قال الله تعالى:
"وقال الملك ائتوني به استخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين"

ـ سورة يوسف 54 ـ 

"نحو استراتيجية مائية في سوريا"
ندوة الثلاثاء الاقتصادية الثالثة عشرة
16/5/2000

الأستاذ الدكتور شبلي الشامي

 

1 ـ مبررات الدراسة (المقدمة):

1 ـ 1 ـ ندرة المياه في الشرق الأوسط كانت وراء حضارات الشرق الأوسط (في الهلال الخصيب) أو على ضفاف نهر النيل حيث استقرت الحضارة حول مصادر المياه عموماً فحضارة ماري ذات الألفي مهندس ري والتي استقرت على ضفة نهر الفرات قد جعلت شعار مصلحة أعمال المياه والري لديها [بأن المياه هي الحياة السرمدية] وذلك مصداقاً لقوله تعالى "وجعلنا من الماء كل شيء حي" ولا تزال آثار تلك الحضارات قائمة للآن مثل تقسيم نهر بردى لفروع سبعة مع شبكة صرف لمياه الري في الغوطة وسد مأرب وبئر زمزم والتي تمثل أشكالاً لإستثمار المياه في المنطقة العربية والتي ترافقت بتطور الشرائع والقوانين التي تعنى بشؤون المياه كشريعة حمورابي وأرنمو وقانون أشنونة التي تعود إلى حوالي أربعة آلاف سنة مضت كما تعكس قصة طوفان نوح عليه السلام الخوف من عدم القدرة على التحكم بالمياه، وحالياً لو استعملت مياه النيل وشط العرب وبغض النظر عن حقوق الآخرين (كالدول الأفريقية على نهر النيل وتركيا على نهري الفرات ودجلة) فإن المياه كلها أقل من أن تفي بحاجاتنا حالياً ومستقبلاً إلا إذا استعملت المياه لأكثر من مرة وباستعمال تقنيات رفيعة للمعالجة او استعمال هندسة المورثات لزيادة الانتاج أو تحلية مياه البحر او قطف رطوبة الهواء...(1).

1 ـ 2 ـ المناخ والذي يميل ليصبح أكثر جفافاً مع ظاهرة الدفيئة (البيت البلاستيكي) لأغلب أقطار المنطقة وتبدو الأمطار في المناطق الجبلية والساحلية مقبولة حيث يقدر الهطول المطري بـ 600 ـ 1000 مم سنوياً ليتحول هذا الهطول المطري إلى تبخر أو يجري في المسيلات والانهار وبالتالي فانتشار وتوسع ظاهرة التصحر نتيجة لتدهور المناخ يستوجب تحسين البيئة لمكافحة التصحر ومن أفضل وسائل تحسين البيئة. الاستعمال المتاح والأفضل لمصادر المياه المتوفرة.

1 ـ 3 ـ تزايد السكان بمعدل أكثر من 5% احياناً وحوالي 4% حالياً أدى إلى ارتفاع عدد سكان سورية من 0.5 مليون في بداية القرن العشرين إلى 3 مليون في منتصفه إلى حوالي عشرين مليوناً في نهايته ومع انهيار الاتحاد السوفيتي والهجرة المستمرة لليهود منه إلى المنطقة فازداد عدد سكان اسرائيل وأصبح اكثر من ستة ملايين نسمة ومع ارتفاع مستوى المعيشة والاستهلاك في اسرائيل فقد ازداد الضغط على مصادر المياه واستهلاك الغذاء ومع انهيار الاقتصاد الهش الحرج لأغلب أقطار الشرق الوسط لأنها ليست كلها أقطار نفط غنية... مما يستوجب حلولاً واتفاقيات تضع التجمعات السكانية في المنطقة أمام امكانيات أكثر استقراراً.

1 ـ 4 ـ مع تحسن اسعار النفط والازدهار الذي رافق ذلك في السبعينات من القرن العشرين والذي انعكس على تحسن مستويات المعيشة للتجمعات المحلية مما أدى لاستهلاك أكثر من المياه للأغراض المنزلية فقد كانت احتياجات الفرد في أوائل السبعينات من 25 ـ 35 ليتر يومياً واستمر ارتفاع الاستهلاك المنزلي حتى تجاوز 150 ليتر يومياً وذلك يستوجب تدوير المياه (اعادة استعمالها) باستعمال المعالجة المتقدمة أو بانشاء شبكتين لإمداد المياه بحيث تحتوي شبكة على المياه الصالحة للشرب والطبخ وتحتوي الشبكة الأخرى على المياه للاستعمالات الأخرى مثلاً، أو اللجوء إلى حلول بديلة متعددة ودراسة الحل الأمثل...

1 ـ 5 ـ في سوريا سبعة أحواض مائية: الفرات ودجلة بين سورية وتركيا والعراق والعاصي بين لبنان وسوريا وادعاء تركيا بمصبه واليرموك بين سوريا والاردن ولبنان وفلسطين وادعاءات اسرائيل وحوض دمشق الذي يشمل بردى والاعوج بين سوريا وجزء صغير من لبنان وحوض حلب بين سوريا وتركيا وحوض الساحل السوري وعلاقته بمواثيق البحر الابيض المتوسط (كاتفاقية برشلونة وغيرها) وحوض البادية هو جزء من بادية بلاد الشام؟ وهذه الاقطار المتجاورة تخضع للتنافس الدولي والاقليمي والوطني الكامن لصراع مستقبلي.

1 ـ 6 ـ انعدام الثقة المستمرة والشعور المريض بين اغلب اقطار الشرق الأوسط واثبتت الحروب العربية الاسرائيلية وحرب الخليج الأولى أن الصراع بين القوميات قد وصل إلى الصراع المسلح بينما أظهرت حرب الخليج الثانية أن الصراع ليس بين القوميات المختلفة فقط وإنما بين العرب ـ العرب أيضاً وذلك يستوجب الوصول إلى حلول واستقرار بشكل ما.

1 ـ 7 ـ واستمراراً لأجواء عدم الثقة فلا يوجد تنظيم لاستعمالات المياه بين الاقطار المتشاطئة وبعد مباحثات لأكثر من 50 سنة بين تركيا وسوريا والعراق فلا يوجد اتفاق جدي حتى الآن؟ وذلك يقتضي الرجوع إلى القوانين الدولية والحالات المشابهة وايجاد الحلول التي تساعد على الاستقرار.

1 ـ 8 ـ الاستقرار السياسي مرهون بالاستقرار دولياً واقليمياً ومحلياً وبعدد من العوامل الداخلية المتعلقة بالبنية الفكرية والثقافية والاقتصادية وذلك يؤثر على التزاحم لاستخدامات المياه فكلمة rival أتت من اللاتينية rivalis وتعني (المشاركة مع الاخرين على نفس الجدول) ولكنها حديثاً تستعمل للتنافس بالمقياس الوطني والدولي، إضافة لأثر التقانة على وفرة المياه للنباتات والاحياء الأخرى plethora of plant، وعلى مشاريع أنهار العالم منذ سنة 1945 والتي أدت لقلب ونقل وحجز وصرف وسد جريان الأنهار التي كانت تجري على مدار آلاف السنين كمياه سطحية أو المياه الجوفية بطول أميال تحت السطح والتي تدعى بالأقنية (أو الفجارات) canat والتي كانت تمد المياه لمدينة صغيرة أو لقرية فقط ومع استعمالات تقنيات الضخ فقد جفت آلاف الاقنية في المنطقة وحرمت آلاف التجمعات السكانية من الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي الذي اعتادوا عليه منذ فجر التاريخ مما خلق عشوائيات متنافرة وكامنة لانفجارات سياسية مستقبلاً؟

1 ـ 9 ـ ظاهرة تملح التربة نتيجة لتبخر مياه الري بحرارة الشمس ولأن المياه ترمي املاحاً اضافية على الأراضي فيرتفع تركيز شوارد المعادن minerals وتجف على السطح كمتبقي يشبه الكعكة أو تنحل مع المياه الجوفية لتسمم جذور النباتات وتملح الأراضي يستوجب مزيد من المياه لاستمرار الانتاجية. لذلك تتطور تقنيات استعمال المياه المتملحة عبر الأغشية أو الديلزة أو القلع بالمحاليل أو التناضح العكسي... أو التفاعلات الكيميائية، الفيزيائية، البيولوجية... واستعمالات التقنيات الحديثة قد أصبح مألوفاً بشكل ما لاستخدامات المياه المنزلية ولكن مازالت الاستخدامات الأخرى تصطدم بحاجز الكلفة.
ولكن مع المزيد من البحث فقد تصبح الكلفة معقولة لأن المياه الجوفية المتملحة أو السطحية من أهم مصادر المياه المتجددة لمناطق البدو والمراعي...

1 ـ 10 ـ مشاكل ما بعد ضخ النفط فمثلاً تضخ السعودية 18 بليون م3 من المياه الوقودية fossil water بالسنة ومع زيادة التجهيزات التقنية والتحكم الانساني على الانظمة الطبيعية فستبقى مشاكل ما بعد ضخ النفط؟ (2) اضافة للتنافس على هذه المصادر الذي قد يطور الصراع في المنطقة بين الاقطار المختلفة... ومع ازدياد أهمية المياه كمصدر طبيعي فقد يكون وقف امداد المياه عن احدهم سبباً يشعل الصراع في الشرق الاوسط بطريقة سريعة كالحالة الراهنة لحوض الفرات ودجلة (تركيا وسوريا والعراق) ولحوض اليرموك (سوريا ـ لبنان ـ فلسطين ـ الاردن ـ اسرائيل) ولأن تداخل المياه السطحية والجوفية والموازنة المائية وضخ المياه الوقودية يستوجب ايجاد الحلول المناسبة قبل اندلاع الصراع المسلح... لأن المسائل الدولية واحتكاكاتها وتنافسها على المياه الموجودة يزداد اهمية مع ندرة المياه.

لذلك تزداد الحاجة لاستراتيجية وطنية مثل نقل المياه بمقياس كبير أو جر المياه عبر الاقطار كمشاريع في الشرق الاوسط قابلة للدراسة والمقارنة...

ففي الشرق الاوسط يهطل 1/3 - 1/2 الهطول المطري على 10% من الأراضي ولذلك تنقل بعض الحكومات في الشرق الاوسط للمياه عبر السوتيرات (نقليات المياه) وهذا النقل بالسيارات لا يسبب الصراع ولكن النقل بكميات كبيرة عبر النواقل الهندسية يسبب الصراع بين مناطق وأخرى داخل الدولة وبين الدول المتجاورة... خاصة وأن ازدياد الطلب على المياه لدى المناطق التي كانت تمنح المياه قد يسبب صراعاً كامناً مع إهمال بعض الحكومات لدراسة طلبات مانحي المياه، أو صراعاً على مسرح القرن الواحد والعشرين بين الدول المغتصبة لأكثر من حقها والدول التي تنال كميات أقل، وكل ذلك خاضع لنقاش يطول ويجب ربطه بالاحتياجات والتعويضات العادلة والمساومة بعيدة النظر... فمثلاً بعد خلق اسرائيل سنة 1948 وجر المياه من المنطقة الشمالية الممطرة إلى الجنوب الجاف بمسافة 270 ميلاً (432 كم) خلال ناقل المياه القومي ومع طلبات واحتياجات أهل الشمال وعدم الوصول لخطط مياه وطنية واقليمية ودولية لاستعمالات المياه في الاقليم فقد تغير المحصول التجاري الرئيسي من الموز للخضراوات الأقل ربحاً...

التنافس على استعمال مياه دجلة والفرات خلق صراعاً كامناً ففي العراق انشئت الحواجز والمنظمات للري منذ سنة 1950 وسحبت مياهاً كثيرة مما أعاق استمرار الملاحة والنقل النهري بدجلة والفرات كما انشئت تركيا الكثير من السدود على الفرات (21 سداً) وسداً على دجلة في مشروع جنوب الأناضول وبالتالي فالسياسة المائية الرسمية على نهري دجلة والفرات في تركيا وشمال العراق قد استهدفت الضغط على الاكراد واحتوائهم حيث منبع النهرين العظيمين هو موطن الاكراد عبر التاريخ... وحجز المياه بسد يسبب أثاراً على الحبس العلوي والسفلي للنهر فقد أغرق آلاف الهكتارات على الحبس العلوي في تركيا وسوريا والعراق كما أن حجز الجريان الطبيعي يسبب قلة ترسيب السيلت والطمي على الحبس السفلي لأن هذه المواد المخصبة تحجز في الحبس العلوي أو بحيرة السد ففي حالة السد العالي مثلاً يلزم استهلاك نصف الطاقة الكهربائية الناتجة عن السد لإنتاج المخصبات الصنعية البديلة عن السيلت والغضار التي كانت تخصب وادي النيل... كما أن ترسب السيلت في البحيرة يسبب تآكلاً جدياً حول المنشآت المقامة سابقاً على النهر كالجسور... وتناقص نوعية صيد الاسماك والاستيطان الحيوي في مجرى النهر عموماً... إذاً الصراع المتعدد الاطراف على الانهار مأساة كامنة كبيرة وأكبر الصراعات في الشرق الاوسط حول نهر الاردن وعلى طول مجرى دجلة والفرات وصراع الدول العشرة على حوض النيل؟

1 ـ 11 ـ الاستشعار عن بعد لمصادر واستعمالات المياه مع تقنيات GIS ذات صلة عميقة بموضوع هذه الدراسة. ففي أكثر دول المنطقة مراكز للاستشعار عن بعد وبتكامل هذه المعلومات ضمن استراتيجية تتيح للجميع منافع مشتركة فقد يكون الاستشعار عن بعد من أهم تقنيات هذا العصر لمعرفة الاحتياجات الدقيقة ومعرفة ماهو متوفر فعلاً وبدقة وبالتالي ترسم المشاريع والسياسات معاً وبدون هدر الوقت اللازم حول جدوى قاعدة المعلومات ودقتها فأكثر اسباب سوء التفاهم بين الاطراف المتجاورة قد نتجت عن سوء التقدير (للاحتياجات والمصادر) وعندما تقدم المعلومات الدقيقة تستقر الأمور باتجاه الحل المناسب لكافة الاطراف...
من هذه المبررات فلا بد من تحديد قيمة مواردنا المائية وكيفية التعامل معها وادارتها واستثمارها ليتسنى لصانعي القرار اتخاذ الخطوات العلمية المدروسة لتأمين الحاجات المتزايدة على المياه وتلافي الأزمات المستقبلية التي تهدد المنطقة وسوريا بشكل خاص.


 الصفحة التالية - الفهرس