|
سليمان القانوني
كان مجدد المدينة وراعي نهضتها.. وارسي القواعد لازدهارها لما كان السلطان في هذا الزمان هو أكثر حكام العالم تشريفا.. فقد جعل من هذا الصرح جنة لا مثيل لها هذه ورقة بحثية مهمة قدمها ميشيل ماينكه من معهد الاثار الالماني في دمشق تشارك في النقاش التاريخي حول الجهود العثمانية المنسية في اعمار الحواضر العربية والمقدسات الاسلامية، وتركز الورقة في قراءتها علي جهود السلطان سليمان القانوني في اعمار المدينة، الصخرة والاقصي، والسور والوقفيات العديدة. ويناقش الباحث ان البرنامج المنتظم لإعادة تفعيل مدينة القدس علي يد السلطان العثماني سليمان الأول القانوني كان بمثابة قاعدة جديدة لمزيد من خطوات التطوير لتصبح المدينة مركزا حضريا وثقافيا هاما. القدس العربي تمتاز مدينة القدس ببلدتها القديمة التي تعد إحدي المدن الاسلامية القليلة التي تم الحفاظ علي سلامة طابعها التاريخي، والتي يجسد مظهرها الأثري الحالي ليس مراحل التطور في العصور الوسطي فحسب، ولكنه يمثل أيضا وبشكل جوهري المباني التي أنشأها السلطان العثماني سليمان الأول القانوني والذي تولي الحكم في الفترة 926-974هـ / 1520 ـ 1566م. لقد تمكن هذا الحاكم العثماني العظيم بعد مضي فترة قصيرة علي ضم سورية وفلسطين إلي الدولة العثمانية عام 922هـ/1516م من إعادة تثبيت مكانة المدينة بصورة نهائية كمركز يشد المسلمون إليه رحالهم، وذلك بعد خضوعها للاحتلال الصليبي فترة طويلة امتدت من عام 492هـ /1099م وحتي عام 583هـ/1187م ثم لفترة أخري قصيرة وهي 626ـ642هـ/1229 ـ 1244م. ورغم أن الأيوبيـين هم الذين استردوا المدينة المقدسة علي يد الناصر صلاح الدين يوسف (564 ـ 589هـ/1169 ـ 1193م) والمماليك من بعدهم (658 ـ 922هـ /1260 1516م) قد شيدوا العديد من المباني الدينية إلي جانب إعادة بناء وترميم مكاني العبادة المركزيين وهما قبة الصخرة والمسجد الأقصي، وساهموا بذلك في صبغ المدينة بالطابع الاسلامي، إلا أن القدس خضعت لأول مرة في عهد السلطان سليمان لبرنامج تطوير منتظم وشامل. وحول اهـــــتمام السلطان العثماني الملفت للنظر قدم لنا الرحالة التركي أوليا جلبي خلال وصفه لزيارة قام بها إلي القدس في رمضان 1082 هـ الموافق كانون الثاني (يناير) عام 1672 م الشرح التالي المفصل: في عام 926هـ/1521م اعتلي السلطان سليمان العرش وفتح قلعة بلغراد عام 927هـ/1521م وجزيرة رودس عام 928 هـ /1522م وجني من ذلك ثروة طائلة. وعندما غدا ملكا مستقلا ظهر له النبي في ليلة مباركة وقال له: يا سليمان سوف تحقق انتصارات عديدة، ويجب عليك أن تـنفق الغنائم علي تزيـين مكة والمدينة وعلي تحصين قلعة القدس حتي تصد الكافرين إذا حاولوا احتلالها خلال حكم خلفائك. وعليك أيضا أن تزين حرمها بحوض للمياه وأن تمنح دراويشها مخصصات مالية كل عام، وعليك أيضا أن تزين صخرة الله وأن تعيد بناء مدينة القدس . ولما كان ذلك أمراً من الرسول فقد نهض سليمان خان في الحال من نومه وأرسل صرة إلي المدينة وأخري إلي القدس. وبالإضافة إلي المواد اللازمة أرسل كبير مهندسيه خوجا سنان إلي القدس، ونقل مصطفي باشا من ولاية مصر إلي ولاية الشام. ولما صدر الأمر لمصطفي باشا بترميم القدس، جمع كافة البنائين والمهندسين والنحاتين في القاهرة ودمشق وحلب وأرسلهم إلي القدس لإعادة بنائها وزخرفة الصخرة المشرفة . قد يصعب علينا التحقق تاريخيا من صحة تفاصيل هذا السرد المفصل حول عناية سليمان الأول بتعمير مدينة القدس، لكنه يسلط الأضواء ليس فقط علي الدوافع الإجمالية التي يمكن تقصيها من خلال المباني التي ما زالت قائمة في المدينة بعد عمليات البناء التي استمرت علي امتداد أربعة قرون، ولكنه يقدم أيضا أدلة واضحة تبين الدوافع التي كانت تكمن وراء كل إجراء من إجراءات البناء علي حدة. أولا: مقام النبي داود لقد كان أول المشاريع المعمارية التي يمكن إثبات نسبتها إلي السلطان في القدس تحويل كنيسة العشاء الأخير خارج باب النبي داود إلي مسجد. إن إعادة البناء التي جرت فـــي نطاق محدود جدا وانتهت في الأول من ربيع الأول عام 930 هـ الموافــــق 8 كانون الثاني (يناير) 1524م تشير بوضـــوح إلي الهدف الرئيسي من برنامــــج البـــناء الضخم في القـــدس وهو ما تطرق إليه أوليا جلبي، ألا وهو التأكيد علي الهوية الإسلامية للمدينة المقدسة. ويؤكد النص العربي المنقوش في المقام علي أن مبني الكنيسة ودير الفرنسيسكان التابع له والذي يقع قبر الملك داود بداخله قد تم تحويله إلي وضع يتلائم مع الاسلام وبالتالي تحقق تحريره من الكفار. وفيما يتعلق بحجارة البناء الاسلامية، والتي تم تجديدها عدة مرات، فإن الأفاريز المسننة التي تستخدم لتزيـين إطارات الأبواب والأقواس والنوافذ تشكل العنصر الأساسي في الزخرفة. ويشير هذا النمط من الإطارات الملفتة للنظر إلي ارتباط وثيق بالمدرسة المعمارية الحلبية، ولا سيما الكنارات المسننة المطابقة والتي اتخذت نموذجا ثابتا منذ أوائل القرن التاسع الهجري الموافق للقرن الخامس عشر الميلادي وحتي نهاية العصر المملوكي، ومثال علي ذلك خان القصابية. ثانيا: الحرم الشريف لقد تم تكريس قسم كبير من مشاريع البناء العظيمة لترميم وتأثيث الحرم الشريف، فهو الموقع المقدس في هذه المدينة الاسلامية. ومن الملف للنظر أن النقش الذي يرجع تاريخه إلي أواخر شعبان 933هـ الموافق لأيار (مايو) 1527م والمكتوب علي سبيل المحكمة الذي بناه قاسم باشا يصف السلطان بأنه سليمان الثاني. ويفهم هذا بالدرجة الأولي علي أنه تشابه تاريخي يشير إليه اسم السلطان، لكنه يشير أيضا إلي دوافع هذا الحاكم العظيم في هذا الموقع بالذات، ألا وهو إعادة تفعيل الأماكن الاسلامية المقدسة في موضع هيكل سليمان. 1) قبة الصخرة لقد استأثرت قبة الصخرة بأول أعمال البناء الضخمة التي أنجزها السلطان لأنها المبني المركزي المقدس. وحسب نقش أزيل من موضعه في وقت لاحق فقد تم الفراغ في عام 935هـ/1528م من تجديد شبابيك هذا المبني المثمن الشكل والبالغ عددها 36 والمزخرفة بقطع زجاجية. وبما أن التجديد قد أمر به السلطان سليمان فلا يمكن أن يكون قد اقتصر علي الشبابيك، وعليه يمكننا اعتبار ذلك العام تاريخا للترميم الشامل لأقدم مبني تم تشييده في التاريخ الاسلامي. وبتكليف من السلطان تم إنجاز الترميم خلال السنوات العشر التالية. وتم في مرحلة لاحقة تزيـيـن الواجهات الخارجية بالقاشاني الملون علي نمط الأبنية العظيمة في عواصم الدول. ولم يشتمل ذلك التزيـيـن علي قطع فسيفساء متعددة الألوان وبلاط زجاجي ملون ذي حافات غير مدببة فحسب، بل استخدمت فيه أيضا رسومات علي بلاط تعلوه طبقة زجاجية شفافة. ويمكن ربط زخارف الفسيفساء تلك بالنقش الكتابي الذي يعود تاريخه إلي عام 952هـ/1545م علي الجهة العلوية من السقف نصف البرميلي خارج الباب الشمالي للمسجد والمرسوم تحت طبقة من الزجاج وعليه توقيع فنان فارسي يدعي عبد الله التبريزي، والذي دون التاريخ خطأ لعام 959هـ/1551م. وهي توضح لنا المستوي الذي وصلت إليه زخرفة البلاط باهظة التكاليف. فبمساعدة أمهر مهندسي ذلك الوقت تم تحقيق الهدف من زخارف الفسيفساء وهو إعادة البريق القديم إلي هذا المبني. وفي هذا السياق يتضح لنا السبب في حرص أوليا جلبي علي ذكر الخطاط أحمد قرة حصاري (ت 963هـ/1556م) الذي زين بخطه الفسيفساء الخارجية، والذي عمل أيضا في الجامع السليماني في استانبول، بل وحرص أيضا علي ذكر خوجا سنان (ت 996هـ/1588م) كبير المعماريـيـن العثمانيـيـن ومهندس ذلك الجامع، وربط بينهما وبين التعميرات التي أمر بها السلطان في القدس. وبناء علي استخدام أنماط فنية مختلفة في تصميم البلاط يمكننا الافتراض بأن إنتاج هذه الفسيفساء الرائعة لم يمر عبر مرحلة واحدة وإنما عبر العديد من مراحل الانتاج. ومن الأدلة الصريحة علي ذلك قبة السلسلة المنتصبة شرقي قبة الصخرة حيث يوجد فوق المحراب نقش فسيفسائي مكون من سطرين ويبلغ طوله حوالي ثلاثة أمتار، وينص علي أن قاشاني الفسيفساء تم تجديده بأمر من السلطان سليمان عام 969هـ/1562م. وتـتكون بلاطات النقش من كتابة باللون الأبيض علي أرضية بنية غامقة يعلوها زجاج شفاف، وهي تطابق من الناحية الفنية فسيفساء باب قبة الصخرة الشمالي. وعليه يمكننا القول بأن تاريخ نقش الترميم في قبة السلسلة قريب من تاريخ صنع الرسومات علي البلاط تحت زجاج شفاف في قبة الصخرة المجاورة. وعلي الأرجح فإن المرحلة الأخيرة من صناعة القاشاني قد أعقبت مراحل التطور التي مر بها بناء المسجد السليماني في استانبول في الفترة 957ـ 964هـ/1550ـ 1667م، والتي تم فيها استخدام بلاط عليه رسومات متعددة الألوان لأول مرة. ومن المحتمل أن يكون نفس المعمل الذي قام بصناعة فسيفساء تكية السلطان سليمان في دمشق قبل ذلك بقليل أي في عام 967هـ/1560م قد تم تكليفه بصناعة فسيفساء قبة الصخرة. وعلي ما يبدو فإن أعمال الترميم الجديدة في قبة الصخرة قد استكملت عام 972هـ/1564م، وذلك بعد الفراغ من تغليف الأبواب الخشبية الشرقية والغربية بالبرونز بتكليف من السلطان. إن ترميم قبة الصخرة علي يد السلطان سليمان الذي استغرق ما يقرب من أربعين عاما قد دفع أوليا جلبي إلي كتابة الملاحظة التالية: (ولما كان السلطان العثماني في هذا الزمان هو أكثر حكام العالم تشريفا واحتراما... فقد جعل من هذا الصرح جنة لا مثيل لها علي الأرض... لأن السلطان وحده هو القادر علي أن يكون مالكا لبيت الله). 2) المسجد الأقصي بالإضافة إلي قبة الصخرة أمر السلطان سليمان بترميم المسجد الرئيسي في الحرم ألا وهو المسجد الأقصي. ويشهد علي ذلك نص مفقود كان يقع علي إحدي نوافذه من الداخل ولكنه يحمل تاريخا مغلوطا وهو عام 996هـ/1587م أي أن إتمام الترميم نجز بعد أكثر من عشرين سنة علي وفاة السلطان. وعلي ما يبدو فإن التاريخ الصحيح هو عام 936هـ/1529م حيث أن تجديد النوافذ الزجاجية في قبة الصخرة قد تم في عام 935هـ/1528م. وعلي ذلك يمكننا القول بأن النص الزجاجي الفني المذكور في المسجد الأقصي قد تم إعداده مباشرة بعد إتمام أول أعمال الترميم التي أمر بها السلطان في الحرم. وحسب أوليا جلبي فقد تم ترميم قبة المسجد والواجهة القبلية بأمر السلطان. وأشار إلي أن سارخوش عبدو تولي تجديد المحراب وهو الذي عمل كذلك لدي السلطان سليمان في بناء المسجد السليماني في استانبول. 3) إنشاء أبنية متفرقة حسب النص المذكور الذي كان علي إحدي نوافذ المسجد الأقصي، فإن أعمال الترميم التي أنجزها السلطان سليمان عام 936هـ/1529م علي الأرجح لم تقتصر علي المسجد فحسب، وإنما امتدت لتشمل كافة الحرم. وهذا ما أكده أوليا جلبي بعبارة واضحة: ومن المسجد الأقصي يسير المرء عبر مرج أخضر فوق رصيف يبلغ طوله مئتا خطوة من الأحجار الرخامية اللوحية البيضاء غير المنحوتة، وتم رصفها بأمر من السلطان سليمان العظيم. ومن ثم تتجه الخطوات مباشرة نحو حوض مائي كبير مبني من الرخام الذي اقتطع من كتلة واحدة حسب تعليمات السلطان سليمان بنفسه. إنه مَعلم فريد لا مثيل له علي الأرض. إنه رائع ويقع في وسط الرصيف . ويأخذ حوض الماء شكل الكأس ويقع شمالي المسجد الأقصي، ومن المقنع جدا نسبته إلي السلطان، حيث أنه يطابق الحوض الأصغر حجما في التكية السليمانية في دمشق والذي تم الفراغ من بنائه عام 967هـ/1560م. وقد يكون السلطان سليمان قد أمر أيضا بتجديد الطريق المرصوف بين المسجد الأقصي وصحن الصخرة. وإلي جانب الترميم الشامل للحرم فقد تم تشيـيد عدد من المنشآت المتفرقة. ومنها علي سبيل المثال الدرج الموصل إلي البائكة الغربية الشمالية ذات الأقواس الأربعة التي تؤدي إلي صحن الصخرة. وينسب ترميم هذا الحائط حسب نقش كتابي موزع علي عدة أجزاء إلي السلطان سليمان، وهو يشبه بشكل ملحوظ الإفريز المسنن المستخدم في ترميم مقام النبي داود عام 930هـ/1524م بأمر من السلطان. وهناك إفريز مسنن مطابق يزين قبة الخضر الصغيرة المنتصبة علي ستة أعمدة إلي الجنوب قرب الدرج الشمالي الغربي، والتي يعتقد أنها بنيت في نفس الوقت الذي تم فيه ترميم البائكة المجاورة. ويشير هذا الزخرف المقتبس من الهندسة المعمارية المملوكية إلي أعمال البناء الأولي التي قام بها السلطان سليمان في القدس. فعلي سبيل المثال هناك إطار مسنن مطابق علي مئذنة مسجد القلعة التي رممت عام 939هـ/1532م وعلي بعض الأسبلة التي أمر السلطان ببنائها عام 943هـ/1537م في طريق الواد وباب السلسلة وطريق باب الناظر. وبناء علي ذلك فإن هذا العنصر الزخرفي التابع للمدرسة المعمارية الحلبية لا يصلح بالضرورة كدليل علي ترميمات السلطان سليمان في القدس. وكان محمد بك (صاحب لواء غزة والقدس) قد شيد في عهد السلطان سليمان عام 945هـ/1538م محرابا تحت قبة النبي شمال غربي قبة الصخرة وعليه إفريز مطابق، وبالتالي لم يعد بالامكان اعتبار ذلك العنصر علامة مميزة. وبخلاف ذلك فإننا نجد أفاريز مسننة بشكل مغاير استخدمت في عدة مواقع في سور الحرم وخاصة فوق وحول أبوابه، ومنها علي سبيل المثال باب السلسلة وباب الحديد وباب الغوانمة وكذلك في باب العتم في الجهة الشمالية. فبالامكان اعتبار هذه الأفاريز إشارة إلي الترميم الشامل للحرم الذي قام به السلطان سليمان. إن هذه الزخارف المستخدمة في الإطار العلوي عام 943هـ/1537م تشير إلي ارتباط مع زخارف التجديد الأولي لقبة الصخرة عام 935هـ/1528م وترميم المسجد الأقصي عام 936هـ/1529م (ظنا). ثالثا: القلعة حسب أقوال أوليا جلبي فقد كان تحصين مدينة القدس من أكبر هموم السلطان سليمان. وبالفعل فقد كان أول إجراء أمر به السلطان بعد الفراغ من ترميم الحرم القدسي ضمن جهوده الرامية إلي إعادة تفعيل النظام الدفاعي هو تجديد بناء القلعة الواقعة في الجهة الغربية من المدينة. لقد تم ترميم القلعة في أوائل القرن الثامن الهجري أي الرابع عشر الميلادي بعد طرد الصليبيين من المدينة المقدسة بوقت طويل، لكنها خربت في أوائل القرن التاسع للهجرة أي الخامس عشر للميلاد ولم تعد صالحة للاستخدام وأصبحت المدينة بلا قلعة تدافع عنها. إلا أن الترميم الذي جري عام 938هـ/1531م وأضيف خلاله ممر شرقي للقلعة قد أخرجها من وضعها البائس بشكل نهائي. وفي إشارة إلي مجدد حصن المدينة تم نقش اسم السلطان (سليمان الثاني) علي البوابة الجديدة، مع إطراء هدفه من البناء وهو أن يكون مصدر الأمان لأهل القدس. وعلاوة علي ذلك فقد تمت الإشارة في نقشين آخرين إلي أن السلطان قد سيطر علي ميراث المماليك من خلال هذا الترميم. ويطابق النقشان المذكوران المكونان من ثلاثة أسطر في الشكل والمضمون تلك الشعارات المميزة التي كانت تطلق علي سلاطين المماليك. وهي: (السلطان سليمان عز نصره) و(مولانا السلطان الملك المظفر أبو النصر سليمان شاه ابن عثمان عز نصره). وفي ختام الترميم تم في عام 939هـ/1532م تشييد مسجد في الزاوية الجنوبية الغربية من القلعة وفي مقدمته محراب ومنبر بحيث تؤدي فيه صلاة الجمعة أيضا. وكعلامة بارزة علي سيطرة الاسلام تم بناء مئذنة المسجد المستديرة فوق البرج الجنوبي للقلعة. ويستدل من الكنارات المسننة التي تزين المئذنة علي أنها جزء من أعمال البناء التي بدأت في القدس عام 930هـ/1524م بأمر من السلطان. ومن الملفت للنظر النافذة الصغيرة المستديرة التي تطل من المئذنة علي الساحة الداخلية من الجهة الشمالية، حيث يشير إطارها العريض إلي أحد عناصر العمارة المملوكية الذي كان سائدا في دمشق. رابعا: تزويد المدينة بالمياه بعد استراحة قصيرة أعقبت ترميم الحرم القدسي وتجديد القلعة أمر السلطان سليمان عام 943هـ/1536م بإنجاز مشروع معماري هام آخر، يهدف إلي تأمين وصول المياه من بركة السلطان الواقعة جنوب غربي المدينة إلي الأسبلة الخمسة التي تم إنشاؤها في الحرم القدسي وحوله. وتزودنا النقوش المنحوتة علي تلك الأسبلة بمعلومات تفصيلية عن المراحل الزمنية لتلك الأعمال. ومنها السبيل القائم في الجهة الجنوبية من بركة السلطان والتي تصب فيها قناة السبيل، وعليه نقش يشير إلي أنه أقيم بأمر من السلطان في 10 محرم سنة 943هـ الموافق 29 حزيران (يونيو) 1536م. وبعد بناء استغرق نصف عام فقط وصلت مياه القناة إلي الطريق الموازي للجهة الغربية من الحرم وذلك حسب التاريخ المدون علي نقش سبيل طريق الواد وهو الأول من رجب سنة 943هـ الموافق 14 كانون الاول (ديسمبر) 1536م. وبعد ثلاثة أسابيع فقط أي في 22 رجب سنة 943هـ الموافق 4 كانون الثاني (يناير) 1537م ورد الماء إلي سبيل باب السلسلة أحد الأبواب الرئيسية في الجهة الغربية للحرم. ومن ذلك الموقع تفرعت قناة نحو الجنوب الشرقي باتجاه الكأس الواقع شمالي المسجد الأقصي، والذي أمر السلطان سليمان بتجديده ضمن جهوده لإعادة تفعيل الحرم القدسي حسب أقوال أوليا جلبي. وتفرعت قناة ثانية في الحرم شمالا نحو سبيل البصيري الأقدم عهدا، والذي يحتمل أن يكون قد رمم في غضون ذلك بناء علي الإفريز الدائري المسنن، ومن هناك نحو السبيل الذي تم إنشاؤه داخل باب العتم الواقع شمالي الحرم. وقد وصل الماء إليه في الأول من شعبان سنة 943هـ الموافق 13 كانون الثاني (يناير) 1537م، أي بعد تسعة أيام فقط من افتتاح سبيل باب السلسلة. ويوجد محراب علي الجهة الخلفية من السبيل ومسطبة، ويشير نقش كتابي إلي ترميمهما في عهد السلطان سليمان. ومن هناك جري الماء شرقا نحو باب حطة والذي أنشأ علي حائطه الشرقي سبيل، والذي يرجح كناره المسنن بشدة إلي احتمال تعميره في عهد السلطان سليمان أيضا. وربما تكون القناة قد صبت في بركة بني إسرائيل خارج الزاوية الشمالية الشرقية لساحة الحرم. ومن خزان الماء المذكور تم تزويد السبيل الواقع داخل باب الأسباط، باب المدينة الشرقي. ورغم زوال نقش السبيل، إلا أننا نستطيع أن ننسبه إلي السلطان سليمان بناء علي أوصافه المطابقة للأسبلة المذكورة. ويدل سبيل طريق باب الناظر الذي يبعد حوالي 150 مترا فقط إلي الشمال من سبيل طريق الواد والذي تم إنشاؤه في الثاني من رمضان عام 943هـ الموافق 12 شباط (فبراير) 1537م، علي أن تجديد شبكة المياه وإنشاء الأسبلة في المدينة وفي داخل الحرم قد تم في وقت قصير مذهل لا يتجاوز الشهرين. وكما قال أوليا جلبي فقد كان الهدف الرئيسي من هذه المنشآت تزويد الحرم القدسي بالمياه. ولكن الأسبلة التي تم بناؤها عند تقاطعات الطرق الهامة داخل المدينة تشير إلي تطوير واع للبنية التحتية للمدينة علي يد السلطان. ومما ساهم في تقصير فترة البناء أيضا إعادة استخدام حجارة بناء قديمة كما في الأسبلة التي بنيت داخل تجويفات في الجدران. وكذلك فإن تنفيذ تلك المشاريع يندرج أيضا ضمن الورشات التي بدأت العمل في القدس قبل ذلك بعشر سنوات بأمر من السلطان سليمان. إن الارتباط الوثيق بالهندسة المعمارية الحلبية الذي لوحظ منذ أعمال البناء الأولي لم يقتصر علي تكرار استخدام الأفاريز المسننة فحسب ولكن أيضا الأعمدة العُقدية المستخدمة في الأسبلة التي بنيت داخل تجويفات في الجدران كما هو الحال في سبيل باب السلسلة وسبيل طريق باب الناظر، والتي تنسب أيضا إلي الزخارف التابعة للمدرسة المعمارية الحلبية منذ القرن التاسع الهجري أي الخامس عشر الميلادي. وقد تم استخدام الأعمدة العقدية في حلب في واجهة مبني المولوية في وقت قريب أي في عام 937هـ/1530م وفي جامع الطواشي الذي تم تجديده عام 944هـ/1537م. وعلي ما يبدو فإن ورشة البناء التي عادت من القدس وقامت بترميم وتوسيع مسجد حلب لم تستخدم المميزات الإنشائية التي استخدمت في أعمال البناء السلطانية السليمانية في فترتها الأخيرة ألا وهي الأفاريز المسننة والأعمدة العقدية. خامسا: سور المدينة بعد الفراغ من مشروع تزويد المدينة بالمياه أخذ السلطان سليمان علي عاتقه مشروع بناء ضخم آخر، ألا وهو إعادة بناء سور المدينة، والذي تم فيه اختتام مرحلة حاسمة من التاريخ الاسلامي في المدينة. وكان القائد الأيوبي الناصر صلاح الدين يوسف قد جدد سور المدينة بعد استردادها من الصليبيين عام 587هـ/1191م، ولكن تم تخريبه بعد حوالي 30 عاما بحجة تعرض المدينة لخطر حصار صليبي وذلك في عام 616هـ/1219م. وتم تدميره مرة أخري في عام 624هـ/1227م. وبناء علي ذلك فقد تمكن فريدريك الثاني من استلام المدينة المقدسة عام 626هـ/1229 دون أي مقاومة. وهكذا فقد بقيت المدينة لأكثر من ثلاثة قرون تالية تفتقر إلي نظام دفاعي فعال، إلي أن أمر السلطان سليمان عام 944هـ/1537م ببناء سور جديد للمدينة. وقد تم بناؤه في غضون أربع سنوات فقط وبالضبط فوق أساسات البناء المتهدم التي كان الأيوبيون قد شيدوها. وبناء علي ذلك يمكننا القول بأن البناء الجديد والذي لم يكن هناك خطر داهم يحث علي بنائه، كان يرمي إلي إعادة السور إلي وضعه القديم. فالأمر هنا كما كان عند ترميم القلعة، يتعلق بمشاريع بناء تاريخية تهدف إلي منح القدس شعار الحكم الذاتي الذي فقدته زمنا طويلا. إن خطوات بناء السور البالغ طوله حوالي 4 كم والذي يشمل سور الحرم الجنوبي وزاويته الجنوبية الشرقية وسور القلعة في الجهة الغربية، يمكن تحديدها بناء علي النقوش الثلاثة عشر المعروفة بالتسلسل التالي: بدأ البناء في الجناح الشمالي الغربي حسبما تشير ثلاثة نقوش كتابية علي باب العامود الواقع في الشمال الغربي وعلي البرج الأوسط وعلي برج اللقلق الواقع في الزاوية الشمالية الشرقية من السور، والتي تؤرخ البناء في عام 944هـ/1537م. وفي هذه المرحلة الأولي تم أيضا تجديد باب الساهرة. وفي العام التالي تواصل البناء في الجهة الشرقية حيث يشير نقش باب الأسباط إلي العام 945هـ/1538م واستمر حتي الزاوية الشمالية الشرقية لساحة الحرم، إضافة إلي الجزء الشمالي من سور المدينة الغربي الممتد حتي القلعة، وتشهد علي ذلك أربعة نقوش كتابية مؤرخة في عام 945هـ/1538م علي البرج الشمالي والبرج الجنوبي واثنان علي باب الخليل. وتم الفراغ من بناء السور مع إنهاء الجزء الجنوبي عام 947هـ/1540م كما تشير إلي ذلك أربعة نقوش كتابية أخري يقع اثنان منها علي باب النبي داود وواحد علي برج الكبريت الواقع عند الزاوية الجنوبية الشرقية، وواحد علي باب المغاربة. ومن المحتمل أن يكون قد سبق ذلك بناء الشرفة البارزة في الجهة الغربية من القلعة مع جزء السور المكمل لها من الناحية الجنوبية، وكذلك ترميم الواجهة الخارجية لسور الحرم. وقد ارتكز النظام الدفاعي في سور المدينة علي نماذج أيوبية ومملوكية تتمثل في بناء أبراج عند الزوايا وبوابات ذات مداخل متعرجة. ويمكن مقارنتها علي سبيل المثال بسور مدينة دمشق وبدرجة أكبر بسور مدينة حلب. وكذلك فإن الأقبية المنثـنية في باب العامود وباب الأسباط وباب الخليل تشابه مثيلاتها في أبواب حلب والقاهرة التي بنيت في أواخر العهد المملوكي. وبناء علي ذلك يمكننا القول بأن الذين قاموا بتنفيذ أعمال البناء كانوا شاميين ومصريين، ولم تأت فرق من بلاد الأتراك لبناء تلك الأسوار الضخمة. ومن الواضح أنه تم تطبيق أنظمة البناء الدفاعية المتبعة في العصور الوسطي بهدف إعادة بناء السور علي نفس الهيئة التي كان عليها في العهد الأيوبي. إن النقوش قليلة العدد الموجودة علي سور المدينة لا تزودنا بمعلومات حول تنظيم عمليات البناء، ومع ذلك يمكننا الافتراض بأن محمد بيك حاكم لواء غزة والقدس، والذي بني محرابا تحت قبة النبي في الحرم القدسي مؤرخة في عام 945هـ/1538م قد لعب دورا هاما في تنفيذ مشروع بناء السور الضخم، وربما كان يدير عمليات البناء بنفسه. سادسا: رباط بيرام جاويش هناك علاقة علي الأرجح بين إتمام بناء سور المدينة وإتمام رباط الأمير بيرام جاويش المؤرخ في 20 ربيع الأول 947هـ الموافق 25 تموز (يوليو) 1540م. يقع هذا الرباط في الطريق الغربي الموازي للحرم بالقرب من سبيل طريق باب الناظر الذي تم بناؤه قبل ذلك بأربع سنوات، وهو يشــــمل أيضا مدرسة لتعليم القرآن تم ترميمها عام 947هـ/1540م. وهنـــاك نقشان تأسيسيان باسم واقف المبني الأمير بيرام جاويش بن مصطفي ولكنهما لا يحتويان علي أي معلومات عن سيرته، ومع ذلك فبإمكاننا الاعتقاد بأن هذا الأمير كان قد شارك في أعمال بناء السور التي انتهت في نفس العام المذكور. ومثل سور المدينة يحمل هذا المجمع خصائص معمارية تابعة للعصر المملوكي الأخير في القاهرة ودمشق. فبوابته الشمالية القائمة في تجويف داخل الحائط تطابق مثيلاتها في العمارة القاهرية، كما أن المداميك الأفقية والزخارف الحجرية المسننة تطابق أسلوب البناء الذي استخدم في نفس الوقت في القاهرة كما في سبيل كُتاب خسرو باشا عام 942هـ/1535م. وكذلك الأمر في العمارة الدمشقية ومنها علي سبيل المثال ضريح المحافظ أحمد باشا المتوفي عام 942هـ/1535م. وتضاف إلي ذلك تزيـينات مدخل الرباط والغرف الداخلية التي تشبه الأقبية المقرنصة والممرات المقببة التي بنيت في القاهرة ودمشق علي طراز العمارة المملوكية. هذا المجمع الغني بالزخارف يطابق في مراحل تطويره من الناحية الزمنية بناء سور المدينة. ورغم أن السور، بحكم الهدف من بنائه وهو الدفاع، يفتقر إلي الكثير من التزيـينات وخاصة عدم استخدام الحجارة الملونة المتقابلة علي الاطلاق، فقد يكون البناءون الذين شيدوا السور هم أنفسهم الذين جددوا الرباط. سابعا: تكية خاصكي سلطان لقد بلغ تطوير القدس ذروته النهائية بتأسيس مجمع ضخم علي يد خاصكي زوجة السلطان سليمان. ويقع هذا المجمع علي بعد 50 م فقط غربي رباط بيرام جاويش علي الطريق المؤدي إلي باب الناظر، أحد أبواب الحرم الغربية. ورغم أنه خال من النقوش الحجرية فهناك ثلاث وثائق صدرت في ذلك الوقت وتعرّف به وبمراحل تطويره. فقد حددت وقفيته المكتوبة باللغة التركية تاريخ الفراغ من تعميره في 30 جمادي الأولي 959هـ الموافق 24 أيار (مايو) 1552م، ووصفت ساحته الكبري وأجنحته وأبوابه وغرفه ذات الأبواب البالغ عددها 55. وبالإضافة إلي أجنحة النزل المخصصة لإيواء الزائرين والدراويش يضم المجمع مسجدا ومطبخا وفرنا وقاعة لتناول الطعام وغرفا لتخزين المواد التموينية وخانا ذا اصطبلات. إن نزل الزائرين الذي تم الفراغ من تعميره قبل كتابة الوقفية عام 959هـ/1552م بقليل، تم استخدامه لإيوائهم بعد خمس سنوات أي بعد إصدار النسخة العربية الموسعة من الوقفية في 15 شعبان 964هـ الموافق 13 حزيران (يونيو)1557م. وبعد ذلك أصدر السلطان سليمان فرمانا في 28 شوال 967هـ الموافق 22 تموز (يوليو) 1560م أضاف فيه المزيد من الأراضي لقائمة العقارات الموقوفة علي المجمع. هذا المجمع الضخم الذي تم ضمه إلي عمارة الست طنشق المبنية في العهد المملوكي، تم إدارجه ضمن قائمة المباني التي صممها سنان كبير المهندسين العثمانيين. ولكن من الصعب التصديق بأن مهندس البلاط السلطاني الذي كان في الفترة 957-964هـ/1550-1667م مشغولا في الإشراف علي بناء المسجد السليماني في استانبول أن يكون قد شارك بنفسه في بناء هذا المجمع. وعلي الأرجح فقد اقتصر الأمر علي اتباع مفهوم التخطيط العام المتبع في مكتب البناء الامبراطوري تحت إشراف سنان باشا، حيث أن المجمع يخلو من ملامح الهندسة المعمارية العثمانية التي سادت في نفس الفترة في استانبول. وعلاوة علي ذلك فإن البوابة الرئيسية ذات الأركان الثلاثة والإطار العقدي الذي يزين أعلي البوابة تطابق فن العمارة القاهري في تلك الفترة، ومثال علي ذلك بوابة مدرسة سليمان باشا المؤرخة في عام 950هـ/1543م. أما الإطار العقدي المخصص للنقش الكتابي والذي ترك فارغا فوق المدخل فهو مطابق لزخارف دمشقية تزين بوابة ضريح لطفي باشا المؤرخ في عام 940هـ/1534م.إن الارتباط الوثيق بين هذا المجمع الامبراطوري وفنون العمارة في ولايتي مصر والشام العثمانيتين ظاهر للعيان، لا سيما الفسيفساء التي تم تغليف قبة الصخرة بها والتي تنسجم مع فن العمارة في المباني العثمانية الرئيسية في تلك الفترة. ثامنا: الخلاصة لقد كان البرنامج المنتظم لإعادة تفعيل مدينة القدس علي يد السلطان العثماني سليمان الأول القانوني بمثابة قاعدة جديدة لمزيد من خطوات التطوير لتصبح المدينة مركزا حضريا. وفي هذا السياق تفيدنا إحصاءات دافعي الضرائب بأن فترة حكم السلطان شهدت نموا متزايدا جدا في عدد السكان. فبينما كان عددهم لا يتجاوز 4000 نسمة عام 932هـ/1525م ارتفع العدد إلي حوالي 12000 نسمة في عام 961هـ/1553م. إن ارتفاع عدد السكان إلي ثلاثة أضعاف ما كان عليه خلال 30 عاما يعد مؤشرا علي الجاذبية الجديدة للمدينة والتي نتجت بشكل رئيسي عن برنامج التطوير واسع النطاق الذي أمر به السلطان سليمان. وكما قال أوليا جلبي فإن السلطان سليمان القانوني كان بالفعل مجدد المدينة. ومن بين مشاريع البناء العديدة التي شيدها السلطان خلال تطوير المدينة يمتاز عنصران رئيسيان بشكل خاص وهما ترميم القلعة وسور المدينة بهدف ضمان أمن السكان، وإعادة تفعيل تمديدات المياه بهدف تزويد المدينة بمياه عذبة بشكل متواصل. وقد مهدت السنوات العشر التي تم خلالها إنجاز ذلك البرنامج المتواصل وهي 938-947هـ/1531-1540م الطريق أمام مراحل التطوير التالية في المدينة. فقد كانت أجزاء واسعة من المنطقة السكنية داخل سور المدينة في بداية حكم السلطان، والتي استقر فيها المهاجرون الجدد خرابا وكان لا بد من تعميرها. ومع نمو عدد السكان لم تقتصر الزيادة علي نشاطات البناء فحسب، بل كان من نتائجه أيضا توسيع نطاق التجارة والصناعة، مما أدي إلي تثبيت القدس كمركز حضري مستقل. ومن ناحية أخري فقد تم التأكيد علي المعاني الدينية من خلال إجراءات ترميم متواصلة للرموز الاسلامية في المدينة. إن أعمال التجديد التي جرت طيلة حكم السلطان في الفترة 930-972هـ/1524-1564م إضافة إلي الزخارف التي تزينت بها أهم الأماكن الدينية في المدينة، ابتداء بمقام النبي داود ثم منطقة الحرم الشريف، قد شجعت علي شد الرحال إلي القدس حيث ازداد عدد الزائرين باضطراد مع ازدياد عدد السكان. إن هذا الاهتمام المتزايد بزيارة القدس خلال حكم السلطان سليمان قد دفع إلي تخصيص مبنيين ضخمين لإيواء الزائرين وهما رباط الأمير بيرام جاويش عام 947هـ/1540م وتكية خاصكي سلطان قبل عام 959هـ/1552م. وكان هذا الأمر قلد بلغ ذروته عند تزيين قبة الصخرة بالفسيفساء من الخارج، مما أضفي علي هذا المبني المركزي المقدس مظهرا خارجيا باهرا انعكس علي المنطقة بأسرها. ويؤكد ارتفاع أعداد الزائرين وتواصل أعمال البناء والتعمير في المدينة علي يد السلطان سليمان علي أن تلك المشاريع العمرانية الكثيرة لم تنفذها فرق جاءت من البلاط العثماني، وإنما قام بها مهندسون وبناؤون شاميون. وحتي منتصف القرن العاشر الهجري أي السادس عشر الميلادي لم يتأثر البناء في القدس علي الاطلاق بفن العمارة العثمانية المعاصرة له في تركيا. فقد خضع برنامج البناء برمته لمدرسة العمارة المملوكية الدارجة في دمشق وحلب والتي استخدمت في القرن السابق في عمارة القدس. وفي بعض الأماكن تم اقتباس فنون العمارة المملوكية المتأخرة السائدة في العاصمة المصرية. حتي أن مبني خاصكي سلطان ذاته والذي بني قبل عام 959هـ/1552م والمنسوب إلي مهندس البلاط العثماني سنان قد خضع لتقاليد البناء الشامية والمصرية. إلا أنه وفي المرحلة الأخيرة من ترميم قبة الصخرة تم استخدام النماذج العثمانية السلطانية في تركيب الفسيفساء علي القبة. بل إن هذه الفسيفساء التي يعتقد أنه تم الفراغ من تركيبها عام 952هـ/1545م ثم تواصل تزيينها بشكل موسع حتي عام 969هـ/1561م لم يقم بها فنان تركي، حيث وقع عليها عبد الله التبريزي مما يشر إلي أصله وهو مدينة تبريز الواقعة شمال غربي إيران. إن ارتباط مشاريع البناء التي قام بها السلطان سليمان بالخصائص المعمارية التقليدية في المدن الكبري في الدولة المملوكية التي تم ضمها قبل وقت قصير إلي الدولة العثمانية، يستشف من العبارة التي قالها أوليا جلبي وذكرناها في بداية البحث. ورغم أن أوليا جلبي يزعم أن سنان مهندس البلاط العثماني قد قام بنقل مواد البناء اللازمة من استانبول إلي القدس بتكليف من السلطان، فقد قال أن المتعهدين والمهندسين والنحاتين الذين قاموا بتنفيذ البناء والترميم قد جاءوا من القاهرة ودمشق وحلب. إن الاعتماد علي طواقم البناء تلك يتناقض مع حقيقة أن التطوير المعماري في هذه المدن الثلاث وفي عصر السلطان سليمان بالذات قد اعتمد بشكل رئيسي علي أنماط البناء المتبعة في العاصمة العثمانية. ويشير هذا الوضع الخاص إلي برنامج تطويري مستنير، فأعمال البناء التي أمر بها السلطان لم تهدف بالدرجة الأولي إلي تحديث القدس فحسب ولكن إلي تجديدها بناء علي الخصائص التقليدية المحلية التي اتصفت بها. وقد ساهم هذا المبدأ بإضفاء مظهر عام ملتزم بفنون العمارة في العصور الوسطي، والذي تجلي بشكل خاص في سور المدينة الجديد. وهكذا فإن إعادة بناء المدينة المؤرخ بشكل بارز علي كثير من النقوش الكتابية وفي كتاب أوليا جلبي، قد جعلت من السلطان العثماني سليمان القانوني وبحق المجدد الإسلامي لهذه المدينة التي تعد مركزا دينيا عالميا. ہ باحث في معهد الآثار الألماني- دمشق ہہ باحث فلسطيني في التاريخ يقيم في القدس QP13 |