القطاع العام في سورية …من الحماية إلى المنافسة

الدكتور عارف دليلة

 

1- في مفهوم القطاع العام والموقف منه:

تأسيساً على المنهجية التي نهجت عليها في دراساتي السابقة عن القطاع العام[1] أؤكد وجوب عدم الخلط بين "القطاع العام"  و"الاشتراكية"  فالاشتراكية نظام اجتماعي اقتصادي كامل. له أساسه الاقتصادي وبنيانه الفوقي الخاص به. أما القطاع العام فهو ظاهرة اجتماعية اقتصادية، جزئية، موضوعية. ولدت مع ولادة الدولة وتستمر معها. بغض النظر عن طبيعة النظام الاجتماعي-الاقتصادي القائم فالدولة ظاهرة اجتماعية معقدة. نشأت مع ظهور التمايز الاجتماعي، وبالتالي الصراع الاجتماعي القبلي أو القومي أو الطبقي. حاملة في ذاتها منذ ولادتها طابعاً تناقضياً مزدوجاً: فهي، من جهة، مؤسسة اجتماعية ذات وظائف عمومية، تؤديها لصالح مجتمعها بشكل عام. ومن جهة أخرى هي جهاز طبقي تهيمن عليه الطبقة المهيمنة اقتصادياً. المالكة الرئيسة لوسائل الإنتاج، سواء في الشكل الخاص للملكية. أو في الشكل الجماعي للملكية (ملكية مجموع الطبقة المهيمنة)، مع بقاء غالبية المجتمع المالكة، أو المالكة لملكيات صغيرة أو متوسطة مبعثرة، أكثرية خاضعة ومستغلة من قبل الطبقة المهيمنة، والدولة بصفتها الطبقية هذه، على اختلاف درجة حدة هذا الطابع الطبقي من نموذج إلى آخر، تقوم بوظائف خاصة لتكريس مصالح الطبقة الضيقة التي تمثلها وتتماهى بها. على حساب وظائفها العمومية المفترضة تجاه المجتمع ككل.

وإضافة إلى التمييز بين القطاع العام والاشتراكية يجب التمييز بين مصطلحي "القطاع الحكومي" و"القطاع العام" من حيث المضمون فمصطلح "القطاع الحكومي" يشير إلى شكل الملكية دون أن يفيدنا في شيء في معرفة مضمون هذه الملكية،أي نوع المصلحة التي تتحقق من خلالها. هي مصلحة الحكومة، أو السلطة الحاكمة، كأشخاص طبيعيين، أو كبنية طبقية، أم مصلحة المجتمع بشكل عام حاكمين ومحكومين؟ أما مصطلح "القطاع العام" فإنما يشير إلى الارتباط بالوظائف العمومية التي تؤديها الدولة. كشخصية اعتبارية. في خدمة المجتمع. ومصطلح "القطاع العام" يكشف عن الانحراف عندما تقوم السلطة العامة بتسخير هذا القطاع لتلبية مصالحها وحاجاتها الخاصة. بما يتناقض مع طبيعة العمومية. وبما يتناقض مع ما تتطلبه الوظائف العمومية المناطة بالدولة تاه المجتمع.

وعلى أساس هذا التمييز طرحنا منذ محاضرتنا في ندوة الثلاثاء عام 1996 مقولة "الخاص في العام والعام في الخاص" لنعبر بـ "الخاص في العام" عن الحالة التي يكون فيها الشكل الحقوقي العام للملكية مظهراً لمضمون مناقض، خاص أي عندما تستخدم الملكية الحكومية لخدمة أشخاص السلطة وشركائهم فحسب. وفي هذه الحالة يظهر القطاع الحكومي عاماً في شكله الحقوقي فقط. لكنه خاص في مضمونه الاقتصادي الاجتماعي. وتظهر الدولة كجهاز طبقي مجرد، كسلطة خاصة منشقة إلى درجة التضاد عن قاعدتها الاجتماعية. أما "العام في الخاص" فقد قصدنا به أن يعتمد الخواص في نشوئهم وشروط وجودهم واستمرارهم وتعاظمهم اعتماداً أساسياً على استغلالهم للدولة، أو على قيام السلطة بتسخير المصالح الحكومية. مستخدمة قوى الدولة الاقتصادية والسياسية وغيرها لخدمة الخواص وتأمين نمائهم عن طريق الامتيازات والإعفاءات والاستثناءات والتجاوزات التي تتيحها لهم، وفي الحالتين نكون أمام حالة "خصخصة الدولة" ، أي غياب طابعها العمومي وطغيان الطابع الخاص عليها، سواء منظوراً للسلطة كأشخاص طبيعيين أو كمؤسسة اعتبارية. وكدور ووظائف فالقطاع الخاص في هذه الحالة يكون خاصاً في شكله الحقوقي فقط، بينما يكون عاماً في أصله ومصدر حياته ونمائه، أي في مضمونه الاجتماعي-الاقتصادي.

ولا يفوتنا أن نحذر هنا، كما حذرنا في محاضرتنا السابقة، من استخدام لمصطلح "القطاع الخاص" لجمع جميع الفاعلين الخواص في سلة واحدة مستغلاً أولئك الذين ينشأون ويعملون ويتطورون بالجهد والإنتاج وحسن الإدارة، الذين نطالب دائماً بتوفير شروط العمل الطبيعية لهم وتخليصهم من العقبات الموضوعية أو المفتعلة التي تعيق عملهم، وذلك للتغطية على أولئك "الشطار" الذين لم يتعودوا الاستثمار والمخاطرة والإنتاج الجاد وإنما اقتصروا دائماً على التكسب بالوسائل الملتوية واستغلال العلاقات الزبائنية مع البيروقراطيين الفاسدين لتناهب المصالح العامة وتفصيل القرارات والامتيازات والاستثناءات والإعفاءات على مقاساتهم المشتركة، ليحققوا ثروات خيالية بأسهل مما تستطيع المافيات وتجار المخدرات تحقيقه، وذلك على حساب تقدم الاقتصاد الوطني وحقوق جميع المواطنين، وفي كثير من الأحيان نهب القطاع العام.

إن الموقف العلمي من القطاع العام هو الموقف الذي لا يرى في القطاع العام غير ما يمثله حقيقة، وهو قيام الدولة بوظائفها التي تقوم فيها، مع توسيع هذه الوظائف لتشمل النشاط الاقتصادي أحياناً أو تركها للخواص أحياناً أخرى، ولذلك بتأثير من عوامل داخلية وخارجية مختلفة.

هذا المفهوم العلمي للقطاع العام يخلو من عبادة الأشكال، كتقديس الشكل العام للملكية بحد ذاته أو معاداة الشكل الخاص للملكية بحد ذاته، وينطبق بدلاً من مضموم الملكية أي من قدرة هذا الشكل أو ذاك على تحقيق الصالح العام، كما يخلو من المبالغة في إضفاء صفات على القطاع العام ليست من صلبه، بالضرورة، مثل اعتباره صفواً للاشتراكية أو الدفاع عنه، أو محاربته، بصفته هو الاشتراكية ذاتها، في الوقت الذي يجري فيه تجاهل السمات الأخرى الجوهرية للنظام الاشتراكي، مثل سيطرة المنتجين على وسائل إنتاجهم بدلاً من أن يكونوا، كما في الإقطاعية أو الرأسمالية، قطعة لحمية ملحقة لها، ومثل إقامة الديمقراطية السياسية لمجموع الشعب، الديمقراطية الحقيقية لا الشكلية وحسب، وبشكل عام إقامة الشروط المادية والمعنوية للتفتح الحر للشخصية الإنسانية.

إن هذا المفهوم العلمي للقطاع العام يحدد ليس فقط ذلك الموقف من القطاع العام الذي يرى أن وظيفة هذا القطاع لا تتحقق بمجرد الشكل العام للملكية بل بمقدار ما يتحقق من هذه الملكية من صالح عام لمجموع شعب[2]. وإنما يحدد أيضاً الموقف من المواقف الأخرى من القطاع العام والمصالح الكامنة لأصحاب هذه المواقف حيث يكشف مقدار الخداع والتضليل في الكثير من مواقف التمسك بالقطاع العام والدفاع عنه باعتباره فقط شكلاً حقوقياً عاماً للملكية هذا في الوقت الذي يمارس فيه أصحاب هذه المواقف من انتهازيين تحريفيين أو أعداء عضويين للقطاع العام والتي تقلب مضمونه رأساً على عقب، إذ تحوله من مصدر استقرار وسعادة ورفاه للعاملين فيه، أولاً، وللمجتمع على العموم إلى عبء ثقيل يدفع العاملون فيه، أولاً والمجتمع من بعدهم، ثمناً باهظاً لبقائه واستمراره بينما تذهب القيمة المضافة المنتجة فيه إلى حسابات وجيوب الطغمة التي تكون قد توزعته إقطاعات فيما بينها، تتناهبه بكل ما تبتدع من وسائل مجربة أو مستجدة بدءاً من لحظة إنشائه وحتى تزويده بمستلزمات الإنتاج من آلات ومواد وكل ذلك يكلف أكبر من القيمة الحقيقية، وكذلك استجرار منتجاته واقتسامها بدون قيم أو بقيم يحددون طرق سدادها وفق أهوائهم، وحتى تسليط من هم غير أهل للمسؤولية على إدارة شؤونه أو العمل فيه. دون اعتبار لشروط الخبرة والكفاءة، أو الالتزام بجودة الأداء أو تقويم أو محاسبة على نتائج الأعمال، وهكذا إلى تساقط أشجار النخيل، تباعاً أو دفعة واحد.

فمن هم أنصار القطاع العام الحقيقيون. وما هي المواقف المخلصة الصادقة في دعم القطاع العام تمكيناً له من أن يكون اسماً على مسمى. وأن يؤدي الوظائف العمومية التي تخدم مصالح الشعب. وتحقق التقدم الاقتصادي؟

بدايةً، نؤكد  أن القطاع العام ليسوا، بالضرورة، فقط من الاشتراكيين أو الذي يعتبرون موقفهم في التمسك بالقطاع العام وتطويره تمسكاً بالنظام الاشتراكي، فقد يكونون كذلك، وقد لا يكونون، وذلك بقدر ما يعتبر القطاع العام. حسب مفهومنا أعلاه، تعبيراً عن الطابع العمومي الكامن في الدولة أي دولة، فقد يكون الطابع العمومي للدولة طاغياً على وظائفها لدرجة تغيب عندها هذه الوظائف خدمة المصالح الشخصية الخاصة لأفراد معينين أو لفئة من الناس على حساب المجتمع. وقد يكون الطابع العمومي أقل من ذلك إلى هذه الدرجة أو تلك، ولكن قد يصل الأمر إلى غياب الطابع العمومي للدولة بصورة شبه كلية، كما أشرنا سابقاً، وتظهر الدولة عندها كمؤسسة خاصة، في الجوهر، وعندها تكون عملية خصخصة الدولة وقطاعها العام قد أنجزت وبدون إعلان!.

إن الأنصار الحقيقيين للقطاع العام، هم فقط أولئك الذين يدافعون عن المصلحة العامة المتحققة في القطاع العام. والمتمثلة بما يؤديه من فوائد للعاملين فيه أولاً، وللمجتمع والدولة ككل ثانياً، أو العاملين فيه وللمجتمع والدولة معاً. ودون أن تكون خدمة المجتمع والدولة على حساب العاملين في القطاع العام، وبالأحرى دون أن يسخر القطاع العام لتحقيق مصالح خاصة معينة على حساب مصالح العاملين فيه ومصالح المجتمع والدولة معاً.

إن أسوأ أشكال الدفاع عن القطاع العام هو الخطاب السياسي الذي يتمسك بشكله الحقوقي فقط فليس شكل القطاع العام غاية بذاته، بل وسيلة لتحقيق غايات أخرى، والسؤال الرئيس هو هل يمكن الارتقاء بالقطاع العام من شكل تكريس أو تعميق عبودية الناس للشروط العادية لوجودهم. وهو الدور الذي يؤديه في ظروف الجمود والتخلف والركود، إلى وسيلة لتحقيق الشروط افضل للانتقال من مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية، والتخلص من الاستلاب الاقتصادي والسياسي؟

إن الهدف الأول لخصوم القطاع العام الظاهرين والمستترين هو إيصاله إلى حال التردي يقلب موقف العاملين فيه، قبل غيرهم، من التمسك به باعتباره موئل رزقهم وأمانهم إلى العمل مع أعدائه في التعجل بانهياره باعتباره أصبح وسيلة لاستعبادهم واستغلالهم. وذلك عندما يجدون أن الملكية العامة قد تحولت إلى قاعدة لنظام عقيم فاسد وطفيلي عاجز عن تبريز وجوده بتحقيق التقدم الاقتصادي والرفاه الاجتماعي للطبقات الكادحة ولمجموع الشعب.

إن الشعب، والعاملين في القطاع العام، لا يقومون بمهمة حماية القطاع العام انطلاقاً من موقف إيديولوجي يقدس الشكل العام للملكية، أو التزاماً بشكل سياسي أو بتوجيه سياسي محدد، وإنما بالاقتناع المدعم بالحقائق المادية الملموسة بأن القطاع العام ضرورة ووسيلة لتحقيق الرفاه والأمان لهم ولأبنائهم من بعدهم كما لا يمكن أن يتحقق لهم في غيابه.

ولكي تنشأ بيئة اجتماعية وحريصة على القطاع العام لا بد من إحداث تغيير نزعي في طبيعة شخصية العاملين في القطاع العام، بتحويلهم من مجرد "قوة عاملة إلى ذوات حرة" من موضوع الاستغلال إلى سلطة حقيقية تمثل موقفاً إيجابياً فاعلاً يمارس اتخاذ القرار فيما يخص نوعية حياتها، إنها دمقرطة الإدارة على مستوى المؤسسة وعلى مستوى المجتمع، وذلك بجعلها نابعة من القاعدة ومسؤولة أمامها.

إن التغير النوعي في موقف العاملين من عملية العمل بشكل خاص، وفي علاقتهم بمصير مؤسساتهم بشكل عام لا يتحقق إلا بإشراكهم في ملكية وسائل الإنتاج ونتائج أعمالهم، وتحمل مسؤولياتهم ثواباً أو عقاباً، ومن هنا فإن "الإدارة بالأهداف" التي لا تمس إلا البنية الفوقية لن تحقق أي أثر يذكر سوى إضاعة الزمن وإعطاء قوى العطالة والفساد فرصة سماح إضافية لتعطيل الإصلاح الحقيقي وزيادة تكاليفه، فالتغيير الإيجابي يحتاج إلى قلب شخصية العاملين من شخصية سلبية إلى شخصية إيجابية ذات مسؤولية ومصلحة في التطوير، ولا تحتاج إلى سلطة لإكراهها على القيام بمسؤولياتها على الوجه الأفضل، فالإصلاح يحتاج إلى تغيير نوعي في طريقة ارتباط المنتجين بوسائل إنتاجهم وبالمؤسسة التي ينتمون إليها. ولقد أدرك الرأسماليون هذا أكثر من الاشتراكيين البيروقراطيين الذين اعتمدوا على نظام العمل السلطوي الأحادي الاتجاه، ولقد استوعب الصينيون والفيتناميون الدرس ففتحوا في السنوات الأخيرة باب المشاركة في ملكية المشروعات الحكومية أمام العاملين في المشروع وحتى أمام الشعب، وكنت قد اقترحت إشراك العاملين في الملكية وتوزيع نسبة بسيطة من أسهم الشركة عليهم دون مقابل في البداية ثم زيادة هذه الملكية تدريجياً عن طريق مراكمة الأرباح السنوية. وبالتالي تحويل العاملين إلى جمعية عمومية للمساهمين يشاركون، حسب نسبة ملكيتهم، في اختيار عدد أعضاء مجلس الإدارة يتناسب مع نسبة ملكيتهم في رأس المال ومحاسبتهم ووضع خطط العمل ومتابعتها، وذلك في "مشروع النقاط الخمس لإصلاح القطاع العام" من خلال محاضرتي في ندوة الثلاثاء عام 1992 بعنوان: "القطاع العام ودوره في التنمية" بل وتقدمت بمقال إلى "البعث الاقتصادي" (استجابة لنداءاتها حين صدروها للاقتصاديين للكتابة فيها) أقترح فيه شكلاً قانونياً جديداً للشركات المساهمة الرأسمالية يحقق دمقرطة الإدارة الرأسمالية، ويعطي الاعتبار لجميع فئات المساهمين مهما بلغت مساهمتهم ويمكنهم من إيصال ممثليهم إلى مجلس الإدارة، وذلك كتعديل جوهري للشكل الحالي الذي يمكن عدداً محدوداً فقط من المساهمين من احتكار الإدارة والتصرف برؤوس أموال عشرات آلاف المساهمين المستبعدين قانوناً من إمكانية المشاركة في الإدارة وقد أسميت هذا النظام "الرأسمالية العربية[3]".

2- بيئة عمل القطاع العام: القطاع العام محكوم وليس حاكماً

لا يجوز الحكم على ظاهرة محكومة، تابعة، إلا من خلال معرفة مضمون بينها وبين حاكمها أو متبوعها والقطاع العام ليس ظاهرة اجتماعية اقتصادية مستقلة بل هو محكوم بالسلطة التنفيذية بصورة مباشرة من خلال الأشخاص الطبيعيين الذين تختارهم له، ومن خلال القوانين والأنظمة والقرارات والتوجيهات التي تصدرها لهم ومختلف الأتاوات التي تفرض عليه.

إن الملاحظة البارزة فيما يخص إدارة الاقتصاد والمجتمع التي تمارسها السلطة التنفيذية هي أننا شهدنا في العقود الماضية ثباتاً في الإدارة السياسية العليا، وعلى العكس، تنوعاً واختلافات واسعة في أساليب الإدارة العامة التنفيذية، وذلك بقدر الاختلاف في الخصائص الشخصية لرجالها، مما يشير إلى طغيان الطابع الشخصي في الإدارة على المحددات العلمية الموضوعية، وإلى اختلال توازن السلطات وضعف مؤسسة الدستور والقانون، وذلك إلى درجة يصح معها القول إننا بحاجة إلى باحثين في علم تحليل الشخصية والسلوك أكثر من حاجتنا إلى باحثين اقتصاديين اجتماعيين، إذا أردنا التنبؤ بما سيفعله رجال الإدارة العامة أو لتفسير ما فعلوه، هذا ما يدفع بعض الباحثين الأجانب في دراستهم للتطور الاقتصادي –الاجتماعي في سورية خلال العقود الماضية إلى التركيز على شخصية متخذي القرار وعلى كيفية اتخاذ القرار في الممارسة الواقعية إلى درجة تسمية هذه العملية بـ "الاقتصاد السياسي لسورية" كما فعل الباحث الألماني المستعرب "فولكر بيترس" في كتابه الذي صدر قبل عدة سنوات تحت نفس العنوان.

إن الاختلافات الواسعة في الأداء والنتائج، مثلاً، بين حكومتي النصف الأول من الثمانينيات والتسعينيات لا يمكن استقراؤها من مجرد متابعة الخطاب الرسمي، وهذه ملاحظة هامة أخرى لذلك فإن الباحثين لا يتوقفون عند الخطاب الحكومي الرسمي للحكومات السابقة، لأنهم يجدون فيه منسوخات خطاب واحد لا يستطيع المتتبع له التعرف من خلاله على خصائص الواقع الاقتصادي-الاجتماعي في اللحظة المعينة والذي يفترض أن الحكومة تنطلق منه لتعمل على تطويره وتحسينه.

فالخطاب الحكومي في مجال إدارة الاقتصاد والمجتمع كان هو نفسه في الأحوال الجيدة كما في الأحوال السيئة وفي ظروف الحرب كما في الظروف العادية، على مبدأ "مستورة والحمد لله!" لكن النتائج العملية كانت تختلف وتتناقض ما بين حكومة وأخرى أكثر بكثير مما لو كان تبادل الحكومة حزبان متعارضان. يمكن تمييز شيئين ثابتين فقط هما منهج الإدارة الاقتصادية، وسوء الأداء الاقتصادي، الذي جعل الحصائل الاقتصادية، على اختلافها الكبير في الشكل، متفقة في الجوهر، ويكفي برهاناً على ذلك أن نقول أن متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي على مدى عشرين عاماً وأن مستوى الأجر الحقيقي قد انخفض بدلاً من أن يتضاعفا مرتين على الأقل كما حصل في بلدان أخرى لا تتمتع بما تتمتع به سورية من إمكانات وميزات! وهذا يعني أن النمو الاقتصادي لم يواكب حتى نمو السكان، وكأن حكوماتنا قد استجابت لنداءات نادي روما الشهيرة التي أطلقها في السبعينيات إبان الأزمة الاقتصادية العالمية لضرورة وقف النمو (Zero Growth)  أو النمو صفر، محملة شعبنا مسؤولية حماية مستقبل البشرية من الفناء!

والمشكلة في الخطاب الاقتصادي لم يكن يخضع لأي مراجعة أو مساءلة، لا عند صياغته ولا عند متابعته هذا إذا كان يخضع لأي متابعة على الإطلاق، وإذا حصل وجاء الخطاب في المناسبات على الوقائع والأرقام فإنه كان شغوفاً بالتدليل على الإنجازات بالأرقام الإحصائية بالأسعار التضخمية الجارية ليبين بأن ما يفعلونه يقارب المعجزات والخوارق، والتي لا تستطيع أن تقلل منها الحقائق المعاكسة المعاشة على أرض الواقع، لقد أصبح المواطن يشتهي ويتشوق أن يسمع خطاباً بسيطاً يقول له: أشرقت الشمس، غربت الشمس، جاء الربيع، ذهب الشتاء، انخفض الإنتاج ارتفع الإنتاج، ازداد التهريب، اتسع الفساد، حوصر الفساد، ارتفعت المسروقات، استرجعنا المسروقات ميزانية الدولة وليس إلى جيوب البعض! إننا أصبحنا نعتبر حتى هذا الخطاب الفطري البدائي "تقدماً علمياً" يشار إليه بالبنان! هذه هي بعض ملامح بيئة عمل القطاع العام في المراحل المنصرفة من حياته، ولا يمكن تفهم أوضاعه والحكم على وقائع سير أعماله إلا من خلال الأخذ بالاعتبار لخصائص هذه البيئة التي تحكمه وتنعكس عليه.

ولكننا شئنا أم أبينا دخلنا في الألفية الثالثة للميلاد والتي ستؤرخ بتقويم جديد اسمه عصر العولمة والإنترنت ومع ميلاد التقويم الجديد لا يمكن الاستمرار بالحديث بلغة العصر السابق، كما أن الحديث بعد الهجرة بلغة الجاهلية وبعد المسيح بعقيدة اليهود لم يعد جائزاً، وبغض النظر عن رؤيتنا للعولمة والإنترنت فإن نمط الحياة، أو "نحلة المعاش" حسب تعبير ابن خلدون، بدأت نشهد انقلاباً نوعياً مقارنة بجميع نحل المعاش التي عرفتها البشرية في عمرها السابق، وإن أحداً لا يستطيع التنبؤ بما يحمله هذا الانقلاب من مفاجآت لجميع مناحي الحياة خلال السنوات القليلة القادمة، فكيف إن يوم عصرنا لعام من الزمن الذي مضى!

أمام هذه الحقيقة الجارفة لا بد من تصعيد التساؤلات الملحة حول الوقائع المحيطة بنا، وحول مستوى استعدادنا للتعامل مع العالم في وضعيته الراهنة والمستقبلية، والمكانة التي نتوقعها لأنفسنا في قطار هذا العالم بخلاف تلك المكانة التي انشغل البعض بحجزها لأنفسهم في المركبات الخلفية من قطار العولمة تاركين شعبهم يراوح في مكانه في خضم الفقر والتخلف الناجم عن سلوكياتهم وممارساتهم المستهترة بالمسؤوليات التي أوكلت إليهم على مدى سنوات طويلة لم يشعروا خلالها للحظة واحدة أنهم وشعبهم يركبون مركباً واحداً إما أن ينجو معاً أو يغرقوا معاً.

إن المهمة الأعظم التي تواجهنا في العصر الجديد هي إيجاد سبل الخروج من حالة غياب الوعي وموت الإحساس بالزمن وضرورات المواكبة، والتخلص من مرض التبلد الذهني تجاه كل ما ترتبه تساؤلات وتحديات هذا العصر من واجبات ومسؤوليات. وتعبئة للإمكانات المادية وللطاقات البشرية، ولكن كيف يمكن ذلك والناس مشحونون للعمل ضد أنفسهم، بوعي وبدون وعي، والأمر سيان لديهم بين الصواب والحق وبين الخطأ والباطل. وكيف يمكن ذلك والناس يرفضون أن ينظروا إلى غير وجوههم في المرآة. ويرفضون أن يصغوا إلى غير صوتهم، أو الاعتراف ببشر غير بشرهم، أو الاقتناع بأن لا تناقص إطلاقاً بين صالحهم الخاص والصالح العام حتى عندما يكون ثمن الصالح الخاص ليس الانتقاص من العام فحسب بل دمار العام كله.

3- سمات هامة لاقتصادنا ولقطاعنا العام يجب التوقف عندها:

من الإحصائيات الرسمية استقينا بعض المعطيات التي ترسم لنا بعض الملامح الهامة للاقتصاد السوري المعاصر وللقطاع العام والسياسات الاقتصادية الحكومية:

1- تضاعف الإنتاج الإجمالي 120.6مرة بالأسعار الجارية ما بين 1970-1997، 4.5 مرة بأسعار 1995 الثابتة مما يشير إلى الأثر الكبير للتضخم. والذي يعبر عنه الخفض الضمني للناتج المحلي الإجمالي والذي بلغ حسب تقرير البنك الدولي لعام 19908-1999 (المعرفة من أجل التنمية) 15.3% سنوياً في الفترة 1980-1990 و8.7% سنوياً في الفترة 1990-1997، ويعبر بهذا المؤشر عن معدل التضخم.

2- انخفاض الإنتاجية في الاقتصاد الوطني ويستدل على ذلك من ارتفاع نسبة الاستهلاك الوسيط في الإنتاج الإجمالي من 38% عام 1980 إلى 44% عام 1990 ولتستقر عند 42% في التسعينيات، وبالمقابل انخفاض نسبة الناتج المحلي الصافي من 61% من الإنتاج المحلي الإجمالي لعام 1980 إلى 54% عام 1995 ولتستقر عند 56% في التسعينيات، مما يشير إلى تردي مستوى الأداء الاقتصادي معبراً عنه بالقيمة المضافة المتناقصة. وانعدام أثر التجديد والتطوير في لقاعدة المادية-التقانية للإنتاج.

3- ضآلة نسبة اهتلاك رأس المال الثابت في الناتج المحلي الإجمالي وتبلغ 2% فقط (وبالقيمة بأسعار 1995 الثابتة بلغ التكوين الرأسمالي في الاقتصاد الوطني 155 مليار ل.س. منها 58 مليار ل.س. فقط اهتلاك آلات وتجهيزات) وذلك لعام 1997 وهو مؤشر من مؤشرات الاقتصادات المتخلفة والذي يعكس ضعف القاعدة المادية-التقانية للإنتاج، وضعف الادخار القابل للاستثمار. كما يشير إلى ذهاب الاستثمارات الجديدة إلى المشروعات الجديدة وإهمال تجديد رأس المال الثابت في المشروعات القائمة، مما أدى إلى انخفاض الإنتاجية وارتفاع تكاليف الإنتاج وتدهور القدرة التنافسية في جانبي السعر والنوعية للإنتاج الوطني.

4- انخفاض الاستثمار في الفترة 1986-1999 بشكل ملموس عم مستواه في الفترة السابقة من الثمانينيات والسبعينيات مع بعض الارتفاع في النصف الأول من التسعينيات، والتراجع في النصف الثاني من التسعينيات.

5- انخفاض نصيب الاستثمار العام في مجمل الاستثمار من 67.5% عام 1970 و66.3% عام 1985 إلى 42.6% عام 1990 و43.5% عام 1995، ليرتفع إلى 58.9% عام 1997 وذلك مقابل ارتفاع الاستثمار الخاص من 32.5% عام 1970 إلى 33.6% عام 1985 وإلى 57.4% عام 1990. ولكنه لينخفض إلى 56.5% عام 1997 وإلى 41% عام 1997، رغم انخفاض الحجم المطلق للاستثمار العام في النصف الثاني من التسعينيات.

6- الاعتماد شبه الكامل في تمويل الاستثمار على عجز ميزان التعامل مع العالم الخارجي، أي الموارد الخارجية، إذ أن إجمالي الاستهلاك يتقارب مع إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، وذلك منذ 1970 حتى أواسط التسعينيات حيث أصبح الاستثمار يمول إلى حد كبير من فائض الناتج المحلي عن الاستهلاك، أي من الادخار المحلي. بعد تناقص التمويل الخارجي من جهة، وانخفاض معدل الاستثمار نفسه، من جهة ثانية، ونتيجة لتخفيض الاستهلاك الناتج عن انخفاض معدل الدخل الفردي والأجور.

7- وإن المؤشر الذي يعبر عن التأثير المركب للمؤشرات السابقة هو معدل النمو، ويبين الجدول التالي معدل النمو السنوي في الاقتصاد الوطني وفي قطاعاته الثلاث.

معدل النمو السنوي الإجمالي والقطاعي للناتج الحلي الإجمالي (%)

1987-1990

1981-1986

1966-198

1953-1965

البيان

3.5

1.5

8.7

6.7

معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي العام

-2.3

-1.4

4.8

3.6

معدل النمو في القطاع الزراعي

11.8

0.6

12.2

9.2

معدل النمو في القطاع الصناعي

-1.5

2.9

9.0

8.2

معدل النمو في قطاعات الخدمات

ملاحظة: 1953-1965 محسوبة بالأسعار الثابتة لعام 1963، من المجموعة الإحصائية لعام 1972

          1966-1990 محسوبة بالأسعار الثابتة لعام 1985، من المجموعة الإحصائية لعام 1992.

وحسب تقرير البنك الدولي المذكور أعلاه بأن معدل النمو السنوي خلال الفترة 1980-1990 (1.5%) سنوياً وارتفع خلال الفترة 1990-1996 إلى 6.9% سنوياً مع الإشارة إلى أنه بلغ خلال عامي 1996-1997 (2%) سنوياً، وحسب بعض التقديرات كان خلال عامي 1998-1999 أقل من 1% سنوياً. مع وجود تقديرات أخرى تقول أنه كان سالباً.

8- إن البنية القطاعية للاقتصاد السوري لم تشهد تطوراً يوحي بأي تقدم نوعي على مدى العقود الثلاثة السابقة كما تشير بيانات المجموعة الإحصائية عن تطور أنصبة القطاعات الاقتصادية في الناتج المحلي الإجمالي:

تطور أنصبة القطاعات الاقتصادية من الإنفاق على الناتج المحلي الإجمالي (%)

1997

1990

1980

1970

القطاع

30

30

32

33

الزراعة

14

13

7

10

الصناعة والتعدين

5

4

8

5

البناء والتشييد

22

25

26

26

تجارة الجملة والمفرق

13

10

7

9

النقل والموصلات والتخزين

5

4

5

5

المال والتأمين والعقارات

2

2

3

3

خدمات المجتمع والخدمات الشخصية

9

12

12

9

الخدمات الحكومية

فمن أرقام الجدول السابق يتبين أن التغير الأهم كان من نصيب قطاع النقل والمواصلات والتخزين الذي ارتفعت نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي من 9% عام 1970 إلى 13% عام 1997، وكذلك الصناعة والتعدين: من 10% عام 1970 إلى 14% عام 1997، ويرجع السبب الأهم في ارتفاع نصيب قطاع النقل والمواصلات إلى تركيز الاستثمارات الناجمة عن قانون تشجيع الاستثمار لعام 1991 في قطاع النقل حتى انتقلنا من أزمة النقص إلى أزمة الفائض في وسائل النقل والشحن والتي ينتج عنها ارتفاع تكلفة وهدر كبير للموارد. وأما السبب الأهم لارتفاع نصيب قطاع الصناعة والتعدين فهو الارتفاع الكبير في إنتاج النفط في التسعينيات. ولكن دون أن ينعكس ذلك إيجابياً بأس شكل لا على الاستثمار ولا على مستوى المعيشة بل مع التردي المتزايد في هذين المؤشرين كما رأينا.

9- نتيجة السياسات الاقتصادية الجديدة تغيرت أنصبة كل من القطاعين العام والخاص ي الإنتاج الصناعي والناتج الصناعي المحلي الصافي، كما تبين الأرقام التالي (بالأسعار الجارية، مليار ل.س.):

تطور أنصبة كل من القطاع العام والقطاع الخاص في الإنتاج والناتج المحلي الصافي

صافي الناتج المحلي الإجمالي للصناعة

الإنتاج الصناعي

البيان

مجموع

قطاع خاص

قطاع عام

مجموع

قطاع خاص

قطاع عام

 

18.1

9.1

5.6

0.5

 

3.2

3.4

0.2

-

 

14.9

5.7

5.4

0.5

 

39.8

31.2

6,6

2.0

 

88

8.4

0.4

-

 

31.00

22.8

6.2

2.0

1985

مجموع الصناعة

صناعة تحويلية

صناعة استراتيجية

ماء وكهرباء

 

141.3

50.9

86.0

4,4

 

28.0

27.2

0.8

-

 

113.3

23.7

85.2

4,4

 

367.3

239,1

102.5

25,7

 

115.8

114.4

4

-

 

251.5

124.7

101.1

25.7

1996

مجموع الصناعة

صناعة تحويلية

صناعة استخراجية

ماء وكهرباء

من بيانات الجدول أعلاه نلاحظ ما يلي:

أ‌-    تضاعف القطاع العام في الإنتاج الصناعي بالأسعار الجارية ما بين عامي 1985-1996 بمقدار 8.13 مرة، بينما تضاعف نصيب القطاع الخاص 13.15 مرة أي أنه كان ينمو بمعدل 1.62 مرة معدل نمو القطاع العام. وبما أن القطاع الخاص لا يشارك في الصناعة الاستخراجية والماء والكهرباء. فقد تركز نموه في الصناعة التحويلية حيث ارتفع نصيه في إجمالي الإنتاج الصناعي للصناعة التحويلية من 27% عام 1985 إلى 48% عام 1996 مقابل انخفاض مصيب القطاع العام من 73% إلى 52%.

ب‌-  أما نصيب القطاع العام في صافي الناتج المحلي الإجمالي للصناعة التحويلية (بالأسعار الجارية) فقد ارتفع من 14.9 مليارل.س. عام 1985 إلى 113.3 مليار ل.س. عام 1996. أي أنه تضاعف بمقدار 7.6 مرة، بينما ارتفع نصيب القطاع الخاص في صافي الناتج المحلي للصناعة التحويلية من 3.2 مليار ل.س. إلى 28.00مليار ل.س. أي أنه تضاعف بمقدار 8.75 مرة. ولكن بسبب تركز القسم الأكبر من صافي الناتج المحلي في الصناعة الاستخراجية التي يسيطر عليها القطاع العام فإن نصيب القطاع الخاص في صافي الناتج المحلي للصناعة التحويلية ارتفع بمعدلات أكبر بكثير من معدل نمو نصيب القطاع العام. ففي عام 1985 كان نصيب القطاع العام في صافي الناتج المحلي للصناعة التحويلية 80.8% مقابل 19.2% للقطاع الخاص، واصبح نصيب القطاع العام عام 1996 حوالي 46.5% مقابل 53.5% نصيب القطاع الخاص، أي أن نصيب القطاع العام عام 1996 قد خسر 52.5% من نسبته عام 1985، بينما تضاعف نصيب القطاع الخاص بمقدار 2.8 مرة خلال الفترة.

إن الأرقام السابقة تحمل إشارات بليغة إلى وجود أزمة شديدة في الصناعة التحويلية للقطاع العام. بل إن الأزمة أشد مما تعكسه الأرقام، مع العلم أن الأرقام عن حجم القطاع العام تكون قريبة من الواقع بينما الأرقام عن حجم القطاع الخاص تكون، لأسباب لا يجهلها أحد أقل من الواقع.

وهكذا، بنتيجة ارتفاع معدل نمو صافي الناتج المحلي الإجمالي للقطاع الخاص عن معدل نمو مثيله للقطاع العام بنسبة 60%، كما رأينا في الفقرة السابقة. فإن نصيب الناتج الصافي للقطاع العام في الصناعة التحويلية ينخفض بنسبة 52.5% بينما يزداد نصيب الناتج الصافي في القطاع الخاص للصناعة التحويلية بنسبة 280%، وذلك خلال الفترة بين 1985-1996. وهذا ما يدعو إلى الاستنتاج بالانخفاض الكبير في الإنتاجية في القطاع العام، وأن القطاع العام في الصناعة التحويلية لا يمكن أن يكون قد حقق ربحية بل خسائر مستمرة وفق هذه المؤشرات، إلا أن ذلك لم يمنع وزارة المالية من سحب ما تعتبره حقها من قيمة إنتاجه على شكل فوائض موازنة وفوائض سيولة، حسبما تقدرها بنفسها! ودون أن ينشغل أحد في البحث عن أسباب الأزمة مكن اجل معالجتها، بل مع الاستمرار في طمسها من أجل التسريع في استفحالها!.

ومن الأسباب الرئيسة المؤدية إلى تناقص الوزن النسبي للقطاع العام وارتفاع الوزن النسبي للقطاع الخاص في الصناعة التحويلية. وصدور قانون تشجيع الاستثمار لعام 1991. وإلغاء بعض الاحتكارات التي كانت للقطاع العام. مثل صناعة النسيج وصناعة الدواء وغيرها، وهو تطور لا بد منه، ولكن الأمر غيرالمعقول هو تحويل الإنتاجات التي يجري وقفها أو التوقف عن دعمها في القطاع العام إلى الاحتكارات الخاصة وبقرارات إدارية، بحجة توفير خسائر القطاع العام التي لم تكن غالباً إلا خسائر مقررة إدارياً، وبالأخص بالأسعار التخسيرية التي كانت تفرضها الحكومة على منتجاته وبتحميله الأتاوات الأخرى الكثيرة، وبالمقابل جعل تلك الاحتكارات الخاصة رابحة جداً بسبب إفلات أسعارها، بل ونوعيات منتجاتها من الرقابة، مع تأمين الحماية لها في سوق محلية مغلقو، بل وإعفائها من الرسوم والضرائب، وأكثر من ذلك بالنسبة للشركات المشتركة إعفاؤها حتى من تحويل حصة الدولة من أرباحها عن نسبة ملكية الدولة في رأسمالها لتترك هذه الأموال بتصرف كبار مساهميها، كما فعلت الحكومة السابقة التي كانت تتصرف بحقوق الشعب تصرف المالك بملكه!

10-    نقص الإنفاق الاستثماري الفعلي عن الإنفاق التقديري: إضافة للأسباب السابقة، إضافة إلى تناقص كفاءة الإدارة ازدياد انتشار الفساد الإداري وتناقص الإنتاجية الأسباب المعروفة، هناك سبب هام آخر يرجع إلى سياسة الحكومة الاستثمارية خلال الفترة المنصرمة والتي حرمت الصناعة التحويلية في القطاع العام من تجديد رأس المال الثابت رغم التجريف الكثيف لسيولاته النقدية إلى الميزانية الحكومية، ودون مراعاة شروط تجديد الإنتاج فيها، لا الإنتاج الموسع، ولا حتى الإنتاج البسيط ورغم التضييق في الإنفاق الاستثماري التقديري للقطاع العام، إلا أن الاستثمار الفعلي كان دائماً يقل بنسبة كبيرة عن الإنفاق التقديري، وكان ذلك كما أكدنا مراراً في محاضرات سابقة، من الأهداف غير المعلنة لسياسة تأخير الموازنة إلى أواسط العام، (وموازنة عام 1999 إلى مطلع 2000؟!) رغم ما في تلك من مخالفة دستورية وقانونية، حيث ينص الدستور والقانون المالي الأساسي أن تصدر الموازنة عن مجلس الشعب قبل بدء السنة الجديدة.

ويتبع تأخير الموازنة إنقاص الإنفاق الفعلي عن التقديري بنسبة كبيرة، كما تبين الأرقام التالية:

 

مجمل تكوين رأس المال الثابت في القطاع العام حسب الموازنة التقديرية والميزانية الفعلية

(بالأسعار الجارية، مليار ل.س.)

فعلي

تقديري

السنة

0.64

140

1970

3.71

5.85

1975

9.02

14.31

1980

13.26

19.44

1985

19.97

24.30

1990

76.40

74.8

1995

76.01

91.47

1996

95.47

108.70

1997

؟

119.60

1998

رغم أن الأرقام أعلاه تبين الانخفاض الملموس للإنفاق الاستثماري عن الإنفاق الفعلي الاستثماري المقدر وهو من أهم أسباب توقف النمو الاقتصادي، إلا أمن مما يضاعف الأثر السلبي على الإنتاج والناتج الصافي هو أن الإنفاق الاستثماري الفعلي أخذ في التسعينيات يتركز بشكل متزايد في القطاعات الخدمية (بشكل خاص في الكهرباء) ويتناقص في قطاعات الإنتاج المباشر، وذلك بعد أزمة الكهرباء الشهيرة المفتعلة في الثمانينات والتي استغلت أسوأ استغلال للإثراء الخاص، بحيث أم انخفاض الاستثمار الفعلي عن التقديري في القطاعات الإنتاجية أكبر بكثير مما تعكسه الأرقام الإجمالية عن الصناعة ككل، المبينة أعلاه.

وتظهر الأرقام التالية تواضع رأس المال المتراكم المستثمر في الصناعة، حيث ارتفع طبقاً للمجموعة الإحصائية لعام 1998، من 56مليارل.س. عام 1986 إلى 164 مليار ل.س. عام 1997. وإننا لا نستخدم هذا الرقم هنا إلا بحذر بالغ، وذلك لأننا لا نملك مقابل هذا المجموع التراكمي لرؤوس الأموال المستثمرة في الصناعة قيم الاهتلاك الحقيقي، هذا إضافة إلى انخفاض المستوى لهذه الأرقام بسبب عدم وحدة المحتوى القيمي لليرات السورية الجارية المحسوبة بها، والذي تعرض إلى انخفاض شديد في أواخر الثمانينيات.

ولهذا قلنا، أثناء مناقشة مسألة الإدارة بالأهداف (أثناء محاضرة الأستاذ محمود سلامة حول الإدارة بالأهداف في هذه الندوة) إنه لا يمكن تطبيق نظام الإدارة بالأهداف قبل إجراء دراسة اقتصادية ومحاسبية علمية لكل شركة على حدة تتحدد بنتيجتها القيمة الحالية السوقية لرأس المال الاجتماعي الموضوع تحت تصرف إدارتها والعاملين فيها والتي بدون تحديدها لا يمكن الركون إلى أية حسابات تجريها هذه الشركات حالياً للتكاليف، وبالتالي، للأرباح أو الخسائر المتحققة لديها وطالما أن القيمة الحالية لرأسمالها غير معروفة لدينا، فكيف نحكم بالتالي على نتائج أعمالها وكيف نطبق مبادئ الإدارة بالأهداف عليها[4]؟

11-    وبخصوص تطور الوزن النوعي لفروع الصناعة التحويلية في الإنتاج الصناعي فإننا نلاحظ التطورات التالية (مليار ل.س. بالأسعار الجارية):

تطور الوزن النوعي لفروع الصناعة التحويلية في الإنتاج الصناعي

1996

1985

الفرع الصناعي

%

الإنتاج

%

الإنتاج

28

7

17.6

5,5

صناعة المواد الغذائية والمشروبات والتبغ

19

46.2

17.6

5,5

صناعة الغول والنسيج والجلود

4

10.2

4.1

1.3

صناعة الخشب والموبيليا والأثاث

2

4.5

1.6

0.5

صناعة الورق ومنتجاته

25

60.6

40.8

12.7

الصناعة الكيماوية ومنتجاتها وتكرير البترول

8

26.1

7,7

2.4

صناعة المنتجات غير المعدنية

2

4.5

1.4

0.46

الصناعة المعدنية الأساسية

11

26.1

7,7

2.4

صناعة المنتجات المعدنية المصنعة

1

1.3

1.5

0.42

صناعات متنوعة أخرى

100

239.1

100

31.2

مجموع الصناعة التحويلية

من الأرقام أعلاه نلاحظ أن التغيرات الأهم حصلت في صناعة الأغذية والمشروبات والتبغ التي ارتفع وزنها النسبي من 17.6% إلى 28% من إجمالي الإنتاج الصناعي. كما ازداد الوزن النسبي لصناعة الغول والنسيج والجلود، من 14.5% إلى 19% وذلك مقابل انخفاض الوزن النسبي للصناعة الكيماوية ومنتجاتها وتكرير البترول من 41% إلى 25% أي بنسبة 40% تقريباً، ومن نظرة أولية إلى الأرقام أعلاه نستنتج بأنه لم يبدأ بعد أي تحول يشير إلى أننا نسير أو ننوي السير على طريق ارتقاء الصناعي والأمر أصبح بحاجة إلى تفسير، بدون تأخير ومرة أخرى فإننا نستخدم هذه الأرقام بحذر، الأمر الذي يؤكد على وجود مشكلة كبرى في التعامل مع أرقامنا الإحصائية. وليس الإحصائيون هم وحدهم المسؤولون دائماً عن هذه المشكلة مع الإقرار أيضاً بمسؤولية كبيرة والمعلومات ونزعم أننا ندخله من أوسع أبوابه، لكننا حتى الآن ندخله فقط كمشترين "للهاردوير"[5] دون أن نبدأ في العمل لتسخيره في تطوير المعلومات وتوفيرها والاستفادة منها.

فبالنسبة للأرقام أعلاه يرجع الحذر إلى نه رغم الارتفاع الكمي الكبير والارتفاع في الأسعار بالنسبة للمنتجات الكيماوية ومشتقات البترول والذي انعكس بتضاعف قيمة إنتاج هذا الفرع خمس مرات تقريباً، -إلا أن وزنها النسبي في مجمل الإنتاج الصناعي قد تراجع بنسبة 40% وإننا نعتقد بأن الوزن النسبي لقيمة منتجات هذه الصناعة مخفض بصورة مصطنعة وذلك بسبب التسعير الإداري المخفض لقيمة منتجات المصافي النفطية والذي تضاف إليه لاحقاً في مرحلة التوزيع فروقات الأسعار.

12-    إن إلزام شركات القطاع العام بالأسعار المحددة إدارياً بشكل يجافي الأصول الاقتصادية أي دون الأخذ بعين الاعتبار التكلفة الحقيقية والأسعار العالمية قاد في النصف الأول من الثمانينيات، حيث كانت الأسعار الإدارية محسوبة على أساس سعر منخفض للدولار تتحدد عند مستوى أقل من القيمة، إلى ما أسميناه حينها[6] بـ "شفط القيمة" من المال العام إلى جيوب الخواص، وقد قدرنا خسارة الدولة والقطاع العام بمؤسساته الإنتاجية والتوزيعية بسببه على مدى خمسة أعوام من مطلع الثمانينيات بحوالي 13 مليار دولار! هذا وما يزال التسعير الإداري الذي يصطنع فجوات سعرية لتستخدم في أغراض شفط القيمة والتي تذهب بنتيجتها عشرات مليارات الليرات السورية من المال العام ومن دافعي الضرائب والمقهورين بتخفيض أجورهم الحقيقية بحجج عدم توفر الموارد المالية (كذا!!!) ما زال هذا التسعير يحتل مكانة كبيرة في التبادل، الأمر الذي يدفعنا لتكرار المطالبة بالتخلي عن هذه السياسة التسعرية التي تستنزف الخزائن العامة لتنفتح منها خزائن خاصة محددة، والانتقال إلى "تطبيع" التبادل، بإحلال الأسعار الاقتصادية الحقيقية المبنية على التكلفة والقيمة وعلى الأسعار الدولية، محل التسعير الإداري غير العلمي، ليصبح للإمكان ممارسة الإدارة الاقتصادية والحكم على نتائج أعمالها على أسس سليمة وذلك على مستوى الاقتصاد الوطني (المستوى الكلي) أو على مستوى المنشأة (المستوى الجزئي) \، ولتسد الثغرات المفتوحة للشفط عن قصد أحياناً، وعن جهل أحياناً أخرى.

وعلى رأس "التطبيع"[7] السعري يجب قبل كل شيء آخر "تطبيع" الأجور أي سعر العمل، وذلك لإعادتها إلى قيمتها الحقيقية التي يجب أن تكون عليها. والتي يجب أن تؤمن المستوى المعيشي اللائق وفق معايير العصر الراهن لأصحابها، لتعود التناسبات المنطقية بين جميع المتغيرات الاقتصادية هذه التناسبات المختلفة حالياً بشكل خطير فالأمر المنطقي، مثلاً، أن تكون كلفة السكن أو كلفة استخدام السيارة الخاصة ناهيك عن تكاليف الغذاء واللباس وغيرها. تشكل أجزاءً معقولة من مداخيل العمل كما كانت لدينا في السابق، أما أن تصبح كل منهما تحتاج إلى أضعاف الراتب أو الأجر فهذا اختلال جوهري خارق لأي منطق اقتصادي أو غير اقتصادي وبسبب هذا الاختلال فإن وزارة المالية لا تستطيع مثلاً رفع تقدير أثمان العقارات السكنية التي تحتسب عليها الضريبة، فما تظن أنها قد كسبته بالتسعير الإداري المخفض للأجور، تخسره في الضرائب بسبب التسعير الإداري المخفض للعقارات… وهكذا دواليك.

إلا أن زيادة الأجور بالطريقة التي مورست في السابق كانت تعني الأجور الحقيقية بنسبة ملموسة مع كل "زيادة" وذلك لصالح الخزينة ولصالح متسقطي هذه الزيادة من الناشطين في التسعير الاحتكاري. وهو التسعير السائد في أسواقنا فإذا أريد لزيادات الأجور أن تنعكس إيجابياً على أصحابها وعلى الاقتصاد والمجتمع وتكون اسماً على مسمى فإننا نرى أن تأخذ بالأشكال التالية:

أ‌-    رفع الحد الأدنى للأجور بمبلغ ملموس وتعميم هذا الارتفاع على جميع شرائح الأجور.

ب‌-  رفع التعويض العائلي على الأطفال والثلاثة الأول والتوقف عندهم وذلك بمعدل 1000ل.س. للطفل الأول و500 ل.س. للطفل الثاني و250 ل.س. للطفل الثالث شهرياً وذلك للتشجيع على تنظيم النسل بشكل واعٍ.

ج- إلغاء سقوف الرواتب والتقاعد فلا يجوز بأي شكل الاستمرار في الاقتطاعات التقاعدية هذه الاقتطاعات لا تعوض في التقاعد.

د-إعطاء جميع العلاوات على الراتب أو الأجر على أساس الراتب الحالي ورفع تعويض المسؤولية لأصحاب الوظائف الهامة اقتصادياً واجتماعياً، مثل الوزراء والمدراء وأساتذة المدارس والجامعات والقضاة وأعضاء مجلس الشعب (بعد تعديل قانون الانتخابات ضمان حسن تطبيقه)، وبعض الفئات الأخرى.

هـ- تحسين نظام الحوافز الإنتاجية وتوزيع جزء من الأرباح على العاملين في المؤسسات الاقتصادية. وقد ألغي نظام توزيع جزء من الأرباح على العاملين لدينا بينما ما زال قائماً في مصر حتى الآن.

و- رفع الحد الأدنى المعفى من الضريبة على الرواتب والأجور من 100ل.س. كما هو منذ عام 1949 إلى مستوى راتب خريج الجامعة حالياً.

أما الادعاء في مواجهة المطالبة بزيادة الرواتب والأجور بعدم توفر التغطية المالية فهي ساقطة سلفاً، لأنه لا يمكن توفير تغطية لأضعاف ما تتطلبه هذه الزيادة من أحد البنود التالية، وليس جميعها:

1- إصلاح التحصيل الجمركي، أسوة بلبنان، وليس بغيره، وإلحاقه بإلغاء الإعفاءات الضريبية!

2- ضبط الهدر الخارق للقانون والأصول في الإنفاق الحكومي ووضع رقابة صارمة عليها!

3- استخدام حصيلة فرقات الأسعار وتقليص الدعم المحققة سنوياً!!.

ومن المعلوم أن البندين الأولين يعتبران توزيعاً من الخزينة إلى الفئات الطفيلية ولا يصل منهما إلى المواطن شيء، أما البند الثالث فهو يمثل الشفط الذي يأتي على ما تبقى من دريهمات قليلة في جيوب أصحاب العمل وهم الغالبية الساحقة من الشعب السوري.

إن "تطبيع" العلاقات الاقتصادية بين جميع متغيرات الاقتصاد الوطني أمر لم يعد يحتمل الانتظار ومن الضروري وضعه على رأس جدول الأعمال، لأنه الشرط الأول للتحرك إلى الأمام.

13-    ومن أهم بنود "تطبيع" الوضع الاقتصادي إصلاح النظام النقدي السليفي إلى جانب النظام المالي للدولة فالمصارف الحكومية، وهي جزء أساسي من القطاع العام، ليست في وضعها الراهن أكثر من مؤسسات إدارية تعمل بالتوجيهات الأوامرية، ولا علاقة لعملها بالأصول المصرفية المتعارف عليها في العالم أجمع، إن مجرد ثبات سعر الفائدة على مدى عشرين عاماً، مثلاً رغم التقلبات الهائلة في معدلات التضخم صوداً أو هبوطاً بين 15-25% سنوياً خلال الثمانينيات ومطلع التسعينيات وبين 7-8% خلال أواسط التسعينيات، ربما 4-5% في السنوات الأخيرة، يدل على أن الإدارة الاقتصادية تعمل بعكس كل ما قدمته العلوم والتجارب الاقتصادية في العالم.

فلا يعقل إبقاء سعر الفائدة سلبياً بنسبة 10-15% لسنوات طويلة، إلا إذا كان الهدف (الذي تحقق فعلياً) هو طرد مئات المليارات من الأموال السورية إلى خارج الحدود، "وتنفيع" فئة من "النصابين" جامعي الأموال بعدة مليارات من الدولارات هي حصيلة استفادتهم من السياسة الحكومية لإبقاء مئات آلاف العائلات من منتجين ومستهلكين في شباكهم و"تشليحهم" ما فوقهم وما تحتهم بل وما اقترضوه من المصارف وذهب إلى غير رجعة وكل ذلك إنجازاً للمهمة التي رسمتها الاحتكارات العولمة وهي إنجاز الاستقطاب الطبقي بشكل تدخلي مشرع للتعويض عن تعطيل هذه القانونية عن العمل لعقدين من السنين في سورية، وكل ذلك من أجل تسهيل عملية تجريف الثروة السورية، والمدخرات الوطنية إلى خزائن تلك الاحتكارات، هذه الثروة التي كان يجب على الإدارة الاقتصادية أن تظهر إبداعاتها في كيفية زجها في الاستثمار الإنتاجي والتنمية في الداخل، لا في دفعها إلى خارج الحدود بخطة محكمة كالتي عانيناها على مدى عقدين كاملين، وكانت حصيلتها إعادة توزيع الدخل القومي من أيدي غالبية المجتمع إلى جيوب عدد محدود جداً من "الشطار" الذين نقلوها إلى الخارج، كما خططت وكما تقتضي مثل هذه السياسات النقدية المصرفية والمالية والاقتصادية العولمية والوحشية.

إن تعامل الإدارة الاقتصادية مع قضايا الادخار والاستثمار أنزل الكوارث بالأهداف التنموية المعلنة رسمياً.

14-    وفي القطاع المالي والقطاع المصرفي النقدي، كما في قضية الديون الخارجية تصر الإدارة الاقتصادية على التعب الكامل والسرية البالغة على المعلومات، هذه المعلومات التي تعامل في جميع دول العالم والدول التي من حولها  بأكبر درجة من الشفافية والعلانية وتنشر بدقة وتفصيل دوري منتظم على الملأ وتتاح لجميع الباحثين والمعنيين بدون أية عوائق[8]ذلك أن كل مواطن هو شريك مساهم في قدم المساواة، طبقاً للقانون، في الميزانية الحكومية والقطاع العام، ولا يجوز تحت أية حجة التهاون في تقديم المعلومات الصحيحة له ولا يحق لأحد بالأحرى حجبها عنه، وليس هناك أي تفسير لهذا الحجب سوى تمرير مصالح منحرفة تضر ضرراً بالغاً بمصالح الجولة والشعب، وبمستقبل الأجيال,

15-    إن ضآلة قيمة التسليف المصرفي وارتفاع الديون المعدومة فيه أبحت تشكل معضلة متفاقمة، وبدون حلها لا يمكن تحريك عجلة التنمية من جديد، فموجودات النظام المصرفي من ودائع تحت الطلب وودائع آجلة لا تزيد قيمتها بالدولار عن أربعة أو خمسة مليارات دولار (في لبنان 40 مليار دولار) وثلث مجموع موجودات الجهاز المصرفي  مسلف للقطاع العام، التجاري غالباً، هذا التسليف الذي يتطور مثل كرة الثلج دون وجود أي قابلية للتسديد ما دامت السياسات الاقتصادية والمالية التي كانت سبباً له مستمرة دون تغيير و40% من الموجودات المصرفية مودعة في المصارف الأجنبية في الخراج بالنقد الأجنبي. وما يبقى وهو بحدود 30-35% من الموجودات المصرفية هو مجموع التسليف المصرفي المتوفر للقطاعات الإنتاجية وغيرها، فقد بلغ مجموع التسليف المصرفي المتراكم عام 1997 حوالي 239 مليار ل.س. (وهو مبلغ لا يذكر مقارنة بدول مجاورة) منه 165 مليار ل.س. للقطاع العام، و60 مليار ل.س. للقطاع الخاص، و13.5مليار ل.س. للقطاع التعاوني و0.4مليار ل.س. للقطاع المشترك. وأما التسليف المصرفي المستجد سنوياً فهو أقل من مجموع التسليف المتراكم بكثير، وهو ينمو ببطء شديد جداً ولا يخدم إخراج الاقتصاد والمجتمع من أزمة الركود والتخلف الستفحلة، ولا يتناسب مع القدرات المالية للشعب السوري والتي أجبرتها السياسات الاقتصادية والمالية وعوامل كثيرة أخرى على الخروج خارج الحدود.

إن إصلاح سياسة الموازنة الحكومية بتحسين الموارد واستعادة المخصص ضمنياً منها، من موارد جمركية أو ضريبية وأملاك حكومية وإعفاءات واستثناءات لم تبرز نفسها ومخالفة للدستور الذي ينص على مساواة المواطنين أمام القانون، وبضبط الإنفاق وإعادة توجيهه وإلغاء كل تجاوز للقانون فيه، وإصلاح الإدارة العامة بإعادتها إلى الحياة وإلى مهامها الأصلية التي انصرفت عنها وترقية أدائها، والقضاء على الفساد وأربابه المستشرين والذين تزيد حصتهم في الدخل القومي عن مجموع الاستثمار السنوي العام والخاص، وإصلاح المصارف لترتقي إلى مرتبة المصارف الحقيقية التي تجتذب كل الطاقات المالية للشعب السوري وتزجها في التنمية الوطنية في القطاعين العام والخاص على أسس سليمة، وحماية النقد السوري من التلاعب والتزوير وهو خطر حقيقي يمكن أن يتزايد بسبب تزايد الهجمة الهادفة لتحطيم سورية اقتصادياً، وتصفية العلاقات الزبائنية في الحياة العامة والاقتصادية والتوقف عن الارتجال والعشوائية وإحلال العمل العلمي المخطط، وإقامة الإدارة العامة على أساس الكفاءة والمساءلة سيادة القانون، بعد إصلاح التشريعات المتقادمة، ومراجعة أعمال هذه الإدارة باستمرار ودون إمهال على أسس معيارية واضحة ومحددة.. إن ذلك كله وغيره كثير، أصبح من المهمات الملحة للنهوض، والتي لا تقبل التأخير.

4- وقفة عند بعض السياسات الاقتصادية الكلية:

أصولاً، تتحمل الحكومات نتائج سياساتها وأعمالها وفي الظروف العادية، أي في غير ظروف الحرب والكوارث الطبيعية، يعتبر توقف النمو الاقتصادي أو تردي المستوى المعاشي العام أو وقوع عجوزات ضخمة حجة لا تدحض على فساد السياسات والممارسات الاقتصادية المتبعة، هذا الفساد الذي لا يجوز تحميل الشعب تكاليفه مرتين ودون ذنب!

لكن حكوماتنا السابقة استمرت تغطي فجوات سياستها الاقتصادية، بأسهل السبل، عن طريق الاقتراض من المصرف المركزي، أي بالتمويل التضخمي، وهو أسوأ أنواع الضرائب غير المباشرة، لأنه يفيد فئات قليلة جداً ويضر بفئات كبيرة جداً، فتكون الحكومة، بدلاً من الاقتراض بسندات لسد عجوزاتها، مما يجبرها على تحسين سياساتها للوفاء بهذه السندات وفوائدها، بالإضافة إلى خضوعها للمساءلة المستمرة عن أوجه إنفاق الأموال المقترضة، قد أجبرت الشعب على سداد ديونها عنها مع فوائد هذه الديون وذلك عبر التضخم النقدي، ولكن بما أن المطلوب هذه الأيام اتباع سياسات التثبيت والاستقرار النقدي التي تقتضي بتثبيت سعر صرف العملة عند مستوى متدن (في الدول النامية). وخفض معدل التضخم حتى أدنى حد ممكن، وإلغاء العجز في الموازنة الحكومية، فإن البيروقراطية التي لا تقبل الاعتراف بمسؤولياتها وأخطائها، وبالتالي بضرورة تعديل سياساتها، تلجأ إلى أسلوبين قاسيين جداً على الاقتصاد والمجتمع لتحقيق الأهداف الثلاثة أعلاه: وهما تجفيف السيولة من عروق الاقتصاد الوطني، وتخفيض مداخيل العمل الحقيقية دون ضوابط أو معايير وكأنها ليست حقوقاً ثابتة، مثلها مثل حقوق الملكية، وذلك لتستمر في التفاخر بأنها حولت العجز إلى فاض في الميزانية الحكومية، وخفضت معدل التضخم وثبتت سعر الصرف! أما كيف وبأي ثمن اقتصادي واجتماعي تحقق ذلك فليس مهماً طالما أن الحكومة تتمتع بحق الامتناع عن الإجابة عن هذين السؤالين!

فمن يحمي الاقتصاد والمجتمع، وبالأخص أصحاب مداخيل العمل، من هذه الأتاوات الحكومية؟ هذا لم تقتصر السياسة الاقتصادية على استخدام التمويل بالعجز كضريبة غير مباشرة، أو على سحب سيولات القطاع العام والاستزادة باستمرار م الضرائب الأخرى للتعويض عن الموارد المضيعة على رؤوس الأشهاد والتي لا رغبة لها في استردادها، بل استخدمت فوق ذلك كله إيرادات التأمين والمعاشات والتأمينات الاجتماعية وشهادات الاستثمار وفوائض التأمين لدى شركة الضمان السورية وفائض ودائع التوفير (وهي موجودات تقابلها مطاليب جارية ومستقبلية) وذلك لتغذية الموازنة الحكومية، بل وأصرت على مدى عشرات السنوات على مخالفة قانون المؤسسة العامة للتأمين والمعاشات إلى سداد حصة الدولة في الاشراكات والتي ينص عليها القانون، وفوق ذلك قامت بسحب فوائض هذه المؤسسة إلى الميزانية العامة، وبالتالي، تصر وزارة المالية على معاملة هذه المؤسسات الاقتصادية، مثلما تعامل جميع شركات القطاع العام، وكأنها مؤسسات ذات طابع إداري مما كان له آثار سلبية على الوضع الاقتصادي والمالي العام وقد بدأت بالظهور على الميزانية الحكومية، ومن المعلوم أن صناديق التأمين تشكل في الكثير من الدول أهم مصادر الاستثمارات التي تحقق للمستفيدين عوائد إضافية تمكنهم من قضاء بقية حياتهم في كفاية ورفاه أفضل مما تحقق لهم خلال فترة عملهم، على عكس ما هو قائم لدينا، ففي مصر مثلاً، هناك عدد مهم من المشروعات الضخمة الرابحة التي أقيمت بهذه الاستثمارات وتنعكس على أصحاب اشتراكات التأمين وعلى الاقتصاد الوطني بشكل إيجابي، وكان فريق من الخبراء الأكتورايين (خبراء في التأمين) المصريين قد أعدوا قبل سنوات، بناءً على طلب رسمي سوري، دراسة عن أوضاع مؤسساتنا التأمينية، وكشفوا مشكلاتها واقترحوا إصلاحات هامة للسياسات الحكومية بخصوصها، لكن هذه الدراسة، مثلها مثل الدراسة التي أعدها الدكتور جورج قرم، الخبير المالي اللبناني (قبل أن يصبح وزيراً للمالية في لبنان) عن الميزانية الحكومية والسياسة المالية في سورية لصالح وزارة المالية، ومثل جميع الدراسات الأخرى التي تعدها جهات دولية أو محلية حول تطوير أوضاعنا الاقتصادية كالدراسة الهامة التي أعدتها منظمة التنمية الصناعية العربية لصالح المؤسسة العامة للصناعات الهندسية عن صناعة الفارزات، الدراسة الشاملة التي أعدها بعثة خبراء الاتحاد الأوربي حول إصلاح النظام المصرفي في سورية، والتي قال بصدد ذكرها ممثل الاتحاد أثناء محاضرة ألقاها مؤخراً في دمشق بأن الجهات المعنية تعيق تطبيق الإصلاح المصرفي، وغيرها كثير، كل هذه الدراسات تلاقي نفس المصير، وهي الاختفاء في غياهب أدراج المسؤولين الذين تقدم لهم، ثم إخفاء آثارها حتى لا تصل إلى أيدي غيرهم!

فبالنسبة للمعاشات التقاعدية مثلاً، فقد قامت مؤسسة التأمين والمعاشات اللبنانية، بعد انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، بإجراء عقود تسوية مع المتقاعدين، تعيد بموجبها القيمة الحقيقية لرواتبهم التقاعدية الأصلية، ودون انتظار مراسيم أو قوانين، طالما أن هذا و منطلق الحق والعلم الاقتصادي، بينما لدينا تآكلت جميع الرواتب والأجور والمعاشات لتغطي فجوات الهدر والفساد وسوء الإدارة واستمر الإصرار على قيمتها الاسمية المتناقصة باستمرار، بل وترافق هذا التآكل بإجراءات ترفع وتيرته وتتخذ بقرارات وزارية، مثل حساب التعويضات على أساس الراتب قبل عشرين عاماً، وتسقيف الرواتب والأجور والمعاشات، لتوقيف آلة الزمن عن الدوران!

فهل نبالغ و"نشطح" (حسب قول أحد الزملاء الصحفيين في جريدة الثوؤة) لمجرد ذكرنا للوقائع والممارسات الشاذة ولمجرد الحلم (ربما بغير حق!) برؤية حكومية تضع في اعتبارها أن حقوق الموطنين مصانة بموجب نص الدستور يجب أن تصان على الأرض فعلياً أيضاً، سواء كانت حقوقه الاقتصادية (وقد أتينا في هذه المحاضرة ومحاضراتنا السابقة على الكثير منها، وبالأخص محاضرتنا في ندوة الثلاثاء لعام 997 وعنوانها "التنمية وحقوق المواطن الاقتصادية" أو حقوقه الأخرى، مثل حقه في التقاضي طبقاً لنص الدستور القائل "حق المواطن في التقاضي مصان" بينما دأب مجلس الدولة على رد دعاوى المواطنين في أهم الحقوق، مثل الاعتراض على قرارات الصرف من الخدمة، لسبب ما أو ظلماً وعدواناً، التي اعتبرتها الحكومات السابقة من حقوقها الأساسية "الفطرية" على العاملين في الدولة، وكأنهم عاملون في مشروعات خاصة عند متخذي قرار صرفهم، وليسوا مواطنين متساوين معهم أمام القانون، أيضاً حسبما ينص الدستور، وانطلاقاً من قناعة راسخة لدى البعض بأن الناس فئتان: فئة فوق القانون، وفئة تحت القانون، الأولى مطلقة اليدين في حقوق الأخرى، المشلولة اليدين! وهل نبالغ و "نشطح" إذا قلنا أن الدستور سيد الأحكام ويجب أن يحظى بالاحترام؟

هل كثير علينا أن نحلم أنه لا خيار لنا في التنافس مع بقية العالم على جميع الصعد، وليس فقط على الصعيد الاقتصادي، الذي كنا فيه الأفشل في المباراة، وطوبى للنفط الذي حفظ لنا ماء وجهنا حتى الآن، ويخشى أن "يخذلنا قبل الأوان"!؟

إن ما نحتاجه الآن هو برنامج (حتى لا نستخدم مصطلح "خطة" الذي يتوجس منه البعض خيفة!) إنعاش شامل اقتصادي واجتماعي، مادي ومعنوي، للخروج من حالة الرخاوة والترهل المتفشية والتي من أبرز ظواهرها الإدارة المتخلفة والعطالة المفسدة والبطالة المستفحلة، وتكفي نظرة إلى أعداد ونوعيات المتقدمين للحصول على فرص العمل النادرة جداً هذه الأيام خارج القطر، وحتى داخل القطر، بكل شروطها، وتعويضاتها البائسة، ومع تنازل المتقدمين ذوي المستويات العلمية والثقافية عن جميع الشروط حول نوعية العمل والأجر المتوقع، بنجد أن نسبة المتقدمين إلى عدد الفرص المتاحة تتجاوز عشرة إلى واحد في داخل القطر، وعدد مئات وآلاف إلى واحد خارج القطر، وتفسير ذلك بالإضافة إلى الأجور الحقيقية التي أطيح بها بدون هوادة على مدى العقدين الماضيين، أن عدد الذين انضموا إلى عداد العاملين في الدولة (الإدارة الحكومية الخدمية والجهات الاقتصادية العامة) خلال سبع سنوات (1991-1998) قد ارتفع من 681 ألف مشتغل إلى 8.4 ألف مشتغل، أي بزيادة 123 ألف مشتغل فقط، أي أقل من 18 ألف مشتغل سنوياً بالمتوسط، بينما تقول الموازنات الحكومية أنها توفر سنوياً 85-95 ألف فرصة عمل، وبينما يدخل سوق العمل على الأقل 200 ألف طالب عمل جديد سنوياً! ومن الخطير في الأمر أيضاً أن حوالي 100 ألف جرى تعيينهم، حسب اعتراف الحكومة قبل عامين في مجلس الشعب بوصفة بدل متسرب، أي بدون كفاءة أو التزام، لأنهم تعينوا بالواسطة أو بالرشوة وبخلاف الأصول.

إن أوضاعاً كهذه لا يمكن إحداث أي أثر ملموس فيها بالاستمرار على نهج السياسات الاقتصادية السابقة، اللهم إلا إذا لأردنا ترك الأمور على غاربها لتتفاقم وتتعاظم أخطارها لقد أصبح مطلوباً وبإلحاح، كما يحصل في البلدان الأخرى في مثل هذه الأوضاع، وضع برنامج شامل للتنشيط الاقتصادي والاجتماعي،يبدأ بزيادة حقيقية في تعويضات العمل وفق منهج مختلف نوعياً عما اتبع في الزيادات السابقة (نشير إليه في مكان آخر من هذه المحاضرة) وذلك لبث روح النشاط في السوق والطلب والإنتاج والاستهلاك والادخار والاستثمار والتشييد والتشغيل في جميع جوانب الاقتصاد الوطني والقطاعات والمناطق الجغرافية المختلفة، لتعود الدورة الاقتصادية إلى النشاط من جديد.

ولقد آن الأوان للقطع مع التصورات السائدة في أذهان البعض والتي تعتبر مجرد ذكر الوقائع والحقائق الجارية ووضعها على طاولة البحث "خروجاً على اللياقة والأدب". بالمفهوم الإقطاعي لـ "اللياقة والأدب"، كما عبر عنه الزميل الصحفي المحترم في مقال له في جريدة "الثورة". وإننا لنستغرب كيف لا تلفت نظر المتأدبين جداً الخروقات الهائلة للقانون وللمصالح العامة للشعب ولا تثير فيهم أية حمية! وإننا لا نجد تعريفاً لمثل هذا المفهوم للأدب أفضل مما طالعناه قبل أكثر من خمسة عشر عاماً، على ما أذكر، على رسم كاريكاتوري لرسامنا البارز الأستاذ علي فرزات، وموضوعه هو "تطوير" اسم وزارة التربية منذ الاستعمار الفرنسي وحتى اليوم: من "وزارة المعارف" إلى "وزارة التربية والتعليم" إلى "وزارة التربية"، لتصبح أخيراً "وزارة الجلوس بأدب"! وربما نقول ليتها أصبحت كذلك فعلاً! مع الاعتذار من الصديق العزيز الدكتور محمود السيد، الوزير الجديد لهذه الوزارة الهامة، آملين له التوفيق في إعادتها "وزارة المعارف" . وهو خير العارفين، بأننا نعيش عصر المعرفة، وبأن المعرفة الأدب!

5- تطور التجارة الخارجية للقطاعين العام والخاص: أرقام مثيرة للتساؤل:

عند صدور قانون تشجيع الاستثمار رقم /10/ لعام 1991. وكما هو مطلوب في مثل هذه المناسبات، ملأت الساحة الإيديولوجية الرسمية وغير الرسمية  التي تبرز تنازل الدولة عن حقوق الشعب في الرسوم الجمركية والضرائب والرقابة الاقتصادية والقائلة بأن الاقتصاد الوطني والمجتمع سيعوض ذلك بأكثر من قيمته بكثير، وذلك بارتفاع الاستثمارات الإنتاجية التي ستحل مشكلة البطالة وتزيد معدل النمو الاقتصادي والصادرات بما يؤدي إلى رفع مستوى المعيشة…الخ ولا يخفى على أحد الثمن الباهظ الذي تحمله الاقتصاد والمجتمع من وراء الانحرافات الاستثمارية التي أهلكت الادخارات الوطنية وأخرجتها إلى الخارج وقطعت عن الموازنة الحكومية الموارد التي كان يجب تعبئتها وزجها في التنمية

فلنستمع إلى ما تقوله الأرقام التالية:

التجارة الخارجية للقطاعين العام والخاص

(1991،1992،1998، بمليارات الليرات السورية)

التصدير

الاستيراد

السنة

قطاع خاص

قطاع عام

قطاع خاص

قطاع عام

 

إجمالي تحويلية نسسيجية

إجمالي تحويلية نسسيجية

إجمالي تحويلية نسسيجية غذائية

إجمالي تحويلية نسسيجية غذائية

 

13.6    11.3    8.3

24.9   6.4     2.3

16.6  14.6   8.5    1.5

14.5   13.2    2.3      2.5

1991

4.7       3.5      2.4

27.4   5.9      2.1

24.5   22.3   14.9   ؟

14.6   14.3   3.5      ؟

1992

9.1      5.2      4.00

23.3   3.4      0.4

32.7   28.7   7.5    4.3

11.00  10.3  10.3  1.5

1998

من الأرقام أعلاه يتبين أن "تحرير" الاقتصاد على الطريقة المنفذة تمثل كما يلي:

1- نقل مهمة الاستيراد بشكل واسع من القطاع العام إلى القطاع الخاص، وهو الشكل الرئيس لـ "التحرير"، لدينا بحث أن مستوردات القطاع العام 1998 كان أقل منها عام 1991 بمقدار 3.5 مليار ل.س. بينما تضاعفت مستوردات القطاع الخاص 16.6 مليار ل.س. إلى 32.7مليار ل.س. وإذا أخذنا بالاعتبار أن هذا الرقم محسوب على أساس الدولار الجمركي 11ل.س. فإن قيمة زيادة مستوردات القطاع الخاص الفعلية على أسا سعر صرف الدولار في السوق 50ل.س. تكون 80 مليار ل.س. أي أن القطاع الخاص استورد عام 1998 زيادة عما استورده عام 1991 بـ 80 مليار ل.س.

أما صادرات القطاع العام فقد بقيت نفسها ما بين عامي 1991-1998، بانخفاض بسيط في الرقم الإجمالي من 24.9مليار أي 23.3 مليار، وارتفاع بسيط إذا استثنينا النفط من 7.6مليار ل.س. إلى 7.8مليار ل.س. على التوالي.

أما بالنسبة للصادرات فقد انخفضت صادرات القطاع الخاص من 13.6 مليار ل.س. عام 1991، إلى 7.4مليار ل.س. عام 1992 (وذلك مع انتهاء العمل باتفاق المدفوعات مع الاتحاد السوفيتي!) ثم ارتفعت قليلاً على مدى سنوات إلى 9.1مليار ل.س. فقط 1998.

ولمزيد من التوضح من المهم أن نعرف أين تركزت زيادة المستوردات وأين تركز النقص في الصادرات للقطاع الخاص ما بين عامي 1991-1998.

ففي بلد المستوردات من المنتجات الغذائية والمشروبات انخفضت مستوردات القطاع العام من 2.5 مليار ل.س. عام 1991، حيث كانت متساوية مع مستوردات القطاع الخاص، إلى 1.5مليار ل.س. عام 1998، بينما ارتفعت مستوردات القطاع الخاص من 2.5مليار ل.س. إلى 4.7مليار ل.س. أي بزيادة 2.2مليار ل.س. أي ما يعادل 10 مليار ل.س. إذا أخذنا الفرق بين سعر صرف الدولار الجمركي وسعر صرف الدولار الفعلي بالاعتبار.

لكن الشيء الملفت للنظر هو الانخفاض الكبير في صادرات القطاع العام والقطاع الخاص من الغزل والنسيج والملابس والجلود.

فبالنسبة للقطاع العام انخفضت صادراته من منتجات الصناعات التحويلية من 6.4مليار ل.س. عام 1991 إلى 3.4مليار ل.س.عام1997. أي إلى النصف تقريباً، ومن بينها انخفاض صادراته من الغزل والمنسوجات والملابس والجلود 2.3 مليار ل.س. إلى 0.3مليار ل.س. خلال الفترة المذكورةـ أي بنسبة 85% تقريباً.

أما صادرات القطاع الخاص من منتجات التحويلية فقد انخفضت من 11.2مليار ل.س. إلى 5.2مليار ل.س.ما بين عام 991-1997 أي بنسبة تزيد عن 50% ومن بينها انخفاض صادراته من المنسوجات والملابس والجلود من 8.3 مليار ل.س. إلى 2.5مليار ل.س. أي بمقدار الثلثين تقريباً وهذا يعني أن صادرا القطاع الخاص من منتجات الصناعة التحويلية قد انخفضت فعلياً بمقدار 2.5مليار ل.س. أي بمقدار الثلثين تقريباً وهذا يعني أن صادرات القطاع الخاص من منتجات الصناعة التحويلية قد انخفضت فعلياً بمقدار 27.750مليار ل.س. من بيتها 26.5 مليار ل.س. من المنسوجات ولملابس والجلود، وذلك بالقيمة السوقية على أساس صرف الدولار 50ل.س.

وهذا يبرز التساؤل الهام الذي تطرحه المقارنة بين العوائد والتكاليف لسياسات "تشجيع الاستثمار" فليس سراً أن الامتيازات التي منحها القانون رقم /10/ لتشجيع الاستثمارات لعام 1991 قد خلقت شروخات وتشوهات اقتصادية-اجتماعية وحتى أخلاقية بالغة وذلك كله تحت حجة أن ذلك سيساعد على تسريع التنمية بإزالة العقبات التي تعترضها ألم يئن الأوان بعد تسع سنوات من صدور القانون لنتساءل لماذا لم تتحقق غاياته المنصوص عنها في المادة الرابعة منه، بل تحقق ما هو عكسها تماماً، باستثناءات قليلة ونادرة؟  وكيف نفصل بين مسؤولية القانون ومسؤولية الانحرافات الحكومية في تطبيقه.

وإذا عدنا إلى الأرقام فإننا سنجد أن مقدار العجز الإضافي الذي تسببه زيادة واردات القطاع الخاص ونقص صادراته وذلك عام 1998 عنها عام1991 قد بلغ 102.5مليار ل.س. أي ما يقارب 14% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 1998، تقريباً فقط لا غير.

ألم يكن يجدر بالإدارة الاقتصادية الكشف عن الانحراف الذي وقع فورياً بعد توقف التصدير إلى الاتحاد السوفييتي، وبعد أن استخدمت عائدات التصدير جزئياً في توسيع الطاقات الإنتاجية لدى بعض المنتجين، بدلاً من أن توقع هذا الإدارة العقاب تحدياً بهؤلاء المنتجين الذي لم يسارعوا إلى تهريب مكاسبهم الضخمة المتحققة من أكثر اتفاق اقتصادي في تاريخ العلاقات الدولية فساداً وضرراً للطرفين المتعاقدين، فترجمهم بضرائب بنسبة 18% وبمفعول رجعي لعدة سنوات لم يتحسبوا لها حساب وبما يخالف الدستور الذي يقول : "لا ضريبة إلا بقانون"، هذا العقاب الذي افلت منه فقط الذي "تنبأوا" بمسلك إدارتنا الاقتصادية وهربوا أموالهم إلى الخارج ولم يستخدموها في الإنتاج، قبل أن يقع الفأس في الرأس.

وهكذا فقد أفلس المنتجون المرتبطون بالأرض فقط وهم دائماً الضحية، على مذبح السياسات والقرارات الاقتصادية وأفلح الهاربون!

6- الحماية والمنافسة:

ما هي العلاقة بين الحماية والمنافسة؟ هل هي علاقة تناقضية على طول الخط كما يقول منظروا "التحرير الاقتصادي". وهل المنافسة لا تكون إلا بين الإنتاج الوطني والإنتاج الأجنبي؟.

إن المنافسة ولدت في الأصل داخل الاقتصاد الوطني، وبقي هذا الشكل للمنافسة هو الأكثر أهمية حتى فترة قريبة مع قيام الشركات متعددة الجنسيات وعابرة بفتح أسوار الأسواق الوطنية وأخذت التجارة الدولية تنمو بمعدل يقارب الثلاثة أضعاف معدل نمو الناتج الإجمالي العالمي فتصاعد دور المنافسة الدولية والتي تهدد بمحو الطابع الوطني للاقتصاديات الضعيفة.

وبالرغم من تزايد أهمية التصدير كمحرك وحافز للنمو والتحديث الاقتصاديـ إلا أنه يجب عدم الإنجرار إلى ما يروجه خبراء المنظمات الدولية بتوجيه سياسات التنمية واستراتيجيتها نحو الخارج، الأمر الذي يؤدي إلى تجاهل احتياجات السوق المحلية وجماهير الشعب، ويربط مستقبل التنمية بعوامل خارجية يسودها الاضطراب وباقتصادات تسودها، البطالة الركود وتتزايد لديها النزعة الحمائية، والاتجاه نحو التكامل الإقليمي فيما بينها مما يزيد من تهميش البلدان النامية وفقدانها المزايا التفضيلية التي كانت تتمتع بها في السابق، فمن الضروري أن لا يضحى بالتوازنات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية في الركض نحو الأسواق الخارجية وتحرير التجارة ليس باستطاعته لوحده توفير عناصر النمو والاستقرار وتحسين الوضع الاقتصادي في البلدان النامية، هذه المهمة التي تفرض على الدولة أن ترتقي بوظائفها الاقتصادية مع تطويرها المستمر تبعاً للظروف المستجدة وكما يقول الاقتصادي البريطاني دون غراي في كتابه "الفجر الكاذب False Dawn" الصادر في لندن عام 1998 "إن حرية الأسواق ليست غاية في ذاتها وإنما هي وسائل وأدوات استخلصتها البشرية من أجل غايات إنسانية. إن الأسواق تصنع لخدمة الإنسان وإن الإنسان لم يوجد لخدمة السوق" ولعل الاحتجاجات المتزايدة على شكل العولمة السائد حالياً، بدءً من سياتل، تفتح العيون على عيوب الفلسفة الاقتصادية التي تعلي حرية التجارة التي تخدم مصالح الدولة الصناعية واحتكاراتها على جميع القيم والمصالح الأخرى.

وقد اضطر الرئيس الأمريكي بيل كلينتون ووزيرة خارجيته أولبرايت ورئيس البنك الدولي أن يعترفوا بعد تعاظم الاحتجاجات التي فاجأتهم من داخل مجتمعاتهم بأن العولمة الجارية وسياسات الدول الصناعية والصندوق النقدي الدولي والبنك الدولي ومنطقة التجارة العالمية إنما تؤدي إلى الإجحاف بحقوق الدول والشعوب والطبقات الفقيرة. ويجب إعادة النظر بها، إلا  أن مثل هذه التنازلات اللفظية لن تخدع أحداً، ولن تطمس حقيقة أن الاحتجاجات كانت أكثر جذرية مما يراه سادة الليبرالية المتوحشة، إذ تتعاظم المقاومة للنظام الرأسمالي نفسه باعتباره المؤول عن الكوارث التي تجتاح العالم كله.

إن الصراع التنافسي العالمي يتمحور حول شعار من ثلاث كلمات: "أسرع: أفضل، أقل كلفة"، والذي يفرض نفسه على الجميع، بحيث أن من لا يستطيع تحقيقه يحكم على نفسه بالانتحار البطيء وليس القطاع العام في منحى من العمل بمقتضى هذا الشعار حتى ولو لم يخرج إلى السوق الدولية، ذلك أن السوق الدولية ستقتحم حماة، إما عن طريق القطاع الخاص الذي يزداد تحرراً من القيود الحكومية، أو بشكل غير قانوني، عبر الثغرات المتزايدة الاتساع في جدران الاقتصاد الوطني، هذه الأيام. وانطلاقاً من الوقائع السائدة في اقتصادنا نتساءل وفق أي منطق اقتصادي يجمد تطور المشروعات القائمة في القطاع العام، وتمنع من تحسين تشكيلة منتجاتها، بل وتوقف عن إنتاج المنتجات، أو تقديم الخدمات الرائجة والتي نجحت بتقديمها وذلك على أساس مفهوم غريب للانتقال إلى اقتصاد السوق وهو إقصاء القطاع العام القائم من السوق بطريقة إدارية وإحلال احتكارات خاصة محله أكثر كلفة على الاقتصاد والموطن، وأقل كفاءة من القطاع العام، اللهم باستثناء نوع واحد من الكفاءة وهو جمع الأرباح الخيالية دون استثمار أو مخاطرة بشيء، واعتماداً فقط على الاستثناءات والامتيازات والإعفاءات والأوضاع الاحتكارية التي تؤمنها البيروقراطية الحكومية لهذه المشروعات؟

ولو قمنا بدراسة أوضاع جميع أسواق السلع الرئيسية في سوقنا السورية، بدءاً من الخبز، وحتى المواد الغذائية المستوردة: الرز، الشاي، السكر، الموز، الخيوط والمنسوجات، مستلزمات تصنيع الدواء، الحليب المجفف لصناعة الألبان والأجبان، المشروبات الغازية والعصائر المركزة،. الآليات الزراعية المستعملة، خدمات النقل الجماعي…وغيرها كثير، فسنلاحظ كيف قامت البيروقراطية بتجميد ومحاصرة منشآت القطاع العام المنتجة لهذه السلع والخدمات، وحتى خنقها وحتى وقف إنتاجاتها المنافسة والموثوق بها، مع إخضاع هذه المنشآت لجميع الالتزامات الجمركية والضريبية ولأتاوات إضافية وعقبات لا حدود لها، وذلك لتفريغ الساحة لاحتكارات خاصة تحل محلها فهل هذه هي الشروط المطلوبة للوصول إلى الكفاءة وتفعيل المنافسة باعتبارهما المبرران الرئيسان لرفع يد الدولة عن الاقتصاد والانتقال إلى اقتصاد السوق؟

أما الاحتجاج بأن إدارة القطاع العام لا تستطيع بسبب من طبيعتها الارتقاء إلى المستوى التنافسي، فيشير السؤال التالي: وهل إقامة الاحتكار الخاص بديلاً للاحتكار العام يشكل الأرضية المناسبة لظهور الكفاءات الإدارية في القطاع الخاص والتي تستطيع الخروج إلى السوق الدولية؟

قام خبيران دوليان بإجراء دراسة على عينة من المؤسسات البولونية الحكومية، في مطلع التسعينيات، عندما وجدت هذه المؤسسات نفسها وجهاً لوجه تعمل في اقتصاد سوق مفتوح، فاكتشفا أن إدارة المؤسسات الحكومية الكبرى التي تعمل في الصناعات الثقيلة وصناعات أخرى استطاعت أن تحقق انتعاشاً في مبيعاتها وتحسن من إنتاجيتها وتقلل من كلفة وحدة المنتجات، وتخفض استهلاك الطاقة والموارد بالنسبة لوحدة المنتجات، وتزيد من كفاءة الاقتراض بتقليل القروض وأعباء الفوائد وزادت أرباحها وسددت ضرائبها بشكل عادي، وكان الاستثمار لديها يفوق الاهتلاك وبقيامها بتحسين تشكيلة المنتجات استطاعت زيادة ميبعاتها الداخلية وصادراتها الخارجية، ويقول الباحثان المذكوران أن: "مدراء هذه الشركات المملوكة للدولة قد كذبوا عملياً التصور التقليدي بأن القطاع قطاع خامل، رغم أنهم لا يتمتعون بمصلحة شخصية في الشركة شبيهة بالحوافز الموجودة في اقتصاد السوق : ويضيف الباحثان أن: "هذه النتائج لا تؤيد التصور الشائع عن ترهل الشركات الضخمة المملوكة للدولة في فروع الصناعات الثقيلة، بل إن هذه الشركات أظهرت حيوية خاصة"[9].

فالمشروعات المملوكة للدولة استطاعت أن تجري إعادة هيكلة تلقائية بدون تخصيصها (يسود الاعتقاد أن إعادة الهيكلة تعني حكماً التخصيص!) واستطاعت أن تمسك زمام مستقبلها وتعمل على أساس تجاري في وسط اقتصاد سوق مفتوح.

إن الإصرار على أساس حكم مسبق أن المشروع المملوك للدولة غير قابل للعمل بكفاءة اقتصادية وهذا الإصرار لو تفحصناه قليلاً لوجدناه يترافق دائماً بعمل مكثف لحرمان المشروع الحكومي من الشروط الطبيعية والمواتية للعمل، ويتولى مهمة هذا الحرمان نفس الأطراف الذي يتهمونه بانعدام الكفاءة والربحية، والذين ما يفتأون يوفرون الشروط المثلى للمشروعات الخاصة التي تقف في وجهه ويكلفون بإدارته من سيعجل في أجل هذا المشروع وذلك بتقاسم ما يستطيع من القيم التي ينتجها العاملون فيه مع ذوي الشأن الذي يؤمنون له التغطية الكاملة.

وإننا نقترح أن يتاح لشركات القطاع العام أن ترفع مطالبها بجميع الطرق الممكنة بما في ذلك الدعاوى القضائية، على الجهات الوصائية، أو أي جهة صاحبة قرار في الشأن المعني، مطالبة بالحصول على الشروط نفسها التي حصلت عليها أي شركة خاصة في قطاعها الخاص وفق أي قانون أو قرار كان سواء القانون رقم /10/ لعام 1991، والمرسوم /10/ لعام 1986، أو القرار 186 الصادر عن المجلس السياحي الأعلى الخ… وذلك من منطلق المساواة أمام القانون و"المشروع الأولى بالرعاية"، سواء كان ذلك فيما يخص الجمارك أو الضرائب على اختلاف أنواعها أو إجراءات الاستيراد أو التصدير أو أي شأن آخر وذلك من أجل تفعيل المنافسة في السوق الداخلية، والتي تعتبر الشرط الضروري للتكيف والاستعداد للمنافسة الخارجية.

إن المسؤولين في مؤسسات القطاع العام يجب أن يرفعوا شعار عدم التمييز ضد أي استثناء يعطى لغيرهم مطالبين بتعميمه عليهم بنفس الشروط وبشكل تلقائي وإننا لا نستثني القطاع الخاص من اللجوء إلى إجراء مشابه  في الحالة المعاكسة وذلك لتكون السوق الداخلية هي المدرسة التي يتعلم فيها المشروع الاقتصادي المنافسة ليخرج بما تعلمه إلى السوق الدولية.

وإذا كانت العديد من البلدان قد أصدرت قوانين مكافحة الاحتكار وذلك لإزالة احتكارات القطاع العام، بداية، (ولم يبق في اقتصادنا مناطق احتكار للقطاع العام أصلاً)  فإنه من الأولى مكافحة احتكار القطاع الخاص، وعلى سبيل المثال، فإن أسواق المواد الغذائية الأساسية المستوردة تحولت إلى أسواق احتكارية خاصة، ذات أرباح عالية جداً.بينما تحولت مؤسسات القطاع العام التي كانت تحتكرها سابقاً إلى مؤسسات عاطلة عن العمل، ويجب إعادتها إلى ميدان العمل على أسس تجارية لتفعيل التنافس تحقيقاً لمصلحة الاقتصاد الوطني والمستهلك.

وكمثال آخر، في الوقت الذي لم يعمل فيه المسؤولون عندما كانت الصناعة النسيجية حكراً على الدولة على إنشاء صناعة للخيوط التركيبية التي تستخدم في العديد من المنسوجات ذات الاستهلاك الواسع ليفتحوا الباب لاحقاً للقطاع الخاص لاستيراد هذه الخيوط والمنسوجات والتي  تستخدم في إشباع الطلب الداخلي، مما أدى إلى تراكم مخزونات القطاع العام من الخيوط والمنسوجات القطنية، غير القابلة للتصريف، هكذا وبسياسة وقرارات حكومية جرى إحلال احتكار خاص محل احتكار عام في سوق هامة كسوق الغول والنسيج والألبسة، مما أدى إلى تخسير وتعطيل أكبر قوة إنتاجية في الاقتصاد السوري.

وفي صناعة الأدوية، وصناعة الألبان..، مثلاً جرى توقيف المعامل الحكومية عن تطوير وتحديث خطوط إنتاجها التي تنتج منتجات 1ذات نوعية مفضلة وأسعار أقل، وبالأحرى جرى منعها من تحديث تقاناتها القديمة، وذلك للتمكن لاحتكارات خاصة أن تحتل أسواقها لوحدها.

ويمكن ضرب عشرات الأمثلة على التدخلات الحكومة المتحيزة ضد القطاع العام والمانعة لتوسعه وتطوره وبالأخص في المجالات التي برهن على جدارته وقدرته على المنافسة فيها، وفُرضت عليه شروط تعجيزية مصطنعة لإخراجه من السوق أو تحميله أعباء القروض التي تضعه موضع الإفلاس الحقيقي.

وإننا لا نريد غض الطرف عن الكوارث الحقيقية وأكلافها الباهظة في القطاع العام، مثل معمل الورق على سبيل المثال، إلا أن كارثة الورق كانت مخططة وهناك من اشتركوا بقبض ثمنها البخس، غير آبهين بحجمها الهائل وبقي هؤلاء يرتقون في مواقع المسؤولية بشكل هرمي ليضمنوا بقاء ملفات الجريمة مغلقة وتحت أيديهم، وبعد أن أخفوا آثارها. ويمكن الحديث عن مئات الجرائم الأخرى التي مرت على نفس الطريق مرور الكرام وكأن أموالها المهدورة أموالاً حراماً، وقد انتشر وباء اللامبالاة الذي يعبر عنه بالسؤال: "وما الفائدة" والكل يعرف الحقيقة، من إعادة فتح القضايا والاستمرار في الحديث عنها"، وكأن الذي يدفع ثمن ذلك كله هو بلد آخر وشعب آخر! وكأن ما حدث غير قابل للتكرار!

ومن هنا فإنه لا يجوز الانشغال بحديث أكاديمي في الحماية والمنافسة باعتبارهما قضيتان خارجيتان. وتناسي أنه لا فائدة لا في حال الحماية ولا في حال المنافسة، ما دمت الإدارة الاقتصادية على هذه الدرجة من الاستهتار بأبسط مبادئ وأوصل الإدارة الاقتصادية على مستوى الاقتصاد ككل وعلى مستوى القطاع والمؤسسة والمشروع، وإنني لا أختزل القضية كلها في هذا المقام إلى قضية إدارية بل أرفع القضية الإدارية إلى مستوى القضية السياسية.

أليس من العجب العجاب، مثلاً، أن تكون مؤسسة كمؤسسة حلج الأقطان وهي محتكرة الذهب الأبيض (القطن) الذي يأتي في سورية بعد الذهب الأسود (النفط)، مدينة للمصارف بأكثر من 50 مليار ل.س.، وأن هذا الدين يتكاثر سنوياً ولا يتناقص؟ ترى هل من مسؤول سمع بهذا الرقم، مثلاً، وإذا سمع به، كيف يعقل أن يكون مسؤولاً عاماً ولا يستوقفه هذا الرقم، كيف يعقل أن يكون مسؤولاً حقاً ويستطيع الرقاد قبل أن يدرس أسباب هذا الرقم ويعمل على قطع دابر هذه الأسباب بصورة فورية؟.

ومثل آخر أيضاً، أن مشتريات الدولة والقطاع العام ومبيعاته الداخلية والخارجية ، والتي تجري "أصولاً" إنما تجرري، كما يعلم القاصي والداني، بطرق تجعل الحماية موضع سخرية والمنافسة في النهاية، مستحيلة، وغلى جانب ذلك فإن الدولة وجبهاتها العامة، والتي تقع في اشتباكات عقدية وقانونية ما أنزل الله بها من سلطان مع جهات خارجية وداخلية كثيرة، محرم عليها أن تربح قضية واحدة من بين هذه القضايا. ولا أحد يتساءل أإلى هذه الدرجة بلغ "الغباء القانوني العام"، بحيث تكون الدولة والقطاع العام الخاسران دوماً في أي خلاف قانوني، أم أن وراء الأكمة ما وراءها، وقد ارتفعت أكلافها والمداخيل المتشكلة منها إلى أرقام خيالية؟.

ترى ألا تستحق هذه المسائل وكثير غيرها استقصاءً شاملاً يتناسب مع أهميتها وخطورتها. ومن يجب أن يقوم بهذا الاستقصاء إذا كان المعنيون بهذه القضايا هم غالباً أصحاب المصلحة في إبقائها طي الكتمان؟.

فكيف، والحال هذه، يوضع الشعار المثلث "أسرع، أفضل، أقل كلفة" موضع التطبيق، حماية للقطاع العام من المنافسة وارتقاء إلى المستوى التنافسي؟.

من كل ما سبق نستنتج أنه لا يمكن الحكم على القطاع العام وقدرته التنافسية انطلاقاً من الوقائع القائمة، وإنما بعد تصحيح السياسات الحكومية تجاهه، وإصلاح أوضاعه الإدارية والتنظيمية وإشراك العاملين في الإدارة والرقابة باعتبارهم مالكين جزئيين لرأس المال ونتائج الأعمال.

7- "خطة للتخصيص المجاني": حول السياسات الاقتصادية والمالية المتحيزة ضد القطاع العام.

بأسلوب المحاكاة، وكتمرين ذهني، أضع نفسي لبرهة في موقع المخطط للتخلص من القطاع العام، ولكن في عملية تخصيص فريدة من نوعها، أسميها "التخصيص المجاني" وذلك تتويجاً لعملية تخصيص ضمني مديدة ما زالت أكشف عنها منذ محاضرتي المذكورة عام 1986.

فماذا علي أن أفعل؟ ماذا علي أن أفعل إذا كان هناك من يقاوم صادقاً أو لغرض في نفس يعقوب، تنفيذ روشتة العولمة ببيع القطاع العام.

الوصفة الشعبية المعروفة لمثل هذه المهمة العويصة تقول: "اقتل القتيل وامشِ في جنازته"!

لن أكرر ما كتبناه سابقاً ، وفصلنا فيه مراراً، وهو بخلاف الممارسات غير القانونية، يتخذ شكل ممارسات رسمية في توزيع المال العام، من قطع أجنبي أو منتجات مستوردة أو منتجة بقطع أجنبي ، حتى تفليس الدولة والقطاع العام، وذلك عبر سياسة سعر الصرف غير العقلانية، التي التزمت فيها الحكومة بتثبيت سعر صرف مخفض للدولار غير آبهة بأسعار السوق المتزايدة خلال الثمانينيات.

أضع نفسي الآن على أرضية ذلك الأمر الواقع في أواسط الثمانينيات: نضوب القطع الأجنبي، عجز كبير في الميزان التجاري عجز كبير في الميزانية العامة للدولة، تدهور مستمر في القوة الشرائية وسعر الصرف لليرة السورية فجأة أصبحت قراراً ليس يرفع أسعار المنتجات الزراعية الرئيسية إلى مستوى الربحية أو إلى مستوى الأسعار الدولية بعد النصف وارتفاع مستورداتها رغم نضوب القطع الأجنبي، وإنما رفع الأسعار أربعة أضعاف ثم ستة أضعاف…الخ. أي إلى ضعف السعر العالمي؟.

فجأة يرتفع الدين العام (عجز الميزانية) لعشرات المليارات سنوياً، ليرتفع التضخم إلى 20-25% سنوياً، وليقفز سعر صرف  الدولار إلى 40-50 ليرة سورية، من مستواه قبل هذا الإجراء (10-13ل.س.) في الوقت نفسه ولتسريع هذا الإنجاز التضخمي أو العلاج بالصدمة أفتح باب تصدير كاذب غير مراقب إطلاقاً للاتحاد السوفييتي بموجب اتفاق مدفوعات ملغوم تصدر فيه بضائع بقيمة اسمية خلال خمس سنوات 1987-1992 مقدارها 70مليار ل.س. بالدولار الجمركي، بحجة وفاء الديون/ هذا الوفاء الذي كلف الاقتصاد الوطني والشعب السوري عشرة أضعاف قيمة الدين المسدد على الورق فيرتفع التضخم وسعر صرف الدولار ليستقر عند 50ل.س.، وفي هذه الفترة اتبع تجاه القطاع العام سياسة القطارة، فأوقف عملية الإنتاج في العديد من مشروعات أخرى، واختلق أزمة كهرباء، وتوقيف الإنتاج فيما تبقى، هذا رغم استمرار المصاريف الثابتة والأجور.

في الوقت نفسه وتحت الحجة إياها، عدم توفر القطع، أوقف المؤسسات العامة عن الاستيراد، وأفتح باب الاستيراد للقطاع الخاص، بتسهيلات ائتمانية كاذبة، بحجة أنه يعتمد على مدخراته الخارجية بالقطع الأجنبي، بينما هو يستخدم فعلياً أموال الشعب، المدورة عبر السوق السوداء، مما يسرع بدوره من تدهور سعر صرف الليرة السورية، وفي الوقت نفسه استمر في التشدد في منع الاستيراد، حتى يصبح المنع سياسة عامة والسماح بقرار إداري، لكل مادة على حدة! وهكذا تتضاعف أثمان المستوردات وتتضاعف الفجوة بين العرض والطلب فأغض النظر عن مشاركة المهربين في تحمل مسؤولية ما يزيد عن نصف قيمة المستوردات إلى البلاد، وذلك مما تخرج قيمته أولاً، وأخيراً، من البلاد بالقطع الأجنبي، الذي احتج بعدم توافره، وتأكيداً لصحة هذه الحجة استمر في منع المصارف من شراء الموارد من الدولارات الخاصة للسوريين في الخراج والسواح وغيرهم بسعر السوق، يزداد الضغط على سعر الصرف..وتزداد أكلاف المستوردات على المنتجين والمستهلكين وحتى على الدولة والقطاع العام الذي أصبح يعتمد على التهريب والمهربين الذين أصبحوا يسدون فراغاً في المناقصات الحكومية عن طريق التهريب!

وتستمر سياسة منع الاستيراد، ويبدأ الانفتاح عبر ثقوب، مادة مادة، شخصاً شخصاً، من المستفيدين من هذا الانفتاح وتتضخم الأرباح، ويبدأ نقل المستوردات مادة مادة، ومستورداً مستورداً بقرار من "سلطة للتشريع الاقتصادي" لم يعرف لها التاريخ مثيلاً اسمها "لجنة الترشيد" وبالأحرى "لجنة لتفصيل"، وهكذا حتى إصدار القانون رقم /10/ لتشجيع الاستثمار عام 1991، وعندها تتفجر طاقات جامعي الأموال الذين وظفوا لجميع مئات مليارات الليرات من أثمان المحاصيل الزراعية التي وزعتها المصارف الحكومية عبر المؤسسات التجارية الحكومية على القطاع الخاص ومن أموال المصدرين إلى الاتحاد السوفييتي، ومن حصائل الفساد المستشري في كل مكان ليقوموا بتحويل هذه الأموال بعد صرفها في السوق السوداء إلى دولارات إلى الخارج، بحصيلة تزيد عن خمسة مليارات دولار! ومن أجل تحسين فعالية جامعي الأموال، يجب أن تبقى أسعار الفائدة على الودائع المصرفية أقل من نصف معدل التضخم..وذلك "حتى لا ترتفع تكاليف الإنتاج الوطني!!" كأن الإنتاج الوطني يقوم على الاستلاف من المصارف الوطنية!!

وفي معمان هذه السياسة الاقتصادية النادرة، تتكفل وزارة المالية لعملية شفط لا معايير لها لسيولات شركات القطاع العام رغم التوقف عن الاستثمار الإنتاجي الحكومي في القطاع العام، ما عدا بعض مشروعات البنية التحتية التي مولت في مطلع التسعينيات بقروض ومساعدات خليجية، ولكن فعلياً بليرات سورية أيضاً وبعيداً عن أي ضوابط على الصرف، مما ضاعف من الضغوط على سعر الصرف، وبموازاة ذلك كانت "خطة القطع الأجنبي" تقتضي بجمع أي دولار يصل إلى يد الدولة من الخارج أو من الداخل بالإكراه الأوامري ولو مقابل بيع منتجات محلية بالدولار، وذلك لإيداعها في الخارج، مما أدى إلى جانب السياسة الضريبية، وتقليص الإنفاق الاستثماري مع "الاستفشار" في الاستهلاك العام الكمالي الذي أطلقت فيه الأيدي خارج القانون وما زلت مطلقة بغض النظر عن أوضاع الاقتصاد والبشر وحاجاتهم، كشراء السيارات الفخمة وتسابق البيروقراطيين المريضين نفسياً لتكديسها أمام مكاتبهم وبيوتهم وتوزيعها على من يلوذ بهم من شركاء أو أقارب أو أزلام، مما أدى إلى جفاف في السيولة، وانكماس، وركود، وبطالة متفاقمة، وتبخر الأجور، وتردي المستوى المعيشي ووقف النمو والتصدير، وزيادة الهجرة من جميع الأوساط إلى الخارج، واستفحال الفساد وتفشي الرشوة وانعدام المسؤولية وانهيار السلطات العامة.

وكيف يمكن لعاقل بأن يصدق أن كل ذلك يحصل، بهذا التراتب المحكم والترابط المتين بين الوسائل والأهداف، اعتباطاً، أو على طريقة التجربة والخطأ و(على كل حال لم يراجع أي خطأ حتى الآن!)؟.

وكيف يعقل أن يستمر ذلك خمس عشرة سنة ولا يستدعي وضع المشكلة على طاولة البحث، بينما لا يسمح في بلد ’خر باستمرارها سنة واحدة حتى تستقر القوى لوضع الخطط اللازمة لوقف "المسيرة" والخروج منها؟.

لنستعن بالأرقام، مغامرين بالتجرؤ على ما يعتبره بعض غلاة البيروقراطيين من "أسرار الدولة العليا" التي لا يجوز لغير الغرباء ومن في حكمهم الوصول إلى مكنوناتها[10]!

مسحوبات وزارة المالية من القطاع العام

فائض سيولة (مليار ل.س.)

فائض موازنة (مليار ل.س.)

السنة

الفارق عند التحصيل

فعلي

تقديري

الفارق عند التحصيل

فعلي

تقديري

0.3

5,5

5.8

1.6

13.6

12.00

1993

1.5

4,4

5.9

8.4

20.00

11.6

1994

1.4

7.2

6.4

7.00

21.3

14.3

1995

؟

؟

؟

؟

؟

؟

1996

؟

؟

9.5

.

؟

32.3

1997

؟

؟

10.6

؟

؟

41.8

1998

؟

؟

12.1

؟

؟

 

1999

من الأرقام أعلاه يتبين:

1- أن المحصل فعلياً من فائض الموازنة وفائض السيولة من القطاع العام خلال سنوات (1993-1995) يزيد بنسبة 30% عن الفوائض المقدر تحصيها ومع أن زيادة التحصيل الفعلي عن المقدر من القطاع العام (وليس القطاع الخاص) هو بحد ذاته أمر مستغرب، لكن ما يثير الاستغراب أن تستمر التقديرات المخفضة تتكرر سنوياً لتتكرر سنوياً بنسبة الزيادة في التحصيلات والتي لا تماثلها بالطبع، زيادة في التحصيلات من القطاع الخاص مع تزايد الإعفاءات القانونية و"الذاتية" المنوحة لأكثر فئاته قدرة على الدفع ولكن الاستغراب يزول إذا عرفنا الغاية وزهي إبراز الإنجازات النادرة في التحصيل في التقارير السنوية بشكل متتابع سنة وراء سنة دون الإفصاح عن مصدر هذه الزيادة، وما يتبع ذلك من "مكافآت".

2- لكن الأكثر جوهرية من تلك "المخاتلة"، هو تعرفة أثر السياسة المالية على عملية تجديد الإنتاج في القطاع العام.

لقد توصلنا من خلال معطيات أولية تقريبية إلى تقدير أن حجم التكوين الرأسمالي (التراكم) في القطاع العام الإنتاجي والخدمي خلال الفترة 1991-1998 بلغ ما يقرب 500 مليار ل,س. مع ضرورة الأخذ بالاعتبار أن معظم هذا التكوين الرأسمالي انصب في المشروعات التي أقيمت حديثاً خلال الفترة المذكورة، وأن نصيب تجديد رأس المال الثابت في المشروعات القائمة سابقاً محدود جداً.

كما توصلنا إلى تقدير أن مسحوبات وزارة المالي من القطاع العام في صورة فاض فقط (فاض سيولة وفائض موازنة أي احتياطي اهتلاك وأرباح) بلغت ما يقارب 300 مليار ل.س. خلال الفترة 1991-1998، فإذا أضفنا الكثير من الضرائب والأتاوات الأخرى المفروضة على القطاع العام وإذا أضفنا إلى هذا المبلغ مقدار الديون التي تراكمت على القطاع العام تجاه المصارف(160مليار ل.س. عام 1998) لتوصلنا إلى استنتاج بأن التكوين الرأسمالي في القطاع العام كان على مدى التسعينيات أقل من قيمة المسحوبات والديون. وهذا يعني أن القطاع العام، ككل، كان يجاهد للبقاء عند مستوى تجديد الإنتاج البسيط أي بدون نمو حقيقي.

أما إذا أخذنا المشروعات المقامة سابقاً لوحدها فإنها تتعرض لتآكل واسع دون تعويض في وسائل إنتاجها، وأن مسحوبات وزارة المالية منها تحت اسم فوائض لم تكن في الحقيقة إلا مقتطعات من قيم أصولها الإنتاجية ومن قيمة قوة العمل المشتغلة لديها والتي تدنت كثيراً دون القيمة أي دون تكاليف المعيشة الضروري للعاملين.

والملفت للنظر أن القسم الأعظم من مديونية القطاع العام للمصارف كان من نصيب مؤسسات تجارية يفترض أن تكون رابحة وذات فوائض، كالمؤسسة العامة للحبوب والمطاحن، والمؤسسة العامة لحلج الأقطان، والمؤسسة العامة للسكر والمؤسسة العامة للحوم، والمؤسسة العامة للخضار والفواكه وغيرها.

ومن الغريب أن تعتبر أي إدارة اقتصادية أن وقوع هذه المؤسسات تحت طائلة هكذا مديونية أمراً عادياً ومنطقياً ولا يستوجب الاهتمام. ولكن الأمر لا يدعو إلى الغرابة ما دام ذلك نتيجة سياسات واعية، مثل سياسة التسعي الزراعي، وسياسة سعر الصرف، والسياسة الضريبية، ولكن بغض النظر عن هذا وذاك فإن متخذي السياسات يجب أن يحدوا مسبقاً المأخذ والمصب للأموال الناجمة عن السياسات التي يتخذونها وأن لا يرمونها على مؤسسات لم تشارك في اتخاذها. اللهم إلا إذا كان الغرض هو وضع المتسكعين بالقطاع العام أمام خيار واحد لا بديل له وهو وجود الإفلاس أو التخصيص، وهو ما أوصلت سياساتهم هذه المؤسسات إليه في واقع الحال.

3- ولكن الصورة لا تكتمل حتى نعرف الوجه الآخر لها، وهو ماذا فعلت وزارة المالية بـ300 مليار  ل.س. مسحوبات من القطاع العام إذا كان الاستثمار السنوي يغطي تقريباً بصورة شبه كاملة عجز التعامل مع العلم الخارجي، أي من التمويل الخارجي،بينما يكاد الاستهلاك المحلي العام والخاص يأتي على كامل الدخل القومي؟.

هنا سنفاجأ بممارسة فريدة من نوعها بين السياسات الاقتصادية المعاصرة، فمن المعلوم أنه في جميع دول العالم هناك دين عام يتراكم سنة بعد أخرى، ومن شروط الانضمام إلى الاتحاد الأوربي أن يكون الدين العام بحدود 60% من الناتج المحلي الإجمالي وهو في مصر حوالي 60% وهذه النسبة تعادل في سورية حوالي 500مليار ل.س. وحسب أرقام الميزانية الموحدة للمصارف بلغت مديونية الدولة، تجاه المصارف 315مليار ل.س. في نهاية 1998، وبالمقابل بلغت ودائع الدولة في المصرف المركزي والمصارف الأخرى 283مليار ل.س[11] وهذا يعني أن وزارة المالية استخدمت مسحوباتها من القطاع العام لإرجاعها إلى المصرف المركزي وكأنها قد أطفأت الدين العام، لكن بتحويله عن كتف وزارة المالية إلى كتف شركات القطاع العام التي لم تكن مسؤولة عن تراكمه، والذي كان نتيجة سياسات التسعير الحكومية وغيرها والإنفاق المنفلت في الإدارة العامة الحكومية.

قد يقول قائل: وما الفرق، من الدولة إلى الدول؟ لكن المسألة غير ذلك تماماً، فمؤسسات القطاع العام هي قانونياً مؤسسات اقتصادية مستقلة مالياً وإدارياً ويجب أن يكون لها موازنات منظمة على أساس اقتصادي ويجب أن تعمل على تغطيته، بينما هو المسؤول يتفاخر بالإنجازات ويرمي على المؤسسات مسؤولية تحمل الأثمان الباهظة لقراراته: حتى يرمي بهذه المؤسسات على عتبة الإفلاس، أو تفلس المصارف التي أسلفتها الأموال. وهي قطاع عام آخر. أو وهنا الطامة الكبرى: يتحمل المنتج أو المستهلك ، فوق كل حمولاته السابقة، مسؤولية تغطية هذه المبالغ الضخمة من خلال رفع الأسعار وكلنا نعلم الأزمة التي أحدثها في قطاع الصناعات النسيجية العام والخاص قرار رفع أسعار الغزول بنسبة 15% قبل عامين، وكذلك استخدام مؤسسات قطاع عام للإبقاء على أسعارها مرتفعة من أجل تزويد الموازنة  بالفوائض  التي تغذي حساب المالية في المصرف المركزي، كالمؤسسة العامة للاتصالات، والتي تزود الموازنة بـ 15مليار ل.س، نتيجة الإبقاء على أسعار الاتصالات الهاتفية أعلى من المستويات الدولية، (حتى يربط الكثير من السوريين اتصالاتهم بدول مجاورة) هذه الأسعار التي تغطي الهدر الكبير في الموارد الناجم عن انعدام الشفافية إلى حد كبير وما تشتمله أنشطتها الجديدة من عمليات تخصيص ضمني مجنبي كبيرة جداً، مثل هواتف الشوارع وهو مثال بارز على الأساليب الخفية للتخصيص شبه المجاني لمصالح حكومية تدر في بلدان أخرى وبأسعار خدمات أقل بكثير، مداخيل ضخمة جداً للميزانية العامة.

وهل نتحدث عن التخصيص العلني المجاني للخدمات البريدية التي انتقلت إلى شركات نقل، معفاة من الضرائب ولم تدفع عن التخصيص شيئاً ليس من مهماتها أصلاً العمل في هذا المجال بالإضافة إلى قيامها بمهمة تحويل الأموال، وذلك بعد تعجيز المصارف عن القيام بها بنفس الكفاءة وهي من أولى وأبسط مهامها؟ وهل نذكر أيضاً مهنة الصرافة، وهي أولى المهام التقليدية للمصارف. وكيف تم تحويلها إلى قطاع خاص يمارسها بشكل علني وغير قانوني نتيجة تمسك وزارة الاقتصاد بسعر صرف يقل عن سعر السوق، ومهمة تحديد سعر الصرف وإدارة القطع هي بالأصل مهمة  المصرف المركزي بموجب قانون النقد والتسليف، لكن المصرف المركزي جرى تحويله إلى مديرية من مديريات وزارتي الاقتصاد والمالية، وهذه أكبر نكبة يصاب بها اقتصاد معاصر، لأنها أم لنكبات كثيرة أخرى، وكأننا ننسى أن المصرف المركزي السوري الذي كان من أوائل المصارف المركزية التي نشأت في الوطن العربي كان المدرسة التي تربى فيها العديد من كبار المصرفيين العرب الذين نقلوا خبرتهم فيه إلى الدول العربية الأخرى، وكيف يمكن أن نتحدث عن اقتصاد حديث بلا مصرف مركزي يضع السياسة النقدية المصرفية وسياسة أسعار الفائدة وأسعار الصرف ويشرف على خطة النقد والتسليف وخطة القطع وعلى نشاط مجموع نظام النقد والتسليف، وفقاً لقانون النقد والتسليف الصادر عام 1953 والمعطل بقرار إداري منذ مطلع الثمانينات!

وهكذا انجد أنفسنا في كل مسألة تتعلق بإدارة اقتصادنا الوطني أمام وضع غير طبيعي، وغير عصري، وغير علمي، وغير منطقي، مما يجعلنا نكرر أننا دائماً في أمس الحاجة إلى تطبيع أوضاع اقتصادنا الوطني.

8- ضد التمييز، مع حق "الأولى بالرعاية" للمؤسسات والأفراد:

نتيجة لاستدامة إحلال الإدارة الاقتصادية الأوامرية البيروقراطية بكل ما تكدس لديها من عيوب محل توجيه الاقتصاد بالسياسات العلمية المبنية على معرفة دقيقة وحيوية بوقائع الحياة الاقتصادية واتجاهات تطورها، وعلى استهداف غايات واضحة ومعلنة ومحددة بشكل عقلاني ومبنية على المشاركة الجماهيرية الواسعة، فقد وصلت بنيتنا الاقتصادية والاجتماعية إلى حال يرثى لها من التقطع والشرذمة والنفي المتبادل والترهل والإحباط، الأمر الذي لم يعد ينفع معه رش الماء على وجه المريض لإيقاظه وإحيائه. وإنما القيام بعمليات جراحية مخططة علمياً لاستئصال الأورام التي تعطل وظائف معظم أعضائه، وإجراء عملية زرع لأنسجة ولأعضاء سليمة محل الأنسجة والأعضاء المهترئة الفاسدة غير القابلة للشفاء. ومن حسن الحظ أننا لا نحتاج إلى طلب استنساخ أنسجة وأعضاء بديلة، ففي بلدنا وشعبنا مخزون لا ينضب من الأعضاء المتفانين والمجاهدين من أجل رفعة الوطن والشعب، وتراكم غير محدود من الكفاءات الرفيعة المستوى في مختلف الاختصاصات وميادين العمل، ولا يحتاجون إلا للثقة بهم واستدعائهم إلى ميادين العمل وفتح باب التنافس الخلاق بينهم على الإنجاز والعطاء.

إن الشرط الأول لظهور هؤلاء ونهوضهم إلى المسؤولية هو التخلص من جميع أشكال "التمييز" بين المواطنين، وكذلك بين المؤسسات، والقائم على غير اعتبار الكفاءة في أداء المهام المطلوبة التي ترفع مكانة الوطن وتنقله من حال إلى حال أفضل، وتحقيق التكافؤ والمساواة في الفرص والإمكانيات، وتنظيم ما يضمن ذلك كله في القانون، والمراقبة الصارمة الشفافة للالتزام به ووضعه موضع التطبيق على المستويات كافة، من أعلى المستويات حتى أدناها. إن هذا النوع الواحد من التمييز الذي استثنيناه يكون نتيجة ثبوت الاستحقاق وليس بداءة وشرط مسبقاًـ ويقتصر على توفير شروط الحياة والعمل المثلى للفرد أو للمؤسسة أو المماثلة لما يتوفر لأمثالهم في الدول المتطورة أو الجادة على طريق التقدم ويخضع للمراجعة الدورية ولا يعني بأي حال، كما هو سائد منذ زمن ليس بالقصير، إطلاق اليدين في التصرف بمقدرات وأملاك وحقوق الآخرين، أو المجتمع والدولة والمؤسسة في الصالح الخاص وصالح الشركاء والمقربين. فهذا هو بعينه أكثر أشكال التمييز شراً وضرراَ وفتكاً بروح الأمة وطاقاتها.

إننا ننظر من حولنا في كل اتجاه فلا نجد أثراً للتمييز الوحيد الذي نطالب به، ونجد الاقتصاد والمجتمع يعج ويفوز بأشكال التمييز الأخرى التي نطالب بوقفها، والتي استطاعت استغلال بعض الظروف الاستثنائية من وقت لآخر لتخترق أسوار الدستور والقانون وأسس حقوق المواطنين الأساسية لتبني لنفسها أهراماً من الكيانات المتساندة بل وحتى لتكريس هذه الكيانات بمنظومة من ا لقوانين  والأنظمة الناشذة التي لا تخدم أحداً غير رجالها المعدودين والمعتدين بمكاسبهم وامتيازاتهم التي دفعت بأغلبية الشعب الساحقة وبالأخص الفئات الوسطى، الفاعلين الأهم في التاريخ، إلى خارج دائرة الفعل الاجتماعي. لتحول هناك إلى هوام ضائع، أو إلى مجرد أجساد متدافعة باحثة عن فرصة ما، تأتي من صدفة ما في الحياة، غير مشمولة في أي خطة كلية لبناء دولة حديثة أو مجتمع جديد متقدم. فإذا كان العنوان الرئيسي لجريدة "الديار اللبنانية" ليوم الأربعاء 19 نيسان عام2000 يقول عن تقرير رسمي لبناني أن 46% من اللبنانيين يقعون تحت خط الفقر المدقع، و67% منهم تحت خط الوسط، فهل هناك جهة ما في سورية اهتمت بدراسة المستقبل، وما هي الخطة الرسمية لمنعها من التزايد ولإنقاصها ضمن برنامج زمني ملزم، وما هي متطلبات تحقيق هذه الخطة، اللهم إلا إذا كان الجميع مقتنعين بما جاء في خطاب الوزير الذي افتتح ندوة نظمتها الأمم المتحدة حول الفقر في الدول العربية وعقدت في دمشق حيث يقول للمؤتمرين العرب أننا رغم عدم معاناة بلدنا من مشكلة الفقر، فقد رحبنا باستضافة هذه الندوة لتدارس أوضاع الفقر في الدول العربية!!.

فكيف إذا ما استمر مثل هذا الخطاب الرسم الذي لا يعترف بأي مشكلة في جميع شؤون حياتنا، يمكن أن نتفاءل بالإصلاح وإذا حدث واعترف بمشكلة فلا يعترف بمسؤولية أحد عنها، ليبقى كل المسببين لكل المشاكل على رأس من يتولى مهمات إصلاحها؟!.

وإنه لأمر خارق للمنطق ولحقائق التاريخ أن يقتنع الإنسان بأن مرتكب الجريمة هو أفضل قاضٍ للحكم فيها؟! وكم هو الأثر فظيع ومهول جداً على من يقع عليه حكم أمثال هؤلاء القضاة؟ من أجل إلغاء الحماية عن أمثال هؤلاء القضاة، حيثما وجدوا، ومن أجل تفعيل المنافسة الحرة بين المواطنين. وبين جميع أشكال المؤسسات، فإننا ندعو إلى شكل آخر من التحرير يختلف عن أشكال "التحرير" المرسومة والمروج لها على نطاق واسع والتي تحرر فعلياً فقط بضع مئات، أو بضع آلاف من الأفراد من أية ضوابط أو قيود أو التزامات تجاه الاقتصاد والمجتمع والدولة. ندعو إلى تحرير متساوٍ للشعب كله، وللمؤسسات كلها، أولاً، من تكلفة تلك الامتيازات التي يرتبها ذلك "التحرير" الانتقائي، وقد أصبحت باهظة جداً، وفوق الاحتمال بكثير، وثانياً، في تمكن جميع المواطنين من الحصول على فرص تفعيل وإطلاق طاقاتهم المادية والمعنوية، على قدم المساواة، وعلى جميع الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والفكرية والتنظيمية ليصبح بالإمكان التمييز الموضوعي بالنتائج العملية بين الصالح والطالح، بين الكفاءة والإدعاء، وبين الخطاب والممارسة.

وبخصوص موضوعنا، فإننا نجد أن "التحرير" الذي مورس حتى الآن، والذي كان "يفصل" على قياسات محددة، كانت عوائده، وحتى تلك العوائد الخاصة التي تحققت لمن فصل عليهم، أقل بكثير من تكاليفه (الاجتماعية طبعاً) إن علم الاقتصاد هو علم المقارنة بين العوائد والتكاليف وهناك علمان في الاقتصاد بصدد هذه المقارنة: علم يقارن بين العوائد والتكاليف على المستوى الجزئي، (الفرد، المؤسسة) وعلم يقارن ما بين العوائد والتكاليف على المستوى الكلي (الاقتصاد الوطني والمجتمع والدولة). وإننا نقترح علماً ثالثاً يرى أن الحالة المثلى تكون عندما يتحقق التوافق بين العوائد على المستوى الجزئي والعوائد على المستوى الكلي بحيث تتزايد طرداً ومعاً، وكذلك بين التكاليف على المستوى الجزئي والتكاليف على المستوى الكلي، بحيث تكون أقل ما يمكن بالنسبة للمستويين معاً، لكن ما هو سائد لدينا هو قياس العوائد بالتكاليف على المستوى الجزئي فقط، مع إهمال وتجاهل لدرجة البؤس لعلاقتهما بالمستوى الكلي. وكانت نتيجة هذا الإهمال والتجاهل أن قامت علاقة عكسية صارخة بين المستويين الجزئي والكلي، أي أن العوائد على المستوى الجزئي كانت أكثر ضخامة بمقدار ما كانت التكاليف على المستوى الكلي أكثر ضخامة والأمر الأكثر بؤساً في هذه الحالة هو أن يجري التفاخر بتلك العوائد وتجاهل هذه التكاليف. أم الحالة المعاكسة، أي أن تكون العوائد على المستوى الكلي ضخامة بمقدار ما تكون التكاليف على المستوى الجزئي أكثر ضخامة فلم نجدها إلا في ميدان واحد، وهو "نجاح" الإدارة الحكومية في تحقيق التخمة المالية في الموازنة الحكومية، بطريقة يمكن معها القول إنها "إبداع سوري" في التاريخ الاقتصادي، وعلى حساب ليس فقط زوال الشحم، بل وحتى ترقق العظام في معظم مفاصل الاقتصاد الوطني ومؤسساته ولدى معظم المواطنين. مما يجعلنا نطلق على تلك النتائج المالية المتحققة قول الشاعر العربي الكبير المتنبي: "أتحسب الشحم فيمن شحمه ورم". فشحم المالية العامة في هذه الحالة هو ورم خبيث ولا يكون شحماً حقيقياً، إلا عندما يوازيه شحم مماثل في جميع خلايا الاقتصاد الوطني والمجتمع ولكن إدارتنا الاقتصادية، على ما يبدو، ملتزمة ببرنامج "لمكافحة الكوليسترول" في نظريتها وممارستها الاقتصادية، بمنع ظهور الشحم في الاقتصاد ومؤسساته ولدى المواطنين ، اللهم باستثناء عند أولئك المختارين "المبشرين بالجنة"، جنتهما المشتركة!!.

إننا ندعو إلى إحلال الحالة الطبيعية في كل جوانب العمل والحياة، أي إتاحة الفرصة للجميع للحصول على الإمكانات والتمتع بالحاجات بشكل طبيعي، دون أي معوقات مصطنعة، موضوعية أو ذاتية، لتكون مهمة الدولة بكل جهاتها إزالة هذه المعوقات ومكافحتها حيثما وجدت. مسترشدة بالإشارات التي يصدرها الاقتصاد والمجتمع عن وجود هذه المعوقات، ومتيحة الحرية والقنوات الضرورية. من إعلامية وفكرية لظهور هذه الإشارات. والتعامل مع هذه الإشارات بكامل الاهتمام والشفافية والعلانية، والإيجابية، وأولاً بأول، دون السماح بتراكمها حتى استحالة التعامل معها إيجابياً، مما يفتح الباب عندئذٍ للتعامل السلبي الذي يزيد من المخاطر والتكاليف.

أفلا يتطلب ذلك كله عقلاً جديداً، ووعياً جديداً، وكفاءات ومؤهلات وأساليب عمل مختلفة نوعياً؟.

إن تحقيق الحالة الطبيعية التي يستطيع فيها جميع الأفراد، وجميع المؤسسات، صغيرة أم كبيرة، عامة أم خاصة، الوصول إلى مستلزمات وضرورات حياتها وعملها، مع إعانة ودعم العاجزين عن هذا الوصول مادياً ومعنوياً إذا اقتضى الأمر (والدعم فقط من أجل التمكين من تكافؤ الفرص هو خلاف الدعم الذي يولد التمايز ويخلق ويكرس التمييز وعدم التكافؤ)، إن تحقيق هذه الحالة الطبيعية يلغي الحاجة والمبرر لأي نوع من الاستثناءات والامتيازات، تلك المبررات التي تنطلق من الواقع المصطنع أصلاً، تجنباً لمواجهة مهمة إصلاح هذا الواقع أو لعدم الرغبة في إصلاحه لارتباط مصالح معينة به، بحيث يجري الالتفاف عليه بإحداث مزيد من التشوهات والاختلالات في البنية الاقتصادية والاجتماعية، تزيد من المخاطر ولا تحقق أية أهداف سامية.

وهناك في الاتفاقات الدولية شرط اسمه "الأولى بالرعاية"، ويقضي بأن الدولة الموقعة على الاتفاق في حال قيامها بإعطاء أي ميزة لأي دولة أخرى في المستقبل لا تتوفر في هذا الاتفاق أن تسري هذه الميزة تلقائياً على الأطراف الموقعين على هذا الاتفاق.

وعلى نفس المنوال، نطالب بأن يطبق المبدأ نفسه على نطاق الاقتصاد الوطني وعلى النطاق الاجتماعي، بأن أي ميزة أو استثناء، أو إعفاء أو تمييز يعطى لأي مؤسسة أو فرد يجب أن يسري تلقائياً على جميع المؤسسات والأفراد الذين تتوفر فيهم الشروط نفسها، فمثلاً، يحق لشركة الكرنك أو لأي مواطن أن يستفيد من نفس الميزات التي استفاد منها بعض الأفراد أو الشركات الذين تمتعوا بامتيازات استيراد وتشغيل وسائط النقل دون جمارك أو ضرائب.و يحق لصاحب فندق في سورية أن يطالب بنفس الاستثناءات الممنوحة لشركة الشام، مثلاً، أو لغيرها، وأنه لأمر مقبول عقلياً ووطنياً وإنسانياً وأخلاقياً أن يعمل طرفان عملاً واحداً ويحققان وظائف واحدة وأن يخضعا لشروط مختلفة، تحت أية حجة كانت. لقد كانت الحجج المزعومة غطاء لإثراء غير مشروع وأوضاع احتكارية ظالمة وتشوهات فظيعة وامتهانات لكرامة واستنزافات هائلة لأموال الدولة والشعب إلى جيوب أشخاص محددين ثم إلى الخارج، ودون أن تحقق أي فائدة عامة مزعومة.

في الدول المتقدمة يجري التنافس بين الدول على تحسين الشروط العامة للحياة وللعمل ومحاربة أية شروط تمييزية، هذا التحسين الذي يكون متاحاً للجميع على قدم المساواة، هو وحده الذي يحقق التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وليس الامتيازات التي لا تحقق هذا التقدم، بل لا تتحقق إلا على حساب هذا التقدم.

لقد آن الأوان للاحتكام للعقل وللأخلاق معاً!.

9- قائمة الأسئلة الكبرى: الإصلاح إرادة الحياة والتقدم:

وإلى من أسمعهم يتساءلون: كنا نتوقع أن تحدثنا في محاضرة عن "القطاع العام من الحماية إلى المنافسة" عن آثار الحماية على القطاع العام1، وما هو المطلوب عمله لترقية عمل القطاع العام إلى المستوى التنافسي داخلياً وخارجياً، وما هي المعوقات التي تعترض ذلك وكيف يمكن إزالتها وتجاوزها؟.

إنني لا أتجاهل أن هذه الأسئلة تشكل جوهر الموضوع. ولكنني بدلاً من التغلغل في وقائع العمل اليومية، وفي أرشيف المشاكل المتراكم الهائل، والتي كانت على مدى عشرات الندوات والمؤتمرات خلال السنوات السابقة موضوع تفصيل وتمحيص حتى أصبحت على كل شفة ولسان، بدلاً من ذلك كله تناولت في المحاضرة ما هو أخطر وأكثر جوهرية مما يهم القطاع العام، واختتم المحاضرة بقائمة من الأسئلة التي تستوجب الاهتمام بالإجابة عنها، وتحرض وتوجه التفكير نحو الإشكالات المستوجبة الحل، والتي أعتقد أ،ه بإيجاد الحلول لها. يمكن، ليس فقط للقطاع العام، بل وللاقتصاد الوطني، الخروج إلى السوق العالمية. بقدرة تنافسية كاملة.

والأسئلة  المطلوب من كل من يلوذ بالقطاع العام. وبالاقتصاد الوطني عموماً، بشكل مباشر أو غير مباشر، قريب أو بعيد، التفكير فيها والإجابة عنها هي:

1- هل واقع القطاع العام الراهن ومستوى أدائه، على المستوى العام والقطاعي وعلى مستوى المشروع، مقبول أم مرفوض؟

2- هل القطاع العام بواقعه الراهن بشكل رصيداً لحرية الإرادة والصمود والتحرير وقاعدة للاستقلال وللتنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي ومواجهة التحديات أم يشكل عبئاً ينتقص من إمكانات تحقيق هذه الغايات؟.

3- هل القطاع العام يشكل قاعدة مواتية للتقدم العلمي – التكنولوجي، وحاضنة جاذبة للكفاءات والخبرات والتحديثات التقانية الإدارية والإنتاجية، ينميها ويحافظ عليها، أم مرتعاً للعطالة والركود والتخلف وطارداً للكفاءات؟.

4- هل يحقق القطاع العام تراكماً رأسمالياً حقيقياً يساهم في رفع معدل النمو وتطوير البنية الاقتصادية والقطاعية تقدمياً وزيادة إنتاجية العمل وتوسيع فرص العمل، وتخفيض البطالة بدون بطالة مقنعة، وإغناء العاملين فيه حاضراً ومستقبلاً عن التطلع إلى أي فرص أو مشاغل أخرى تتعارض مع مصالح عملهم ومؤسساتهم العامة ومصالح الدولة والاقتصاد الوطني ككل؟؟.

5- هل يرفد القطاع العام الميزانية العامة بفوائض حقيقية متزايدة، وليس بما يستنزف منه من سيولات تحمل ليس فقط القيمة المضافة لديه بل أيضاً قيمة أصوله الإنتاجية وقيمة قوة عمل العاملين لديه؟.

6- هل يستطيع القطاع العام استكمال الترابطات الخلفية والأمامية لديه والترابطات الإنتاجية مع القطاع الخاص بما يرفع من فاعلية الاقتصاد الوطني ويزيد من الاعتماد على الذات ويخفض التبعية؟.

7- هل يستطيع القطاع العام تطوير وظيفة التسويق لديه للتخلص من مخزوناته ولمواكبة الطلب الداخلي والخارجي واقتناص الفرص والمزايا التي تتوفر في الأسواق الدولية في عمليات الشراء والبيع ونقل التقانة أم يبقى منقطعاً عن السوق والطب والمستهلك في الداخل والخارج ويفرض عليه الأخذ بأسوأ الشروط؟.

8- هل يستطيع القطاع العام حماية حدوده من غزوات المتنفذين على إدارته وأمواله ومنتجاته ومن فساد وسوء تصرف المنحرفين وغير المخلصين والمتمترسين في مختلف مفاصله وحلقاته، والذي يشكل وجودهم أكبر عملية قمع للمخلصين والمنتجين وأصحاب الكفاءات، وكيف يمكن أن يمتلك آليات داخلية للفرز والاختيار الصحيح والثواب والعقاب، وإيقاف التطاول والنهب والهدر والتبذير الذي يمارس عليه من داخله وخارجه، إذا لم يكن العاملون فيه هم قوة الحماية الأولى لحدوده؟ وكيف يمكن استنهاض العاملين لأداء هذا الدور وأغلبيتهم العظمى من الأميين وأشباه الأميين والمستلبين حقوقهم مادياً ومعنوياً؟.

9- هل يستطيع القطاع العام الارتقاء إلى مستوى الجودة العالمي والنزول بالتكلفة إلى ما دون المستوى العالمي، ويعمل على أساس محاسبة التكاليف المعيارية، وتتأمن له الرقابة الإيجابية الفعالة التي تشجع على بلوغ هذه المستويات وتحسينها باستمرار، دونما إحباط؟.

10-    هل يستطيع القطاع العام تجديد شباب طاقاته البشرية، بمعنى إطلاق قدراتهم على التجديد والتحديث والتطوير والابتكار، وكيف سيحل مشكلة إعادة التأهيل والتدريب المستمر لعدم الوقوع في الركود والجمود والتأخر؟.

11-    هل سيتاح للقطاع العام حل مشكلة التمويل الذاتي المستمر وتسوية التشابكات المالية والتخلص من أعباء الديون المتراكمة؟.

12-    هل يستطيع القطاع العام تطبيع عملية التسعير لديه بتحريره من التسعير الإداري المنخفض أو المرتفع بشكل مصطنع لإقامة عملية التسعير على أسس اقتصادية علمية تصلح أساساً لتطبيق الإدارة بالأهداف والتفاعل مع الأسعار العالمية؟.

13-    كيف سيتأهل القطاع العام لمواجهة استحقاقات فتح الحدود الاقتصادية نتيجة تطبيق المناطق التجارية الحرة مع لبنان وباقي الدول العربية والاتحاد الأوربي والاقتصاد العالمي ومواجهة تحديات الشركات متعددة الجنسيات والتي تغلغلت على نطاق واسع في الاقتصادات العربية، والاستعداد لعصر التجارة الإلكترونية ولاستحقاقات اتفاقية حماية الملكية الفكرية وتحرير الخدمات المالية وتطبيق المعايير البيئية والاجتماعية…الخ؟.

14-    كيف ومتى ومن سيصدر التشريعات والأنظمة الضرورية لمساعدة القطاع العام على حل مشكلاته والارتقاء لأداء جميع المهام المطلوبة؟.

15-    وأخيراً: ما هي التغيرات المطلوبة في المناخ العام السياسي والإداري والتشريعي وفي السياسات الاقتصادية الكلية ليستطيع القطاع العام التطور بما يسمح له بتبرير وجوده، والنهوض بمسؤولياته ونذكر من بين هذه السياسات وأنظمة العمل، على سبيل المثال، ما يلي:

-   سياسة التجارة الخارجية (الاستيراد والتصدير والأنظمة الجمركية…الخ).

-   سياسة القطع وسياسات التمويل والادخار والتسليف والاستثمار.

-   سياسة الأجور والحوافز.

-   أنظمة المناقصات والعقود.

-   سياسة التسويق الداخلي والخارجي.

-   سياسة التربية والتعليم والبحث العملي والتأهيل والتدريب المستمر.

-   السياسة المالية والضريبة.

-   السياسات والنظم الإدارية والرقابية.

-   أنظمة النقل والسحن والتأمين.

-   سياسة مكافحة لإغراق الخارجي.

-   سياسة التنشيط الاقتصادي لتجاوز الركود الخارجي والبطالة.

قد يرى البعض أن طرح القضايا والأسئلة الكبرى والشائكة أعلاه واعتبارها شروطاً أو من الشروط الضرورية لتمكين القطاع العام الانتقال من الحماية إلى المنافسة بمثابة التيئيس من إمكانية استنهاض القطاع العام. انطلاقاُ من قناعة مستقرة لدى الكثيرين بأن تحقيق الإصلاحات التي تطرحها هذه الأسئلة يقع في خانة المستحيل، إلا إنني أقول إن هذه الإصلاحات أصبحت مسألة حياة ليس فقط للقطاع العام، بل للاقتصاد الوطني بجميع قطاعاته وللدولة وللشعب ككل وإنها مهما صعبت وتأخرت، فستبقى تطرح نفسها بإلحاح متزايد يجعل تجاهلها أو الهروب منها هو المستحيل بعينه.

 

 

دمشق نيسان 2000                       الدكتور عارف دليلة                



[1] انظر: "حول الإصلاح الاقتصادي في سورية بحث مقدم إلى ندوة السياسات التصحيحية والتنمية" التي أقامها المعهد العربي بالكويت عام 1987، منشورة في كتاب بنفس العنوان صادر عن المعهد.

-     "القطاع العام والقطاع الخاص في سورية" محاضرة ألقيت في ندوة الثلاثاء الاقتصادية الخامسة لعام 1986.

-     "القطاع العام ودوره في التنمية" محاضرة ألقيت في ندوة الثلاثاء الاقتصادية الخامسة لعام 1992.

-     "القطاع العام والقطاع الخاص في سورية التجربة والآفاق بحث مقدم إلى ندوة القطاع العام والقطاع الخاص في الوطن العربي" التي أقامها مركز دراسات الوحدة العربية في القاهرة عام 1992، منشورة في مجلد أبحاث الندوة المذكورة الصادرة عن المركز في بيروت.

-     "السياسات الاقتصادية واقتصاد السوق في سورية"، محاضرة ألقيت في ندوة الثلاثاء الاقتصادية لعام 1996.

-     "التنمية وحقوق المواطن الاقتصادية" محاضرة ألقيت في ندوة الثلاثاء الاقتصادية لعام 1997.

-     "عجز الموازنة وسبل مواجهته" محاضرة أعدت لندوة الثلاثاء الاقتصادية لعام 1998، ولم تلقَ.

-     "بحث في الاقتصاد السياسي للتخلف والتقدم والنظام الاقتصادي العالمي، كتاب صادر عن دار الطليعة، بيروت، طبعة أولى 1982، طبعة ثانية 1987.

[2] اعتبر المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي الصيني الذي انعقد قبل حوالي عامين أن الملكية العامة للشعب الصيني هي كلب ما يملكه الصينيون سواء كان لمكية حكومية خاصة على اختلاف أشكالها.

[3] إلا أن المقال حظي بعطف العاملين في "البعث الاقتصادي" وبالرغم من "حيادية" الموضوع المطلقة بدلاً من أن يذهب إلى النشر جرى التحفظ عليه في زنزانة درج السيد رئيس تحرير "البعث" ولم يفرج عنه حتى اليوم، وآمل أن يخرج من دفء العتمة بعد عامين من الاحتجاز إلى أنوار القرن الواحد والعشرين.

[4] زميل صحفي في جريدة الثورة كتب مقالاً يعلق فيه على تعقيبنا على موضوع الإدارة بالأهداف أعلاه، يتهم "الأكاديمي" دون أن يسيمه بالمبالغة والشطح، في القول بأنه: "لا يوجد في أي شركة في القطاع العام رأسمال"!! هكذا فهم الزميل ملاحظتنا أعلاه وعلى نفس "الحمية" ينتقد قولنا إن مبالغة وزارة المالية في سحب سيولات شركات القطاع العام تركتها كومة من " الخردة المعدنية والبشرية"!!

[5] يقدر البعض استيرادنا من أجهزة الكمبيوتر وتوابعها سنوياً بعشرة مليارات ل.س. إلا أنه يصعب تقدير الرقم الحقيقي لهذه المستوردات. نظراً للتخفيض الكبير من قيمها لدى ترسيمها الجمركي. أولاً مثل معظم المستوردات، رغم انخفاض قيمة الدولار الجمركي إلى أقل من ربع قيمة الدولار الحقيقية، وثانياً لكون الكثير من مكوناتها تدخل تهريباً. مثل جميع الأجهزة الكهربائية وغيرها، حيث أن الحكومة كانت تصر على عدم السماح باستيرادها عبر البوابات الرسمية إلى أن تمتلأ بها جميع بيوت ومكاتب المواطنين، لتحميلهم أضعاف تكاليفها وليسترزق "الشركاء" بما أفاضوه عليه، ولتبقى حصيلة الخزينة السورية من الرسوم الجمركية خمس حصيلة الخزينة اللبنانية على نفس الرقم من الواردات وهناك يتقاضون الرسوم الجمركية ونحن نتقاضى أعلى المعدلات!.

[6] انظر محاضرتنا في ندوة الثلاثاء الاقتصادية الخامية لعام 1996 بعنوان "القطاع العام والقطاع الخاص في سورية".

[7] لا حرج من استعمال مصطلح "تطبيع" بعد أن تخلت عنه "إسرائيل" والولايات المتحدة وأحلت مصطلح "علاقات جوار عادية".

[8] إننا نقترح على الحكومة الجديدة أن تصدر قائمة بالمعلومات الأساسية التي يجب على الجهات العامة توفيرها في حينها لتعلن وبشكل دوري ومنتظم أسبوعياً أو شهرياً أو ربعياً أو سنوياً حسب طبيعتها في الجرائد الرسمية كما هو الحال في دول العالم الأخرى والمعلومات المقصودة معروفة للأخصائيين الاقتصاديين والاجتماعيين والأمر غير المعقول أن لا تصدر موازنات الشركات العامة منذ تأسيسها وحتى اليوم والجميع يعرفون ما ينتج عن ذلك من أخطار، الأمر غير المعقول أنه حتى المعلومات المالية والمصرفية التي يجب أن تصدر أسبوعياً وشهرياً تشتريها الدولة بالمليارات سنوياً من أجل توفير المعلومات للجميع فمن المستفيد من شرائها إذن؟

[9] انظر: إيان م. هيوم، وبريان بنتو: "التحول الصناعي في بولندا بين الأحكام المسبقة والواقع"، مجلة التمويل والتنمية، صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي عدد يونيه 1993.

[10] عن أي ربط بين الجامعة والمجتمع، بين التعليم والواقع، وبين البحث العلمي والاقتصاد ، يتحدث بعض مسؤولينا، إذا كان مجرد طالب دراسات عليا للبحث في "الشراكة الأوربية-السورية مثلاً، يعتبر تطاولاً على مقاماتهم، وإذا كان استفسار أي أستاذ جامعي ، أو باحث دراسات عليا عن أي رقم في الاقتصاد أو المالية، يعتبر تجسساً عليهم؟. ولم لا ما داموا يعتبرون أنفسهم أعضاء مجلس إدارة شركة خاصة، وليس بمعنى الكلمة؟!

[11] مصرف سورية المركزي، النشرة الربعية 3و4، 1998 وهي أحدث نشرة إحصائية مصرفية نستطيع الاعتماد عليها، بينما لدينا إحصائيات أشمل بكثير، لبنانية ومصرية وغيرها، عن الشهر الذي انقضىّ

1 إن الحماية الشكلية للقطاع العام بمنع الاستيراد أو تقييده ورفع الرسوم الجمريكة، فقدت فعلياً آثارها الحمائية، في ظل الخروقات الشاملة التي استهدفت القطاع العام والتي أتينا على ذكر الكثير منها في هذه المحاضرة، هذا بالإضافة إلى الدور الذي لعبه الاستيراد غير القانوني، ولا أقول التهريب، لأنه أصبح أكثر الظواهر اعتيادية في حياتنا الاقتصادية، بل وستزول صفة التهريب نفسها مع إتمام تحرير التجارة الجاري حالياً.