"الى ذكرى "كل أحد ولا أحد
|
أنا
الشهيدة سناء يوسف محيدلي ترجمها عن الانكليزيّة:
فادي العبدالله شاشة تلفزيون على
رفٍّ عالٍ تُظْهر كرسياً وخلفه ملصق لصور أعضاء من الحزب الشيوعي
اللبنانيّ طاولهم الاغتيال. رجل بالكاكي يدخل الإطار، يجلس على الكرسيّ،
ويخاطب الكاميرا: "أنا الرفيق الشهيد خليل أحمد رحّال". هكذا
يبدأ عرض "ثلاثة ملصقات" لإلياس خوري وربيع مروة في 2 أيلول
2000 ضمن مهرجان أيلول، بيروت. الرجل يُخبرنا أنه سيقوم وشيكاً بعملية
استشهاديّة ضدّ قوات الاحتلال الإسرائيليّ في لبنان. يكرّر الرجل
وصيَّته، مع تنويعات، ثلاث مرّات. عند هذا الحدّ، يَمضي إلياس خوري
إلى الباب خلف الشاشة ويفتحه، كاشفاً المسرحَ الذي شاهدناه على الشاشة،
وكاميرا فيديو مصوّبةً نحو الكرسيّ والملصق. نفهم عندئذ أنّ ما شاهدناه
لم يكن فيديو مسجَّلاً، بل عرض حيّ
[2]
(كأنّ الحذف الذي تعرضتْ له قدرةُ الصورة المبدئيةُ
على التكرار حين كُشف أنها عرضٌ حيّ تم تعويضُه وإبدالهُ عبر التكرار
الفعليّ للوصيّة). لو صدّقتُ الإعلان الاستهلاليّ، فكأنَّني حالَ
مشاهدتي الشخصَ نفسَه حياً شاهدتُه شبحاً، إذ في حين ننتقل على مستوى
الوسيط من صورة ضوئيّة إلى حضور فعليّ، فإنَّنا على مستوى بنية العمل
ننتقل من حضور إلى طيف. يَخْلع الممثِّل بزتَه، ويأخذ ورقة صغيرة
من محفظته ويقرأ منها: "اسمي ربيع مروة، من مواليد بيروت 1966. التحقتُ
بالحزب الشيوعيّ عام 1983، ثم شاركتُ في عمليات جبهة المقاومة الوطنيَّة
اللبنانيَّة عام 1987 في حاصبيا وبلاط وغيرِها من المواقع".
ويشير عندها إلى أنّ رحّال لم يمت في الجنوب، بل في إحدى المعارك
الداخليَّة في بيروت الغربية عام 1987، ويهدي العرضَ لذكرى شهداء
جبهة المقاومة الوطنيّة. يُقفِل البابَ مجدداً. وعندها يُعرض فيديو
جديد، وثيقةٌ غيرُ منقّحةٍ تُظهر الشيوعيّ الراحل جمال ساطي يتلو
رسالته الأخيرة قبيل تنفيذ عمليّته الاستشهاديَّة المخطَّط لها سلفاً
(جرى عرضُ نسخة منقّحة من الفيديو على شاشة تلفزيون لبنان في 6 آب
1985). يعيد ساطي وصيته ثلاث مرات مع تغييرات طفيفة في كلِّ مرة،
مبتدئاً دائماً بعبارة: "أنا الرفيق الشهيد جمال ساطي". بيروت – 16 تشرين الثاني 2000
[1]
جلال
توفيق (مولود عمران) 1962، بيروت، لبنان كاتب ومنظِّر سينمائيّ وفنان فيديو، له مؤلِّفات
عدّة: 2000
Forthcoming
1996
Over-Sensitivity
1991
Distracted
وأشرطة فيديو وتجهيزات: 1997
Radical Closure Artist with Bandaged Sense Organ
2000 "الحمراء أو إشاحة الوجه للرؤية" عضو في المؤسسَّة
العربيَّة للصورة وفي هيئة تحرير مجلة Discourse
الأميركية. شارك في تحرير عدد خاص من المجلة
بعنوان: "جيل دولوز: سند للإيمان بهذا العالم" (1998) وأشرف
على تحرير عدد خاص آخر: "أفلام شرق أوسطية قبل أن يرتد إليك طرفك"
(1999). نال شهادة الدكتوراه في الراديو/التلفزيون/السينما من
جامعة نورثوسترن في الولايات المتحدة الأميركيَّة، ودرّس في جامعة
كاليفورنيا في بركلي، وجامعة كاليفورنيا الجنوبية (usc) ومعهد
كاليفورنيا للفنون .(CalArts)وهو الآن أستاذ مشارك في قسم الفنون البصريَّة
والمسرحيَّة في كليَّة الفنون الجميلة والفنون التطبيقيَّة في
جامعة الروح القدس - الكسليك.
[2]
هذه
اللحظة تذكّر بمشهد من "الحياة حلم" لراوول رويز (1986)، حين يخال
الرجلُ الجالسُ في صالة السينما أنّ الصرخات التي يسمعها ليست
صادرة من الفيلم المعروض بل من مكان آخر. وليتأكَّد من ظنّه يسير
إلى الباب الموجود في جانب الشاشة ويفتحه. يكتشف عندئذ أنَّ هناك
بالفعل شخصاً يتعرَّض للتعذيب في غرفة تقع خلف الشاشة. متابعاً
سيرج داني، يعرِّف جيل دولوز الحقبة الثالثة في الفنّ، أيِ الحقبة
المعاصرة، بأنَّها حقبة نهْجيّة (mannerist)، لا يكون فيها ما وراء الصورة إلاَّ صورةً أخرى. في مثل هذه الحقبة
التاريخيَّة والجماليَّة، لا يستطيع الواقعُ الدخولَ إلاَّ خلسةً،
وتحديداً من الباب الخلفيّ - كعمقٍ خلف الشاشة.
[3]
-
العمليات الاستشهاديَّة - وثائق وصور، المقاومة الوطنيَّة اللبنانيَّة
1982 - 1985. إصدار المركز العربيّ للمعلومات، 1985.
[4]
المصدر
نفسه، ص 321. أعتبر أنَّ سناء محيدلي، التي قدّمتْ ضرباً جديداً
من الفيديو، هو الوصايا المسجّلة لمن هم على وشك الاستشهاد، ونوعاً
جديداً من القول: "أنا الشهيد (ة) (اسم المتحدِّث)"، هي أول فناني
الفيديو اللبنانيِّين. "عملتْ سناء قبل استشهادها بفترة في محلّ
معدٍّ لبيع أشرطة الفيديو في منطقة المصيطبة، غربيّ بيروت، وخلال
عملها هناك قامت بتسجيل 63 شريطاً على الفيديو للشهيد وجدي الصايغ
الذي نفذ عمليته ضد قوات العدو في منطقة قريبة من الموقع الذي
نفذتْ فيه سناء عمليتها الاستشهادية، وفي المحلّ أيضاً قامت بتسجيل
وصيتها عبر كاميرا للفيديو من نوع V.H.S.". (المصدر نفسه، ص 122).
[11]
على
مَنْ يملك القدرة على الوصول إلى مراجع في مكتبات مهمّة، غيرِ
تلك المتواضعة الموجودة في لبنان، أن يقارِنَ بين هذه التعابير
وتلك التي كان يستخدمها الكاميكاز اليابانيُّون.
[12]
من
الصحيح، بطريقةٍ ما، أنّ أولئك الذين هم كسناء محيدلي على قدرٍ
كافٍ من الشهرة للحفاظ (على الأقلّ بالنسبة إلى الأحياء) على هوية
مخصوصة ليسوا فعلياً بالأموات لأنَّ الميت لا يعود يمتلك من ثم
هويةً متميِّزة.
[13]
بحسب
المسرحيّ اللبنانيّ روجيه عساف، فإنَّ المسرح، بخلاف التقنية،
يستطيع وعليه أن يقدِّم "شخصاً حياً في مواجهة أشخاص أحياء آخرين".
ولكنْ من حيث إنَّ التقنية تتجّه إلى تزويد الإنسان بحياة غير
محدَّدة المدّة، فإنَّ الحياة ليست ما ينبغي التشديدُ عليه في
مواجهة التقنية، بل أنَّنا موّاتون. فالمرء يستطيع أن يقاوم التقنية،
لبرهةٍ على الأقلّ, لا بوصفه حياً، بل بوصفه موّاتاً.
[14]
العمليات
الاستشهاديَّة... ص 191.
[15]
أكان
أحد ليتساءل "هل أنا ميت؟" إن لم يَكُنْ البشرُ أمواتاً إلى حدٍّ
ما قبل توقُّفهم العضويّ عن الحياة؟ إذا كان الانطباع الأول للمرء
في الموت هو عن ألفةٍ مقلقة، فلأنَّنا نموت أبداً، لأنَّ المرء
كان هناك.
[16]
عبارة:
"هل أنا ميت؟" هي أكثر حزماً ويقينيَّة من عبارة:
"لا بدّ أنَّني ميت".
[17]
من
رسالة فردريك نيتشه إلى جاكوب بركهارت، 5 كانون الثاني 1889، في:
رسائل فريدريك نيتشه المختارة، ترجمة كريستوفر ميدلتون
(شيكاغو: منشورات جامعة شيكاغو، 1969)، ص 743.
[18]
إنَّه
المنظِّر للقيم الأرستقراطية، ذاك الذي كتب ضدّ اختلاط الأعراق،
مَنْ في موته السابق لموته أَعْلن أنَّ: "كلّ اسم في التاريخ هو
أنا". مهما تكن قوانين الهجرة في بلد المرء، فإنَّ المرء، بوصفه
موّاتاً، مسكون بالآخر (الآخرين). لذا فإنَّ معاداة الآخر لا تتبدّى
في القوانين التي مصدرها رُهاب الأجانب فحسب، بل أيضاً في محاولة
اختزال البشر إلى كائنات حية بدلاً من موَّاتين. وفي الوقت الذي
يتنبه فيه الكثيرون إلى مناهضة القوانين المتزايدة التي مبعثُها
الرهابُ من الآخر، والهادفةِ إلى إغلاقٍ أشدَّ حزماً لـ "أوروبا
القلعة" في مواجهة الهجرة، فليس ثمّة انتباه كافٍ تحظى به الأبحاثُ
المقامة لجعل البشر كائناتٍ خالدة.
[19]
سيغموند
فرويد، الطبعة المعياريَّة للأعمال الكاملة، نُشرتْ بإشراف
جيمس ستراتشي بالتعاون مع آن فرويد ومساعدة ألكس ستراتشي وآلن
تايسون، المجلد السابع عشر (1917 - 1919) ص 242. لندن، منشورات
هوغارث ومعهد التحليل النفسيّ، 1953 - 1974.
[20]
سيغموند
فرويد: المصدر السابق، المجلد الرابع عشر (1914 - 1916)، ص 289.
أنظر أيضاً ليو تولستوي: القوزاق، موت إيفان إيليتش والعيش
في سبات ونبات. نيويورك، منشورات پنغوان، 1960، ص 137.
[21]
مارتن
هايديغر: الكون والزمان. نيويورك، منشورات هارپر ورو، 1962،
ص 297. إحدى لوحات ماغريت، "استنساخ محرّم" (1937)، تُظْهر
رجلاً يواجه مرآة نرى فيها صورة مشابهة له، ولكن حيث ظهرُه مواجِهٌ
له ولنا. قد نرى الاستنساخ المذكور والمحرَّم في العنوان على أنَّه
منسوب إلى الهيئة، بما أنَّ الموّات، وهو عرضةً لانعكاس(over-turn) ,
لا يمكن تمثيله، أو استنساخه من قبل غيره.
[22]
أنظر
الفصلية الأميركيَّة ديسكورس المجلد 20، عدد 3، خريف 1998،
ص 165 - 169. وفي حين أنَّ الفتى والشيخ على حدّ سواء لامَيِّتان
حتى في حياتهما، فإنّ الشيخ يشعر بمثل هذا الربط في صورة أشدّ
حدةً؛ وهذا يظهر في وحدته المتزايدة. هذه الأخيرة ليست فقط وحدةَ
مَنْ خسر، لصالح الموت، العديدَ من أصدقائه العتاق (في هذه المرحلة
من العمر تعني صفةُ الأصدقاء العتاق العتاقَ في العمر، لا في زمن
المعرفة فقط) وخسر سهولةً (هذا إذا كان يمتلكها أصلاً) في التقاء
الناس ونَسْجِ الصداقات، بل هي في شكل أعمّ وحدةُ مَنْ يتحسَّس
في صورة متصاعدة التوحُّدَ الجذريَّ في الدنيا المتاهية للأموات.
لما كان صانعو الأفلام العجائز يشعرون بالابتعاد عن العالم بفعل
دنوّ الموت، فإنَّ أفلامُهم تُظهر لامبالاةً متزايدة تجاه الجمهور،
وهو جزء من العالم، وإقلالاً من مؤثِّراتِ وفرصِ التماهي.
[23]
عدم
التطابق يأخذ أيضاً شكل عدم اندماج الجسد مع نفسه في حالات "الانفصال
عن الجسد" و/أو شكل عدم اندماج الصوت مع الجسد (مثلاً صوت رجل
لجسد امرأة). وقد قدّمت السينما أمثلة مربكة في المجال الثاني
("المعزِّم" لفريدكن و"راشامون").
[24]
فيما
الأسماء قابلة للاستبدال في الموت، فإنَّ هذا ليس بالضرورة حال
الألقاب. من هذا القبيل، لافتٌ أنَّ شهادة سناء محيدلي تنتهي بـ
"وصيّتي هي تسميتي 'عروسَ الجنوب'". في مثل هذه الحالة، في الموت،
أنا، جلال توفيق، قد أُعلن "أنا الشهيدة سناء محيدلي" ولكنْ لا
أستطيع القول: "أنا عروس الجنوب". وإنْ كانت الألقاب أيضاً قابلة
للاستبدال في حال الموت، فيكون عندها موت مسيح الناصرة لأجلنا
مضاعفاً من خلال ألقابه المتعدِّدة: ابن الإنسان، ابن الله...
[25]
في
عمل طوني شكر وربيع مروة "أدخلْ يا سيدي، إنَّنا ننتظرك في الخارج"
(1999) تخضع لقطة "مؤثِّرة" لامرأة تبكي وتمسح دموعها "للتفكيك":
يقال لنا إنَّ الشحنة العاطفيَّة القوية التي تتسبَّب بها هذه
اللّقطة تطلبتْ اختيار المرأة الملائمة، فتغييرَ وتيرة مسح الدموع
الى السرعة البطيئة، فإزالةَ الأصوات الطبيعيَّة، فإضافةَ موسيقى،
ثم، اختياراً، قصيدة. وفي حلقة من البرنامج التلفزيونيّ "صورة"
(إخراج ميرنا شبارو) يَنْسب مروة لنفسه كمصور صوراً التقطها آخرون.
في مستوى معيَّن يتابع مروة في "ثلاثة ملصقات" هاتين الاستراتيجيتين:
"تفكيك" الوصايا البطوليَّة بكشفِ ما كان على وجه الاحتمال
مكتوماً فيها - في صورة غير معتادة، يقول لنا رحّال في صراحة إنَّ
والده وافق على انضمامه إلى الحزب الشيوعيّ بل وشجّعه على ذلك
لأنَّه ظنّه السبيل الوحيد لنيل منحة دراسيّة إلى الاتّحاد السوفيتي
السابق... إلخ؛ ونسب أحداثاً مختلقة إلى نفسه: تعرُّضه في حاصبيا
مع عدد من أعضاء الخلية الشيوعيَّة إلى كمين نصبه مقاتلون من ميليشيا
"أمل"...
[26]
المعلومة
الخاطئة التي يَنْسبها مروة إلى نفسه في "ثلاثة ملصقات" (أنظر
الهامش السابق)، وإعطاؤه الشخصيات في "المقسم 19" أسماء الممثلين
الحقيقيَّة، هما أكثر مخاطرة من القول: "أنا الرفيق خليل أحمد
رحّال"، لكنَّهما يظلاّن أقلّ مخاطرة من قوله "أنا الرفيق الشهيد
خليل أحمد رحّال".
[27]
"بيكاسو يتكلَّم"، مجلة الفنون، 1923. |