المواطنة في مجتمع متعدد القوميات والأديان والطوائف

 

    هل في أدبيات العرب والمسلمين وأعرافهم مبدأ المواطنة المتعارف عليه غربياً اليوم ، أم أن هناك رعايا لملك أو سلطان أو لحاكم بأمره كما يردد البعض ؟ ما هو المعادل الموضوعي لمفهوم المواطنة في تراثنا الحضاري الإسلامي ، وكيف يمكن النظر إليه في ظل ما وصلت إليه البشرية اليوم ؟ أسئلة طالما رددتها أقلام الكتاب العرب المعاصرين بحثاً عن إمكانية العثور عن تاريخ مفهومي عربي لمصطلح غربي .
حمورابي والبحث عن العدالة
     لقد أدى البحث عن العدالة إلى سن القوانين من اجل تأمين سبل نشر العدالة المنشودة ، وربما تكون أولى محاولات البشرية في هذا الميدان قد حدثت في تاريخنا الحضاري العراقي الذي تكون لديه إدراك لأهمية تقنين الاجتماع البشري الذي سماه ابن خلدون فيما بعد بالعمران البشري وذلك للحفاظ على تماسك المجتمع وديمومته .
      إن قوانين حمورابي وتشريعاته التي تعود لآلاف السنين قبل ميلاد المسيح خير مثال على أن التجمعات التي عرفتها ارض الوطن العراقي توفرت فيها بعضاً من المبادئ التشريعية الأساسية التي قامت عليها التجارب الديمقراطية فيما بعد .. لقد كانت هذه القوانين قمة الرقي الحضاري اذا ما قيست بأوضاع العالم في تلك الفترات .. فالتجربة التاريخية تدرس في واقعها وبيئتها الإقليمية والإنسانية .
    وقبل أن نبدأ البحث في الجذور التاريخية لاستنباط بعض مضامين ما جاءت به فكرة ((المواطنة)) في تاريخنا العربي والإسلامي ، ينبغي أن نشير إلى بعض الحقائق المهمة في هذا الشأن ومنها ان مصطلح ((المواطنة)) جديد على الفكر العربي الإسلامي ، دخل اللغة السياسية العثمانية بصيغة اعم هي  ((وطن)) مع بداية دخول الحداثة الأوروبية الى الإمبراطورية العثمانية ..
     واول مرة استخدمت فيها كلمة " وطن" كانت في فرمان سلطاني هو خط كلخانة عام 1839 حيث ورد مصطلح "وطن" في موقعين : الأول عندما تحدث الخط عن الإنسان العثماني الذي ((تتزايد غيرته يوماً فيوماً على دولته وملته ومحبته لوطنه))، والثاني عندما اعتبر مهمة العساكر هي ((محافظة الوطن)) ..
الوطن بديلاً للأمة
      و((الوطن)) مصطلح جغرافي يشير إلى موطن القوم ، وهي المرة الأولى التي يشير فيها المسلمون إلى ((الوطن)) وليس إلى ((الأمة)) ، فالتاريخ الإسلامي حافل باستخدام مصطلح  ((الأمة الإسلامية)) .. وأمة الإسلام لا حدود لها وتالياً لا وطن لها ، انطلاقاً من مبدأ أن الأرض أينما كانت وكيفما امتدت هي ارض الله ، والمسلمون يأوون إلى ديار يسكنوها سموها في أدبياتهم ((ديار الإسلام)) وتقابلها في عرفهم  ((ديار الكفر)) ، فإذا كانت الأولى هي ديار السلام فإن الثانية هي ديار الحرب ..
     تلك كانت التقسيمات النظرية والجغرافية .. وخلاصتها : أينما أقام المسلمون أغلبية أكانوا أم أقلية فهم ينتمون إلى امة عقيدية هي أمة الإسلام التي لا حدود لها ، فالمسلمون في الصين مثلاً الذين ينعتوهم بـ (( اليوغور)) يعتبرون أنفسهم جزءاً من الأمة الإسلامية وان كانوا ينتمون إلى وطن اسمه الصين .
     وغياب مصطلح ((المواطنة)) كما يردد المستشرقون عن الاستخدام في اللغات الشرقية : العربية والتركية والفارسية لا يعني بالضرورة غياب جوهره من التاريخ الفكري للمسلمين ومن حياتهم .. فكما لكل مصطلح تاريخه ألمفهومي، فإن لمبدأ المواطنة بهذا السياق جذور نظرية ومفهومية في الفكر العربي الإسلامي ..
حلف الفضول
     ففي الفكر العربي وقبيل بزوغ الدعوة الإسلامية نذكر المحاولة المهمة التي اتفق عليها اهل مكة عندما سنوا وثيقة ((حلف الفضول)) وطبقوها على ارض الواقع .. فلأول مرة في هذه الديار جرى الاتفاق على احترام كل الانتماءات ونصرة المظلوم  . وقد وصف احد الشعراء العرب "حلف الفضول" بقوله :
ان الفضول تحالفوا وتعاقدوا     الا يقر ببطن مكة ظالم
أمر عليـه تعاهدوا وتواثقوا      فالجار والمعتز فيهم سالم
   يعتبر بعض المؤرخين ((حلف الفضول)) أول تجربة ((ديمقراطية)) لحماية الأفراد أيا كان دينهم أو عرقهم أو مذهبهم من أي اضطهاد أو قمع ، فالأمة المكية حينئذ قد اتفقت على قبول التعددية بين ظهرانيها ومنعت إيقاع أي أذى على الجماعات لأسباب تتعلق بجنس أفرادها أو فكرهم أو معتقداتهم .
     وقبل سنوات قدمت مجموعة من المفكرين العرب طلباً إلى هيئة الأمم المتحدة والى منظمة اليونسكو لاعتبار ((حلف الفضول)) اول وثيقة رسمية في التاريخ تجسد مبادئ أساسية في لوائح حقوق الإنسان العالمية ويمكن اعتبارها نواة لما نصت عليه لوائح حقوق الإنسان الدستورية المعاصرة . 
     ويلاحظ قارئ التاريخ الإسلامي ببساطة بأن المسلمين عرفوا ما يقترب من مضمون مبدأ ((المواطنة)) ، بمعنى أن شرعية الانتماء إلى الوطن كافية لحماية الأفراد ، ورد ما يشير إلى  ذلك في "صحيفة المدينة" التي وضعها الرسول الكريم (ص) لتحويل الجماعة المختلفة في الدين إلى امة واحدة .. كما ورد الأمر ذاته في ((صحيفة الحديبية)) التي يعتبرها المستشرقون أكثر قرباً لمفهوم المواطنة بمعناه الحديث لأنها جسدت اتفاقاً ذو صبغة دنيوية وليست دينية بين فئات متساوية في القوة والتأثير عندما وافق النبي محمد (ص) التوقيع عليه باسمه ((محمد بن عبد الله)) أي من دون ذكر صفته الدينية كرسول لله جل شأنه .. تم هذا الاتفاق بمحض إرادة المساهمين فيه ..
     صحيح أن المبادئ التي ذكرتها ((صحيفة المدينة)) كانت لها طبيعة دينية ، ولكنها كانت ترسي في الوقت نفسه اتجاهاً جرى تثبيته بمرور الزمن لقبول مبدأ التعددية والعمل على أساسه ،  من خلال قبول مبدأ ((الشراكة في الوطن)) بين الافراد المسلمين وغير المسلمين ، باعتبارهما بالمعنى الحديث " مواطنين" يساهمون في صناعة القرار وتسيير امور المجتمع والدفاع عنه .. وفي القرآن الكريم مضامين تجسد ملامح عامة لمفهوم المواطنة وإمكانيات تطبيقاته على ارض الواقع .
فقه المشاركة
     رسخت هذه الانطلاقة في ميدان حرية المعتقد والفكر في وقت مبكر من تاريخ الدعوة الإسلامية ما يمكن تسميته ((فقه المشاركة)) اي المواطنة بمضامينها الاسلامية الاولى ، قام هذا الفقه على مبادئ ثلاثة :
    1 ـ  المساواة ((الناس سواسية كاسنان المشط))، ((ان اكرمكم عند الله اتقاكم)) و((إن الله يأمر بالعدل والإحسان)) وبالمقابل الاعتراف بالآخر الديني من خلال احترام المسلمين لأهل الكتاب والصابئة ومنحهم حرياتهم الدينية واعتبارهم أمانة في ذمة المسلمين .
    2 ـ  تكافؤ الفرص لكل الأجناس المنخرطة في الدين الإسلامي ((لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى)) وتوزيع المسؤولية على جميع الرعايا دون تمييز ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) و((كل ألزمناه طائره في عنقه)).
    3 ـ مشاركة المسلم للخلافة أو الدولة في مهمة إصلاح المجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. و ((من رأى منكم منكراً فليغيره ..)).
      تلك هي الخطوط العريضة التي جسدتها التجربة الإسلامية بصيغها الأولى التي عرفت بـ ((فقه المشاركة))، ومعادلها الموضوعي اليوم بنحو أو آخر هو ((المواطنة)).. فالمواطنة بمفهومها الغربي الحديث تعني بالتحديد هذه الإبعاد الثلاثة : المساواة ، تكافؤ الفرص، المشاركة في الحكم.
    إذا كانت مقاصد الشريعة الإسلامية هي تحقيق المساواة والعدل وتكافؤ الفرص ومشاركة المسلم في تحمل المسؤوليات ، فإن الانتقال من ((فقه المشاركة)) إلى تبني ((فكرة المواطنة)) تبدو من البديهيات . ولكن التراكم الاجتهادي المطلوب لتطوير نظام الشورى إلى نظام عصري يؤكد على ((المواطنة)) قد توقف عند مرحلة محددة من تاريخ الإسلام  .
     لقد حدثت قطيعة مع الثوابت السياسية التي اتبعتها الخلافة الراشدة من خلال التراجع الكبير عن تعددية الاجتهادات التي عمل بها في زمن الإسلام الأول ، والتخلي عن الإجماع الطوعي باعتباره احد أركان الحكم الأساسية ..
     وباختصار حدث تراجع عن حكم الجماعة والالتزام بالثوابت ، وانتقلت السلطة من سلطة تشاورية تلعب فيها الجماعة الدور الحاسم الى سلطة فردية وراثية قائمة على أساس الملك العضوض ، حيث انبثق نظام حكم وراثي سجل لأول مرة انتصار مبدأ القوة على قوة المبدأ مع قيام الدولة الأموية . 

 مما لا ريب فيه فإن هناك تباينا في النظر الى فكرة " المواطنة" ما بين الفكر الغربي والفكر الاسلامي .. ففي حين يستند مبدأ " المواطنة " في الفكر الغربي على فلسفة فردية تولي الفرد باعتباره الركيزة الاساسية في البناء القانوني الغربي اهمية خاصة ، يستند "فقه المشاركة" في الفكر العربي الاسلامي على مفهوم الجماعة الذي ينال جوهر العناية الدينية ، حيث هناك اهتمام خاص بالجماعة اكثر بكثير من الاهتمام بالفرد .
    ويبقى سؤال " المواطنة" بمعناه الحديث غريباً على واقعنا السياسي اليوم بسبب استمرار غياب دولة المؤسسات المعمول بها غربياً من العالم العربي ، فما زلنا ، بنحو أو اخر ، ممسكين بتلاليب دولة العصبيات التي ركز عليها ابن خلدون في مقدمته .
دولة مؤسسات ام عصبيات ؟
     وطالما ان مفهوم المواطنة قد ولد بمعناه المعاصر في المجتمعات الغربية ، فإن سبل تعميمه في الدول العربية تستدعي اولا وقبل كل شيء استيعاب المضامين الاساسية لهذا المفهوم في التجربة الاسلامية التي اشرنا اليها من ناحية ، وتوفير البيئة الاجتماعية والسياسية المناسبة لسلامة تطبيقه ، بمعنى ان نتمكن من نقل الدولة ، من دولة العصبيات الى دولة المؤسسات ، وتلك مهمة تفترض بنية قانونية وسياسية واقتصادية واجتماعية .
     وفي الغرب ارتبط مفهوم المواطنة تاريخياً بحق المشاركة في النشاط الاقتصادي ، ثم بحق المشاركة في الحياة الاجتماعية ، واخيراُ بحق المشاركة في اتخاذ القرارات وتولي المناصب .. وقد مر تاريخ المفهوم هذا بمراحل ثلاث هي :
   ـ تكوين الدولة القومية والمشاركة السياسية ،
   ـ تداول السلطة وارساء حكم القانون ،
   ـ اقامة دولة المؤسسات ..
      نعم لقد مر المفهوم بكل هذه المراحل حتى وصل الى صيغته الحالية . فالانتماء للوطن لا يعني الانتماء الى ديار جغرافية يقيم الناس فيها او يؤون اليها ، بقدر ما يعني ان الوطن قام اساس توفير مجموعة من المصالح للمواطنين الذين يعيشون في كنفه ومنها :
   ـ تأمين الحماية باعتباره كياناً سياسياً منيعاً ،
   ـ توفير خدمات حيوية مثل العمل والتعليم والاستشفاء والسكن ،
   ـ توفير عدد من الضمانات مثل : الحرية والحكم والتوجيه ..
    وتترسخ بالمقابل فكرة المواطنة عندما يساهم الجميع في الذود عن هذا الكيان السياسي الذي اختاروه او وجدوا على ارضه من ناحية ، وعندما يقوم المواطنون بكتابة قوانين اجتماعهم البشري والحرص على عمران وطنهم من ناحية ثانية .
    ويتجسد أول مظاهر المواطنة في اختيار المواطنين انفسهم نظام الحكم الذي يسود اجتماعهم واحترام قوانينه ومحدداته وكل ما يحفظه خيمة للجميع . وتقوم المواطنة ايضاً على ضرورة الفصل بين السلطات الثلاث بنحو يضمن عدم تداخلها واستقلاليتها التامة .
    ولا تستقيم المواطنة في مجتمع مختل التوازن يفقد المواطنين فيه حقوقهم او بعض حقوقهم لاسباب ايديولوجية او طائفية او دينية او اثنية ، فالقاعدة الاساسية التي تقوم عليها المواطنة هي المساواة التامة .. وتدلنا التجربة التاريخية على ان البلدان التي سادت بها " المواطنة"  سارت الحياة فيها نحو التقدم .
المواطنة ونيل الحقوق
         والمواطنة مفهوم أغنته التجارب السياسية التاريخية والعمل وفقه يتطلب اقرار مبادئ والالتزام بمؤسسات وتوظيف ادوات وآليات تضمن حسن ممارسته على ارض الواقع بنحو ناجح . وفي هذه الحالة لابد من توفر الحقوق القانونية والدستورية وضمانات المشاركة السياسية الفعالة ، وتوفير الحد الادنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تمكن المواطن من التعبير عن رأيه ومصالحه بحرية .
   لابد من عقد اجتماعي يتم بمقتضاه اعتبار "المواطنة " مصدراً لنيل الحقوق والالتزام باداء الواجبات بالنسبة لكل من يحمل جنسية الدولة دون تمييز عرقي او ديني او بسبب الذكورة او الانوثة وتجسيد هذا التوافق في دستور ديمقراطي ينبغي ان يعتمد مبادئ اساسية عديدة منها :
    ـ لا سيادة لفرد ولا لقلة من الافراد على الشعب الذي يعتبر مصدر السلطات ،
    ـ سيادة احكام القانون والمساواة على الجميع من دون استثناء ،
    ـ  تحريم الجمع بين السلطات الثلاث في يد شخص او مؤسسة واحدة ،
    ـ ضمان الحقوق والحريات العامة دستوريا وقانونياً وقضائياً ومجتمعياً من خلال تنمية قدرة الرأي العام ومنظمات المجتمع المدني على الدفاع عن الحريات العامة وحقوق الانسان ،
   ـ التداول السلمي للسلطة بشكل دوري بعد اجراء انتخابات عامة حرة تتم تحت اشراف قضائي مستقل .  
  
المواطنة ، ضرائب وحرية
    ترى دائرة المعارف البريطانية ان المواطنة علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة بما تتضمنه من واجبات وحقوق .. والمواطنة تدل ضمنا على الوصول الى مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات . والمواطنة تسبغ على المواطن حقوقا سياسية مثل حق الانتخاب وتولي المناصب العامة وتطلب منه بعض الواجبات مثل دفع الضرائب والدفاع عن الوطن..
     بعض الكتابات تطابق ما بين المواطنة والجنسية استناداً الى ان الاجنبي الذي يحمل جنسية البلد المقيم فيه في احدى الدول الديمقراطية يمارس بنحو كامل مواطنيته  ، وهذا ما ليس مطبقا في الدول غير الديمقراطية ..
    فمن المعروف ان هناك في بعض الدول العربية مثلاً افراد يسكنون في بلد ما اباً عن جد ويحملون اوراقه ويخدمون علمه ومع ذلك فهم محرومون من بعض حقوقهم ، ولا يتمتعون بحقوق المواطنة ..
     يجري هذا بينما تمنح بعض الدول الاوروبية المقيمين فيها من غير المتجنسين حقوقاً مدنية كثيرة مثل حق انتخاب اعضاء المجالس البلدية .. والى جانب ذلك هناك الحقوق الاجتماعية المكتسبة مضمونة للمقيمين والمواطنين على حد سواء مثل الضمان الصحي والاجتماعي وحق العمل والبطالة .. باختصار ممارسة حقوق المواطنين كافة باستثناء حقوق الترشيح والانتخاب في الانتخابات التشريعية والرئاسية بالطبع ... .
   وعودة الى المواطنة ، فهي تعني ان الافراد الذين يشتركون في الوطن يحترمون بعضهم البعض الاخر ويتحلون بالتسامح تجاه التنوع فيما بينهم سواء أكان ثقافياً ام قومياً او مذهبياً او حتى طبقياً .. تلك مبادئ ينص عليها دستور الدولة الديمقراطية الذي يحفظ كرامة المواطنين واستقلالتهم ويقدم لهم الضمانات القانونية لمنع أي تعديات على حقوقهم المدنية والسياسية ويضمن توفير الشروط الاقتصادية والاجتماعية لتحقيق المساواة بين المواطنين ويساعدهم  على اتخاذ القرارات السياسية ..
 
صلاحيات المجتمع أولاً
  والمواطنة في نهاية المطاف هي السعي الى المساواة والمطالبة بالعدل والانصاف لجميع من يحمل جنسية الدولة . ولأنها مرتبطة بالوطنية وبناء الوطن ومهمتها تحقيق الاندماج بين جميع المواطنين ، وهو ما يساعد على بناء الدولة العصرية من حيث كونها مؤسسة مستقلة عمن يحكمها .. يتساوى في هذه الدولة جميع المواطنين ويتمتعون بالحقوق المدنية والسياسية نفسها كما يتحملون الواجبات ذاتها .
     ومما لا شك فيه ان تطور الحياة السياسية في الدول الغربية الذي اعتمد على تقليص صلاحيات الحاكم وتوسيع صلاحيات المجتمع ، اعتمد على مفهوم واسع للمواطنة للوصول الى انظمة حكم اكثر ديمقراطية ..
     ان مصدر قوة الامم التي تتمسك اليوم بالحياة الديمقراطية لشعوبها يعود الى ابتداع مبدأ المواطنة الذي يعتمد بدوره على المشاركة الواعية لكل مواطن من دون استثناء بعيداً عن اية وصاية في مهمة بناء وطن لجميع سكانه ..
     المواطنة اذن بهذه الصيغة المتطورة هي قاعدة للتضامن والتماهي الجماعي ومصدر للحرية وتعتبر قيمة عليا للجميع وغاية لهم .. ويبقى الحد الادنى لاعتبار دولة ما مراعية لمبدأ المواطنة يتمثل في توفر شرطين :
    ـ الاقرار على مبدأ "ان الشعب مصدر السلطات" من خلال دستور ديمقراطي شرط توفر ضمانات تطبيقه على ارض الواقع ...
    ـ  اعتبار جميع السكان الذين يتمتعون بجنسية الدولة مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات والحرص على ضمان حقوق المقيمين على ارض الوطن بتوسيع اطار حقوقهم المدنية والاقتصادية .
أدب الاختلاف
   ومبدأ المواطنة يعتمد على مجموعة من النصوص القانونية التي تأخذ مكانتها المركزية في التشريع بقدر ما تأخذ مكانتها في التطبيق الميداني ، سواء كان ذلك في المجالات السياسية او في المجالات الاقتصادية والاجتماعية . واي اجتهاد يطرأ على وضع حدود ما على مبدأ "المواطنة " يفترض سلفاً ان تدار اوجه الاختلاف ديمقراطياً بتوفير الحماية القانونية لكل من يمارس هذا الحق الوطني .
    ان توفير ضمانات مثل هذه يجعل المواطنين افراداً وجماعات قادرين على التأثير في مضمون القرارات الوطنية الملزمة لهم لما فيه تحقيق مصالحهم المشروعة وتأمين حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية .. يتم ذلك في ظروف مواتية للجميع دون استثناء حتى المقيمين على ارض الدولة ولا يتمتعون بالمواطنة حيث يجري احترام حقوقهم استناداً الى اللوائح الدولية لحقوق الانسان .
    وكما هو واضح فإن المواطنة تنتقل من مجرد كونها توافق اجتماعي سياسي تجسده نصوص قانونية لتصبح قضية المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات هي القيمة العليا في المجتمع . إن الشراكة في الوطن تعني مشاركة كاملة ومنصفة للجميع في ثروات البلاد وفي تقرير مصير الوطن .
المرأة في صلب المواطنة
     تبقى اشارة مهمة جداً تتعلق بوطننا العراق الذي تشكل المرأة فيه استناداً الى احصائيات الدولة غالبية السكان ، ومع ذلك تراجعت مكانة المرأة فيه بفعل سنوات القمع والاستبداد الى درجة كبيرة .. ومن هنا فإن رغبة الانتقال من فقه المشاركة الى مبدأ المواطنة ، ومن دولة العصبيات الى دولة المؤسسات التي تحقق لنا مواطنة مضمونة ومتوازنة لا ينبغي ان تتغافل عن هذه الحقيقة الاجتماعية ..
      فقبل ان نتحدث عن المساواة بين الافراد لابد ان نتحدث عن المساواة بين الرجل والمرأة ، ليست مساواة لفظية ، ولكن مساواة قانونية تنص عليها التشريعات ، فلابد من انهاء حالة التفاوت في التعامل الاجتماعي والقانوني بين الرجل والمرأة ، ناهيك عن الضغوط الاجتماعية والدينية والعرفية التي تقع على نفسية المرأة وممارستها لحقوقها المدنية .
     المرأة العراقية اذن في صلب قضية المواطنة ، وهناك حاجة وطنية ماسة لاشراكها في عملية البناء واعادة الاعمار ، ولن يتم ذلك الا من خلال تمثيلها في كل مؤسسات الدولة وقياداتها وفقاً لنسبتها من السكان واستناداً الى كفاءاتها .
     في مجتمع متعدد القوميات والاديان والطوائف مثل وطننا العراق تبدو خشبة الخلاص الوحيدة لانقاذ هذه التعددية من التفتت ، هي في تمتين أواصر الانتماء للوطن .. وهذا مرتبط بنحو اساس بمدى تحقق مبدأ المواطنة على ارض الواقع واشعار المواطنين بانهم متساوون في الحقوق والواجبات لهذا الوطن .. فالناس تتمسك بوطنها وتفاخر بمواطنيتها عندما يوفر لها الوطن مستلزماتها وحقوقها المشروعة .

الديمقراطي

أبريل 2006م