"الى ذكرى "كل أحد ولا أحد

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


جلال توفيق 2000
حجم أكبر

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أنا الشهيدة سناء يوسف محيدلي
جلال توفيق
[1]

ترجمها عن الانكليزيّة: فادي العبدالله

       شاشة تلفزيون على رفٍّ عالٍ تُظْهر كرسياً وخلفه ملصق لصور أعضاء من الحزب الشيوعي اللبنانيّ طاولهم الاغتيال. رجل بالكاكي يدخل الإطار، يجلس على الكرسيّ، ويخاطب الكاميرا: "أنا الرفيق الشهيد خليل أحمد رحّال". هكذا يبدأ عرض "ثلاثة ملصقات" لإلياس خوري وربيع مروة في 2 أيلول 2000 ضمن مهرجان أيلول، بيروت. الرجل يُخبرنا أنه سيقوم وشيكاً بعملية استشهاديّة ضدّ قوات الاحتلال الإسرائيليّ في لبنان. يكرّر الرجل وصيَّته، مع تنويعات، ثلاث مرّات. عند هذا الحدّ، يَمضي إلياس خوري إلى الباب خلف الشاشة ويفتحه، كاشفاً المسرحَ الذي شاهدناه على الشاشة، وكاميرا فيديو مصوّبةً نحو الكرسيّ والملصق. نفهم عندئذ أنّ ما شاهدناه لم يكن فيديو مسجَّلاً، بل عرض حيّ [2] (كأنّ الحذف الذي تعرضتْ له قدرةُ الصورة المبدئيةُ على التكرار حين كُشف أنها عرضٌ حيّ تم تعويضُه وإبدالهُ عبر التكرار الفعليّ للوصيّة). لو صدّقتُ الإعلان الاستهلاليّ، فكأنَّني حالَ مشاهدتي الشخصَ نفسَه حياً شاهدتُه شبحاً، إذ في حين ننتقل على مستوى الوسيط من صورة ضوئيّة إلى حضور فعليّ، فإنَّنا على مستوى بنية العمل ننتقل من حضور إلى طيف. يَخْلع الممثِّل بزتَه، ويأخذ ورقة صغيرة من محفظته ويقرأ منها: "اسمي ربيع مروة، من مواليد بيروت 1966. التحقتُ بالحزب الشيوعيّ عام 1983، ثم شاركتُ في عمليات جبهة المقاومة الوطنيَّة اللبنانيَّة عام 1987 في حاصبيا وبلاط وغيرِها من المواقع". ويشير عندها إلى أنّ رحّال لم يمت في الجنوب، بل في إحدى المعارك الداخليَّة في بيروت الغربية عام 1987، ويهدي العرضَ لذكرى شهداء جبهة المقاومة الوطنيّة. يُقفِل البابَ مجدداً. وعندها يُعرض فيديو جديد، وثيقةٌ غيرُ منقّحةٍ تُظهر الشيوعيّ الراحل جمال ساطي يتلو رسالته الأخيرة قبيل تنفيذ عمليّته الاستشهاديَّة المخطَّط لها سلفاً (جرى عرضُ نسخة منقّحة من الفيديو على شاشة تلفزيون لبنان في 6 آب 1985). يعيد ساطي وصيته ثلاث مرات مع تغييرات طفيفة في كلِّ مرة، مبتدئاً دائماً بعبارة: "أنا الرفيق الشهيد جمال ساطي".
       يبدو أنّ سناء محيدلي كانت أول مَنِ استخدم هذا التعبير [3] . فشريط وصيّتها الذي سجلتْه بنفسها، والذي بثّه تلفزيون لبنان في 9/4/1985، يبتدئ بتعبير "أنا الشهيدة سناء يوسف محيدلي" [4] . في صباح اليوم نفسه، في الساعة الحادية عشرة صباحاً، فجرتْ سناء محيدلي ابنة السابعة عشرة سيارةً مفخّخة كانت تقودها بدوريّة عسكريَّة إسرائيليَّة عند بوّابة باتر في جزين. نجد العبارة ذاتها في الشهادات اللاحقة المتلفزة لعدد من عناصر جبهة المقاومة الوطنيّة الذين ماتوا في عمليات استشهاديّة ضدّ القوات الإسرائيليَّة و/أو ضدّ عناصر جيش لبنان الجنوبيّ: "أنا الشهيد مالك وهبة..." [5] ، "أنا الشهيد الرفيق خالد أزرق..." [6] ، "أنا الرفيق الشهيد هشام عباس..." [7] ، "أنا الشهيد علي غازي طالب..." [8] ، "أنا الرفيق الشهيد مناع حسن قطايا..." [9] ، "أنا الرفيقة الشهيدة مريم خير الدين..." [10] . لعلّ هذه العبارة هي أحد أهم ابتكارات الحرب اللبنانيَّة [11] . وهي عبارة لا يمكن أن تَصْدر إلاَّ عن شخص ليس غافلاً عن كونه في حال الموت حتى في حياته فحسب، بل يريد أيضاً أن يمدِّد حياته إلى ما بعد موته الجسديّ. وهكذا، فإنّ وصية بلال فحص، الذي فجّر نفسَه في سيارة مفخّخة في دوريّة إسرائيليَّة في منطقة الزهراني - صيدا في 16/6/1984، تبدأ بالآية القرآنية التالية: "ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيلِ اللَّهِ أمواتاً بل أحياءٌ عند ربِّهم يُرزَقون" (سورة آل عمران: 169). وعلى النحو نفسه تقول سناء محيدلي في وصيَّتها: "أنا لم أمت بل حيةٌ بينكم..." [12] . وعلى الرُّغم مما يزيد عن مائة ألف شخص قُتلوا في أعوام الحرب مع إسرائيل والحرب الأهليّة، يبدو أنّ اللبنانيِّين لم يتعلّموا أن يموتوا. لذا فإنَّ إحدى أبرز مهام الفن والكتابة في لبنان في المستقبل المنظور هي تعليم هذا الشعب، المشهورِ عنه "حبُ الحياةِ"، الموتَ [13] ، أيْ تعليمه أنه أبداً يموت.
"       عندما تشاهدون هذا الشريط أكون، أنا الرفيق جمال ساطي، قد متّ" عبارة جائزة التصديق، لا "أنا الرفيق الشهيد جمال ساطي". قد يكون بمقدوري عادةً عند التصوير أن أفترض ما ستكونه حالتي المستقبليَّة بتوقيت البثّ أو العرض، ولكنْ ليس في حالة الموت. لا أستطيع أن أصدِّق جمال ساطي على التلفزيون يقول لي "أنا الرفيق الشهيد جمال ساطي" [14] ، حتى وإنْ قيل لي إنَّه قد مات في عمليّة استشهاديَّة بحلول الوقت الذي أشاهده فيه على الشاشة (ولد جمال ساطي عام 1962، اقتحم نقطة التفتيش التابعة لجيش لبنان الجنوبيّ في نادي زغلة في حاصبيا وفجّر نفسه بواسطة مواد متفجِّرة محمولة على ظهر حمار في 6/8/1985). وفي حين أنني أستطيع أن أجزم بشكل قاطع أنَّني سأموت، فإنَّني لا أستطيع أن أستنتج من ذلك أنَّني في لحظةٍ ما من المستقبل أقدر على القول "إنَّني ميت" حتى وإنْ لم يكن الموت زوالاً نهائياً. يُطلب عادةً إلى حبيبة الميت وعائلته وأقاربه و/أو زملائه الحضورُ إلى المشرحة حيث تُودع الجثة الغُفْل ليتعرفوها؛ لكنّ على الميت أيضاً أن يتعرَّف جثته (فيلم "جادة الغروب" لبيلي وايلدر). هل أستطيع مِنْ تحصيلِ أنّ "هذه هي جثتي" الاستنتاجَ "إنني ميت"؟ لئن بدا مثلُ هذا الاستنتاج مفروغاً منه، فإنَّه لا رابط في الموت بين الاثنين: "هذه جثتي، أنا نيتشه، إذنْ برادو قد مات". الموت الذي تتداعى فيه أفكاري حرةً دائماً، غالباً في شكل ارتيابيّ، لا يَسْمح لي رغم ذلك بأن أمضي مِنْ "أنا قُتلتُ" إلى "أنا ميت". يستطيع الشبح أن يقول "أنا قُتلتُ" ولكنه لا يستطيع أن يقول "أنا ميت"، رغم أنّ القول الأوّل يتضمّن منطقياً القولَ الذي يليه. جواب السؤال "هل أنا ميت؟" [15] ، الذي أهجس به فيما أواصل معاناة أحداث مفارقة للعالم، وكذلك الاستنتاج المتأتِّي من عبارة "أنا قُتلتُ"، يستحيل أن يكون "أنا ميت" - إِلاَّ إذا فُوّض إلى اسم آخر - بل يمكن أن يكون "لا بدّ أنَّني ميت" [16] . في فيلم "دراكولا لبرام ستوكر" لكوپولا، لا يقول مصّاصُ الدماء لحبيبته مينا "أنا ميت" بل "أنا ميت للعالم أجمع". باستثناء قصة "وقائع قضية السيد فالديمار" لإدغار ألن پو، لم أقع على عبارة "أنا ميت" في كل ما قرأتُه. سأل الطبيب السيد فالديمار المحتضر إنْ كان لا يزال نائماً، وكان قد نوّمه مغناطيسياً قبل ذلك. فردّ بعد برهة: "نعم - لا - كنتُ نائماً - أما الآن - الآن - أنا ميت". في اليوم التالي، ساءت حالة المحتضر فطلب من الطبيب: "حباً باللَّه! - بسرعة! - بسرعة! نوّمني- أو، بسرعة! - أيقظني! - بسرعة - أقول لك إنَّني ميت!". كيف لنا أن نفسِّر هذه العبارة في قصة پو؟ في حال التنويم، أصير أنا وسيط ذاتي. لا أستطيع أن أدّعي موتي مباشرةً، ذلك أنّ موتي إما أن يُنطَقُ على لسانِ وسيطٍ كما في فيلم "راشومون" لكوراساوا - لو تكلّم نيتشه عبر وسيط لكان في وسعه أن يقول "أنا، نيتشه، ميت" - أو عبر آخرين كما كتب نيتشه في موته السابق لموته: "أنا پرادو، أنا أيضاً والد پرادو. أجرؤ على القول إنَّني أيضاً ليسپس... أنا أيضاً شامپيدج... كلّ اسم في التاريخ هو أنا" [17] ، وضمناً: "أنا، پرادو، ميت"، "أنا، والد پرادو، ميت". الميت ليس أحداً، كما تُظهر لنا لعبةُ المرايا في أفلام مصّاصي الدماء: مصّاص الدماء لا يَظْهر في المرآة لأنَّه ميت؛ فضلاً عن ذلك، فإنّ الميت ليس اسماً واحداً بل هو كل أسماء التاريخ، أيْ انَّه، تعميماً، الناسُ كافةً. وإذ يُعطي نيتشه هكذا تكلَّم زرادشت العنوانَ الفرعيَّ التالي: "كتابٌ لكلّ أحدٍ ولا أحد"، فإنَّه يوجّه كتابه إلى الأموات وإلى ذاته عند بداية ذُهانه اللاحق وموتِه السابق لموته إذ يَصْرخ: "كل اسم في التاريخ هو أنا" [18] . الذي مات حقاً قبل موته ليس جمال ساطي قائلاً "أنا الشهيد الرفيق جمال ساطي"، في وصية مسجلّة قبل مضيّه في عمليّة استشهاديَّة ناجحة، بل نيتشه مسطّراً في رسالة: "كل اسم في التاريخ هو أنا".
       ليس للميت ماضٍ، إذ إنَّ ماضيه يتعرّض للتزوير (فيلم "حيلة العنكبوت" لبرتولوتشي): الميت لا يستطيع أن يدعي العملية الاستشهاديَّة نفسَها التي أدّت إلى موته. كما أنَّه ليس للميت مستقبل نظراً إلى كون خطه الزمنيّ قد توقف: كلمات هاركر لمينا قبل مغادرته ترانسلفانيا في فيلم "نوسفراتو" لمورناو "لن يحدث لي شيء"، والتي قَصَدَ منها الطمأنة، مقلقةٌ في الواقع لأنَّها تشير إلى انه سيكون ميتاً هناك. وليس للميت حاضر يستطيع أن يقول فيه: "أنا ميت".
       يكتب فرويد: "عِلْم الأحياء لم يستطع أن يَحْسم بعدُ ما إذا كان الموتُ هو المصيرَ المحتومَ لكل كائن حيّ، أم أنَّه حدث معتاد ولكنْ يُمْكن تفاديه في الحياة. صحيح أنّ مقولة ' كل البشر فانون
' موجودة في كلّ نصوص المنطق كمثال على حقيقة عامة، ولكنْ لا نفس تستوعبها حقاً. كما أنّ لاوعينا لا يقيم الآن، كما كان دائماً، كبيرَ وزنٍ لفكرة فنائه الخاصّ" [19] ؛ "تيار التحليل النفسيّ جرؤ على الزعم أنْ لا أحد في قرارة نفسه يؤمن بموته، أيْ بتعبير آخر كلٌّ منا مؤمن بخلوده" [20] . قد يصحّ أنّ الآخرين هم وحدهم الذين يموتون، لا أنا، ولكنّ سَبَبَ هذا هو جزئياً أنَّني في الموت أدّعي كلَّ الأسماء (الأخرى) في التاريخ: "أنا پرادو، أنا أيضاً والد پرادو. أجرؤ على القول إنَّني أيضاً ليسپس... أنا أيضاً شامبيدج... كل اسم في التاريخ هو أنا". كل الأسماء في التاريخ، وتعميماً، كلُّ البشر في التاريخ، ماتوا باستثنائي. يتجسَّد هذا في غياب الآخرين المختَبَرِ غالباً في الموت: المدن المهجورة حيث يجوس المُسَرْنِم في فيلم برغمان "توت بريّ" وفي فيلم بونويل "سحر البرجوازيّة الخفيّ". ومع أنّ الموت "... هو أساساً خاصتي من حيث إنَّ أحداً لا يستطيع أن ينوب عني فيه" (مارتن هايديغر) [21] ، فإنَّني في الموت كلُّ الأسماء في التاريخ، أنا پرادو، والد پرادو، تولستوي، مارتن هايديغر... الخ. "نحن أبداً نموت" و"نحن نموت لذا نحن دوماً لاأموات (already undead)" هما قولان يُمكن تصديقُهما. كلاهما ظهَرَ في كتاباتي السابقة: "نحن أبداً نموت حتى في حياتنا" في فصل "الوصول متأخِّراً للبعث" من الطبعة الثانية التي تَصْدر قريباً من كتابي (Vampires)؛ "نحن نموت، لذا نحن دوماً لا أموات حتى في حياتنا" كما ورد في مقالة لي بعنوان: "إذا وَخَزْتنا أفلا ننزف؟ كلا" [22] . لا أحد يستطيع أن يصوغ، في شكلٍ يمكن تصديقه، هذين الإعلانين: "أنا ميت حتى وإنْ كنتُ حياً" إلاَّ إذا أخذ في الاعتبار أنني في الموت لا أتطابق مع ذاتي وأنّ الأَنَوَيْن في الجملة - تبعاً لذلك - لا تحيلان على الاسم نفسه [23] . هكذا في حالة نيتشه يتكشَّف الإعلان عن القول: "أنا، پرادو، والد پرادو، ليسپس، شامبيدج، ميت الآن حتى وإنْ كنتُ أنا، نيتشه، أحيا". مات المسيح لأجل نيتشه، مؤلِّف كتاب المسيح الدجّال (The Anti-Christ)، إذ إنَّ نيتشه في موته السابق لموته ذيّل إحدى رسائله بتوقيع "المصلوب". مات المسيح من أجل الشيعيّ عبد العلي مهنا، المصاب بالفصام، والذي كان في عملي Credits Included: A Video in Red and Green يَجْزم تكراراً: "أنا رسول النبيّ محمد، وأنا يسوع المسيح". يسوع المسيح يموت لأجلنا، ذلك أنَّ كلاً منا في موته هو كل الأسماء في التاريخ، ومِنْ ضِمنهم يسوع المسيح [24] . يبدو مرجّحاً أنّ حظر الديانة اليهوديَّة التلفظَ بالاسم الخفيّ للإله هو إجراء وقائيّ من ادعائنا هذا الاسمَ في الموت، وتالياً من موت الإله.
       لما كان ثمة زيفٌ ما في عبارة "أنا الرفيق الشهيد (اسم المتحدّث)" فمن الملائم أن يؤدِّي ربيع مروة ما يبدو النسخة المتخيِّلة لها: "أنا الرفيق الشهيد خليل أحمد رحّال" [25] . والمفارقة أنَّ عبارة جمال ساطي زائفة، حتى وإنْ كان جمال ساطي قد مات فعلاً عند بث الفيديو على الهواء؛ أما العبارة الثانية فلا: عن غير قصد أخبرنا مروة شيئاً عن موته - ارتجف لفكرة أنَّ هذا الخطاب قد شارك في إعداده أو حتى تعديله زميلُه الكاتب الياس خوري، نظراً الى أنَّ خوري يكون قد شارك في كتابة الماضي المزور للاميِّت ربيع مروة. الفن والكتابة شأنان شديدا الخطورة. ربيع مروة الميت هو كل الأسماء في التاريخ بما في ذلك "خليل أحمد رحّال" (كان في وسع ربيع مروة أيضاً أن يقول "أنا الرفيق الشهيد جمال ساطي"، وجمال ساطي يمكنه أن يقول: "أنا الشهيد ربيع مروة"). لذا، عندما يقول ربيع مروة "أنا الرفيق الشهيد خليل أحمد رحّال" فلا مبرِّر، لمن يعرفه، في الاستنتاج أنَّه يرى شيئاً مختلقاً - إلاَّ في حال كون ربيع مروة ينتحل شخصية رجل على قيد الحياة. إنّ عبارة "أنا الرفيق خليل أحمد رحّال" هي بكلّ تأكيد أقلّ مخاطرة للممثل من "أنا الرفيق الشهيد خليل أحمد رحّال" لأنَّ الثانية تكشف لنا شيئاً عن الممثل في الدنيا المزيّفة للمتوفَّى [26] . إجمالاً لا ينبغي لنا أن نصدِّق الأموات (فيلم "راشومون" لكوروساوا)، على أنَّ المعلومة الخاطئة تاريخياً التي يقدِّمها ربيع مروة عن نفسه في "ثلاثة ملصقات" قابلة للتصديق، إذ إنَّنا هنا أمام مثال تطبيقيّ لمقولة پيكاسو عن الفن: "الفن كذبة تجعلنا نعي الحقيقة، على الأقلّ الحقيقة التي أعطيَ لنا أن نفهمها. على الفنان أن يدرِك الطريقة التي بها يَقْدر أن يُقْنع الآخرين بصدقية أكاذيبه" [27] .

بيروت – 16 تشرين الثاني 2000



[1]  جلال توفيق (مولود عمران) 1962، بيروت، لبنان

كاتب ومنظِّر سينمائيّ وفنان فيديو، له مؤلِّفات عدّة:

2000      Forthcoming (read review in VILLAGE VOICE LITERARY SUPPLEMENT)
1996      Over-Sensitivity
1991      Distracted
              (click; to buy the 4 books from amazon.com)

وأشرطة فيديو وتجهيزات:

1997      Radical Closure Artist with Bandaged Sense Organ
2000      "الحمراء أو إشاحة الوجه للرؤية"


عضو في المؤسسَّة العربيَّة للصورة وفي هيئة تحرير مجلة Discourse الأميركية. شارك في تحرير عدد خاص من المجلة بعنوان: "جيل دولوز: سند للإيمان بهذا العالم" (1998) وأشرف على تحرير عدد خاص آخر: "أفلام شرق أوسطية قبل أن يرتد إليك طرفك" (1999). نال شهادة الدكتوراه في الراديو/التلفزيون/السينما من جامعة نورثوسترن في الولايات المتحدة الأميركيَّة، ودرّس في جامعة كاليفورنيا في بركلي، وجامعة كاليفورنيا الجنوبية (usc) ومعهد كاليفورنيا للفنون .(CalArts)وهو الآن أستاذ مشارك في قسم الفنون البصريَّة والمسرحيَّة في كليَّة الفنون الجميلة والفنون التطبيقيَّة في جامعة الروح القدس - الكسليك.

[2]  هذه اللحظة تذكّر بمشهد من "الحياة حلم" لراوول رويز (1986)، حين يخال الرجلُ الجالسُ في صالة السينما أنّ الصرخات التي يسمعها ليست صادرة من الفيلم المعروض بل من مكان آخر. وليتأكَّد من ظنّه يسير إلى الباب الموجود في جانب الشاشة ويفتحه. يكتشف عندئذ أنَّ هناك بالفعل شخصاً يتعرَّض للتعذيب في غرفة تقع خلف الشاشة. متابعاً سيرج داني، يعرِّف جيل دولوز الحقبة الثالثة في الفنّ، أيِ الحقبة المعاصرة، بأنَّها حقبة نهْجيّة (mannerist)، لا يكون فيها ما وراء الصورة إلاَّ صورةً أخرى. في مثل هذه الحقبة التاريخيَّة والجماليَّة، لا يستطيع الواقعُ الدخولَ إلاَّ خلسةً، وتحديداً من الباب الخلفيّ - كعمقٍ خلف الشاشة.

[3]  - العمليات الاستشهاديَّة - وثائق وصور، المقاومة الوطنيَّة اللبنانيَّة 1982 - 1985. إصدار المركز العربيّ للمعلومات، 1985.

[4]  المصدر نفسه، ص 321. أعتبر أنَّ سناء محيدلي، التي قدّمتْ ضرباً جديداً من الفيديو، هو الوصايا المسجّلة لمن هم على وشك الاستشهاد، ونوعاً جديداً من القول: "أنا الشهيد (ة) (اسم المتحدِّث)"، هي أول فناني الفيديو اللبنانيِّين. "عملتْ سناء قبل استشهادها بفترة في محلّ معدٍّ لبيع أشرطة الفيديو في منطقة المصيطبة، غربيّ بيروت، وخلال عملها هناك قامت بتسجيل 63 شريطاً على الفيديو للشهيد وجدي الصايغ الذي نفذ عمليته ضد قوات العدو في منطقة قريبة من الموقع الذي نفذتْ فيه سناء عمليتها الاستشهادية، وفي المحلّ أيضاً قامت بتسجيل وصيتها عبر كاميرا للفيديو من نوع V.H.S.". (المصدر نفسه، ص 122).

[10] [9] [8] [7][6] [5] - المصدر نفسه، ص 144، 168، 176، 180، 206، 214.

[11] على مَنْ يملك القدرة على الوصول إلى مراجع في مكتبات مهمّة، غيرِ تلك المتواضعة الموجودة في لبنان، أن يقارِنَ بين هذه التعابير وتلك التي كان يستخدمها الكاميكاز اليابانيُّون.

[12]  من الصحيح، بطريقةٍ ما، أنّ أولئك الذين هم كسناء محيدلي على قدرٍ كافٍ من الشهرة للحفاظ (على الأقلّ بالنسبة إلى الأحياء) على هوية مخصوصة ليسوا فعلياً بالأموات لأنَّ الميت لا يعود يمتلك من ثم هويةً متميِّزة.

[13]  بحسب المسرحيّ اللبنانيّ روجيه عساف، فإنَّ المسرح، بخلاف التقنية، يستطيع وعليه أن يقدِّم "شخصاً حياً في مواجهة أشخاص أحياء آخرين". ولكنْ من حيث إنَّ التقنية تتجّه إلى تزويد الإنسان بحياة غير محدَّدة المدّة، فإنَّ الحياة ليست ما ينبغي التشديدُ عليه في مواجهة التقنية، بل أنَّنا موّاتون. فالمرء يستطيع أن يقاوم التقنية، لبرهةٍ على الأقلّ, لا بوصفه حياً، بل بوصفه موّاتاً.

[14]  العمليات الاستشهاديَّة... ص 191.

[15]  أكان أحد ليتساءل "هل أنا ميت؟" إن لم يَكُنْ البشرُ أمواتاً إلى حدٍّ ما قبل توقُّفهم العضويّ عن الحياة؟ إذا كان الانطباع الأول للمرء في الموت هو عن ألفةٍ مقلقة، فلأنَّنا نموت أبداً، لأنَّ المرء كان هناك.

[16]  عبارة: "هل أنا ميت؟" هي أكثر حزماً ويقينيَّة من عبارة: "لا بدّ أنَّني ميت".

[17]   من رسالة فردريك نيتشه إلى جاكوب بركهارت، 5 كانون الثاني 1889، في: رسائل فريدريك نيتشه المختارة، ترجمة كريستوفر ميدلتون (شيكاغو: منشورات جامعة شيكاغو، 1969)، ص 743.

[18]  إنَّه المنظِّر للقيم الأرستقراطية، ذاك الذي كتب ضدّ اختلاط الأعراق، مَنْ في موته السابق لموته أَعْلن أنَّ: "كلّ اسم في التاريخ هو أنا". مهما تكن قوانين الهجرة في بلد المرء، فإنَّ المرء، بوصفه موّاتاً، مسكون بالآخر (الآخرين). لذا فإنَّ معاداة الآخر لا تتبدّى في القوانين التي مصدرها رُهاب الأجانب فحسب، بل أيضاً في محاولة اختزال البشر إلى كائنات حية بدلاً من موَّاتين. وفي الوقت الذي يتنبه فيه الكثيرون إلى مناهضة القوانين المتزايدة التي مبعثُها الرهابُ من الآخر، والهادفةِ إلى إغلاقٍ أشدَّ حزماً لـ "أوروبا القلعة" في مواجهة الهجرة، فليس ثمّة انتباه كافٍ تحظى به الأبحاثُ المقامة لجعل البشر كائناتٍ خالدة.

[19]  سيغموند فرويد، الطبعة المعياريَّة للأعمال الكاملة، نُشرتْ بإشراف جيمس ستراتشي بالتعاون مع آن فرويد ومساعدة ألكس ستراتشي وآلن تايسون، المجلد السابع عشر (1917 - 1919) ص 242. لندن، منشورات هوغارث ومعهد التحليل النفسيّ، 1953 - 1974.

[20]  سيغموند فرويد: المصدر السابق، المجلد الرابع عشر (1914 - 1916)، ص 289. أنظر أيضاً ليو تولستوي: القوزاق، موت إيفان إيليتش والعيش في سبات ونبات. نيويورك، منشورات پنغوان، 1960، ص 137.

[21]  مارتن هايديغر: الكون والزمان. نيويورك، منشورات هارپر ورو، 1962، ص 297. إحدى لوحات ماغريت، "استنساخ محرّم" (1937)، تُظْهر رجلاً يواجه مرآة نرى فيها صورة مشابهة له، ولكن حيث ظهرُه مواجِهٌ له ولنا. قد نرى الاستنساخ المذكور والمحرَّم في العنوان على أنَّه منسوب إلى الهيئة، بما أنَّ الموّات، وهو عرضةً لانعكاس(over-turn) , لا يمكن تمثيله، أو استنساخه من قبل غيره.

[22]  أنظر الفصلية الأميركيَّة ديسكورس المجلد 20، عدد 3، خريف 1998، ص 165 - 169. وفي حين أنَّ الفتى والشيخ على حدّ سواء لامَيِّتان حتى في حياتهما، فإنّ الشيخ يشعر بمثل هذا الربط في صورة أشدّ حدةً؛ وهذا يظهر في وحدته المتزايدة. هذه الأخيرة ليست فقط وحدةَ مَنْ خسر، لصالح الموت، العديدَ من أصدقائه العتاق (في هذه المرحلة من العمر تعني صفةُ الأصدقاء العتاق العتاقَ في العمر، لا في زمن المعرفة فقط) وخسر سهولةً (هذا إذا كان يمتلكها أصلاً) في التقاء الناس ونَسْجِ الصداقات، بل هي في شكل أعمّ وحدةُ مَنْ يتحسَّس في صورة متصاعدة التوحُّدَ الجذريَّ في الدنيا المتاهية للأموات. لما كان صانعو الأفلام العجائز يشعرون بالابتعاد عن العالم بفعل دنوّ الموت، فإنَّ أفلامُهم تُظهر لامبالاةً متزايدة تجاه الجمهور، وهو جزء من العالم، وإقلالاً من مؤثِّراتِ وفرصِ التماهي.

[23]  عدم التطابق يأخذ أيضاً شكل عدم اندماج الجسد مع نفسه في حالات "الانفصال عن الجسد" و/أو شكل عدم اندماج الصوت مع الجسد (مثلاً صوت رجل لجسد امرأة). وقد قدّمت السينما أمثلة مربكة في المجال الثاني ("المعزِّم" لفريدكن و"راشامون").

[24]  فيما الأسماء قابلة للاستبدال في الموت، فإنَّ هذا ليس بالضرورة حال الألقاب. من هذا القبيل، لافتٌ أنَّ شهادة سناء محيدلي تنتهي بـ "وصيّتي هي تسميتي 'عروسَ الجنوب'". في مثل هذه الحالة، في الموت، أنا، جلال توفيق، قد أُعلن "أنا الشهيدة سناء محيدلي" ولكنْ لا أستطيع القول: "أنا عروس الجنوب". وإنْ كانت الألقاب أيضاً قابلة للاستبدال في حال الموت، فيكون عندها موت مسيح الناصرة لأجلنا مضاعفاً من خلال ألقابه المتعدِّدة: ابن الإنسان، ابن الله...

[25]  في عمل طوني شكر وربيع مروة "أدخلْ يا سيدي، إنَّنا ننتظرك في الخارج" (1999) تخضع لقطة "مؤثِّرة" لامرأة تبكي وتمسح دموعها "للتفكيك": يقال لنا إنَّ الشحنة العاطفيَّة القوية التي تتسبَّب بها هذه اللّقطة تطلبتْ اختيار المرأة الملائمة، فتغييرَ وتيرة مسح الدموع الى السرعة البطيئة، فإزالةَ الأصوات الطبيعيَّة، فإضافةَ موسيقى، ثم، اختياراً، قصيدة. وفي حلقة من البرنامج التلفزيونيّ "صورة" (إخراج ميرنا شبارو) يَنْسب مروة لنفسه كمصور صوراً التقطها آخرون. في مستوى معيَّن يتابع مروة في "ثلاثة ملصقات" هاتين الاستراتيجيتين: "تفكيك" الوصايا البطوليَّة بكشفِ ما كان على وجه الاحتمال مكتوماً فيها - في صورة غير معتادة، يقول لنا رحّال في صراحة إنَّ والده وافق على انضمامه إلى الحزب الشيوعيّ بل وشجّعه على ذلك لأنَّه ظنّه السبيل الوحيد لنيل منحة دراسيّة إلى الاتّحاد السوفيتي السابق... إلخ؛ ونسب أحداثاً مختلقة إلى نفسه: تعرُّضه في حاصبيا مع عدد من أعضاء الخلية الشيوعيَّة إلى كمين نصبه مقاتلون من ميليشيا "أمل"...

[26]  المعلومة الخاطئة التي يَنْسبها مروة إلى نفسه في "ثلاثة ملصقات" (أنظر الهامش السابق)، وإعطاؤه الشخصيات في "المقسم 19" أسماء الممثلين الحقيقيَّة، هما أكثر مخاطرة من القول: "أنا الرفيق خليل أحمد رحّال"، لكنَّهما يظلاّن أقلّ مخاطرة من قوله "أنا الرفيق الشهيد خليل أحمد رحّال".

[27]  "بيكاسو يتكلَّم"، مجلة الفنون، 1923.