واقع الصناعة في سورية

الدكتور محمد صافي أبودان(*)

السيدات والسادة:

 

سأتعرض في هذه المحاضرة لواقع الصناعة التحويلية السورية بقطاعيها العام والخاص أولاً ثم مستقبل هذا القطاع وتوجهاته الاستراتيجية انطلاقا" من رؤية تنموية واضحة وشاملة.

 

أولا"-  واقع الصناعة التحويلية السورية:

 

1- يتشكل القطاع العام الصناعي المرتبط بوزارة الصناعة من 96 شركة تنتظم في        6 مؤسسات عامة، يعمل فيها اكثر من 65 ألف عامل وهي النسيجية التي تنطوي تحتها 27 شركة تضم حوالي 44 % من العمال، والكيميائية ويتبعها 13 شركة يعمل فيها   18 % من العمال، والهندسية وتضم أيضا" 13 شركة و 11 % من العمالة، والإسمنت وتشتمل على 10 شركات و15 % من العمال، والغذائية التي تتبعها 23 شركة          و7.6 % من العاملين، وأخيرا" مؤسسة صناعة السكر التي تتشكل من 10 شركات تمثل العمالة فيها حوالي 5 %. علماً أن مؤسستي التبغ وحلج وتسويق الأقطان قد ألحقتا في آخر العام الفائت بوزارة الصناعة كجزء من القطاع العام الصناعي.

 

2- يتألف القطاع الصناعي الخاص، في نهاية عام 2003، من 116720 منشأة يبلغ إجمالي رأسمالها حوالي 155 مليار ل.س ويعمل فيها ما يقارب 380 ألف عامل. وتصنف عامة في ثلاث مجموعات:

أ‌-  المنشآت الحرفية: التي تضم 9 عمال أو أقل، والتي تسمى في التصنيف الأوروبي المنشآت متناهية الصغر، وهي تمثل 77 % من إجمالي عدد المنشآت و 8 % من رأسمالها و 57.5 % من العمالة في القطاع الخاص.

ب‌- المنشآت الصناعية: وهي التي ترخص وفقا" للقانون رقم 21 لعام 1958 وتمثل إجمالا" فئة الصناعات الصغيرة والمتوسطة في التصنيف الأوربي وتشكل     22.6 % من عدد المنشآت و 50 % من رأس المال ويعمل فيها 37.5 %     من العمالة.

ت‌- المنشآت الاستثمارية: التي قامت في ظل قانون الاستثمار رقم 10 وتضم    جزءا" من الشريحة العليا من الصناعات المتوسطة وعدد محدد من المشاريع الكبيرة التي يزيد عدد عمالها عن 250 عامل وتقتصر على 0.4 % من عدد المنشآت وتمثل 42.3 % من رأس المال و 5 % من العمالة.

 

ومن ناحية أخرى، تتوزع منشآت القطاع الخاص – كما هو واضح في الجدول التالي, بين فروع الصناعة الأربعة:

 

توزع نشاط القطاع الخاص الصناعي بين فروع الصناعة الأربعة

بالنسب المئوية

 

نوع الصناعة

عدد المنشآت

رأس المال

حجم العمالة

الصناعات الهندسية

54

26

47

الصناعلت الكيميائية

15

27,5

17

الصناعات الغذائية

12,3

33

16

الصناعات النسيجية

19

13,5

20

 

الصناعات الهندسية: وهي تحتل المكان الأول من حيث عدد المنشآت الصناعية بنسبة 54 % ومن حيث حجم العمالة بنسبة 47 % بينما تأتي في المرتبة الثالثة من حيث حصتها في رأس المال بنسبة لا تزيد عن 26 %.

والصناعات الكيميائية: وتحتل المرتبة الثانية من حيث رأس المال بنسبة حوالي 27.5 % وفي المرتبة الثالثة بالنسبة لعدد المنشآت و لحجم العمالة.

وتحتل الصناعات الغذائية المرتبة الأولى من حيث رأس المال إذ تمثل حصتها الثلث والمرتبة الأخيرة من حيث عدد المنشآت ومن حيث حجم العمالة.

أما الصناعات النسيجية فتقع في المرتبة الثانية من حيث عدد المنشآت وحجم العمالة لكنها تأتي في المرتبة الأخيرة بالنسبة لرأس المال مما يعكس كثافة العمالة في التكنولوجيا المستخدمة.

ومن جهة أخرى يتركز حوالي 61 % من منشآت القطاع الخاص في أربع محافظات حلب، دمشق، ريف دمشق وحمص، وهي تستحوذ أيضا" على 78 % من رأس المال - علما" أن ثلثي رأس المال يتوطن في حلب وريف دمشق- وعلى 74 % من العمال.

 

3-  وتتلخص المؤشرات الإحصائية الأساسية لهذا القطاع بالتالي:

فقد نما صافي الناتج المحلي الإجمالي لهذا القطاع خلال الفترة 1995 – 2001 بمعدل متوسطه 5.6 % وعام 2002 بنسبة 4.6 %. وبعد أن كانت مساهمة هذا القطاع حوالي 10 % في عام 2000, انحدرت هذه المسـاهمة إلى 7.8 % عام 2002 مقابل حوالي 20 % في مصر وتونس. وبلغ المتوسط الحسابي لنصيب الفرد خلال الفترة المذكورة من هذا الناتج 4140 ل.س و5120 ل.س عام 2002. وبعد أن كان نصيب القطاع العام في تحقيق الناتج المذكور 54 % مقابل 46% للقطاع الخاص في بداية التسعينات، انعكست الآية عامي 1992 و 1993 واستمر دور القطاع العام في التقهقر، حتى بلغ الثلث عامي 2001 و2002. أما الاستثمارات الصناعية خلال الفترة 1992 – 2003 فقد بلغت 176.5 مليار ل.س – بمتوسط سنوي بلغ 14.7 مليار- قدم القطاع العام منها 32 % أي 56.5 مليار ل.س، في حين بلغت مساهمة القطاع الخاص حوالي 120 مليار تمثل     68 % من مجموع الاستثمار الصناعي. وفي حين أعطى القطاع العام كما هو واضح في الجدول التالي الأولوية المطلقة إلى الصناعات النسيجية إذ خصص لها الثلثين، فقد ركز القطاع الخاص على الصناعات الغذائية التي حصلت على 40 % من استثماراته. علماً    أن الاستثمار الصناعي يمثل أقل من 10% من إجمالي الاستثمار (أو تكون رأس المال الثابت) في  سورية.

 

توزع الاستثمارات الصناعية للقطاع العام والقطاع الخاص على فروع الصناعة

خلال الفترة 1992 – 2003 بالنسب المئوية

 

 

القطاع العام

القطاع الخاص

اجمالي الإستثمار

56,5 مليار ليرة سورية (32%)

120 مليار ل س ( 68% )

الصناعات الهندسية

5

20

الصناعات الكيميائية

10

25

الصناعات الغذائية

4

40

الصناعات النسيجية

66,5

15

الأسمنت

10

 

السكر

4,5

 

 

4-  تتسم الصناعة السورية إجمالا" بالتالي:

أ‌-  سيطرة الصناعات الغذائية والنسيجية على هيكل الناتج الصناعي، إذ يتراوح نصيبهما منه بين 51 و 61%، وقامت صناعات أخرى تعتمد على المواد الخام والوسيطة ونصف المصنعة المستوردة.

ب‌- ينصب النشاط الصناعي أساسا" على إنتاج سلع استهلاكية غير معمرة أو معمرة تقوم على تجميع المكونات المستوردة، وتقتصر إجمالا" على الحلقات الأخيرة من السلسة التكنولوجية. وهذا ما يفسر الضعف الشديد في التشابك داخل النسيج الصناعي السوري، وهزال القيمة المضافة في الاقتصاد الوطني، لأن مستلزمات الإنتاج المستوردة تشكل القسم الأكبر من التكلفة.

ت‌- انخفاض حجم الصادرات الصناعية. ومن ثم ظل الميزان التجاري لهذا القطاع يشكو من عجز مزمن، إذ تغطي صادراته أقل من خمس وارداته. حيث تمثل محرك النمو الصناعي بالطلب المحلي وليس باندماج الصناعة السورية بالتجارة الدولية من خلال التصدير.

ث‌- تفتت النسيج الصناعي السوري، فشركات الأموال – أي الشركات المساهمة –  نادرة جداً  و لا يزيد عدد المنشآت التي تستخدم 10 عمال فأكثر عن حوالي 20%.

ج‌- تدني المردود الاقتصادي للقطاع العام الصناعي وانخفاض جودة منتجاته وتراكم مخزونه وبطء حركته وتخلف قدراته التسويقية.

 

5-  ويمكن إجمال أسباب قصور الصناعة التحويلية بالتالي:

-   غياب استراتيجية محددة ومعلنة للتنمية الاقتصادية عامة والصناعية خاصة، تصاغ من خلال رؤية شمولية تشكل الدستور الاقتصادي للبلد. مما ساهم في كبح الاستثمار، لأن المستثمر لا يستطيع في غياب هذه الاستراتيجية أن يتبين طريقه للمستقبل.

-   إتباع سياسة التوجه للسوق الداخلية المتمثلة بسياسة "الإحلال محل الواردات". إذ خابت معها كل التوقعات الإيجابية التي كان مأمولاً أن تتحقق. فالاستيراد لم يتقلص بل تضاعف بمعدلات عالية، والتشابك الصناعي لم يدعم بل ازداد الوضع سوءاً.

-   تطبيق الحماية الكاملة على المنتجات الاستهلاكية دون تمييز، وليس على المنتجات الوسيطة والرأسمالية بدلاً من العكس. ولم تقترن هذه الحماية بسياسة ديناميكية لتشجيع التصدير، كما فعلت الدول الآسيوية التي اعتمدت توليفة ذكية بين حماية متدرجة ومتنوعة في السوق الداخلية وبين تشجيع التصدير بكافة السبل إلى الأسواق الخارجية.

-   اتخاذ قرارات استثمارية دون استكمالها بالسياسات والإجراءات التي تتطلبها هذه القرارات. وهذا ما حدث في مشاريع الغزول القطنية - وهي بحد ذاتها ضئيلة القيمة المضافة -. إذ لم يؤخذ بأية سياسة لتشجيع قيام مشاريع خاصة، تستهلك هذه الغزول في النسيج والألبسة. بل تم العكس، إذ اقتصر الاستهلاك المحلي للغزول القطنية على 40 ألف طن أي حوالي الثلث، واقترنت زيادة إنتاج هذه الغزول بتصاعد كبير في انحياز القطاع الخاص لاستخدام الغزول التركيبية.

-   عدم إيلاء بناء القاعدة التكنولوجية الوطنية الاهتمام الذي تستحق، وانعكس ذلك تقصيراً في تطوير الموارد البشرية، وفق احتياجات الصناعة، وفي تدعيم البحث والتطوير والابتكار وفي تنمية بيوت الخبرة الاستشارية الوطنية.

-   غياب شبه كلي للتمويل الصناعي، إذ لم يتجاوز نصيب الصناعة من إجمالي التسليف المصرفي 2.4 % حتى نهاية عام 2002 وحوالي 4 % عام 2003، وظل الصناعي السوري بالتالي معتمداً على موارده ووسائله الخاصة في التمويل، وهذا وضع فريد من نوعه.

-   عدم الاهتمام بمرحلة ما قبل الاستثمار، من حيث القيام  بدراسات الجدوى الاقتصادية وما تعنيه من دراسات فنية ودراسة السوق، بما يفسر إلى حد كبير  انخفاض معدلات التشغيل  وارتفاع التكاليف.

-       عدم إيلاء الصيانة الاهتمام المطلوب. وهذا داء ينهش العالم الثالث إجمالاً.

-   غياب سياسة متكاملة لتنشيط الصادرات الصناعية،  بما في ذلك إهمال إقامة المؤسسات التجارية المتخصصة  بالتصدير لتشكل صلة الوصل  الفعالة بين المنتج المحلي والمستورد الخارجي كما هو الحال  في الدول الآسيوية احتذاء باليابان.

-   أما القطاع العام الصناعي، فصحيح أن أداءه الاقتصادي كان متواضعاً. ولكن صحيح أيضاً أن التعامل معه لم يكن  على الوجه المطلوب، فزاد الطين بلة، كما يقال، سواء تعلق الأمر باختيار  قياداته أوبتكبيله بكثير من القيود  البيروقراطية أوبتفريغ خزائنه من أية سيولة، بسبب تحويل  فائض ميزانياته باستمرار إلى خزانة الدولة.

 

6- واستكمالاً لتحليل هذا الوضع وأسبابه، لابد من التعرف على التحديات  التي تواجه  الصناعة السورية الآن تمهيداً لصياغة الرؤية  المستقبلية والعناصر التي تشكل  التوجهات  المستقبلية  واجبة الإتباع  للصناعة السورية.

 

فنحن نواجه نوعين من التحديات  خارجية وداخلية:

 

إن أبرز  التحديات  الخارجية هي العولمة  وما تعنيه من فرض الاندماج  بالاقتصاد الدولي. وضرورة أن يكون هذا الاندماج فاعلاً عبر التصدير  الصناعي، لا منفعلاً من خلال تحرير الاستيراد فحسب، وثانيها ضرورة التلاؤم مع التطور الذي طرأ  علىاستبدال مفهوم المزايا المقارنة (التي كانت تعرف بالموقع الجغرافي المناسب والموارد الطبيعية ورخص العمالة) بمفهوم جديد هو المزايا  التنافسية، انطلاقاً من مفهوم التنافسية الدولية  الذي أبرزته العولمة، والتي تعني  توفر المهارات التقنية والتنظيمية  بمستوياتها المختلفة، والهياكل الأساسية وتكنولوجيا الاتصالات والخدمات الداعمة الكفوءة  وسهولة الحصول على مستلزمات الإنتاج. ويتجسد ثالث هذه  التحديات  بالضغوط التنافسية التي تواجهها سورية، سواء من الدول العربية  المجاورة  التي سبقتنا كتونس وتركيا  أو من الدول الآسيوية ودول أوربا  الشرقية  والوسطى أو من الدول رخيصة العمالة كالهند والصين  مع إنتاج أجود.

 

أما التحديات الداخلية  فهي أربعة: أولها انتهاء دور النفط حوالي عام 2012، كمصدر  لتوفير  القطع الأجنبي  الناجم عن تصديره. وثانيها  التزايد السكاني بمعدل 2.7%، وهي نسبة مرتفعة على المستوى العالمي، والأعباء المترتبة عليه إذ يبلغ حجم العمالة الوافدة سنوياً حوالي  200 ألف طالب عمل جديد. وثالثها  الانفتاح  التجاري الذي اعتمدته سورية من خلال اتفاقية  منطقة  التجارة الحرة العربية  والاتفاقيات الثنائية  المماثلة مع عدد من الدول العربية، أومن خلال منطقة التجارة الحرة  مع الاتحاد الأوروبي الذي أصبح اليوم مؤلفاً من خمس وعشرين دولة، وما سيترتب على هذا الانفتاح من تهديد  جدي للنسيج الصناعي السوري الذي لم تتم بعد إعادة تأهيله، من حيث مقوماته الذاتية،  من جهة، ولم تتوفر له بعد عناصر  التكافؤ في مناخ العمل مع الدول الأخرى من جهة ثانية، كي يصمد أمام المنافسة. أما التحدي الرابع فهو الاختيار الصائب لتدخلات  الدولة لتصحيح انحرافات  السوق وحسن تنفيذها، لأن آليات  السوق لا تعطي لوحدها  المؤشرات  الهادية  للفاعلين الاقتصاديين.

 

لاشك أن مشهد استمرار  وضع الصناعة الحالي على ما هو عليه مسقبلاً, سيؤدي باقتصادنا وصناعتنا  إلى التهميش. ولابد لنا من تغيير هذا الواقع, في إطار  مسيرة  التحديث والتطوير التي أطلقها  السيد الرئيس بشار الأسد حتى نتمكن من  مواجهة هذه التحديات.

 

ثانياً: مستقبل الصناعة  السورية:

 

علينا أن نعالج مستقبل الصناعة  السورية  من خلال رؤية واضحة وتوجهات استراتيجية أساسية محددة.

 

1.    تنطوي هذه الرؤية، باختصار  على العناصر التالية:

       ‌أ-    استهداف  مستوى معاشي لائق لكل مواطن سوري، من خلال مسيرة نمو مستديم وعادل. تكون الصناعة  التحويلية  محركه وأداته  الأساسية، بما يعنيه ذلك من إيجاد نسيج صناعي متماسك، يرتقي هيكله إلى محتوى تكنولوجي أرفع  باضطراد،  وتتصاعد  قدرته التنافسية  في الأسواق  باستمرار،  بحيث تصبح سورية في عداد  الدول العربية الطليعية.

       ‌ب-   زيادة مساهمة  قطاع الصناعة التحويلية  في الناتج المحلي  الإجمالي،  خلال ستة عشر عاماً، لتبلغ 25% بدلاً من المساهمة الحالية التي تقل عن 10%.

       ‌ج-   اندماج  الاقتصاد السوري بالاقتصاد العالمي بصورة ايجابية، بحيث تترسخ  أقدام المنتجات الصناعية السورية في السوق الداخلية والعالمية على السواء.

       ‌د-   إن تحقيق ذلك  يستدعي تدفقات ضخمة  من الاستثمار، وهذه منوطة أساساً بتوفير مناخ موات للاستثمار ونمو الأعمال.

       ‌ه-   أثبتت التجربة التاريخية فشل تنظيم الحياة الاقتصادية  من خلال الدولة فقط. كما لم تنجح المقاربة الليبرالية  التي تعتبر بأن السوق هي الكل، ولأن آلية  السوق  لا تعطي الإشارات الصحيحة، ولا تقدم الحوافز  المناسبة  لتخصيص  الموارد على الوجه السليم. وعلى هذا الأساس فالخيار  الأمثل  الذي  ثبتت فعاليته تاريخياً، كما تشهد عليه نجاحات الدول  الآسيوية، يكمن  في الأخذ باقتصاد السوق وبضرورة تدخل  الدولة الذكي، لتصحيح  انحرافاته  وضمان  استقراره، سواء لإدارة  الانفتاح أو لحسن توجيه الموارد. وإذا كانت الدولة، هي التي تقوم بصياغة الرؤية والتوجهات الاستراتيجية، بالتشاور مع كافة الأطراف المعنية، فيجب أن يكون واضحاً أن القطاع الخاص، هو الفاعل الاقتصادي الذي يقع عليه العبء الأكبر في تحقيق الرؤية وتنفيذ السياسات الصناعية وبرامج التنمية, وبالمقابل يتركز دور القطاع العام في تأمين السلع والخدمات العامة وإقامة المشاريع الإنتاجية الضرورية للاقتصاد الوطني ويعجز عنها القطاع الخاص.

 

        إن تحقيق هذه الرؤية يتطلب توجهات استراتيجية تتمثل بوضع سياسات لتوفير    مقومات التنافسية الصناعية وهيكل صناعي متطور، وقاعدة تكنولوجية وطنية ومناخ ملائم للاستثمار والأعمال، كما تستلزم إتباع سياسة تجارية فعالة وتطبيق سياسة ديناميكية للتمويل الصناعي.

 

2.  وبالفعل تكمن أولى مقومات التنافسية الصناعية بوجود نسيج متماسك من الصناعات المتشابكة فيما بينها، ذات محتوى تكنولوجي ومعرفي مرتفع وقيمة مضافة عالية، وقادرة على تصدير منتجاتها. ومن هذا المنطلق تتحدد الصناعات التي يجب التركيز عليها:

آ-  ففي الصناعات الغذائية: تملك سورية مزايا مقارنة في تصنيع الخضار والفواكه، وفي  منتجات الألبان وزيت الزيتون سواء من حيث توفر الإنتاج الزراعي المناسب أو من حيث توفر أسواق التصدير. إلا أن استغلال هذه المزايا لا يزال محدودا. فالفائض قائم والتصدير ضئيل. وعلينا بصدد الخضار، وخاصة الطماطم، والفواكه وخاصة العصائر والمربيات، أن نحسن توطين وحدات التصنيع لتكون قريبة من مراكز الإنتاج، وإدخال تكنولوجيات جديدة لتكون المنتجات بمواصفات عالمية وبسعر مناسب، كما يجب علينا تعزيز وتنمية صناعة الألبان ومنتجاتها، لتغطية الطلب المحلي وتخفيض الاستيراد. أما زيت الزيتون فسيبلغ الفائض منه قريباً حوالي 80 ألف طن. وهذا وضع يستوجب جهداً خاصاً، لاستغلال هذه الثروة، باستخدام التكنولوجيا الحديثة في العصر والتكرير، وتخفيض تكاليف الإنتاج  للوصول إلى السعر المنافس، وتطوير أساليب التسويق بغية بناء سمعة تجارية دولية.

ب- صناعة الغزل والنسيج والألبسة: فعلى الرغم من عراقة هذه الصناعة في بلدنا، وتوفر القطن، على وجه الخصوص، كمادة أولية، فإن سورية لم تستفد من الموجه العارمة لانتقال هذه الصناعة من الدول المتقدمة إلى الدول النامية. ولا ريب أن الأولوية الاستراتيجية تعطى لذلك الجزء من الصناعة القائم على القطن، حيث تتكامل السلسلة التكنولوجية حتى آخرها بمعنى تصنيع كل القطن المتوفر لتصديره ألبسة، وهذا يستوجب تصنيع القطن المحلوج الذي يصدر الآن غزولاً والسماح للقطاع الخاص بذلك أولاً وتحفيز القطاع الخاص على تحويل كل هذه الغزول إلى أقمشة قطنية ثانياً، وتطوير صناعة الألبسة إلى أعلى حد ممكن ثالثاً، والأرقام في هذا المجال صارخة.

تصدر سوريا الآن حوالي 140 ألف طن من القطن المحلوج، تشكل إذا ما تم تصنيعها 125 ألف طن غزول قطنية. وإذا ما أضفنا لها كمية الغزول التي نصدرها الآن والبالغة 70 ألف طن، لقارب المجموع 200 ألف طن غزول يجب أن تتحول إلى 180 ألف طن أقمشة ثم إلى ألبسة. وتشير المعطيات المتوفرة أن تحويل طن واحد من الأقمشة إلى ألبسة يتطلب فرصة عمل واحدة، أي أن المجال مفتوح لخلق 180 ألف فرصة عمل جديدة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار فرص العمل المباشرة التي يخلقها تحويل الـ 140 ألف طن قطن محلوج إلى غزول أولاً ثم تحويل هذه مع الـ 70 ألف طن غزول المصدرة إلى أقمشة جاهزة لتصنيع الألبسة ثانياً، وفرص العمل غير المباشرة التي تستوجبها هذه الكمية في مرحلتي الغزل والقماش ثالثاً، لوصل حجم العمالة المطلوبة إلى حوالي 200 ألف فرصة عمل أخرى. وبذا يصبح مجموع العمالة اللازمة حوالي 380 ألف. وهذا يعني مضاعفة حجم العمالة في القطاع الخاص الذي يشكل الآن الرقم ذاته وفقاً للإحصائيات المتاحة. أضف إلى ذلك أثر هذا التوجه على الاقتصاد الوطني من حيث تعظيم القيمة المضافة (إذ ترتفع قيمة القطن الخام من 100 كمؤشر أساس إلى أقل من 200 بعد غزله، والى 600 بعد تصنيعه أقمشة جاهزة، وإلى 900 عندما يصبح ألبسة والى 1300 في حالة الألبسة الأرقى والأكثر تعقيداً، بما يعوض الدخل الناجم عن تصدير النفط، بل ويزيد عنه.

ج- صناعة الزجاج: وهي صناعة واعدة بحكم عراقتها في سوريا وتوفر الرمل بمواصفات رفيعة الجودة وموقع بلدنا الجغرافي، وبالتالي فآفاق نموها رحبة وخاصة إلى دول المنطقة. غير أننا في إطار المنتجات الوسيطة الثقيلة، بحاجة ماسة إلى التكنولوجيا الحديثة، كثيفة رأس المال لإنتاج الزجاج المصبوب، أي المسحوب أفقياً. وهذه تتطلب استثمارات ضخمة تستدعي إقامة مشروع مشترك مع إحدى الشركات العالمية. ومن جهة أخرى، قامت وزارة الصناعة بترخيص مشروع مشترك مع جهة إيرانية خاصة برأسمال قدره 4.6 مليار ل.س لإنتاج زجاج الفلوت.

د- صناعة الأسمدة: إذ ظلت سوريا مستوردة خالصة للأسمدة الجاهزة على الرغم من توفر الفوسفات والغاز، في الوقت الذي يمكن تصنيع أكثر الأسمدة محليا، وخاصة الأسمدة المركبة ((الفوسفاتية الآزوتية)) التي نستوردها الآن من الاتحاد الأوروبي. إلا أن تكنولوجيا هذه الأسمدة معقدة وتحتاج إلى استثمارات كبيرة مما يستدعي التعاون مع إحدى الشركات الدولية في هذا السبيل كما فعلت الأردن وتفعل مصر الآن.

هـ- صناعة التعبئة والتغليف: وهي صناعة هامة، تضم طائفة من المواد كالزجاج والورق والبلاستيك والمعادن، ومن شأنها تعميق التشابك داخل قطاع الصناعة، إلى جانب الدور الذي تلعبه في ترويج المنتجات السورية. وآفاق نموها رحبة جداً لتغطية احتياجات السوق المحلية وأسواق المنطقة.

و- صناعة الإسمنت: إذ لا بد من ردم الفجوة الحالية بين الطلب والإنتاج الحالي البالغة 1.5 مليون طن ومواجهة نمو الطلب المحلي خلال السنوات العشرة القادمة.

ز- صناعة المكونات وقطع الغيار: إذ ينصب التوجه العالمي، بحكم التطور التكنولوجي والعولمة واحتدام المنافسة، على انحسار تكامل الإنتاج الرأسي لدى الشركات الكبيرة، وحتى بعض المتوسطة، في الدول المتقدمة، مقابل الاعتماد المتعاظم على تصنيع المكونات الألكتروميكانيكية والالكترونية في الخارج، حيث تنخفض التكلفة، وتتعزز من ثم قدرتها التنافسية. وقد أفادت دول نامية عديدة من هذا التوجه، الذي ظلت سوريا بمعزل عنه. علما أن صادرات تونس من هذه المنتجات، وهي حديثة العهد في هذا النشاط، بلغت 1.25 مليار دولار سنوياً. وتتميز هذه الصناعة، كجزء من الصناعات الهندسية، بمحتواها التكنولوجي المتطور والمتنوع من المتوسط إلى الرفيع، وبتعددها الكبير وحجم سوقها المتعاظم وتحقيق قيمة مضافة مرتفعة. وتخص هذه الصناعة أساساً المكونات اللازمة للسلع الاستهلاكية المعمرة وخاصة وسائط النقل والأدوات الكهربائية والسلع الإلكترونية، وبالذات المنزلية منها كالتلفزيون والراديو وأجهزة استقبال البث (السواتل)... الخ.

وبصدد الصناعات الهندسية قامت وزارة الصناعة مؤخراً بالترخيص للشركة السورية التركية لإنتاج المعدات الهندسية برأسمال قدره 1.375 مليار ل.س.

ويجدر التذكير في هذا الإطار، أننا في وزارة الصناعة نستهدف إعداد دليل للاستثمار الصناعي يوضع في ضوء تحليل السلسلة التكنولوجية للصناعات سالفة الذكر، ويحدد حلقات الإنتاج أو المنتجات التي يمكن لنا تصنيعها في سوريا، وأسواق تصريفها وزبائنها في هذه الأسواق، ليكون في خدمة المستثمرين من القطاع الخاص، وترشيد قراراتهم الاستثمارية.

 

3.     يشكل بناء القاعدة التكنولوجية الوطنية عنصراً حاسماً في توفير القدرة التنافسية وهي تنطوي على ثلاثة عناصر:

 

أ‌-     الموارد البشرية الكفؤة والتي أضحت الآن العنصر الأكثر أهمية في الصناعة الحديثة ويستدعي تطويرها زيادة نسبة الاعتمادات المخصصة للتربية والتعليم من الناتج المحلي الإجمالي، إذ لا تزيد الآن عن 2%، وهي أقل من نصف النسبة المخصصة في الدول المتقدمة. كما يستدعي زيادة عدد الطلاب الجامعيين في الفروع الهندسية والعلمية، لتعود إلى موقعها الطليعي الذي كانت عليه في منتصف الثمانينات، مع الاستجابة لمتطلبات التقانات الجديدة كثيفة المعرفة، بما يعنيه ذلك من إجراء إصلاح شامل في نظامنا التربوي يقوم على إعمال العقل والمحاكمة الذهنية ومقاربة المشاكل بمنهجية علمية بدلاً من حفظ واستظهار المعلومات.

ب‌-  البنية التحتية التكنولوجية التي تتشكل من مؤسسات المواصفات والمقاييس والاختبارات ومؤسسات البحث والتطوير والجامعات والمعاهد الفنية العليا. ولا بد من تطوير هذه البنية بتعزيز نشاط البحث والتطوير واعتبار ذلك حجر الأساس في سياستنا التكنولوجية وتفعيل مؤسستي الدعم التكنولوجي القائمتين مركز البحوث والاختبارات الصناعية ومركز تطوير الإدارة والإنتاجية.

ج- السياسات والإجراءات واجبة الإتباع، وعلى الأخص إعادة النظر في سياسة تخصيص الموارد والقيام بحملة توعية توضح خطورة هذه القضية وتستهدف خلق وفاق وطني حولها، وتحفيز الشركات الصناعية على القيام بالجهود التكنولوجية، سواء من خلال الإعفاء الضريبي أو توفير التمويل اللازم بشروط ميسرة، وإيجاد علاقة عضوية بين الصناعة والمؤسسات التعليمية بربط برامج التدريس وطرقه باحتياجات الصناعة وإشراك المهندسين والفنيين السوريين بتنفيذ المشاريع، وتدعيم وتشجيع المكاتب الاستشارية السورية، وإحاطة المخترعين والمبتكرين السورية بالرعاية وتوفير التسهيلات اللازمة لوضع ابتكاراتهم موضع التنفيذ.

 4- واستكمالاً للشروط التي من شأنها تحقيق الرؤية التي سلف ذكرها، يجدر التنبه إلى النقاط الثلاثة الآتية:

أولها مناخ الأعمال والاستثمار. إذ لن يكون بالإمكان تحقيق الأهداف المبتغاة ما لم يتوفر المناخ الاستثماري المناسب، الذي يتجاوز كثيراً بمحتواه مجرد صدور قانون للاستثمار ينطوي على امتيازات ضريبية ومالية، لا تعدو أن تكون واحداً من مقومات المناخ المطلوب، التي تتجسد باستقرار السياسات الاقتصادية ووضوحها، وتوفر البنى التحتية كالمناطق الصناعية والتجمعات العنقودية وخدمات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بأسعار معتدلة، وتوفر الموارد البشرية الكفؤة المؤهلة، وانخفاض تكاليف الأعمال وسرعة إنجازها ووجود جهاز مصرفي فعال وبنية تنظيمية وإدارية فعالة وجهاز قضائي رفيع المستوى وسريع الإنجاز، وتطبيق أسلوب النافذة الواحدة. أما الاستثمارات الأجنبية فهي هامة, لكنها ليست بديلاً للاستثمار الوطني وإنما متممة له، بل ويتصاعد النجاح في اجتذابها مع تصاعد معدلات الاستثمار المحلي، ومع تنامي القدرات الوطنية الفنية والتنظيمية والمؤسساتية، كما يتطلب مهارة عالية لتسويق صورة البلد وإقناع المستثمرين مغتربين كانوا أعرباً  أو أجانب. وعلى هذا فقد أضحى ضرورياً إقامة هيئة وطنية للاستثمار مزودة بأفضل الكفاءات، تقوم بهذا النشاط الترويجي من جهة وتوفر كافة المعلومات للمستثمرين بما في ذلك إعداد دراسات جدوى أولية لبعض المشاريع ذات الأولوية وتمارس فعالية النافذة الواحدة.

وثانيها : إتباع سياسة تجارية ديناميكية، تنطلق من أن التجارة الحرة لا تعطي الإشارات الصائبة لتخصيص الموارد، إذ تؤدي إلى هروب الاستثمار من التقانات الصعبة. كما أن الحماية الشديدة لا تقدم المؤشرات والحوافز الضرورية، لتوجيه المستثمرين إلى الفعاليات المنافسة في أسواق مفتوحة. لذا يكمن الحل في الانفتاح المصحوب بإعادة تأهيل المنشآت القائمة والقابلة للحياة. فهما عنصران متكاملان، يجب توفرهما معاً  من جهة وفي ربط مستوى الحماية الجمركية بقدرة كل صناعة على المنافسة بحيث تتناقص الأولى مع تعاظم الثانية من جهة أخرى، مع العمل على مضاعفة الصادرات الصناعية السورية عدة مرات من جهة ثالثة. إذ أثبت التاريخ الاقتصادي الحديث أن السياسات الاقتصادية القائمة على تنشيط الصادرات  في الدول الآسيوية، كانت أفضل وأعلى مردوداً بكثير جداً من سياسات الإصلاح التي بنيت على أساس تحرير التجارة في دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا.

وثالثها: توفر التمويل الصناعي، لأن ترجمة الرؤية والتوجهات الاستراتيجية تتوقف في آخر المطاف على توفر رؤوس الأموال، وتعبئة الموارد اللازمة لهذا الغرض.

ونظراً لمحدودية الموارد، فلا بد من البحث عن سبل جديدة ومبتكرة لتمويل خطط وبرامج التنمية الصناعية في سورية بالإضافة إلى طرق التمويل التقليدية. ويجدر التنويه بهذا الصدد  أن تجربة الدول الآسيوية أفادت بأن الدولة كانت المحرك الأساسي، في تمويل السياسة الصناعية، خاصة من خلال استخدام موارد من خارج الميزانية العادية، يماثل حجمها السنوي، بل يزيد، عن إجمالي الإنفاق في الميزانية المذكورة.

         

 السيدات والسادة الحضور:

لاشك أن مسيرة التنمية الصناعية شائكة ومعقدة. وهذا ما يحفزنا إلى تعبئة كل الجهود والقدرات والموارد لإنجاحها بقيادة السيد الرئيس الدكتور بشار الأسد.

 

شكراً لحسن استماعكم والسلام عليكم.