|
في إطار سعي الاتحاد الأوربي إلى تشكيل منطقة اقتصادية استراتيجية أوربية تجمع إلى المركز محيطاً مناسباً جغرافياً وسياسياً واقتصادياً طرحت المفوضية الأوربية عدة مشروعات تكامل اقتصادي بين الاتحاد الأوربي ومجموعات عديدة من البلدان: مجموعة دول أفريقية والكاريبي والمحيط الهادي (ACP) ومجموعة الدول المتوسطية غير الأوربية (P.T.M) وأخيراً دول أوربة الوسطى والشرقية (PETCO). وسورية إحدى الدول المتوسطية التي بدأ الاتحاد الأوربي مفاوضات الشراكة معها في إطار الشراكة الأوربية ـ المتوسطية وفي ضوء إعلان برشلونة الموقع من الاتحاد الأوربي والدول الأخرى المتشاطئة على المتوسط عام 1995. والشراكة السورية ـ الأوربية ليست مجرد اتفاق تكامل اقتصادي أو معاهدة تقارب سياسي بل إنها سعي لإدماج الاقتصاد السوري من خلال آليات تأسيس منطقة تجارة حرة وإجراء التصحيح الهيكلي في الاقتصاد السوري ليتلاءم مع الشراكة من ناحية ومع اقتصاد السوق والعولمة الاقتصادية من ناحية ثانية ـ يبدو أن مشروع الشراكة الأوربية المتوسطية ليس سوى مشروع لتهيئة اقتصاديات المتوسط وإعدادها للالتحاق بالاقتصاد العالمي من البوابة الأوربية.
إن موضوع الشراكة السورية ـ الأوربية من الموضوعات التي تحتاج إلى دراسة معمقة لتقرير مدى استجابتها لمصلحة سورية سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً أي فيما يتعلق بمجمل المحاور التي تتناولها الشراكة غير ان هذا البحث سيركز على الجانب الاقتصادي ولو أننا لن نهمل الجوانب الأخرى تماماً.
والشراكة السورية الأوربية جزء من الشراكة الأوربية ـ المتوسطية التي يعد إعلان برشلونة قانونها الأساسي حتى الآن. وسيكون الهدف الرئيسي لبحث متطلبات هذه الشراكة وقدرة الاقتصاد السوري على الاندماج معها الاجابة على مجموعة من الأسئلة والتي من بينها:
إلى الكثير من الأسئلة التي سوف نتعرض لها في سياق البحث.
منذ عام 1958 مع إقامة الوحدة مع مصر بدأ الاقتصاد السوري يأخذ طابع الاقتصاد الموجه ومنذ عام 1961 بُدِئ بإعداد الخطط الخمسية فكانت الخطة الأولى (1961 ـ 1965) وتتالت الخطط حتى نهاية عام 1985، ومنذ عام 1970 بدأ الاقتصاد السوري السير باتجاه تحرير النشاط الاقتصادي وبدأت الحكومة منذ ذلك التاريخ تفسح في المجال أمام القطاع الخاص أكثر فأكثر لتولي مهام تنمية الاقتصاد الوطني إلى جانب القطاع العام. وهكذا اعتمد الاقتصاد التعددية منهجاً في التطور بهدف تعبئة كل الموارد المتاحة لتحقيق معدلات نمو مرتفعة في الانتاج.
مع هكذا اقتصاد بهذه السمات وهذا الحجم يصبح السؤال عن جدوى انضمامه إلى الشراكة أمراً مشروعاً إذا لم نقل ضرورياً.
يعد اقتصاد الاتحاد الأوربي (من خمسة عشر دولة) الاقتصاد الأول في العالم متقدماً على الاقتصاد الامريكي بما لايقل عن 10% بحجم ناتج محلي إجمالي يبلغ 8500 مليار دولار مقابل أقل من 8000 مليار دولار للولايات المتحدة الأمريكية ومن المتوقع أن يزداد تفوق الاقتصاد الأوربي على الامريكي بإنضمام دول جديدة إلى عضوية الاتحاد من بين الدول المرشحة للعضوية وهي كثيرة حتى الآن إضافة إلى رغبة جميع الدول الأوربية غربيها وشرقيها بالانضمام عندما تستكمل الشروط اللازمة، كما أن الناتج المحلي الاجمالي في الاتحاد الأوربي يعادل ضعف الناتج المحلي الياباني ويزيد نصيب الاتحاد الأوربي الحالي على 20% من حجم التجارة الدولية إضافة إلى دوره المتنامي في الاستثمارات الدولية المباشرة.
إن اقتصاداً بهذا الحجم وهذه الفعالية من شأنه أن يوفر للاقتصادات المتوسطية بما فيها الاقتصاد السوري امكانية تجاوز عقبتين رئيسيتين من وجه التنمية الاقتصادية: نقص رؤوس الأموال وضيق السوق الداخلية. لذا فإن الشراكة السورية الأوربية إذا وضعت شروطها على أسس متكافئة لمصلحة الطرفين تراعي خصوصية الاقتصاد السوري ستكون قادرة على فتح الباب واسعاً أمام هذا الاقتصاد للنمو والتفاعل مع الاقتصاد العالمي عبر البوابة الأوربية بشرط أن نتمكن من إدارة اقتصادنا بروح عصرية (في القطاعات الأربع: العام والخاص والمشترك والتعاوني) لخلق مزايا نسبية حركية تجعلنا قادرين على الاستفادة من الامكانية التي تتيحها لنا الشراكة ومن خلالها العولمة.
والاتحاد الأوربي أحد الفاعلين الرئيسيين باتجاه العولمة ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية ساهمت دول الحلفاء الأوربية المنتصرة في مؤتمر بريتون وودز الذي أرسى أسس بناء اقتصاد دولي يتجه نحو التحرر الاقتصادي فالعولمة. فقد أنشىء في هذا المؤتمر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي المؤسستان الدوليتان عرابتا الاقتصاد المعولم الراهن. ونظراً لاختلاف مستوى النمو بين القارة القديمة المتهدمة من الحرب (انكلترة، فرنسة، ألمانية وإيطالية) وبين القارة الجديدة (الولايات المتحدة الأمريكية) التي حققت خلال الحرب تفوقها على كل الاقتصادات المتقدمة الأخرى، بسبب اختلاف مستوى النمو بين الطرفين لم يمكن اقرار احداث منظمة التجارة العالمية واكتفي باعتماد الاتفاقية العامة للتجارة والتعريفات ـ الجات (GATT) التي تهدف إلى تحرير التجارة الدولية تدريجياً وصولاً إلى التحرير المتعدد الأطراف الكامل، ورعت هذه المنظمة في المدة بين 1947 و 1994 ثمان دورات من المفاوضات توصلت خلالها إلى تخفيض الرسوم الجمركية ومن ثم إلى اقرار نظام منظمة التجارة العالمية بنتيجة مفاوضات دورة الاورغواي الأخيرة (1984 ـ 1994) والتوقيع عليه في الدار البيضاء في المغرب بتاريخ 15 نيسان 1994.
بدءاً من الأول من عام 1995 حلت منظمة التجارة العالمية وفق نظامها الأساسي محل اتفاقية الجات، وكانت دورة مفاوضات الاورغواي قد تمخضت، إضافة إلى إحداث منظمة التجارة العالمية، عن النتائج التالية.
والدول الأوربية في مسيرتها الطويلة باتجاه العولمة بقيت دائماً حريصة على دعم تكتلها الاقتصادي المتمثل بالسوق الأوربية المشتركة (الجماعة الأوربية ومن ثم الاتحاد الأوربي). ففي عام 1957 تم توقيع معاهدة روما بإحداث السوق المشتركة من قبل ست دول أوربية وفي عام 1972 انضمت إلى عضويتها أربع دول جديدة وفي عام 1981 انضمت اليونان وفي عام 1986 انضمت كل من اسبانية والبرتغال إلى الجماعة الأوربية. وفي أول عام 1993 دخلت اتفاقية ماستريخت حيز التطبيق ومن ثم تحولت الجماعة الأوربية إلى الاتحاد الأوربي. وفي أول عام 1995 ومع انضمام النمسة وفنلندة والسويد إلى الاتحاد الأوربي أصبح عدد الأعضاء خمسة عشر. إلى هذا التوسع الملحوظ في العضوية والتحول الملموس في شكل التكتل كانت اجراءات التوحيد الاقتصادي تتعمق بحيث تحولت اقتصادات الدول الأوربية الأعضاء إلى اقتصاد أوربي (في عام 1979 بدأ العمل بنظام النقد الأوربي، في مطلع عام 1993 تطبيق السوق الموحدة في عام 1994 إحداث مؤسسة النقد الأوربي وفي عام 1999 احداث اليورو وحدة النقد الأوربي في الاتحاد).
وفي ذات الوقت الذي كانت فيه أقطار الاتحاد الأوربي تتمحور حول ذاتها كانت تتطلع أيضاً إلى التقارب مع البلدان الأوربية الأخرى في أوربة الوسطى والشرقية إضافة إلى تطلعها المستمر لايجاد تخوم محيطة حول المركز الأوربي. في عام 1975 وقعت المفوضية الأوربية اتفاقية لومي الأولى مع ست وأربعين دولة في افريقية والكاريبي والمحيط الهادىء وقد تم تجديد هذه الاتفاقية أربع مرات وانضمت إليها دول افريقية وكاريبية جديدة حتى بلغ عددها تسعة وستين دولة. كما أن الجماعة الأوربية كانت، بحكم علاقات أعضائها التاريخية مع الدول المتوسطية، تسعى دائماً لربط الدول المتوسطية باتفاقيات تعاون اقتصادي بدءاً من الستينات في القرن الماضي في إطار سعي أوربة لبناء اقتصادها القومي في مواجهة القوة الاقتصادية الأمريكية والآسيوية بزعامة اليابان. برزت إلى الوجود ثلاثة مراكز اقتصادية عالمية تسعى كل منها إلى ربط مناطق جغرافية قريبة إليها لتشكل مناطق اقتصادية استراتيجية كبيرة تقوي مواقعها في التنافس على نشر قواعد سلوكها الاقتصادي في الاقتصاد المتوجه نحو العولمة، وبمعنى آخر السعي لتحويل الاقتصاد العالمي بكل مكوناته إلى اقتصاد قومي متعولم.
وهكذا حلت الأقلمة (تقسيم العالم إلى مجموعة أقاليم) مرحلياً محل العولمة وحل تحرير التجارة الثنائي الأطراف (التحرير المتبادل للتجارة ومناطق التجارة الحرة) محل التحرير المتعدد الأطراف (في إطار اتفاقيات الجات ومنظمة التجارة العالمية). وبالطبع فإن الاتجاه الواضح نحو الأقلمة في الوقت الراهن ليس أكثر من محاولة القوى الاقتصادية العظمى: الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد الأوربي واليابان، الحصول على نصيب أكبر من كعكة الاقتصاد المعولم.
الاتحاد الأوربي من جانبه يفعل كل شيء ممكن وكأنه ينظر إلى أقلمة العالم، وهو يسعى إلى العولمة، وكأنها نهاية التاريخ فيسعى إلى تشكيل أكبر منطقة اقتصادية استراتيجية في العالم، تضم إلى المركز (الاتحاد الأوربي) المناطق الجغرافية المتاخمة والقريبة: أوربة الوسطى والشرقية بعد انتقالها إلى اقتصاد السوق، مجموعة دول افريقية والكاريبي والمحيط الهادي إضافة إلى دول جنوب وشرق المتوسط. وفي ذات الوقت يسعى الاتحاد لتوسيع علاقاته التجارية، في إطار اتفاقات تبادلية تتوافق مع أحكام منظمة التجارة العالمية، مع أمريكة اللاتينية والصين واسترالية وغيرها.
والتحرك الأوربي باتجاه المتوسط يهدف إلى توسيع المنطقة الاقتصادية المتمركزة حول أوربة من ناحية كما يسعى إلى تقوية نفوذ أوربة السياسي والاقتصادي في النظام العالمي الجديد إضافة إلى زيادة نصيبها في كعكة الاقتصاد المعولم من ناحية ثانية، إذا هبت الرياح في هذا الاتجاه.
العلاقات الأوربية ـ المتوسطية قديمة قدم اكتشاف وسائط النقل التي سمحت بربط المنطقتين وكانت هذه العلاقات حتى نهاية الحرب العالمية الثانية علاقة تجاذب بين كر وفر منذ الغزو الروماني لشرق المتوسط حتى الغزوة الصهيونية. وكانت شعوب شرق المتوسط إضافة إلى الدفاع ضد الغزوات الأوربية تحاول القيام بهجومات مضادة من مثل الفتح الاسلامي للأندلس ومحاولة العثمانيين الوصول إلى قلب أوربة. فهل سيكون مشروع الشراكة الأوربية ـ المتوسطية مشروع مصالحة تاريخية بين أوربة والدول المتشاطئة على المتوسط تؤدي إلى تفاهم الأطراف المتشاركة حول كل الموضوعات الحياتية، يمحو من أذهان الأجيال الحالية والمستقبلية أثقال الماضي ويخلق جواً من الانفتاح العام بين الأطراف آخذاً بالحسبان التغيرات التي طرأت على العلاقات بين الشعوب والدول باتجاه العولمة؟
بعد الحرب العالمية الثانية توضحت لشعوب العالم المتقدم والنامي أن التعاون أكثر فائدة من الاقتتال وبرزت في نهاية السبعينات اطروحات جديدة مثل الاعتماد المتبادل بدلاً من الهيمنة والتبعية وفي أواخر الثمانينات طلعت الولايات المتحدة الأمريكية بمقولة النظام العالمي الجديد وتكرست هذه المقولة بعد حرب الخليج الثانية وتلازمت معها ضرورة قيام نظام اقتصادي عالمي يعتمد مبدأ التخصيص الأمثل للموارد وعولمة الاقتصاد بتجاوز الحدود السياسية للدول والتركيز على المصلحة الاقتصادية المتبادلة بين الشعوب. تتعدى طروحات العولمة حدود الاقتصاد لتشمل السياسة والثقافة والفكر والفن الخ...
في ضوء كل هذه المتغيرات واتجاه الولايات المتحدة الأمريكية لقيادة العالم سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وسعيها الحثيث لنشر قواعد اللعبة الامريكية عالمياً كان التحرك الأوربي نحو التكامل الاقتصادي الأوربي (السوق المشتركة)وتعميقه (السوق الموحدة، الوحدة النقدية فالاتحاد الأوربي) كي تتمكن أوربة من الوقوف على قدم المساواة مع القوة الاقتصادية الأمريكية. وفي هذا الاطار يجب النظر إلى السياسة الأوربية المتوسطية بعد الحرب العالمية الثانية وانتهاء حقبة الاستعمار العسكري والاقتصادي المباشر.
بعد أن حصلت المستعمرات الأوربية السابقة على الاستقلال برزت دعوات اقتصاديين وسياسيين أوربيين لمد يد العون لهذه الدول ودعم اقتصاداتها الوطنية. لقد كان الاقتصاديون الأوربيون أمينين لمبادىء علم الاقتصاد التي صاغها اسلافهم (آدم سميث، دافيد ريكاردو وجون ستيوارت ميل) وبخاصة فيما يتعلق بنظريات التجارة الخارجية التي طورها كل من هيتشكر، أوهلن وسامويلسون وفريدريك ليست وسواهم. وكانت هذه الدعوات إضافة إلى الحس الإنساني الذي تجلّت به تعتمد في الأساس قانونية التطور الاقتصادي القائم على أن عالماً منقسماً إلى دول صناعية متقدمة وأخرى تابعة فقيرة متخلفة لا يمكن أن يحقق النمو الاقتصادي المنشود ويستمر في العيش بسلام[8-1990](*) .
لقد ميزت دول السوق الأوربية المشتركة منذ تأسيسها، في علاقاتها الاقتصادية الخارجية، بين مجموعة الدول الأوربية المتوسطية المرشحة للانضمام إلى عضوية السوق وبين مجموعة الدول المتوسطية الأخرى التي يقتصر التعامل معها على التعاون الاقتصادي والتنسيق السياسي. كما ميزت داخل كل مجموعة مجموعات فرعية أو بلدان محددة على أسس متباينة: العلاقات التاريخية، مستوى التطور الاقتصادي، القدرة التنافسية للمنتجات في الدول الشريكة إضافة إلى حماية منتجات بعض البلدان الأوربية في إطار السوق المشتركة من المنافسة الخارجية.
وتتبع اتفاقيات التعاون والشراكة التي وقعتها المفوضية الأوربية يسمح برصد ما يلي:
أ ـ لحظت
الاتفاقيات المعقودة مع دول جنوب
أوربة منح هذه الأخيرة شروطاً ملائمة
جداً (الغاء العقبات التجارية، منحها
أفضليات تجارية، الخ...) من أجل
تأهيلها لاحقاً للانضمام إلى السوق.
ب ـ طبقت السوق مع البلدان المتوسطية
النامية غير الأوربية (وغير
المتوسطية أيضاً كالدول الافريقية
ودول الكاريبي والمحيط الهادي نظام
الأفضليات المعمم القاضي بمنح
المنتجات الصناعية لبلدان العالم
الثالث عند دخولها إلى السوق أفضلية
في المعاملة الجمركية مقارنة
بمثيلاتها المستوردة من البلدان
المصنّعة.
جـ ـ لحظت اتفاقيات التعاون بين
السوق المشتركة وبلدان حوض المتوسط
الأخرى (باستثناء اسرائيل وتركيا)
اعفاء صادرات الدول المتوسطية
الصناعية عند دخولها إلى دول السوق
من الرسوم الجمركية في حدود حصص كمية
محددة دون شرط المعاملة بالمثل. ومثل
هذا الشرط ملحوظ في اتفاقية التعاون
المعمول بها مع سورية.
د ـ في الثمانينات نحت دول السوق في
تعاملها مع الدول المتوسطية الأخرى
نحو تطبيق مقاربة شاملة باتجاه توحيد
مبدأ المعاملة مع بعض الخصوصية تبعاً
لمستوى تطور البلد المعني ومدى قدرة
منتجاته على منافسة الانتاج الأوربي
(الاتفاقيات المعقودة مع اسرائيل على
وجه الخصوص بعد أن وقعت هذه الأخيرة
اتفاقية تحرير تجارتها مع الولايات
المتحدة الأمريكية).
ولكن النتائج التي تحققت في إطار المعالجة الشاملة أو السياسة المتوسطية الشاملة لم تكن كافية. فحتى عام 1988 لم تبلغ قيمة الواردات الأوربية من المنتجات الصناعية القادمة من البلدان المتوسطية غير الأعضاء في الاتحاد (المراد تشجيعها أصلاً) سوى 13 مليار ايكو (وحدة النقد الأوربي في ذلك التاريخ) والقسم الأعظم منها كان من مصدر اسرائيلي أو تركي. كما أنالاستثمارات الأوربية المباشرة في هذه الدول بقيت ضعيفة جداً. وعلى الصعيد المالي كانت المعونات الأوربية قليلة فلم تتجاوز المساعدات الأوربية الحكومية الصافية الممنوحة للبلدان المتوسطية لأغراض التنمية 17% من مجموع المساعدات التي تلقتها هذه البلدان في حين قدمت الولايات المتحدة 39% من المساعدات التي تلقتها الدول المتوسطية كما قدمت منظمة الدول المصدرة للنفط 34% من إجمالي المساعدات.
ومما يدل على ضآلة المعونات التي قدمتها دول الاتحاد الأوربي إلى بلدان جنوب وشرق المتوسط ان الوضع الاقتصادي في البلدان المتوسطية كان يظهر مؤشرات سلبية: تزايد سكاني كبير (انفجار سكاني)، تردي في الأوضاع الاقتصادية (اختلال في موازين المدفوعات، ديون خارجية أكثر من 190 مليار دولار في عام 1988) صعوبات في توفير الغذاء (12% من انتاج أوروبة من الحبوب عام 1987 تم تصديره إلى البلدان المتوسطية غير الأعضاء، يضاف إلى ذلك تردي في الوضع البيئي[14 ـ 1994 ص 353].
دفعت النتائج المتواضعة التي حققتها السياسة الأوربية الشاملة، دفعت الأوربيين إلى التفكير بسياسة جديدة يؤمل منها أن تحقق نتائج أفضل للاتحاد الأوربي ولدول جنوب وشرق المتوسط على السواء إن على الصعيد الاقتصادي أم في دعم دور الاتحاد الأوربي في النظام العالمي الجديد لجهة عولمة الاقتصاد أو لجهة تنشيط الديمقراطية وضمانة حقوق الانسان. في تشرين الأول 1994 أوصت المفوضية الأوربية الاتحاد الأوربي بالعمل على إيجاد منطقة اقتصادية أوربية ـ متوسطية مع جيرانه في شمال افريقية والشرق الأوسط. بحيث تكون هذه المنطقة أوسع منطقة للتجارة الحرة في العالم تسهم في تحقيق الاستقرار في جناحي الاتحاد الأوربي من الجنوب والشرق. وقد عبر المجلس الأوربي، المنعقد في ايسن في أواخر عام 1994، عبر عن أهمية هذه المنطقة بتأكيده «إن الاتحاد الأوربي عازم على دعم هذه البلدان في الجهود التي يبذلونها لجعل منطقتهم تدريجياً، منطقة سلام واستقرار، منطقة ازدهار وتعاون، ولهذا الغرض سيعمل على إقامة شراكة أوربية ـ متوسطية، وتنفيذ الاتفاقيات المعقودة في هذا الاتجاه مع السعي المتواصل لتعميق العلاقات التجارية بين الأطراف المتعاقدة على أساس نتائج مفاوضات الاورغواي»[3 ـ 1995 ص405].
ومنذ أواخر عام 1991 أقر مجلس الاتحاد برنامج عمل المفوضية الأوربية «حول سياسة متوسطية مجدَّدة» تمتد حتى نهاية 1996 يتضمن العنصرين التاليين: تقديم تسهيلات جديدة لدخول المنتجات المتوسطية إلى الاتحاد وتحقيق زيادة ملموسة في الدعم المالي الملحوظ في البروتوكولات المالية السابقة في مصلحة دول جنوب وشرق المتوسط الثمانية. وهكذا كانت بداية توجه الاتحاد الأوربي إلى عقد شراكة مع البلدان المتوسطية.
من الصعوبة بمكان اعطاء جواب واحد يغطي كل جوانب الاهتمام الأوربي بطرح مسألة الشراكة الأوربية المتوسطية. من خلال تحليل الوثائق الأوربية (آراء اللجنة الاقتصادية والاجتماعية، مذكرات المفوضية قرارات وتوجيهات المجلس الأوربي) إلى جانب الدراسات التي يقدمها بعض علماء الاقتصاد والسياسة والاجتماع يمكن القول: إن اعلان برشلونة ـ دستور الشراكة ـ لا يتضمن كل الدوافع والأهداف التي تكمن وراء مشروع الشراكة.
فإن مصلحة الاتحاد الأوربي أن يكون له شركاء تجاريون يتمتعون بديناميكية اقتصادية تتسع معها الأسواق ويزداد الطلب الفعال بما يسهم في تفعيل النمو الاقتصادي في الاتحاد نفسه.
يرى الأستاذ فيليب هوغون الأستاذ في جامعة باريس العاشرة إن أوربة الواسعة التصدير (45% من الصادرات العالمية) لها مصلحة في التحرير الكامل للتجارة لأن الاستثمارات المباشرة لن تتطور إلا إذا توافرت لها الأسواق الواسعة. كما يرى ميشيل فوشيه أن على أوربة أن تكون لاعباً رئيسياً في عملية العولمة بل عليها أن تسهم في تمدين العولمة بأن تعكس ممارساتها الخاصة على الخارج[17 ـ 1998 ص 32-33].
ويرى البعض أن الدعوة الأوربية للشراكة قد تكون وسيلة الاتحاد للتخلص من اتفاقياته السابقة والتكيف مع نتائج مفاوضات دورة الاورغواي وتجاوز المعاملة التفضيلية التي يلتزم بها مع شركائه المتوسطيين وذلك بإقامة منطقة التجارة الحرة على طرفي المتوسط[18 ـ 1995، 144 ص747 ـ 770].
وفي الوثائق الأوربية مئات الصفحات عن الشراكة أو الشراكات (مع أوربة الوسطى والشرقية، مع الدول الأفريقية، مع دول الكاريبي والمحيط الهادي، الشراكة الأوربية المتوسطية الخ..) وفي معظم الحالات تتكرر الطروحات نفسها ويبقى المحور الرئيس في كل مشروعات الشراكة اقامة مناطق تجارة حرة وادماج اقتصادات الشركاء في الدارة الاقتصادية العالمية بوساطة البوابة الأوربية وعبر الاصلاحات الاقتصادية والسير باتجاه اقتصاد السوق.
وتؤكد اللجنة الاقتصادية والاجتماعية أهمية علاقات الاتحاد مع المتوسط وتدعو إلى إعادة النظر في سياسة الاتحاد الأوربي المتوسطية للأسباب التالية: عولمة الاقتصاد، التغيرات الحاصلة في اوربة الشرقية، تأمين المصلحة التجارية الأوربية مع المتوسط، تقديم المساعدات والتعاون من أجل التنمية وإقامة تكامل اقتصادي. إن قدرة الاتحاد الأوربي على الصمود في المنافسة مع المنطقتين الاستراتيجيتين العظميين على المسرح الدولي (الامريكية بزعامة الولايات المتحدة والآسيوية بزعامة اليابان) غير ممكنة دون إقامة منطقته الاستراتيجية الخاصة مع المناطق المتجاورة معه بما فيها المتوسط[22 ـ 1995 ص 34].
وللاتحاد الأوربي أهداف أخرى في سعيه للشراكة مع المتوسط: تنمية بلدان المتوسط وتحقيق الاستقرار فيها لمواجهة أخطار النزاعات المحلية وبالتالي خطر انتشار المخدرات وتوسع تيار الهجرة إلى أوربة وخاصة بعد ضغط تيار الهجرة من دول أوربة الشرقية والوسطى[23 ـ 1991ص39 و 23Aـ1993]، ضمان مصدر للطاقة بالنفط والغاز اضافة إلى حماية البيئة على ضفتي المتوسط[20 ـ 1994 ص 5 ـ 9]، وكذلك مواجهة أخطار الحركات الأصولية والارهاب والمخدرات والجريمة المنظمة ومواجهة خطر انتشار الأسلحة غير التقليدية وخاصة السلاح النووي[انظر 11، 20، 60 وغيرها].
والخلاصة فإن هدف الاتحاد الأوربي من الشراكة مع المتوسط هو إقامة منطقة استراتيجية (سياسية واقتصادية وسوق مشتركة) أوربية متوسطية (تضم باقي مناطق الجوار الأوربي) من أجل منافسة المنطقتين الكبيرتين الاستراتيجيتين العالمييتين الأخريين الأمريكية والآسيوية والحوار معهما من أجل ضرب عصفورين بحجر واحد: التكيف مع الاتجاه الواسع لأقلمة العالم وضمان حصة أوربة في الاقتصاد العالمي وتقوية موقع المركز الأوربي في تيار العولمة.
كما أن الاتحاد يسعى من خلال الشراكة الأوربية ـ المتوسطية إلى توفير المناخ الملائم لتحقيق السلام في الشرق الأوسط وادماج اسرائيل في بنية المنطقة مع إقامة تعاون وتكامل اقتصادي بينها وبين الدول العربية وربط المجموع بأوربة الكبرى لاحقاً مما سيؤمن منطقة استثمار آمنة للأموال الفائضة في أوربة[20 ـ 1994 ص15].
لقد تحددت منطلقات الشراكة الأوربية ـ المتوسطية بتوافق أطراف الشراكة الثمانية والعشرين (15 دولة أوربية أعضاء الاتحاد مع المفوضية الأوربية التي يعدها بعض المحللين الأوربيين بحق الدولة السادسة عشرة الأقوى في الاتحاد الأوربي إلى 12 دولة أخرى في جنوب وشرق المتوسط) في إعلان برشلونة وبرنامج العمل الملحق به لتنفيذ هذه المبادئ.
وإعلان برشلونة كما صدر يشتمل على أربعة محاور رئيسة: اقتصادي، سياسي، ثقافي واجتماعي، تشمل كل جوانب الحياة على طرفي المتوسط. تضمنت مقدمة الإعلان إشارة واضحة إلى العمل الجاد من أجل تحقيق السلام في الشرق الأوسط بناء على مبادئ الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام. وتخلص المقدمة إلى التأكيد على:
«إقامة شراكة شاملة بين كل الأعضاء المشاركين ـ الشراكة الأوربية المتوسطية ـ عبر تعميق الحوار السياسي على قاعدة منتظمة، تنمية التعاون الاقتصادي والمالي مع التركيز الكبير على الأبعاد الاجتماعية والثقافية والإنسانية باعتبار هذه الأبعاد الجوانب الثلاثة للشراكة الأوربية المتوسطية».
لقد حدد إعلان برشلونة أهداف الشراكة، على نحو رئيسي بما يلي:
آ ـ إقامة منطقة تجارة حرة.
ب ـ تعاون اقتصادي وعمل توافقي.
ج ـ تعاون مالي.
د ـ شراكة في المجالات الاجتماعية والثقافية وتنمية الموارد البشرية من خلال تشجيع التفاهم بين الثقافات والتبادل بين المجتمعات المدنية.
كما تطرق
برنامج العمل إلى تفصيل الخطوات
الواجب عملها في كل المجالات
الحياتية والسياسية والإنسانية التي
تخص العيش المشترك لكل الشعوب
المتشاطئة على المتوسط. إنه برنامج
بناء حياة مشتركة قائمة على التفاهم
والتعاون والعدل.
من استعراض إعلان برشلونة وبرنامج
العمل الملحق به يمكن استخلاص
المبادئ الرئيسية التالية:
1 ـ العمل
المشترك في إطار ميثاق الأمم المتحدة
والقانون الدولي والإعلان الدولي
لحقوق الإنسان.
2 ـ احترام حقوق الإنسان والحريات
الأساسية وحق كل دولة في اختيار
نظامها السياسي والاجتماعي والثقافي
والاقتصادي والقضائي مع مراعاة حرية
التفكير والمعتقد بعيداً عن التمييز
على أساس المعتقد أو العرق أو اللغة
أو الدين أو الجنس أو الانتماء
القومي.
3 ـ احترام حقوق الشعوب المتساوية وحق
كل منها في تقرير المصير وفقاً
لميثاق الأمم المتحدة.
4 ـ احترام وحدة أراضي أي من الدول
الشريكة والمحافظة على وحدتها
السياسية وعدم جواز احتلال أراضي
الغير بالقوة.
5 ـ السعي لإقامة منطقة من الازدهار
الاقتصادي المشترك اعتماداً
علىتسريع وتيرة التنمية الاقتصادية
والاجتماعية المستدامة، تحسين شروط
معيشة السكان، تقليص الفجوة بين
مستويات النمو في المنطقة الأوربية ـ
المتوسطية، وتشجيع التعاون والتكامل
الاقتصادي الإقليمي. ولتحقيق ذلك
يوافق المشاركون على إقامة شراكة
اقتصادية ومالية مع الأخذ بالحسبان
اختلاف مستويات التنمية بين بلدانهم
من خلال: تأسيس تدريجي لمنطقة تجارة
حرة، إقامة تعاون اقتصادي ملائم
والبدء بعمل توافقي في هذا المجال
إضافة إلى زيادة المعونات المالية
التي يقدمها الاتحاد الأوربي
لشركائه.
6 ـ تحديد عام 2010 سنة إتمام البناء
التدريجي لمنطقة التجارة الحرة التي
سوف تغطي معظم التجارة بين الأطراف
المشاركة.
7 ـ مراعاة الالتزامات الناتجة عن
منظمة التجارة العالمية والاتفاقية
العامة للتجارة والتعريفات (GATT)
وكذلك الاتفاقية العامة لتجارة
الخدمات (GATS).
8 ـ متابعة وتطوير السياسات القائمة
على مبادئ اقتصاد السوق وتكامل
اقتصادات الدول المشاركة مع مراعاة
حاجات كل دولة ومستوى نموها.
9 ـ تصحيح وتحديث البنى الاقتصادية
والاجتماعية بما يعطي الأولوية
لتنشيط القطاع الخاص وتطويره لتحسين
مستوى القطاع الإنتاجي وبناء هيكل
تنظيمي مؤسسي ملائم لاقتصاد السوق.
10 ـ العمل المشترك لتلطيف النتائج
الاجتماعية السلبية التي يمكن أن
تنجم عن سياسات التصحيح الهيكلي
بتنشيط البرامج في مصلحة فئات السكان
الأكثر فقراً إضافة إلى إيجاد آلية
لتشجيع نقل التكنولوجيا.
11 ـ خلق بيئة مناسبة لاجتذاب
الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى
جانب دعم الادخارات المحلية،
القاعدة الأساسية للاستثمار، وعلى
الأخص التخلص تدريجياً من العقبات
التي تواجه الاستثمارات المباشرة
مما يقود إلى تشجيع نقل التكنولوجيا
وزيادة الانتاج والتصدير.
12 ـ تشجيع المشروعات للاتفاق فيما
بينها والعمل على تنشيط التعاون
وتحديث الصناعة وذلك بإيجاد بيئة
ملائمة وتنظيم هيكلي مؤات. إضافة إلى
ضرورة إقرار برنامج لدعم المشروعات
الصغيرة والمتوسطة والعمل على
تنفيذه.
13 ـ السعي لايجاد بنية تنظيمية
مؤاتية للاستثمارات في مجال الطاقة
وأنشطتها، إضافة إلى التعاون في خلق
الشروط التي تسمح للشركات العاملة في
مجال الطاقة لتوسيع بنية العمل
وتنشيط العلاقات فيما بينها.
14 ـ العمل على التعاون في تحديث
الزراعة وإعادة هيكلتها وتنشيط
التنمية الريفية المتكاملة بقصد
تنويع الإنتاج وتقليص التبعية
الغذائية إضافة إلى تنشيط زراعة
المحاصيل الصديقة للبيئة والتعاون
في مجال استئصال المحاصيل المحظورة
وتنمية المناطق المتأثرة بذلك.
15 ـ التعاون في المجال المالي وزيادة
المعونات المقدمة من الاتحاد
الأوربي لإقامة منطقة التجارة الحرة
وإنجاح الشراكة الأوربية المتوسطية
بما يسهم، قبل كل شيء في تحقيق تنمية
محلية قابلة للاستمرار وتعبئة جهود
أصحاب المشروعات المحلية لهذا الغرض.
وفي هذا الإطار كان المجلس الأوربي المنعقد في كان قد وافق على تخصيص 4685 مليون ايكو (حالياً يورو) في موزانة الاتحاد للفترة من 1995 إلى 1999 وزيادة المعونات التي سيقدمها مصرف الاستثمار الأوربي على شكل قروض إضافة إلى المساهمات المالية الثنائية التي تقدمها الدول الأعضاء في الاتحاد.
يوضح استعراض كامل فصول إعلان برشلونة وتحليل برنامج العمل الملحق به أن الاعلان عبارة عن ميثاق عمل متكامل يشمل كل النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والبيئية بما في ذلك التطرق إلى تفاصيل دقيقة. ومن شأن ذلك أن يثير تساؤلات عدة حول مدى توافر فهم مشترك موحد لكل المقولات المطروحة مع اقتناع جميع الأطراف الموقعة عليه بتنفيذه فعلاً أو حول إمكانية تنفيذه في حال توافر الارادة الطيبة لذلك.
لا تخلو صياغة الاعلان من جانب إنشائي يميل إلى الصيغة الرنانة ومن جانب دبلوماسي في صياغة التوصيات والمقررات على نحو توفيقي قد تثير اختلافات في التفسير بين الأطراف الموقعة عليه ولا يخلو أيضاً من بعض الملامسات لقضايا حساسة من المؤكد ليس للأطراف الموقعة عليه مفهوم موحد حولها مثل: حقوق الإنسان نبذ التمييز على أساس المعتقد، العرق، اللغة، الانتماء القومي أو الدين أو الجنس. ومثل تلك الخلافات أمر متوقع في ظل غياب تحديد واضح لهذه المفاهيم.
ففي تجربة التعاون الأوربي مع دول أفريقية والكاريبي والمحيط الهادي أثيرت خلافات كبيرة حول مفهوم الديمقراطية وحقوق الإنسان وسياسة التمييز العنصري في جنوب إفريقيا بحيث اتخذ مجلس وزراء الاتحاد الأوربي في 28 تشرين الثاني 1991 قراراً حول «حقوق الإنسان الديمقراطية والتنمية» حمل فيه مسؤولية فشل التنمية في هذه البلدان على العوامل الداخلية: وجود علاقة بين الرشوة وخرق حقوق الإنسان والتخلف. كما أدان تهريب الأموال غير المشروعة والتي 60% منها حسب تقديرات البنك الدولي تم من قبل المسؤولين القياديين في هذه البلدان[28 ـ 1993، 136، ص 851 ـ 857]. كما أدخل الاتحاد الأوربي شروطاً في سياسة التعاون من أجل التنمية وأوقف صرف المعونات المقررة لبعض البلدان الأفريقية التي عدَّها لم تلتزم بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان على الرغم من التزامها بنصوص الاتفاقيات الموقعة. بل أصبحت الشروط السياسية وسيلة يعتمدها الشريك الأوربي لتقليص الالتزامات المالية المقررة. وهكذا يتم تحويل موضوع الديمقراطية وحقوق الإنسان ذريعة للتحلل من الالتزامات إذ ليس هناك معايير محددة لتقويمها فعلاً[23 ـ 1993، 136 ص 749 ـ 758].
وهناك خلاف فيما يتعلق بمبادئ السلام في الشرق الأوسط مثل: حق تقرير المصير أو الأرض مقابل السلام أو عدم جواز احتلال أراضي الغير بالقوة... الخ. وإلا كيف يمكن فهم مواقف اسرائيل الرافضة أن يأخذ الاتحاد الأوربي أي دور في عملية السلام أو يمكن فهم موقفها من عدم الانسحاب من الجولان السوري المحتل ومن جنوب لبنان، عدم اعترافها بحق الشعب الفلطسيني في تحرير أرضه المحتلة على الأقل المحتلة في عام 1967، وإقامة دولته على ترابه الوطني... إلخ. وإسرائيل قد وقعت على الإعلان والتزمت بتنفيذه. وبعيداً عن الجانب السياسي والثقافي والاجتماعي يمكن تسجيل الملاحظات التالية على مضمون الإعلان فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي:
1 ـ سجل إعلان برشلونة تراجعاً عن مبدأ عدم المعاملة بالمثل الذي كانت الاتفاقات السابقة تمنحه للمنتجات الصناعية في دول جنوب وشرق المتوسط (باستثناء اسرائيل) بالانتقال إلى مبدأ منطقة التجارة الحرة علىالرغم من اعتماد مبدأ التدرج في تخفيض الرسوم الجمركية على الواردات الأوربية وتحديد فترة انتقالية تنتهي في عام 2010 وهي مدة غير كافية نظراً لأن الهوة بين مستويات التطور في مجموعتي البلدان قد اتسعت عما كانت عليه في الماضي. إن تجربة الاتحاد السابقة مع كل من دول أفريقية والكاريبي والمحيط الهادي تبين حتى أن السماح بإدخال المواد الصناعية من هذه الدول إلى أراضي دول الاتحاد معفاة من القيود الجمركية والكمية دون شرط المعاملة بالمثل بقي عديم الأثر تقريباً على تنويع صادراتها وبقيت كلها تقريباً من المواد الأولية. وتحرير أكثر من 95% من المنتجات الزراعية من الرسوم والقيود الكمية لم يؤدِ أيضاً إلى أية نتيجة[انظر رقم 26]. كما أن وضع الدول المتوسطية الأخرى لم يكن أحسن حالاً لأن المزايا التي منحها الاتحاد الأوربي للمواد المصنوعة المستوردة من المتوسط دون المعاملة بالمثل لم تكن كافية لزيادة الصادرات بسبب عجز هذه البلدان عن إنتاج سلع من النوعية والمعايير التي تتطلبها سوق متطورة كالسوق الأوربية[19 ـ 1989 ص 4 + 20 ـ 1994 ص7] إضافة إلى ذلك حسب رأي اللجنة الاقتصادية والاجتماعية، فإن الرسوم الجمركية والنظام الجمركي في الاتحاد الأوربي ليس لهما سوى دور نظري في تحديد الشروط الحقيقية لدخول البضائع ودائماً كان حجم الصادرات المتوسطية بتعرفة مخفضة أقل من الكميات المرجعية وكذلك من الحد المقرر بمستويات التعرفة[23 ـ 1991 ص33].
لقد كانت نتيجة ثلاثين عاماً من التعاون بين أوربة والدول المتوسطية الأخرى، مع المزايا الممنوحة للصناعات المتوسطية، سلبية على صادرات المتوسط من جهة وعلى الوضع العام الاقتصادي من جهة أخرى، كما تشير دراسات وآراء مؤسسات المفوضية الأوربية نفسها. كما إن معظم دول أفريقية والكاريبي والمحيط الهادي لم تستطع أن تستفيد من الفرصة الممنوحة لها بتطبيق الأفضليات الخاصة في إطار اتفاقية لومي وعلى العكس من ذلك تراجع نصيب صادرات هذه الدول من سوق الاتحاد الأوربي من 6.7% عام 1976 إلى 2.8% فقط عام 1994[27 ـ 1999 صXIV].
2ـ تشترط الاتفاقية في كل بنودها ضرورة انسجام أحكامها مع الالتزامات المترتبة على إنشاء منظمة التجارة العالمية وأحكام الاتفاقية العامة للجات وبالتالي تصبح هذه الاتفاقية جزءاً من إطار العولمة الذي لا يأخذ بالحسبان، سوى إلى حدٍ معين، اختلاف مستويات النمو بين الدول الصناعية والدول النامية. وهذا يجعل من الشراكة الأوربية المتوسطية نقطة عبور إلزامية نحو آلية ضبط عالمية (عولمة). وفي أحسن الحالات ستكون مجرد تكامل إقليمي بين المركز (أوربة) وتخوم محيطه به (البلدان المتوسطية) وفي إطار أقلمة العالم إلى مجموعة أقاليم ـ عوالم متعاونة أو متناحرة فيما بينها(*).
3 ـ يشير الإعلان إلى إجراء تصحيح هيكلي اقتصادي اجتماعي يتيح تنشيط القطاع الخاص وبناء نظام مؤسسي ملائم لاقتصاد السوق. غير أن الإصلاحات الاقتصادية التي طبقت في بلدان العالم الثالث برعاية البنك وصندوق النقد الدوليين قادت إلى مآسي اجتماعية وتراجع اقتصادي كبير في عدد غير قليل من هذه البلدان[29 ـ 1997 ص115 ـ 118 + 30 ـ 1991]. تؤكد تجارب المكسيك وتونس ودول أمريكة اللاتينية أن النجاحات الأولية التي حققتها الإصلاحات الاقتصادية ما لبثت أن تحولت إلى اخفاقات كبيرة فيما يتعلق بتراجع معدل النمو، بارتفاع العجز في الميزان التجاري وكذلك في زيادة المديونية الخارجية ناهيك عن زيادة معدلات البطالة وتردي أوضاع الطبقات الاجتماعية الفقيرة[31 ـ 1996،146..]. وهذا يقتضي البحث في أساليب تصحيح اقتصادي تساعد في تحقيق النمو دون التسبب في حدوث مشاكل اجتماعية لا يمكن تحمل نتائجها سياسياً واقتصادياً. وفي هذا الصدد ترى اللجنة الاقتصادية والاجتماعية (إحدى لجان المفوضية الأوربية) ضرورة اعتماد برامج تصحيح هيكلي مختلفة جذرياً عن تلك التي يوصي بها خبراء صندوق النقد الدولي ذلك أنه حسبرأي خبراء اللجنة فإن وصفات البنك وصندوق النقد الدوليين تركز على العوامل الداخلية ولا تعطي اهتماماً كافياً للعوامل الخارجية مما أسهم في تفاقم مسالتي العجز التجاري والمديونية الخارجية. وتوصي اللجنة بضرورة تعديل فلسفة الاصلاحات الاقتصادية تعديلاً جذرياً وتقدم خطة تفصيلية لبرامج الاصلاح الهيكلي تراها ملائمة لظروف البلدان المتوسطية: تخفيض المديونية، التركيز على النمو والعمالة، تحفيز العرض وليس تقليص الطلب وذلك بالتركيز على الاستثمارات العامة، رفع الانتاجية في القطاعات الاقتصادية الرئيسة، وتحسين وضع ميزان المدفوعات، تنويع الاقتصاد الوطني مع متابعة العمل على الارتقاء بمستوى الرفاه الاجتماعي[8 ـ 1990 ص 11 ـ 13 + 31 ـ 1992 ص26 ـ 28]. مع الاشارة إلى أن المفوضية الأوربية ومجلس وزراء الاتحاد لم يأخذا بمثل هذه التوصيات على الرغم من التأكيد عليها غير مرة من قبل اللجنة. مما يقتضي تنسيق مواقف أطراف الشراكة في المؤسسات الاقتصادية الدولية لتبني برامج تصحيح هيكلي ملائمة للدول المتوسطية الأخرى الأعضاء في الشراكة ما دام إعلان برشلونة واتفاقيات الشراكة الموقعة مع بعض الدول المتوسطية حتى الآن (المغرب، تونس، والأردن) تؤكد على ضرورة الانسجام مع توصيات المؤسسات المالية الدولية ومنظمة التجارة العالمية.
4 ـ ينص إعلان برشلونة علىتحرير تجارة المواد الزراعية تدريجياً وحرية دخولها إلى أسواق الطرفين على أساس تفضيلي متبادل دون الأخذ بالحسبان الفروق الكبيرة في إنتاجية العمل الزراعي بين المجموعتين ولا في نسبة السكان الزراعيين في مجموع السكان. يضاف إلى ذلك أن اختلاف الشروط المناخية ونقص المياه في جنوب المتوسط يزيد من تكلفة الانتاج الزراعي ويخفض من القدرة التنافسية للمنتجات الزراعية المتوسطية وبخاصة بعد بلوغ حد كبير من الاكتفاء الذاتي الأوربي من المنتجات المتوسطية بانضمام اليونان واسبانية للاتحاد.
5 ـ الشراكة الأوربية المتوسطية بالصيغة التي تطرح فيها من خلال إعلان برشلونة مشروع أوربي خالص يتوجه لتحقيق الأهداف الأوربية على نحو واضح:
فقد كانت اتفاقيات التعاون الموقعة بين أوربة والدول المتوسطية الأخرى تلحظ تبادل تشجيعي لصالح الدول المتوسطية: تطبيق نظام الأفضليات المعممة على الإنتاج الصناعي المتوسطي (باستثناء الإسرائيلي) عند دخوله إلى دول الاتحاد الأوربي بمعنى إعفاء المنتجات الصناعية المتوسطية من الرسوم الجمركية دون شرط المعاملة بالمثل إضافة إلى السماح بإدخال كميات محددة (نظام الحصص) من الإنتاج، الذي كانت تعده المفوضية منافساً، دون رسوم وفرض الرسوم فقط على الكميات التي تتجاوز هذه الحصص. بالرغم من كل هذه التسهيلات تراجعت حصة الصادرات المتوسطية من السوق الأوربية (باستثناء النفط والمواد الأولية) كما لم يتحقق التنوع المرغوب في بنية الصادرات إضافة إلى تردي أوضاع الدول المتوسطية سواء لجهة زيادة عجز الموازين التجارية أو تراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي وكذلك زيادة المديونية الخارجية لهذه الدول[19 ـ 1989] ونفس النتيجة حصلت مع دول أفريقية والكاريبي والمحيط الهادي (ACP) بعد ثلاثين سنة من تعاونها مع أوربة على نفس الأسس التي كان التعاون فيها بين أوربة والمتوسط وحتى على أسس أفضل لصالح دول (ACP)[21 ـ 1997 و26 ـ 1993]. من هنا تقترح اللجنة الاقتصادية والاجتماعية في رأيها المرفوع إلى المفوضية الأوربية ضرورة تعديل مبدأ التحرير التجاري بين الاتحاد الأوربي ودول ACP (والأمر ينطبق أيضاً على الشراكة الأوربية المتوسطية) ليكون اساس التبادلية المتمايزة (Reciprocité differenciée) بحيث تشجع تعامل دول ACP فيما بينها أكثر.
لقد جاءت التزامات البلدان المتوسطية مقابل وعود بعيدة المنال مشكوك في تنفيذها مثل الحق في التنمية، احترام حقوق الإنسان ومعالجة موضوع كره الأجانب بالإضافة إلى الوعد بالتعاون المالي، وتقديم قروض أوربية يسميها الإعلان بالمساعدات المادية. وقد خلت هذه المساعدات من الهبات التي كانت تمنح سابقاً لبعض دول المنطقة باسثناء ما خصص منها لدعم الإصلاحات الاقتصادية للإسراع بالاتجاه نحو اقتصاد السوق. في الحقيقة إن القروض المالية ليست أكثر من تعاون بين طرفين يستفيد كل منهما من عملية الإقراض، فالمُقرض يبحث عن مجال لتشغيل أمواله الفائضة من جهة وعن سوق لتصريف منتجاته لقاء القروض الممنوحة من جهة ثانية، وفي كلتا الحالتين يحقق فائدة مزدوجة. والمقترض يسعى إلى الحصول على عامل الإنتاج النادر الذي ينقصه أي رأس المال فيحاول بذلك تشغيل عنصر الإنتاج الفائض لديه أي قوة العمل غير أن هذا الدمج بين العنصرين في عملية الإنتاج (صناعات حديثة الولادة) يحتاج إلى رعاية كبيرة وسوق محمية حتى تتحقق الفائدة منه. وتجربة بلدان العالم الثالث تشير إلى عكس ذلك بالرغم من بعض المعاملة التفضيلية التي حصلت عليها منتجاتها الصناعية في السابق وبمبادرة أوربية أصلاً (نظام الأفضليات المعممة) دون اشتراط المعاملة بالمثل[32 ـ 1994 ص129] كما تفترضها الشراكة الأوربية المتوسطية، كما أن جميع تقارير المفوضية الأوربية تؤكد على ذلك.
إن سعي أوربة لمواجهة مشاكل التزايد السكاني السريع وما يترتب عليه من هجرة متوسطية كثيفة واتساع انتشار الحركات الأصولية الإسلامية أمر مبرر من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية غير أن هذه المواجهة لا يمكن أن تعطي ثمارها المجدية لأوربة والدول المتوسطية إلا بتحقيق تنمية حقيقية، تنمية اقتصادية واجتماعية على الجانب الآخر من المتوسط، وهذه التنمية لا تتحقق من خلال بعض الموارد المالية الموجهة لدعم الإصلاحات الهيكلية باتجاه اقتصاد السوق وتنشيط القطاع الخاص فقط بل ستتحقق بخلق آليات انتشار التنمية من الأقطاب (أوربة) إلىا لمحيط والتخوم أي بجعل المركز الأوربي مركز إشعاع النمو إلى البلدان الأخرى وليس مجرد مركز جذب للفوائض الاقتصادية كما يتحقق من خلال آلية العلاقات الاقتصادية الدولية القائمة.
وكما تشير دراسات المفوضية الأوربية فإن الشراكة بين أوربة ودول ACP وكذلك الشراكة بين أوربة والدول المتوسطية الأخرى لم تؤدِ إلى تحسين أوضاع الدول غير الأوربية الأعضاء[27 ـ 1996 ص14]. وتذهب دراسات اللجنة الاقتصادية والاجتماعية للمفوضية إلى أن العلاقة بين الاتحاد الأوربي ودول شرق وجنوب المتوسط تمخضت في إطار الاستقطاب /التهميش عن ظاهرتين مختلفتين: تزايد في اختلالات الدول المتوسطية بسبب خروج الموارد من المتوسط نحو أوربة بفعل عدم تناظر المبادلات التجارية بين الطرفين من ناحية وزيادة تبعية دول شرق وجنوب المتوسط تجاه شمال أوربة، من جهة أخرى مما يشير إلى الاستقطاب الأوربي. وتقترح هذه الدراسات ضرورة تغيير نموذج التنمية الأوربي على نحو يؤمن تحقيق تنمية متوازنة في جميع مناطق المتوسط وتجاوز التهميش وإقامة منطقة استراتيجية أوربية متوسطية ومجال اقتصادي واحد ينعم بالنمو في كل أجزائه[33 ـ 1995 ص32 ـ 35].
لهذا الغرض نعتقد أن مناقشة مسألة الشراكة الأوربية ـ المتوسطية يجب ألاَّ تتم فقط بين المسؤولين السياسيين والاقتصاديين في الحكومات المعنية بل يجب أن تتمتع بالمزيد من الشفافية وتحظى بالكثير من الحوار بين الأكاديميين ورجال الأعمال (وخاصة الصناعيين) ونقابات العمال والأحزاب السياسية من كلا الجانبين.