عزت
العلايلي وناهد شريف في "ذئاب لا تأكل اللحم": حب
وحمام
ولدت من الحبّ.... شربت الحبّ حتّى
الجنون.
شرّدته حروب الإبادة... خانته امرأة...
فتحوّل ذئباً.
تحظر مشاهدتهما على من هم دون الثامنة
عشرة:
"سيّدة الأقمار السوداء"... "ذئاب لا
تأكل اللحم"... نسختان جديدتان لم تعرضهما صالات بيروت كاملتين
من فيلمين أخرجهما سمير أ. خوري في النصف الأوّل من سبعينات
القرن الماضي، وأعيد إصدارهما في الآونة الأخيرة على أسطوانات
"دي في دي".
على شاشات "أمبير" و"سيتي بالاس"
و"اديسون" و"ستراند"، أُطلق "سيّدة الأقمار السوداء" في 1 أيار
،1972 وأصرّت دائرة مراقبة المطبوعات والتسجيلات الفنية في
المديرية العامة للأمن العام، آنذاك، على حصر مشاهدته في
الراشدين، مما زاد زخمه التجاري ولم يحل قرار المراقبة دون تسلل
أعداد وافرة من القاصرين الى داخل دور العرض، وبخاصة صالتي
"أمبير" و"سيتي بالاس" الكائنتين في محيط ساحة البرج. من واجبي
اليوم، توجيه الشكر، ولو متأخراً، الى موظف شباك التذاكر في
سينما "سيتي بالاس" عرفاناً بجميله وسماحه لي بمشاهدة الفيلم
متجاوزاً عدم بلوغي السن القانونية. عدا السهو والخطأ، كان اسمه
رشيد. عاشت الأسامي يا رشيد واكثر الله من أمثالك! أما وقد انقضى
من الزمان ما مضى ورحت يا رشيد وولّت معك مراهقتي في "لهيب
الذكريات"، على قول الموسيقي العظيم رياض السنباطي في شدوه العذب
لأغنية "أشواق"، فما برحت عايدة - غير سينما "عايدة" في رمل
الظريف - والمعروفة بـ"سيدة الأقمار السوداء"، حيثما تركتها يا
رشيد لشقاوة مراهقتي في ذلك البحر وتلك الزاوية المنسية بين
شاطئي المنارة والرملة البيضاء في بيروت، تتلظى بنار شهوتها،
ينهشها جسدها وجداًً الى خليلها. بقيت على حالها حتى اليوم. لم
تتغير ولم يتغير فيها شيء. حسبت ان نسخ حكايتها واصدارها في حلة
جديدة وبالتقنية الرقمية على أسطوانات "دي في دي" قد يقلب حزني
على مصيرها فرحاً يشبه النهايات السعيدة في الأفلام الأميركية.
نسيت ان ما شاهدته قبل ثلاثين عاماً واكتشفته مجدداً في الأمس
كان فيلماً لبنانياً ناطقاً اللهجة المصرية، وما زال فيلماً
عربياً يأبى استبدال نهاياته الحزينة بخواتم تنعش قلب الإنسان
بقليل من الأمل في الحياة. فها هي ناهد يسري تعيد تمثيل دور
عايدة، زوجة الثري عادل أدهم، والمرتمية بكامل لذتها بين شفتي
سائقها الفقير حسين فهمي، وتستعيد أنوثتها المُغتصبة في طفولتها
على يد زوج أمّها، وتعيد انتحارها طوعاً في البحر تكفيراً عن
خيانتها وخطاياها بالماء المالح والحديد والنار. يا عيب الشوم.
لماذا حصل ما حصل وبأي وجه أقدمت عايدة على ما أقدمت عليه؟
"عندما بلغ بها اليأس ذروته"، بحسب المقدمة الدعائية المنشورة
على غلاف الـ"دي في دي"، استسلمت السيدة وراحت تحاول إطفاء ظمأ
رغبتها الجامحة بين ذراعي واحد من فتية أشداء كانت توفّرهم لها
نديمتها وحائكة ملابسها، فيكتوريا. من جديد استبد بها كابوس فتك
بأعصابها وأقضَّ مضجعها، إذ كلما اكتمل القمر وصار بدراً، تخيّلت
نفسها جنية سادية تبتر مواطن الحس والشعور لدى عشاقها. وعندما
فقدت عايدة في هياج حواسها العارم، الرغبة في الحياة، ودبّ في
نفسها اليأس من الخلاص، اختارت تطهير روحها بالحديد والنار
والماء". غريب يا رشيد، ما أن وضعت الفيلم في آلة الـ"دي في دي"،
عدت الى مراهقتي. شاهدته وكأني ابن الرابعة عشرة. بالخوف والخجل
نفسيهما شاهدته. راودني الاحساس القديم عينه المتبقي في ذاكرتي
منذ رؤيتي له للمرة الأولى في ربيع .1972 أحسست آنئذٍ أنّ امتلاك
إنسان عادي العزيمة الكافية لاختيار هذا الفيلم دون غيره ودخول
دار عرضه والتقدم بلا وجل ولا اكتراث للعيون المتربصة به في
اتجاه شباك التذاكر وحجز المقعد الملائم والزاوية الفضلى،
لمتابعة مأساة السيدة عايدة والارتواء بعطشها الى الجنس والنظر
الى عري جسدها العاجز عن تلبية رغباته والجامح بشبقه وشهواته، هو
أمر لا يقل جرأة عما تمتع به مخرج الفيلم من تحدي الممنوعات في
تصويره.
لكن يا رشيد ويا مراهقتي المقطوفة من
زهرة شبابي، ظننت ان هذا الإحساس لن يتكرر مع أي فيلم آخر. كذب
ظني مرتين. الأولى، بعد انقضاء نحو عامين على "سيدة الأقمار
السوداء" وظهور الفيلم التالي لمخرجه، "ذئاب لا تأكل اللحم".
والثانية، لدى مشاهدة الفيلم الأخير في دوره مطبوعاً على أسطوانة
"دي في دي". مع تقدم الزمن قليلاً وفي سرعة قياسية، ازداد الأمر
جرأة وباتت لقطات العري أشد وضوحاً والممثلة العربية أكثر
انفتاحاً على قبول هذا النوع من المشاهد وتجنب الحياء وعدم
اللجوء الى ممثلة بديلة منها لإداء اللقطات غير المحتشمة. في
"ذئاب لا تأكل اللحم"، استعار المخرج سمير أ. خوري ناهداً أُخرى
من السينما المصرية، المرحومة ناهد شريف، وأسند الى الممثلة
اللبنانية سيلفانا بدرخان دور شريرة غاوية تستغل جسدها للوصول
الى مآربها، عشاقها هم قتلاها وبطل الفيلم عزّت العلايلي ضحيتها
الوحيدة الباقية على قيد الحياة. يا سلام على ناهد وسيلفانا.
تعرّتا حتى من ورقة التوت. حفاظاً على ماء الوجه، وكي لا يلطخ
صيت المرأة العربية بالعار، انتحلت سليفانا اللبنانية دور
الأميركية ليندا، راقصة الستريبتيز العاملة في ملاهي شيكاغو،
وحملت هذه المصرية اسم مايا ولقب "وردة بانكوك البريّة"، وبقي
عزّت العلايلي على اسمه العربي والمصري جداً، أنور، هائماً في
غرامه الأزلي لمايا، أرتيست الليل الوافدة من الشرق الأقصى الى
الكويت والمتزوجة من رجل معقد يعيش على ذكرى زوجته الراحلة، ترضي
نزواته في حفلات العربدة وتبحث عن الحبّ في شفتي أخته السحاقيّة
العجوز الشمطاء المقعدة. بين مخالب ليندا، يتمزق أنور متورِّطاً
في صراعه الدموي مع المافيا على حقيبة مجوهرات أخفاها في مقبرة
كويتيّة. وبين مضاجعة وأخرى، يستغرق أنور ومايا في سرد ما حصل
لهما منذ انقطاع أخبار مايا في سنغافورة.
ناهد
يسري والسيجارة في "سيدة الاقمار السوداء". وأنور: مافيوز
السبعينات.
على سيرة أنور وحبيبته مايا وزوجها
المسكون بعشق امرأته الميتة، دعني يا رشيد واسمحي لي يا مراهقتي
المتروكة مثل وردة بريّة، أن أسألكما لماذا عوّدت السينما
العربيّة مشاهديها استرسال العشّاق في استهلاك السجائر وهم
يتذكّرون قصص حبّهم واقتران ايام الخميس بتقاليد ممارسة الجنس في
الحياة الزوجية؟ لا ذكرى بلا دخان ولا سجائر بلا دموع. يتذكرون
ويبكون. لعلك عرفت شيئاً من ذلك يا رشيد في "سيدة الأقمار
السوداء"، وأنا عرفت الشيء نفسه وأكثر في "ذئاب لا تأكل اللحم".
على وجه الدقة والتحديد، نسيت متى شاهدت
"ذئاب لا تأكل اللحم" وكم كان عدد دور عرضه. أذكر فحسب أنّي
شاهدته عام 1974 في سينما "روكسي"، ولم أكن في حاجة الى مساعدتك
يا رشيد، ليس لأنّك كنت موظفاً في صالة أخرى، بل لأن دائرة
المراقبة سمحت لمن هم دون الثامنة عشرة برؤية الفيلم. بشيء من
الثقة، حملت خوفي وإصراري على شراء تذكرة الدخول، وكانت دهشتي
كبيرة حين فاجأني حلاّقي الأرمني نوبار بوقوفه خلفي أمام شبّاك
التذاكر. ربّت على كتفي ولم ينبس بكلمة. نظرت إليه. أرسل ابتسامة
خبيثة واحمر وجهي خجلاً. يا ضيعانك يا معلم نوبار ورحمة الله
وملائكته على نظارتيك السوداوين السميكتين يا رشيد. سقطت يا
نوبار خوفاً بالذبحة القلبية فور توارد أخبار الذبح على الهوية
الى صالون الحلاقة الذي بنيته في الطبقة الأولى لعمارة سينما
روكسي بعرق جبينك وعرق حبيب قلبك توما وصحبه غنطوس وأبي رعد
وبلابان. أمّا أنت يا رشيد فسألت عنك في الحرب أصحاب الصالات
وموزّعي الأفلام ولم يعد أحد يحفظ من صورة وجهك غير نظّارتيك
الحالكتي الظلمة. إلى أي جهنم ذهبت وفي أي جحيم أنت الآن؟
"الجحيم هي الأخرون". زيّن هذا الشعار الحملة الدعائية للفيلم
وما لبث أن احتل مساحة اللوحات المعلنة عن برامج صالات السينما
في شوارع بيروت ووسطها التجاري. على الشاشة، افتتح الفيلم بعملية
اغتيال نفذها بطله أنور بكلاشنيكوف ذهبي من فوق سطح مطل على مقهى
الهورس شو في شارع الحمراء. باستثناء هذه العملية، صوّرت مناظر
الفيلم كافة في الكويت، حيث تطايرت أشلاء الجثث والسيارات
المحترقة إثر مطاردة الشرطة لأنور الهارب بمجوهراته المسروقة
وشقاء عمره في المافيا وعمله مراسلاً حربياً في المناطق الساخنة
من العالم.
عبر هروب أنور من العدالة، طرح "ذئاب لا
تأكل اللحم" إمكان انقلاب صحافّي ومثقف يساري النزعة الى قاتل
محترف بحجة مرارة مشاهداته المريرة لفظائع الإبادة والمجازر في
دير ياسين وكوريا وفيتنام. وعبر الممثل الراحل فيليب عقيقي، مؤدي
دور والد زوج الستّ عايدة، طرح "سيدة الأقمار السوداء" بشاعة ما
أحدثه إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي من جريمة في
حق الإنسانية. وأنا ليس لديّ ما أطرحه عليك يا رشيد. سأترك
جانباً مراهقتي غير المغفور لها وأصارحك وجهاً لوجه وإن كان وجهك
وخبرك في علم الغيب. لست في وارد كتابة النقد عن كل من الفيلمين
ولا المقارنة بينهما. طبعاً، أخفي انزعاجي من رؤية "جميلة
النهار" للويس بونويل منحولاً ومشتعلاً في جذوة تأوّهات "سيدة
الأقمار السوداء" وتحويل سوريالية السينمائي الأسباني محاضرة في
بشاعة الروح ودرساً في "جسد دنسته الخطايا" يلقيهما فيليب عقيقي
أمام مرآة مهشّمة التكوين، أو تقديم "ذئاب لا تأكل اللحم" بكلمات
نقدية مكتوبة على غلاف الـ"دي في دي" من دون توقيع وتمتدح عمل
المخرج في اعتباره "فيلم الغضب ضدّ العنف" و"المُمهِّد لنوع من
السلسلة السوداء، وإطاره السينما الأميركية، من كوينتين
تارانتينو الى أوليفر ستون وجون وو وكبار الأسياد في الفن
السابع". أعلم يا رشيد، وأزعم، أنك لم تكن يوماً هاوي نقد
سينمائي أو قارئاً له. كنت مؤمناً أن الله خلقك لبيع تذاكر
الدخول الى السينما. مع ذلك، لن تخالفني الرأي لو ادّعيت في حضرة
غيابك أن لوردات الفن السابع وكونتاته وأساتذته لا يدينون بالفضل
الى مخرج "ذئاب لا تأكل اللحم". ألا تعتقد أن من المستحسن
التنويه بفضله في "إيلاج" البورنو الى السينما اللبنانية؟ من يرى
الفيلمين اليوم، يلفته تحرر الممثلة المصرية من المحرمات، ورخاوة
العيش في بيروت والكويت في سبعينات القرن العشرين، وعدم أخذ
المخرج من الهموم المحلية ما يتجاوز انحطاط البورجوازية وخوف عمّ
الستّ عايدة وأنور على مصير البشرية من حروب الإبادة. في وسع
سمير أ. خوري المزايدة في الثناء على "ذئاب لا تأكل اللحم"
وإضافة جملة الى وصفه الآنف له بأنه ليس "فيلم الغضب ضد العنف"
وإنّما كذلك نبوءة الحرب اللبنانية قبل عام من نشوبها، ولو عاد
إليّ أمر التأريخ لهذه الحرب لما تردّدت في القول يا رشيد إنها
نشأت عن فوران جنسي حجبه سواد نظارتيك السميكتين عن عينيك.
على شاطىء بيروتي، امتطت ناهد يسري
حصانها ولهثت وراء حسين فهمي إخماداً لغليلها. وفي الكويت،
تمدّدت ناهد شريف على فراش الغرام وغمر الحمام الطائر جسدها
المنتشي بالقبلات، ويا غرام يا غرام. هللويا لناهد الأولى وناهد
الثانية. ألف طوبى لكلّ ناهد، والغبطة الغبطة لكلّ نهود الأرض.
بربّك يا رشيد، قل لي أين راحت تلك الأيام وفي أي نهد أنت الآن؟
|