خاصتي كان يحتاج الى
"اجازة امنية من واشنطن" لم تعرف كم نحبك. بحسب تعبير القنصل في بيروت.
لاجل الدقة: لم أمنع من دخول الولايات المتحدة بعد. لكن التأشيرة لم
تصل الى الآن، اي بعد مضي ستة اشهر على تقديم الطلب. استعضت عن الحضور
بإرسال ملاحظات كنت قد سجلتها لمداخلة لا تتجاوز الدقائق العشرين حسب
طلب منظمي الندوة. كنت أعدّ هذه الملاحظات للنشر عندما ورد نعي ادوارد.
وفي ما يأتي اهم ما ورد فيها:
القيمة التي نادراً ما يجري الحديث عنها لكتاب
"الاستشراق" لادوارد سعيد منهجية مزدوجة. فأولاً، كتاب "الاستشراق" عمل
رائد من حيث كشفه ان المنتجات الادبية والفنية مشبعة بالمضمرات او
المحتويات او حتى الآليات السياسية وتوجيهه الانظار الى اهمية ان تقرأ
تلك المنتجات وان تعامَل على هذا الاساس. بل ذهب ادوارد الى ابعد من
ذلك اذ برهن، على نحو لامع، ان الاعمال الادبية والفنية (والموسيقية)
تقول، احياناً كثيرة، عن المجتمع والعلاقات السياسية والاجتماعية
والانسانية عموماً اكثر وابلغ مما تقوله عنها المنتجات المباشرة للعلوم
الاجتماعية. وثانياً، ان ادوارد سعيد في "الاستشراق" وتالياً في "تغطية
الاسلام" و"مسألة فلسطين" وفي دراسات ومقالات ومساهمات عديدة، اسس
لمنهج جديد هو نقد الاعلام. منهج سرعان ما تحوّل الى فرع قائم بذاته من
فروع العلوم الاجتماعية او الانسانيات، حسب الحالة.
لست احسبني مبالغاً ولا متجنّياً اذا قلت ان
ادوارد سعيد ليس معروفاً بما فيه الكفاية ولا هو مقدّر حق قدره في
عالمنا العربي، وإن اكن يغمرني شعور عارم بالحبور كلما شاهدت جموع
الشباب تدهم المدرّجات والمسارح حيث يلقي ادوارد محاضراته مدفوعة بحدس
ان هذا الرجل يحاكي حساسيتها ورفضها واحلامها.
حقيقة الامر انه جرى تحريف نقد ادوارد سعيد
للاستشراق عندنا ليوحي مجابهة بين "شرق" تحوّل الى جوهر وحداني ثابت
الخصائص غير متعدد ولا متحول، و"غرب" على مثله من الخصائص. او ليجري
تقديم فكره على انه دفاع غير نقدي عن الهوية الدينية او القومية للعرب.
وقد انتعشت مثل هذه القراءة بعيد الثورة الاسلامية في ايران وغالباً ما
تتجدد لدى كل مجابهة مع قوى غربية. نفى ادوارد هذا التأويل في اكثر من
نص وغير مناسبة. والحال ان كل الجدّة في كتاب "الاستشراق" تكمن في
توكيده ان العلاقة بين الشرق والغرب انما هي شبكة من علاقات القوة - اي
من علاقات السيطرة والخضوع والمقاومات - حيث تلعب الثقافة دوراً
بارزاً. من هنا ان موضوع ا لمعرفة الذي اهتم به ادوارد سعيد لم يكن
معرفة الشرق او الغرب منفردين وانما العلاقة المتعددة الوجه ذاتها
بينهما. وعلى النقيض من تأكيد الهوية في وجه الغرب، فإن مطالبته بضرورة
فهم "الشرق" في "الغرب" كانت اصراراً على التفاهم والتعايش والاثراء
المتبادل بين الحضارات عبر حدود تماس اريد منها ان تكون حدود انغلاق
ومناطق ونزاعات وحروب. الفهم من اجل التعايش والتكامل الحضاري في وجه
بناء التمثلات النمطية لاغراض السيطرة. تلك كانت ولا تزال ابرز دعوات
ادوارد سعيد في نقده الاستشراق.
ازاء ذلك، كم تبدو سخيفة محاولات اختطاف نقد
ادوارد للاستشراق لصالح من أسميهم "حديثي النعمة الاجتماعية والثقافية"
من العرب الذين حوّلوا ويحوّلون نقد طريقة تصوير العرب في الغرب
الى نعيق مكابر لسان حاله اننا "احسن" من صورتنا في الغرب، فتكاد
تُختزل احياناً علاقتنا بذاك الغرب بعلاقة صور وتصورات تملي مهمة تكاد
تكون وحيدة، هي مهمة تحسين صورتنا لدى الغرب. ولتحسين الصورة مستوجبات
متعددة، تبدأ بإنفاق المزيد من الاموال على الدعاية العربية في الخارج
وتنتهي مع اعادة تشكيل صورتنا بما يرضي "الغرب" وهي الاسم المهذّب لما
يجري الآن في ظل الامبراطورية الاميركية باسم "اعادة صياغة" المنطقة.
في مناسبة سابقة قلت ان كتاب "الاستشراق" اسس
لمنهجين. الاول صريح، سافر، نامٍ ومتطور باستمرار; اما الآخر فمضمر
وكامن وضعيف النمو. المنهج الآخر الذي اتحدث عنه هو نقد الاستغراب الذي
يعالج الطريقة التي بها يرى الشرق ذاته الى الغرب. لم يحذّر ادوارد
سعيد فقط من ان تتسلل التصورات الاستشراقية الى رؤية الشرقيين لانفسهم،
ولا هو اكتفى بأن هاجم المرض المستشري في الشرق الذي يلقي باللوم على
الغرب في كل شيء، والنظريات المؤامراتية (علماً ان تاريخ الاستعمار
يؤكد ان المؤامرات الحقيقية تفوق اكبر شطحات الخيال المؤامراتي). لقد
تصوّر ادوارد سعيد نقده للاستشراق بما هو مساهمة ثقافية - سياسية في
النضال لتحرر شعوب العالم الثالث من الاستعمار والاستبداد الداخلي وصنع
تاريخها بنفسها. وتحديداً في ما يتعلق بهذا النضال وتلك الصناعة، يصير
نقد الاستغراب بالغ الاهمية بما هو منهج مكمّل لنقد الاستشراق. ذلك انه
معدّ اساساً لتجاوز الثنائية العقيمة التي يفرضها علينا الشرقيون
المستشرقون: اما ان نلوم الغرب على مصائبنا واما ان نلوم انفسنا. ان
فترة ما بعد هزيمة 1967 شهدت نمو مدرسة نقدية اذ كانت لا تتردد في
تحميل علاقات السيطرة الاستعمارية والاستيطان الصهيوني دورها في ما
يجري في المنطقة، الا انها كانت حاسمة في إعمالها مبضع الجرّاح لنقد
اوجه المجتمع والسلطة والثقافة في المجتمعات العربية. ينتمي ادوارد
سعيد، في وجه من وجوه حياته وتطوره الفكري، انتماء وثيقاً الى تلك
المدرسة. وهي مدرسة خليقة بأن يجري احياؤها وشحذ نصلها النقدي الآن
اكثر من اي وقت مضى.
هل صمد "الاستشراق" امام امتحان الزمن؟ اي دور
يمكن ذلك المنهج ان يلعب في العالم بعد الاستعماري وفي الدراسات
المسمّاة بعد استعمارية؟ قد تختلف الاجابة عن هذا السؤال او تكون اقل
وضوحاً لو انها اثيرت لبعض سنوات خلت. اما الآن فإن العولمة
الرأسمالية، خصوصاً في منوعها العسكري الامني بعد 11 ايلول ،2001 وفرت
البراهين الدامغة على ان عطش النظام الرأسمالي الى المزيد من الاسواق
والى الارباح المتعاظمة، يدفعه نحو اشكال متجددة من السيطرة والاستغلال
الاستعماريين. ان الامبريالية المتأخرة تستولد الامبراطورية. كيف لنا
ان نشخّص هذا الطور الجديد من السيطرة الاستعمارية وما يرافقه من
ارتكاس الى اشكال بدئية واشد فظاظة، من التمثلات الاستشراقية؟ في
انتظار ان يتكشف هذه الحقبة عن كامل طاقاتها وخصائصها، يجب التنبه الى
انها قد انتجت مثقفيها، من الشرقيين المعاد تربيتهم استشراقياً،
ليخدموا الامبراطورية ويبررونها وخصوصاً في فعلها التأسيسي: احتلال
العراق. ها ان مثقفين محليين يعيدون الى الاستشراقيين بضاعتهم بأحسن
منها. ألسنا نجد ذلك في الاختراع الاستشراقي الذي ينظّر لـ"العقل
العربي"؟ أليس قول بات روبرتسن، المبشّر التلفزيوني الانجيلي اليميني
المتطرف، ان الاسلام دين عنف، ترجيع لصدى ما كتبه قبلاً كنعان مكية من
ان الثقافة العربية برمتها "ثقافة قسوة"؟ ومن مستحضرات ذلك الاستشراق
الشرقي الشرخ الذي يجري اصطناعه وتعميقه بين الوطني والقومي
والديموقراطي، والذي تجلّى بوضوح مأسوي خلال الازمة العراقية ولا يزال.
حيث الانقسام المتزايد بين ميل الى تبرير الغزو والاحتلال، باسم التخلص
من ديكتاتورية صدام حسين وتحقيق الديموقراطية، والميل الى تبرير نظام
صدام حسين او التغطية على جرائمه بحجة تعرّضه لـ"الهجمة الامبريالية"
وباسم الاستقلال والسيادة الوطنيين. وما هذا الا صدى لنقاشات على
الدرجة ذاتها من المانوية عشية حرب الخليج 1991 عندما كان الخيار الذي
انساق اليه الكثير من المثقفين الغربيين الليبيراليين واليساريين: اما
الامبريالية الاميركية واما الفاشية، ما حدا بالكثير منهم الى القول:
فالامبريالية الاميركية اذاً!!
ولا غرابة ان يتشارك الاستغرابيون مع
الاستشراقيين في الاعتقاد بأن الديموقراطية وافد خارجي يُفرض من
الخارج. فيلقى الامر الترحيب من لدن الاولين بما هو فعل خلاص وتحرير
فيما يلقى الرفض من الثانين بحجة الاصالة ورفض "الافكار المستوردة".
خلال الازمة العراقية الاخيرة، رفض عدد من المثقفين العرب النقديين
التماهي مع اي من هذين الاستقطابين - وكان ادوارد سعيد بينهم - فوقفوا
ضد الحرب وضد الديكتاتورية معاً. قامت ضدهم الدنيا ولم تقعد. فماذا
كانت الحصيلة؟ الديكتاتور سلّم العراق للامبراطور. وتبين ان اكثرية
العراقيين "مثقفون عرب نقديون" رفضوا المساهمة في الغزو والترحيب بجنود
الاحتلال بالتصميم ذاته الذي رفضوا فيه الدفاع عن ديكتاتورية صدام
حسين. كثيرون يشبهون ما يجري في العراق الآن بفترة الاحتلال البريطاني
للبلد فترة 1917 - .1920 في العشرينات، نجحت مقاومة الاحتلال
الاستعماري في المشرق العربي في ان تجمع بين النضال الاستقلالي لجلاء
المحتلين والنضال من اجل توسيع المشاركة الوطنية في السلطة وبناء
مؤسسات تمثيلية للشعب العراقي. ولست اجد اي سبب يحول دون اعتماد
استراتيجيا مشابهة في النضال الوطني والديموقراطي الراهن في العراق.
فيما يكثر البحث في جنس الملائكة عندنا، بين
شرق وغرب، كان ادوارد سعيد قد تجاوز ابتداء من كتابه "الامبريالية
والثقافة" المكمّل لـ"الاستشراق"، ثنائية شرق/ غرب ليجري احتواؤها من
ضمن رؤية اشمل هي النزعة الانسانية العلمانية. نزعة تنطلق من الافتراض
ان البشر يصنعون تاريخهم، وان من حقهم بالتالي ان يقرروا مصيرهم
بأنفسهم، وان العالم الحقيقي هو موضوع المعرفة الاساسي. نزعة مشبعة
اخلاقياً ترى الى عالم لا تكون فيه الفروقات والتباينات بين البشر مادة
للسيطرة وانما مصدر غنى للجميع. وهي النزعة الانسانية العلمانية التي
ارادها ادوارد سعيد وصيته الفكرية والنضالية.
عايشتُ ادوارد سعيد معايشة مكثفة خلال ثمانية
اشهر عام 1999 - 2000 حين كنت اترجم "خارج المكان" لـ"دار الآداب".
تروي السيرة الذاتية سيرة كائنين اسمهما ادوارد سعيد، الاول كائن باطني
جواني والثاني خارجي وطبيعي، اذا جاز التعبير. ففيما تشير السيرة
تلميحاً الى ادوارد ما بعد العام ،1967 تركّز على ادوارد الذي امضى
طفولته بين فلسطين ومصر ولبنان قبل ان يذهب للدراسة في الولايات
المتحدة الاميركية. كنت وما زلت اعجب كيف ان ادوارد الباطني في "خارج
المكان" انجب ادوارد الذي نعرفه جميعاً، ادوارد ما بعد هزيمة .1967
تمنيت على ادوارد ان يكتب ملحقاً بتلك السيرة فعلمت منه ان ناشره طالبه
بالامر ذاته. لكنه رفض واصرّ على ان يعلن، في مقدمة الترجمة العربية
للكتاب، ان "خارج المكان" هو كل ما سوف يقوله من قبيل السيرة الذاتية.
ذات مرة وانا اغادر بيت ادوارد سعيد لمحتُ صورة
فوتوغرافية مكبرة للمفكر الماركسي والقائد الشيوعي الايطالي انطونيو
غرامشي في ركن من اركان البيت معدّة للتعليق في مكتبه. تبادلنا بعض
عبارات الاعجاب بالرجل. وانا الآن أتذكر تعريف الانسان عند غرامشي:
الانسان هو الكائن الذي يصنع نفسه بنفسه.
الانسان مبدع ذاته، إن شئت. كم يصلح هذا
التعريف جواباً عن لغز رفض ادوارد سعيد كتابة سيرته بعد العام 1967
وعنواناً لسيرة انتاج ادوارد سعيد لحياته بما هي تطبيق، بل قل تطويع،
جسدي وفكري وعاطفي، وتحقيق ارادي، لفكرة ان الانسان يصنع تاريخه بنفسه،
يصنع نفسه بنفسه.
***
هي مناسبة لنقول فخرنا بأنه خرج بين العرب من
عاش في بطن الحوت - كما كان المفكر والمناضل الكوبي هوسي مارتي يقول عن
اقامته الاميركية - بعدما اقتحم الغرب اقتحاماً في حواضره الاساسية،
مثله مثل فرانز فانون او بابلو بيكاسو. فطوّع لغة ذلك الغرب وثقافته
لرؤية تحمل كل غضب العالم الآخر وعذابه وجراحه وتتسع لآمال ذلك الآخر
وهوياته وثقافاته.
للذين ينعون على العرب عدم مساهمتهم في الحضارة
الحديثة نقول ببساطة: ادوارد سعيد احد اجمل مساهمتنا في تلك الحضارة
وألمعها وأخصبها.
سوف يمر وقت طويل قبل ان ينتج العرب مثيلاً
لادوارد سعيد. وسوف يمضي وقت طويل قبل ان يطل في الثقافة العالمية مثل
هذا النهضوي الشامل الرؤية والانتاج.
مارس السياسة ليس بما هي الترجمة اليومية لرؤية
سمحة ومركبة وعادلة للحياة والكون وخصوصاً بما هي مسلك اخلاقي. رؤية
ومسلك لا يزال فيهما معنى لكلمات بسيطة ومضيئة مثل: الحق والاخوة
والحرية والعدالة والتضامن والمساواة. وكم كان ادوارد سعيد وحيداً
احياناً في هذه المهمة في وجه القوى العاتية الكارهة لتلك المعاني و
لما تمثل. حسبه انه المثقف الذي كان يقول الحق في وجه السلطان. وهل
الجهاد الاكبر غير "قول الحق في حضرة سلطان جائر"؟ وما اكثرهم، شرقاً
وغرباً!.
|
إنـســان
بـأصــوات مـتـعــددة
محمد علي
الخالدي
يوم الخميس في 25 ايلول 2003 توفي
فلسطيني وفلسطينية. الطفلة الفلسطينية لينا حسن عيسى (3 اعوام)
توفيت بعد اصابتها بصدمة عصبية شديدة نتيجة التفجيرات
الاسرائيلية في مخيم البريج في قطاع غزة. وافادت التقارير
الصحافية انها انهارت خوفاً بعدما دخلت الدبابات الى الحي الذي
كانت تقطنه في المخيم واطلقت النيران على المنزل المجاور لمنزل
اهلها. وغاب المثقف الفلسطيني ادوارد وديع سعيد بعد صراع طويل مع
مرض السرطان دام 12 عاماً. تنفّس نفسه الاخير في مستشفى في
نيويورك وكان يكتب ويحاضر ويفكر حتى النهاية المريرة.
ناضل ادوارد سعيد طوال حياته لكي يحصل
على "إذن لسرد" حكاية تلك الطفلة الفلسطينية وحكايات الفلسطينيين
الآخرين الذين فقدوا مستقبلهم بسبب الاحتلال الاسرائيلي لأرضهم.
فكان لديه حسّ جامح بالظلم الذي يلحق بضحايا شعبه حتى بعد
مماتهم، اذ لا يُمنحون الفرصة لحكاية تاريخهم او سرد قصصهم او
ابراز وجوههم امام العالم، يصبحون فقط احصائية مجردة من الطابع
الانساني، بينما يتمتّع ضحايا الآخرين بحكايات وقصص تبقيهم احياء
يرزقون في ذاكرة العالم.
لم يكن الكلام بالنيابة عن ضحايا شعبه
نغمة ادوارد سعيد الوحيدة، بل كانت له نغمات عديدة واصوات
متعددة، منها دحض الدعاية الصهيونية وتحليل روايات كيبلينغ
ومناقشة افكار فوكو وتفكيك الاستشراق الغربي والتأمل في معنى
المنفى ومحاورة مجموعة من سكان مخيم عين الحلوة في برنامج
تلفزيوني بريطاني من الثمانينات والكثير عداها من الاصوات في شتى
المناسبات الفكرية والسياسية.
وبالاضافة الى اصواته العامة كان لديه
ايضاً صوت خاص حميم يحضنك ويُدخلك الى عالمه كلما حظيت بالتمتع
بحضوره. سوف افتقد ذلك الصوت الحميم بخنّته الانفية الرقيقة
ولدغته الخفيفة، طالما حاولت تقليد نبرته ولكن بدون جدوى لانها
كانت اصدق تعبير عن الكاريزما الشخصية الفريدة التي تمتّع بها
ادوارد سعيد. قال الفيلسوف الالماني هردر إن لكل فرد منّا طريقة
اصيلة لأن يكون انساناً وإن لكل انسان صوتاً مميزاً واسلوباً
فريداً. كان ادوارد سعيد انساناً بأصوات متعددة لن تُنتسى.
| |