متى يبدأ الإصلاح المصرفي في سورية

د. نبـيل سـكر*

 

مقدمة

عنوان هذه الورقة متى يبدأ الإصلاح المصرفي في سوريا؟ والجواب السريع هو أن الإصلاح المصرفي في سورية قد بدأ فعلاً، ونتوقع أن نرى بداية نتائجه على أرض الواقع خلال هذا العام.  لكن الإصلاح المصرفي لا زال في بدايته وأمامنا طريق شاق طويل لاستكماله.  وأود أن أبين في البداية أن هذه ليست ورقة لوصف أو تحليل أو تقييم أداء القطاع النقدي/المصرفي في سورية، فقد قمت بذلك في ورقة سابقة بعنوان "الإصلاح المصرفي في سورية" قدمتها في ندوة الثلاثاء الاقتصادية التاسعة وتحديداً بتاريخ 27/1/1994، وكانت لي مداخلة عن النظام المصرفي السوري في ندوة الثلاثاء الثانية عشر بتاريخ 2/3/1999 تعقيباً على ورقة قدمها الأستاذ بشير الزهيري.

في البدء كانت كلمة القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي في كانون الأول من عام 2000 حين أقرت القيادة التوجهات المتعلقة :

ـ بإحداث مصارف خاصة على شكل شركات مساهمة خاصة أو مشتركة بين القطاعين العام والخاص.

ـ وبإصدار قانون لسرية المصارف والعمل المصرفي

ـ وإحداث سوق لتداول الأوراق المالية

ـ وتكليف الجهات المعنية بدراسة موضوع صرف العملات الأجنبية وفق الأسعار الفعلية.

وحتى ذلك الحين ومنذ أوائل التسعينات كانت الإصلاحات المصرفية في سورية تتركز حول تحديث التقنيات المحاسبية، والتعديل في أنظمة العمليات، ورفع رؤوس أموال المصارف ورفع سقوف الأقراض وتدريب الكوادر وغير ذلك.  ولكن كانت هذه هي المرة الأولى التي تتخذ فيها توصيات إصلاحية مصرفية تحمل في طياتها هذا القدر الهائل من التغيير.  وتكمن أهمية القرار هذا في أنه صادر عن الحزب وفي أنه يتضمن تغييراً مفاهيمياً جوهرياً في فكره.  والتغيير هو إلغاء مبدأ احتكار القطاع العام للعمل المصرفي، خلافاً لما جاء في البرنامج المرحلي لثورة 8 آذار، وكذلك السماح بإقامة سوق للأوراق المالية وهو ما كان يعتبر في أدبيات الحزب رجس من عمل الرأسمالية.  وفي اعتقادي أن هذا التغيير يعتبر تطوراً فكرياً إيجابياً يعكس رغبة من قبل الحزب بمواكبة التطورات الاقتصادية العالمية.

كان  سليماً، في اعتقادي، أن يبدأ الإصلاح المصرفي بالتوجهات الصادرة عن الحزب، وهو القيم على الدولة، لكن الإسراع في ترجمة هذه التوجهات إلى قرارات وتشريعات وتعليمات جاءت من دون منهجية ومن دون برنامج، وشاركت فيها جهات كثيرة متخصصة وغير متخصصة.  وكان يحسن أن نبدأ بإعداد دراسة شاملة للنظام النقدي /المصرفي السوري بإيجابياته وسلبياته وتحديد الحاجة للإصلاح وعناصر الإصلاح وأولوياته، في ظل تطورات الاقتصاد الوطني وفي ظل المتغيرات المالية والاقتصادية الإقليمية والعالمية، ووضع البرنامج التنفيذي الشامل للتطوير المصرفي كجزء من الإصلاح الاقتصادي الشامل المزمع إعداده، لكننا بدلاً عن ذلك، سارعنا إلى تنفيذ التوجهات الجديدة مثلما جاءت، فأعددنا تشريعاً لإقامة مصارف خاصة ومشتركة وآخراً للسرية المصرفية وثالثاً لإقامة سوق الأوراق المالية، ثم تذكرنا أنه لإقامة هذا وذاك بشكل فعال، نحتاج لتطوير قانون النقد الأساسي القانون رقم 87 الصادر في عام 1953، بما فيه إحياء مجلس النقد والتسليف، وتطوير أسس وأساليب الرقابة على المصارف وعلى أسواق الأوراق المالية، وبحاجة لتطوير البنية المالية التحتية للنظام النقدي/المصرفي بنفس الوقت.  لذلك أخرنا السير في تنفيذ قانون المصارف الجديد، إلى أن ننتهي من تعديل قانون النقد الأساسي، وأخرنا إقرار مشروع إقامة سوق الأوراق المالية إلى أن نخطو خطوات أكبر في إعداد الشروط اللازمة لنجاحها.   ولعله لو بدأنا بقراءة قوانين التأميم التي تمت في منتصف الستينات وراجعنا قانون النقد الأساسي لوجدنا أننا ربما لم نكن بحاجة لتشريع خاص لإقامة المصارف الخاصة والمشتركة، حيث أن قوانين التأميم التي تمت في منتصف الستينات، أممت ما كان قائماً من المصارف ولكنها لم تشر إلى ما يمنع قيام مصارف جديدة، كما وأن قانون النقد الأساسي لا زال ساري المفعول، وما جمد منه من بنود في السابق، لم يشمل الباب الرابع المتعلق بإقامة المصارف والإشراف عليها.  وقد كان يكفينا تطوير قانون النقد الأساسي وإقامة المصارف الجديدة في ظل القانون المعدل.

وبعد صدور قانون المصارف الجديد بأربعة أشهر شكلت رئاسة مجلس الوزراء لجنة من كبار موظفي المصرف المركزي والمصارف المتخصصة (القرار رقم 3838 تاريخ 5/7/2001) مهمتها دراسة كيفية تطوير وتحديث القطاع العام المصرفي القائم، كما بدأت الحكومة خلال ذلك اتخاذ الاستعدادات لتدريب الكوادر البشرية اللازمة للتطوير النقدي /المصرفي القادم.

وللتذكير فإن الخطوات التنفيذية المقبلين عليها قريباً هي: صدور المرسوم الجمهوري الخاص بتعديل قانون النقد الأساسي بشكله النهائي، وتشكيل مجلس النقد والتسليف المنصوص عليه في المرسوم، والبدء بالجولة الأولى من مراجعة طلبات المصارف.

1 ـ لماذا الإصلاح النقدي/المصرفي:

بالنسبة للكثيرين من أصحاب القرار والكتاب من اقتصاديين وغير اقتصاديين، فإن الحاجة للإصلاح النقدي/ المصرفي (ومنه إقامة المصارف الخاصة) تنبع من ضرورة توفير التمويل للقطاع الخاص.  الذي يزداد دوره في الاقتصاد الوطني، ومن ضرورة تحسين الخدمات التي يقدمها الجهاز المصرفي للجمهور، لكن الحاجة للإصلاح النقدي/المصرفي تنبع من أكثر من ذلك على الرغم من الأهمية القصوى لوجود قطاع مصرفي متطور يساعد في تلبية الحاجات التمويلية للقطاع الخاص بشكل كفوء، ويدعم نهوض هذا القطاع وتطوره.

تنبع الحاجة للإصلاح النقدي /المصرفي من ضرورة 1) تعبئة الإدخارات المحلية وتعميق دور الوساطة المالية بين المدخرين والمستثمرين، 2) وتحسين كفاءة استخدام وتوزيع الموارد الرأسمالية في الاقتصاد الوطني، 3) ورفد الموارد المالية المحلية بموارد مالية خارجية، كل ذلك لدفع عملتي النمو والتنمية.  والجدير بالذكر أن الاقتصاد الوطني في سورية يحتاج لتحقيق معدلات نمو لا تقل عن 7 – 8% بالسنة حتى يستطيع استيعاب البطالة القائمة في سوق العمل التي يقدرها البعض بـ 20% واستيعاب العمالة الجديدة الوافدة إلى سوق العمل والمقدرة بحوالي 250,000 فرداً بالسنة.  وعملية النمو هذه تتطلب مدخرات واستثمارات محلية وأجنبية من جهة، وتتطلب ارتفاع في إنتاجية وكفاءة واستخدام الموارد الرأسمالية من جهة أخرى.  وكل من زيادة الاستثمار وارتفاع إنتاجيته يحتل موقعاً هاماًَ في رفع معدلات النمو، (رغم أن الكثيرين يركزون فقط على زيادة الاستثمار).

كذلك تنبع الحاجة للإصلاح النقدي/المصرفي من دور القطاع المصرفي في توثيق وتعزيز الشراكات التجارية والإنتاجية والاستثمارية التي تقام بين سورية والدول العربية الأخرى في ظل النظام الإقليمي العربي، والشراكات الاقتصادية الأخرى التي تزمع سورية إقامتها مع الاتحاد الأوروبي ومع دول أخرى.  كما وأن قرار سورية الأخير ببدء التفاوض للدخول في منظمة التجارة العالمية (W.T.O.) يعطي الحاجة للتطوير المصرفي بعداً جديداً، فالدخول في هذه المنظمة (والذي قد يأخذ خمس سنوات أو أكثر حتى يتحقق)، يتطلب من سورية تحرير تجارة الخدمات فيها، إضافة إلى تحرير تجارة السلع، وتنضوي الخدمات المصرفية ضمن هذا التحرير، ويعني تحرير الخدمات المصرفية، فيما يعني، بموجب اتفاقية التجارة العالمية، السماح للمصارف الأجنبية للعمل في الدول الموقعة على الاتفاقية، والتعامل معها مثلها مثل المصارف المحلية، مما سيخلق تحدياً جديداً للنظام النقدي/المصرفي السوري ويتطلب إقامة نظاماً متطوراً، يستطيع منافسة المصارف الأجنبية.  وإلا أفسحنا المجال لاحتمال هيمنة المصارف الأجنبية على أسواقنا المالية والمصرفية في المستقبل.

2 ـ  قصور النظام المصرفي النقدي القائم أمام هذه التحديات:

في مواجهة هذه التحديات نجد في سورية نظاماً نقدياً مصرفياً جاء نتيجة مجموعة من القرارات والمراسيم المتتابعة التي تم إصدارها ما بين الأعوام 1961 و1966، تضمنت في مجملها تأميم ودمج المصارف التي كانت قائمة في ذلك الحين، وتخصيص كل من هذه المصارف في قطاع واحد، وتم حصر التعامل بالقطع الأجنبي بالمصرف التجاري السوري.  أما بالنسبة للمصرف المركزي، فقد تم تحجيم دوره منذ ذلك الحين ولم يعد يلعب دوراً بارزاً في رسم السياسات النقدية، هذا إذا وجدت، أو الإشراف عليها، كما أنه لم يعد يشرف على المصارف القائمة إلا إشرافاً هامشياً(1).

وقد كنت قد أسهبت في ورقة سابقة (2)في وصف وتحليل سمات النظام النقدي/ المصرفي القائم وقصوره، ولكني سأكتفي هنا بذكر العناوين دون التفصيل:

ـ تضخم نسبة النقد المتداول خارج المصارف والخزينة وتدني نسبة الودائع المصرفية (M 1)

ـ تدني نسبة ودائع التوفير في مجمل الودائع المصرفية (M 2).

ـ غياب السياسة النقدية

ـ تحديد معدلات الفائدة إدارياً ومركزياً (من قبل وزارة الاقتصاد) وجمود معدلات الفائدة لفترات طويلة.

ـ تدني نسبة أعمال الوساطة المالية إلى الناتج المحلي الإجمالي ومحدودية عدد مؤسساتها ونوعية الخدمات الادخارية والاستثمارية التي تقدمها.

ـ التخصص المصرفي بالأمر الإداري وبالتالي انعدام المنافسة بين المصارف.

ـ هيمنة مصرف واحد (المصرف التجاري السوري) على مجمل التسليفات.

ـ تركيز عمليات المصرف التجاري السوري على التسليف للقطاع العام، وعمليات المصارف الأخرى على التسليف للقطاع الخاص.

ـ تشكل التسليفات لقطاع التجارة والتسليفات قصيرة الأجل النسبة الأكبر من مجمل التسليف.

ـ استئثار الدولة (بقطاعيها الإداري والاقتصادي) بالجزء الأكبر من التسليفات المصرفية.

ـ تمويل القطاع الخاص الجزء الأكبر من استثماراته من أمواله الخاصة وتمويل مستورداته من خارج القطاع المصرفي ومن خارج البلاد (لبنان، قبرص، الأردن، دبي وغيرها).

ـ قليل من التمويل يقدم على أساس تقويم المخاطر وقدرة المقترض على التسليف.

ـ وجود قيادات إدارية وفنية ومصرفية دون المستويات المطلوبة، وتقنيات محاسبية كانت حتى خمس سنوات مغرقة في القدم.

ـ عمالة فائضة وأجور منخفضة

ـ استقلالية مفقودة في قرار التسليف، (تطغى على التسليف أوامر وخطة الدولة بالنسبة للتسليف للقطاع العام والعلاقات الشخصية بالنسبة لتسليف القطاع الخاص).

ـ سيولة عالية لدى المصارف في الوقت الحاضر (بسبب الفوائد المرتفعة مقارنةً بمعدلات  التضخم)،

ـ نقص في رؤوس أموال المصارف المدفوعة، ونسبة عالية من الديون المتعثرة ومؤونات ضئيلة ضد الديون المتعثرة.

ـ رقابة مصرفية شبه معدومة من قبل المصرف المركزي

ـ أنظمة محاسبية مصرفية بالية وغياب المراجعة للحسابات من قبل مكاتب المراجعة المستقلة.

ـ (صعوبة حساب مؤشرات الأداء الرئيسية، الربحية والملاءة والسيولة والإنتاجية وغيرها بسبب ضعف البيانات المالية المعلنة).

3 ـ مقومات النظام النقدي/ المصرفي المتطور:

يشمل النظام النقدي/المصرفي المتطور أربعة أنواع من المؤسسات المالية هي :

ـ المصارف (وهي المؤسسات المالية التي تأخذ ودائع من المتعاملين).

ـ المؤسسات المالية غير المصرفية (صناديق الاستثمار وصناديق التقاعد وشركات التأمين وشركات التأجير التمويلي والإقراض العقاري وصناديق الاستثمار المبادر وغيرها…).

ـ أسواق الأوراق المالية (من أسهم وسندات).

ـ مؤسسة البنك المركزي.

ولنجاح هذه المؤسسات في عملها تتطلب بنية مالية تحتية، من أهم مكوناتها :

ـ الأنظمة المحاسبية المتطورة والموحدة.

ـ الكوادر البشرية والمصرفية.

ـ  وأنظمة الإفصاح المالي.

كما يحتاج نجاح النظام النقدي/المصرفي إلى مكملات له من خارج البيئة التشريعية والتنظيمية لعمل القطاع الإنتاجي من جهة، ووحدات إنتاجية قوية وكفوءة من جهة أخرى.  وبالنسبة للبنية التشريعية والتنظيمية، تشمل هذه قانون تجارة وشركات وملكية وحقوق ملكية وأنظمة واضحة لحل المنازعات التجارية، ولدخول الشراكات وحلّها وإفلاسها، ونظام قضائي نزيه كفوء ومستقل، وأنظمة وتشريعات مبسطة للاستيراد والتصدير والقطع والعمل والضرائب وغيرها.

4 ـ ماذا تجني سورية من القطاع النقدي/المصرفي المتطور:

تجني سورية من إقامة نظام نقدي/ مصرفي متطور الفوائد التالية:

- المزيد من القدرة على تعبئة المدخرات المحلية.

- المزيد من القدرة على جذب الأموال الرأسمالية من الخارج لدعم المدخرات المحلية.

- رفع كفاءة استخدام وتوزيع رؤوس الأموال في الاقتصاد الوطني (من خلال دور الوساطة الذي تلعبه المصارف).

- تنشيط الصناعة المصرفية المحلية.

- زيادة مساهمة القطاع المصرفي في الناتج المحلي الإجمالي من خلال استعادة نشاطات مصرفية (تمويل تجاري وغيره..) تتم الآن خارج سورية لصالح السوريين المقيمين.

وهذه كلها عوامل هامة وأساسية في دفع عملية النمو والتنمية، ونكاد ننسى مقدار أهميتها في خضم حواراتنا العامة حول العام والخاص والتصدير والاستيراد والادخار والاستثمار والعمل والبطالة وغيرها...

5 ـ ماذا تم من تشريعات وإصلاحات نقدية/مصرفية حتى الآن؟:

تشكل التشريعات والإجراءات التي تمت حتى الآن والتي سنشير إلى بعض جوانبها قاعدة لانطلاقة جيدة للإصلاح النقدي المصرفي، ولكن يبقى التطبيق (الذي يسير ببطء كبير) وتطّلعنا لسلامة التطبيق والشفافية الكاملة فيه، ويبقى استكمال المتطلبات الأخرى للإصلاح النقدي/ المصرفي من إعداد البنية المالية التحتية بمختلف أوجهها، والإصلاح المطلوب خارج القطاع النقدي/المصرفي، والإثنين يسيران بشكل بطيء كذلك. 

ولكني وقبل الشروع في مراجعة بعض التشريعات الجديدة أود إبداء الرأي بأن قرار البدء بالإصلاح المصرفي أولاً وتأجيل إقامة سوق الأوراق المالية إلى مرحلة ثانية (بعد إنجاز تقدم في إعداد الشروط اللازمة لها) وإذا كان هذا قراراً استراتيجياً فهو قرار سليم. 

أ ـ قانون المصارف الخاصة الجديد (القانون رقم 28 لعام 2001):

من المفترض أن تقوم في ظل القانون الجديد مصارف متخصصة ومصارف شاملة تقدم منتجات وخدمات مصرفية جديدة ومتطورة لا تقدمها المصارف القائمة حتى الآن، مثل توفير القروض الشخصية وقروض المستهلك والصراف الآلي وإصدار بطاقات الائتمان والصيرفة عبر الهاتف وتقديم وأدوات متطورة أخرى لصيرفة التجزئة، إضافة إلى التسليفات التجارية التقليدية وفتح الاعتمادات.  وربما تشارك المصارف في مرحلة لاحقة بالنشاطات الاستثمارية وأعمال الوساطة في أسواق الأوراق المالية إما لصالحها أو لصالح الزبائن (ضمن قواعد وشروط)، والقيام بنشاط مصارف الأعمال من تقييم أصول الشركات وإعادة هيكلتها والدمج بينها، علماً بأن القانون وتعليماته التنفيذية، ليس واضحاً بما فيه الكفاية بالنسبة للنشاطات المصرفية التي سيسمح للمصارف القيام بها.  كما وأن القانون وتعليماته التنفيذية لم يتعرض للمؤسسات المالية غير المصرفية، التي يجب أن تحكمها أنظمة وضوابط تختلف عن المؤسسات المصرفية.  ومن هذه المؤسسات: مؤسسات التمويل الإنمائي وشركات التأجير التمويلي وبنوك الفقراء ومصارف الأعمال وصناديق الاستثمار ورأس المال المبادر وشركات التأمين.  وهي كلها مؤسسات تلعب دوراً هاماً في الوساطة المالية في نظام السوق وقد اعتمدت عليها الصين مثلاً في بدايات إصلاحها النقدي/المصرفي ولازالت.

أما بالنسبة لشروط قبول المصارف، فلا أريد الدخول في تفاصيلها، ولكني أو التأكيد على أهمية الالتزام بهذه الشروط في التطبيق التزاماً صارماً لمنع المسيئين وأصحاب النفوذ وضعفاء الخبرة من الدخول إلى العمل المصرفي سواءً كمساهمين أو كشاغلين لمواقع قيادية فيها، فقد أثبتت التجارب في الدول الأخرى (تركيا، أندونيسيا وغيرها) خطورة التهاون في هذا المضمار وضرورة اختيار الأفراد والجهات المعنية التي يتمتع أصحابها بسمعة جيدة وخبرة وملاءة مالية عالية.

وبالنسبة لاستراتيجية الاختيار بين المصارف المستوفية لشروط القبول، سواء من حيث عددها أو طبيعة ونوعية خدماتها، المقترح تقديمها، أو من حيث جنسياتها، فليس هناك استراتيجية معلنة، والأرجح أن يكون هناك استراتيجية وأولويات قيد الإعداد.

وهناك ثلاثة أمور  لا أعتقد بوجود وضوح إزاءها في القانون وهي : مدى السماح للمصارف بالتعامل بالقطع الأجنبي، ومدى حريتها في تقرير أسعار فائدتها، وفيما إذا كانت الحكومة ستحد من قيام المصارف ببعض النشاطات أو من توسيع شبكة فروعها، لحماية المصارف القائمة من المنافسة.  ولكني أعتقد أنه من المناسب السماح للمصارف بالتعامل بالقطع الأجنبي إما مباشرة أو من خلال البنك المركزي، ومعه السماح لها بتمويل مستوردات القطاع الخاص من مواردها، كجزء من سياسة جديدة أتمنى أن تعتمدها الحكومة، وتصب في إطار التحرير التدريجي لسعر القطع وللتعامل بالقطع الأجنبي، بهدف نقل تحديد سعر الليرة السورية إلى السوق السوري بدلاً من تقريرها في أسواق بيروت وعمان ودبي وغيرها.  وفي هذا المضمار لابد وأن يكون إلغاء القانون رقم 6 لعام 2000 المتعلق بعقوبات مخالفي أنظمة القطع والذي حل محل القانون 24 لعام 1986 من الأولويات.

وبالنسبة للفوائد أعتقد أنه، مثلها مثل التعامل بالقطع الأجنبي، لعله من الأفضل أن تقرر في السوق بدلاً من أن تقرر مركزياً، على أن توضع حدود عليا وسفلى لها في الفترة الأولى، ولكن على المصارف بنفس الوقت الاستجابة للتوجهات المباشرة وغير المباشرة الصادرة من السلطات النقدية بخصوص معدلات الفوائد.  كما أعتقد أنه من الضروري أن يعد المصرف المركزي ومن الآن دراسة حول سياسة القطع وسياسة الفوائد المزمع اعتمادها كجزء من عملية تطوير النظام النقدي/ المصرفي.

ب ـ قانون النقد الأساسي:

أقام قانون النقد الأساسي ثلاثة أجهزة رئيسية على قمة النظام النقدي/المصرفي في سورية هي، مجلس النقد والتسليف ومصرف سورية المركزي ومفوضية الحكومة لدى المصارف وفصل بين هذه المؤسسات النقدية الثلاث، ومنحها استقلالية عن سلطات الدولة.  ويعكس تعديل الدولة لقانون النقد الأساسي رغبة ضمنية لإعادة إحياء السياسة النقدية والتسليفية في البلاد وإعادة مسؤولية إدارتها إلى أصحابها الأصليين أي إلى مجلس النقد والتسليف ومصرف سورية المركزي (بدلاً من وزارة الاقتصاد)، كما يتضمن إقراراً بضرورة تفعيل مفوضية الحكومة لدى المصارف للإشراف الفعال على نشاط المصارف الخاصة والمشتركة الجديدة وعلى مصارف القطاع العام القائمة.  وفي اعتقادي أن هذه السلطات الثلاث تستطيع إذا اتصفت بالكفاءة المهنية وبالاستقلالية والشفافية وإذا تعززت بالكوادر البشرية اللازمة أن ترسم وتنفذ سياسة نقدية وأن تمارس مهمة الرقابة المصرفية بجدارة، وأن تحمي وحماية الاقتصاد من الهزات المالية، فسمعة المصرف المركزي وكفاءته المهنية تشكل عنصراً هاماً في تعزيز الثقة المطلوبة في النظام النقدي/ المصرفي بالنسبة للمستثمرين المحليين والخارجيين، والثقة بالاقتصاد الوطني كذلك.

ولكي يستطيع مجلس النقد والتسليف تنفيذ خططه النقدية والتسليفية يجب أن يلجأ أكثر فأكثر إلى أدوات السياسة النقدية غير المباشرة كتحريك أسعار الفائدة وتحريك نسب الأموال الجاهزة لدى المصارف واستخدام عمليات السوق المفتوحة (OMO)، ولكن لتحقيق هذه العمليات الأخيرة، لا بد أن تقوم الدولة بإصدار أذون سندات الخزينة كأسلوب من أساليب تمويل عجز الموازنة العامة للدولة وجعل هذه الأسناد قابلة للتداول.  وهذا غير متوفر في سورية حتى الآن، بينما هو أصبح لازماً لاستخدام وسائل غير تضخمية في تمويل عجز الموازنة.

ومن جهة أخرى ومع أن مهمة مجلس النقد والتسليف هي تسهيل خطة الدولة الإنمائية، لكنه يتوجب على المجلس أن يكون صارماً في تعامله مع مديونية الدولة وإصراره على عدم تجاوز الأخيرة، السقوف القانونية للمديونية المسموحة لها.  وهذا ما لم يحصل في السابق خاصة في فترة الثمانينات، حين طوعت الدولة السياسة والأجهزة النقدية لتسهيل إنفاقها المتزايد بدلاً من أن تترك هذه السياسات لتشكل صمام أمان، يحميها من نفسها.  فكان أن اخترقت الدولة، في تلك الفترة السقوف القانونية المحددة لمديونيتها من النظام المصرفي، وابتدعت أسلوب السحب على المكشوف من البنك المركزي، وأصبح بذلك البنك المركزي شريكاً في خلق حال التضخم الكبير الذي حصل في منتصف الثمانينات.

إن الإصرار على استقلالية مجلس النقد والتسليف ومعه المصرف المركزي أمر هام لنجاحه في تحمل مسؤولياته، خاصة وأن القانون لا يعطي الحق للدولة في إصدار أوامرها إلى السلطات النقدية مثلاُ لزيادة كمية النقود المتداولة لتسهيل زيادة الإنفاق الحكومي، أو لرفع سقوف التسليف، وبنفس الوقت فإن مجلس النقد والتسليف ملزم بالعمل ضمن توجيهات الدولة العامة ويمارس وظيفته ضمن حدود صلاحياته القانونية.

كذلك لكي يكون لمجلس النقد والتسليف وللمصرف المركزي دوراً إشرافياً فعالاً على احتياطات البلاد من القطع الأجنبي وتنميتها وحسن استغلالها، فيجب أن يكون له حق الإشراف الحقيقي على تقرير وتنفيذ سياسة القطع الأجنبي.  ويقترح لتحقيق ذلك:

ـ العودة إلى إعداد خطط سنوية للقطع الأجنبي من قبل المركزي، تتماشى مع الخطة الاقتصادية السنوية للدولة.

ـ تسجيل الموارد الرسمية للحكومة بالعملة الأجنبية في حسابات المصرف المركزي كما كانت في السابق.

ـ بقاء تحديد التبدلات في أسعار الصرف من اختصاص المركزي (بعد التشاور مع الجهات الأخرى صاحبة العلاقة).

ـ وأن يكون للمصرف المركزي حاضراً في قرارات التجارة الخارجية تصديراً واستيراداً، وأن يساهم في مفاوضات القروض الخارجية المعقودة لحساب الدولة ومفاوضات الاتفاقيات الدولية للمدفوعات والقطع والتقاص.

ج ـ مفوضية الحكومة لدى المصارف:

تستعيد مفوضية الحكومة لدى المصارف بإعادة إحيائها، سلطة الرقابة على المصارف الخاصة والمشتركة وعلى المصارف العامة، وهي السلطة التي كانت قد توزعت بين وزارة الاقتصاد ووزارة المالية والجهاز المركزي للرقابة المالية وهيئة تخطيط الدولة والهيئة المركزية للرقابة والتفتيش.  والمطلوب من المفوضية الاستقلالية والصرامة المهنية والشفافية في تنفيذ مهامها، حيث تستطيع هذه المفوضية إذا مارست سلطاتها بهذه الصفات الأربعة أن تحمي الجهاز النقدي/المصرفي من الهزات المالية.  وقد شكل التراخي في الرقابة المصرفية في العديد من الدول (تايلاند، كوريا، أندونيسيا، ماليزيا، تركيا) سبباً أساسياً للانهيارات المالية التي شهدناها.   ثم على هذه المفوضية أن تبدأ بإعداد الكوادر البشرية اللازمة لعملها من الآن وتحديد النظم المحاسبية المطلوب من المصارف اتباعها، وأن تبدأ بوضع نظام لتصنيف القروض المتعثرة، وما يتوجب تخصيصه من مؤونات لكل صنف من هذه القروض، كما يتوجب إعدادها النسب الإلزامية للرقابة المصرفية: نسب السيولة والملاءة والإنتاجية والتعرض ودرجة التزاماته للعملات الأجنبية ونسب الإقراض للعميل الواحد وللقطاع الواحد وغيرها من مؤشرات الأداء، مستفيدة في ذلك من معايير لجنة بازل وغيرها.

6 ـ إعادة هيكلة المصارف العامة القائمة:

أوصت اللجنة التي تم تشكيلها من قبل رئاسة مجلس الوزراء في شهر تموز الماضي لاقتراح كيفية إعادة هيكلة القطاع العام المصرفي في مواجهة المصارف الجديدة، بالحفاظ على الملكية العامة لهذه المصارف والحفاظ على التخصص المصرفي القطّاعي، بالنسبة للمصرف الزراعي التعاوني والمصرف الصناعي والمصرف العقاري على أن تطور هذه المصارف منتجاتها، واقترحت نزع التخصص عن المصارف الأخرى وهي التجاري السوري والتسليف الشعبي والتوفير والاستثمار لتصبح مصارف شاملة.

كما أوصت اللجنة برفع رؤوس أموال المصارف (وتسديد الزيادة من فوائضها) واقتصار الرقابة عليها بالمصرف المركزي والجهاز المركزي للرقابة المالية، ومنح تعويضات متعددة ومختلفة للعاملين فيها وإحداث مركز للتدريب والتأهيل المهني واعتماد نظام محاسبي حسب القواعد والمعايير العالمية، وربط محاسبتها بالمحاسبة المركزية للمصرف المركزي.  وأغفل تقرير اللجنة بشكل ملحوظ ردائة حسابات المصارف وبياناتها المالية التي تخفي وضعها المالي الحقيقي، ومشكلة الديون المتعثرة في هذه المصارف وتقدير حجمها وكيفية معالجتها، ومشكلة حجم العمالة الفائضة فيها وتقدير حجمها كذلك وكيفية معالجتها، وطرح برنامج وزمن لإعادة هيكلتها وتقدير عبء هذه الكلفة على الموازنة العامة للدولة.

أعتقد أن اقتراحات اللجنة ليست كافية لإعادة هيكلة القطاع العام المصرفي وأعتقد أنه لا يمكن لإدارات المصارف العامة الحالية أن تكون متكافئة مع إدارات المصارف الخاصة الجديدة ما لم :

ـ تتخلص من ديونها المتعثرة ويعاد رسملتها.

ـ يرتقي سلم الأجور فيها إلى سلم الأجور المتوقع في القطاع المصرفي الخاص، ويخلصها من عمالتها الفائضة.

ـ قيام إدارات هذه المصارف بعملية تدريب مكثفة على أسس التمويل الحديث وعلى استخدام التقنيات الحديثة، وعلى التعامل مع الزبائن وعلى تأهيل القيادات المصرفية الواعدة.

ـ منح الإدارات العليا في هذه المصارف الصلاحيات الكاملة في التسليف والتحصيل كما في التظيف والتسريح وتحديد الأجور.

والحقيقة أن المصارف الجديدة لابد وأن تشكل حافزاً للمصارف القائمة على تجديد نفسها، ولكن لا شك أيضاً أن المصارف القائمة لن تقدر على تجديد نفسها بالسرعة المطلوبة، قياساً على تجاربنا السابقة في سرعة التغيير والتطوير، ولن تستطيع التكيف مع المصارف  الجديدة بسرعة.  وإذا نجحت المصارف الجديدة بسحب قسم كبير من ودائعها، (والمحتمل أن تنجح) بسبب الخدمة التي يتوقع أن تقدمها المصارف الجديدة للعملاء والتعامل الحسن معهم وتنوع المنتجات التي ستقدمها، فستقع المصارف العامة القائمة في مأزق شديد، وهي المتدنية رؤوس أموالها والمثقلة بالديون المتعثرة للقطاعين العام والخاص، وغير المخصِّصة إلا لمؤونات وضيعة مقابل ديونها المتعثرة، وستتعرض للموت البطيء، تماماً مثلما يتعرض القطاع العام الاقتصادي اليوم للموت البطيء بسبب تعرضه للمنافسة من القطاع الخاص وعدم إعداد أي برنامج لإنقاذه، وستضطر هذه المصارف اللجوء أكثر وأكثر إلى المصرف المركزي طلباً للسيولة. 

ومن جهة ثانية فإن عملية إعادة هيكلة القطاع العام المصرفي، التي تتضمن تخليصه من ديونه المتعثرة وتحمل الدولة بعض هذه الديون وإعادة رسملته وتدريب عمالته والعمالة الفائضة الواجب الاستغناء عنها لإعدادها لأعمال أخرى، ستحمل الدولة عبئاً مالياً كبيراً.  (في تركيا مثلاً تمّ تقدير كلفة إعادة هيكلة قطاعها المصرفي بـ 6.1 مليار دولار).

وبالمجمل فإن إصلاح القطاع العام المصرفي من خلال المحافظة على ملكيته العامة، سيستغرق وقتاً طويلاً لا يستطيع الاقتصاد الوطني تحمل كلفة فرصه الضائعة، وسيتطلب ضخ أموالاً طائلة من أموال الدولة لتحمل كلف الديون المتعثرة والرسملة الجديدة وإعادة الهيكلة بشكل عام، وهي كلفة لا تستطيع موازنة الدولة العامة تحملها، خاصةً وأن الإصلاح لن يكون مضمون النتائج، كما أن موازنة الدولة ستتعرض لضغوطات كبيرة في السنوات المقبلة نتيجة الزيادات السكانية من جهة، ونتيجة الانخفاض المتوقع في الموارد العامة بسبب انخفاض الرسوم الجمركية المتوقع نتيجة الشراكات الاقتصادية التي وقعتها وتوقعها سورية مع جهات مختلفة.

ومن جهة ثانية فإن إصلاح المصرف التجاري السوري تحديداً، وهو مصرف الدولة، دون إصلاح القطاع العام الاقتصادي الذي يتعامل معه، وهو القطاع غير القادر على تسديد ديونه إليه، سيكون نوعاً من العبث، في غياب أي تصور أو برنامج لدى الدولة لإصلاح القطاع العام الاقتصادي في وقتٍ قريب.

للأسباب هذه أعتقد أن لا حل لإصلاح القطاع العام المصرفي إلاّ بخصخصته كلياً أو جزئياً وإخضاعه لقانون المصارف الجديد، القانون رقم 28 لعام 2001، وقد كنت في أول محاضرة لي عن الإصلاح المصرفي في سورية في عام 1994، قد دعوت لإصلاح القطاع المصرفي، مع الحفاظ على ملكيته العامة، ودعوت في محاضرتي الثانية عن الإصلاح المصرفي بتاريخ 2/3/1999، بتحويله إلى القطاع المشترك.  وبعد سبع سنوات من اللإصلاح واللاقرار، بينما العولمة تدق أبوابنا والقطاعات المصرفية العربية تنطلق من إصلاح إلى إصلاح لمواكبة التطورات المصرفية العالمية، وجدت أنه من العبث استمرار الدعوى لإصلاحه، وأن تخصيصه هو الأفضل. 

لكني أقترح أن يكون هذا التخصيص على مرحلتين، يتم في المرحلة الأولى منها تخصيص المصرف الصناعي والعقاري والتسليف الشعبي والتوفير، كلياً أو جزئياً، وهي كلها مصارف تقدم تسليفاتها للقطاع الخاص، والحفاظ على المصرف التجاري السوري والمصرف الزراعي التعاوني في القطاع العام، الأول حتى يستمر في تقديم التمويل للقطاع العام (وإن لم يتم إصلاح القطاع العام إصلاحاً جدياً)، والثاني لعدم جاذبية التمويل الزراعي للقطاع الخاص ولضرورة استمرار الدعم المصرفي للقطاع الزراعي من قبل الدولة.

أما بالنسبة للديون المتعثرة في هذه المصارف فيقترح فصلها عن المصارف قبل بيعها وتحمل الدولة جزءاً منها.  وبالنسبة للعمالة الفائضة يقترح نقلها إلى مؤسسات تنموية واستشارية تقوم بإعداد دراسات الجدوى ودراسات السوق والترويج للاستثمار ودعم التصدير.

مرة ثانية، أعتقد أن ضخ أموال جديدة في مصارف القطاع العام بنيّة إصلاحها، تعتبر مغامرة كبيرة غير مضمونة النتائج، وقد تؤدي إلى المزيد من هدر المال العام، ونظامنا الإداري غير معتاد على الإصلاح السريع، وقد نضطر للتخصيص فيما بعد، على أي حال، وبعد أن نكون قد أنفقنا ما أنفقنا من أموال.  وها نحن نقرأ مثلاُ أن الحكومة التشيكية قررت بيع مصارف الادخار لديها لتجنب سداد 1.7 مليار دولار كديون هالكة (الحياة 5/9/1999)، ونلاحظ أن تطور الصيرفة الإلكترونية لدى المصارف العالمية واحتمال تزايد تعامل السوريين معها ستزيد منافستها للمصارف المحلية في المستقبل، مما سيؤدي إلى تدني القيمة السوقية للمصارف المحلية، ويصبح تخصيصها في وقت لاحق أقل عائد، وقد لا نجد من يشتريها.

إذاً لماذا ننتظر، وأنا لا أجد سبباً واحداً يدعو للحفاظ على الملكية العامة للمصارف القائمة في نهاية المطاف، وأفضّل الإشفاق على هذه المصارف من الآن، وتجنيبها عذاب المنافسة التي ستأتيها من مصارف القطاع الخاص، قبل أن نضخ فيها الأموال لإصلاحها، وتجنيب الاقتصاد الوطني الكلفة التي سيتحملها نتيجة ذلك، تماماً مثل العذاب الذي يتحمله القطاع العام الاقتصادي اليوم جراء المنافسة من القطاع الخاص، (وجراء التصحيحات التي تمت في سعر القطع وفي السياسات السعرية التي طبقت عليه) والكلفة الاقتصادية الهائلة التي يتحملها الاقتصاد الوطني نتيجة ذلك.  ولعل السبب الممكن لمحاولة الحفاظ على ملكية هذه المصارف في القطاع العام ما رأيناه في دول أخرى من رغبة المتنفعين من النظام المصرفي القائم بإبقائه على ما هو عليه، ومن رغبة الدولة أحياناً الحفاظ على سلطة التمويل والمنح مقابل الولاء من جانب الطبقة الرأسمالية الوطنية.

أما أن يقول أحدهم أن الملكية العامة تساعد على توجيه التسليف المصرفي نحو القطاعات الإنتاجية، فهذا غير صحيح بالمطلق، وقد وجدنا أن الملكية العامة لمصارفنا لم تؤدي إلى ذلك، واتجه التسليف المصرفي في أكثره منذ التأميم لدعم التجارتين الداخلية والخارجية ولتسديد عجوزات الدولة المالية ولدعم الشركات الخاسرة، واتخذ معظم التمويل شكل القروض قصيرة الأجل(1).

وإذا قلنا نحول بعض هذه المصارف إلى مؤسسات تنمية صناعية أو مؤسسات تنمية زراعية بعد إصلاحها، فالتجربة في العالم حول مصارف التنمية المحلية المملوكة من القطاع العام ليست تجربة ناجحة.  وقد تحول معظمها إلى مصارف شاملة.  وحين كنت موظفاً في البنك الدولي في واشنطن وخلال عملي في دائرة بنوك التنمية في منطقة جنوب آسيا، وجدنا أن هذه المصارف تفشل بالنهاية في استرداد ديونها، بسبب فقدان الشفافية والقدرة على الاستقلالية في القرار وظهور الديون المتعثرة على نطاق كبير نتيجة لذلك.

وإذا قلنا فلندمجها، فدمج الضعفاء مع بعضهم يزيد الضعفاء ضعفاً، ولكن يمكن تحويل البنك التجاري السوري إلى مصرف شامل، ويمكن تجزأته إلى مصرفين، واحد يختص بالتمويل التنموي والآخر بالصيرفة الشاملة.

وأود التأكيد أن دعوتي هذه لخصخصة المصارف ليست بداية لدعوة إلى الخصخصة الشاملة في سورية، لأني أعتقد أن هذه الخصخصة الشاملة لم يحن وقتها بعد، ولا يجب السعي إليها إلا في حالات انتقائية إلى أن نقيم قطاعاً خاصاً قوياً وديناميكياً، يعمل ضمن بيئة تشريعية وتنظيمية سليمة وفعالة، ويستطيع آنئذٍ استعياب العمالة الفائضة من القطاع العام الاقتصادي. وإنها صرخة لإنقاذ هذه  المصارف من مصير أراه واضحاً أمامي وضوح الشمس لا يقل عن مصيرٍ شهدته مؤسسات في القطاع العام الاقتصادي.  إن رؤوس أموال المصارف القئمة هي أموال عامة، كباقي مؤسسسات القطاع العام الاقتصادي، لا يجوز القبول باستمرار هدرها إلى ما لانهاية.

7 ـ ترابط الإصلاحات:

هناك الترابط بين الإصلاحات ضمن القطاع النقدي/المصرفي مما أشرنا إليه أعلاه وهناك الترابط بين القطاع النقدي المصرفي والقطاعات الأخرى.  فبالنسبة للشق الأول فقد تحدثنا عن المؤسسات المصرفية وعن المؤسسات المالية غير المصرفية وأسواق الأوراق المالية، وتحدثنا عن ضرورة توفر بنية مالية تحتية تخدم هذه المؤسسات.

وبالنسبة للشق الثاني وهو الأهم في هذا القسم، فيتعلق بالإصلاح خارج القطاع المصرفي وعلاقته بالإصلاح النقدي/ المصرفي.  وأعتقد أنه لا يمكن أن يتحقق إصلاح نقدي مصرفي حقيقي إلا باستكمال هذه الإصلاحات الأخرى.

منذ بضع سنوات كنت أقول أن الإصلاح النقدي/المصرفي يجب أن يكون جزءاً من برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل، ولكني اليوم أصبحت على قناعة بأن الإصلاح النقدي/المصرفي لا بد من أن يكون جزءاً من عملية تنمية شاملة، يشكل الإصلاح الاقتصادي الشامل مكوناً واحداً منها والعناصر الشاملة الرئيسية المطلوبة للتنمية والإصلاح هي :

ـ تعزيز القدرة على زيادة معدلات الإنتاجية السنوية للاقتصاد الوطني من خلال تبني التكنولوجيا الجديدة ومن خلال التنمية البشرية، وضع برنامج  وطني لدعم التصدير.  وتكمن هنا أهمية عنصري الإنتاجية والقدرة على المنافسة العالمية من جهة وتوفر القطع الأجنبي الناتج عن التصدير من جهة أخرى، مما يعزز سعر الصرف، كما لابد من الجهود الكبيرة لزيادة التصدير خارج (النفط) لإقامة التوازن المطلوب في الميزان التجاري بعد تضاءل الموارد النفطية.

ـ إقامة توازن في الاقتصاد الكلي، توازن في الميزان الخارجي وتوازن في الموازنة العامة للدولة مما يساعد كذلك على استقرار سعر الصرف.

ـ الحاجة لإقامة بيئة تشريعية وتنظيمية سليمة لقطاع الأعمال من استيراد وتصدير وتشريعات أعمال وشركات وأنظمة قطع وضرائب وغيره ونظام قضائي شفاف وكفوء.

ـ الحاجة لرفع القدرات الإنتاجية لقطاع الأعمال لخلق قطاع قوي وقادر على لعب دور قيادي في عملية النمو وإطار الاقتراض بنسب فوائد السوق.

ومن ضمن الإصلاح الاقتصادي الشامل، فإن الترابط بين إصلاح القطاع الخاص وإصلاح القطاع العام أمر أساسي، حيث أن الانفتاح على القطاع الخاص دون إصلاح القطاع العام يعرض القطاع العام لمنافسة شديدة ويساعد في كساد مبيعاته ويرفع من كلفته ويزيد بالتالي من خسائره، مما سيضطر هذا القطاع أكثر فأكثر للجوء إلى القطاع المصرفي لأخذ قروض لا يسددها بالنهاية، أو اللجوء إلى الموازنة العامة للدولة سعياً وراء السيولة، أو يضطر إلى عدم تسديد التزاماته إلى جهات القطاع العام الأخرى.  وقد بلغت خسائر القطاع العام الاقتصادي في سنة واحدة أخيرة حوالي 70 مليار ليرة سورية، حسب بعض التقديرات.  وفي هذا المصير يصبح الإسراع بإصلاح القطاع العام الاقتصادي ضرورة ملحة، ويصبح ضرورة وقف توسعه، وتجميده ضمن حدوده الحالية، ضرورة أخرى لوقف نزيفه (وهو ما طالبنا به منذ سنتين من على هذا المنبر، في محاضرتي عن الإصلاح الاقتصادي في سورية)(1) إلى أن نجد صيغة وبرنامج لإصلاحه.

8 ـ الإصلاح النقدي/المصرفي والرقابة على النقد:

لا يكتمل الإصلاح النقدي/المصرفي لتعزيز الاستفادة من الرساميل الخارجية ولرفد المدخرات المحلية 1) دون توحيد أسعار القطع 2) ودون خلق سوق حر للقطع من خلال تخفيف ثم إلغاء نظام الرقابة على النقد بالنسبة للحساب الجاري، خاصة وأن نظام الرقابة على النقد لم يساعد على الحيلولة دون هرب رؤوس الأموال إلى الخارج. 

ومن جهة أخرى فإن سورية مقبلة في السنوات الخمس إلى العشر المقبلة على الدخول في الشراكة  الأوروبية المتوسطية وفي منظمة التجارة العالمية، ويتطلب الدخول إلى هذه المنظمة إلغاء القيود على تجارة الخدمات ومنها الخدمات المصرفية، وسيأتي وقت سيُطلب منا السماح بإقامة المصارف الأجنبية والفروع لهذه المصارف في بلادنا، ومعاملتها معاملة المصارف المحلية، وسيطلب منا إلغاء القيود على حركة الأموال وليس فقط على حركة التجارة.  إذاً علينا الاستعداد لكل هذا من الآن وهذا الاستعداد هو جزء من دخولنا النظام الاقتصادي والمالي العالمي، وقد اتخذنا قراراً استراتيجياً وسياسياً بهذا الشأن على مستوى القيادة القطرية خلال العام الماضي، حين قررنا بدء التفاوض لدخول منظمة التجارة العالمية.

ولا شك أنه كلما اتجهنا نحو العمق المالي وتعددت المنتجات الإدخارية والاستثمارية المحلية والخارجية، كلما زادت مواردنا الاستثمارية وزادت علاقاتنا الخارجية الاستثمارية والتجارية، ولكن كلما زادت المخاطر بنفس الوقت.  ولئن كان توحيد أسعار القطع أصبح ممكناً اليوم (بوجود فائض في الميزان التجاري واحتياطي مريح لدى المركزي وبحدود 7 - 8 مليار دولار ومعدلات فوائد مرتفعة  على العملة المحلية مقارنةً بمعدلات الفوائد على العملات الأجنبية) ودون صعوبة كبيرة، خاصةً إذا تم إنجازه بالتلازم مع تخفيض الرسوم الجمركية، فإن تخفيف ثم إلغاء نظام الرقابة على النقد، يتطلب التروي فيه ويحتاج لتوفر الشروط الموضوعية له للتخفيف من مخاطره.  ومن أهم هذه الشروط:

ـ تحديد هوية النظام الاقتصادي السوري، وخاصةً بالنسبة لأدوار كل من القطاع العام والقطاع الخاص في الاقتصاد الوطني ودور آلية السوق في توزيع الموارد.

ـ إقامة برنامج للإصلاح الاقتصادي الشامل ومنه تعزيز الزيادات الإنتاجية السنوية وتعزيز التصدير.

ـ تحديد السياسات النقدية والمالية في البلد، وتحديد الجهة المسؤولة عن كلٍ منها.

ـ تقوية القدرات الفنية لمصرف سورية المركزي وخاصةً بالنسبة لدوره الرقابي على النشاط المصرفي وعلى دخول وخروج الأموال الخارجية، بعملاتها وآجالها وغاياتها.

كذلك ينبغي التنبه إلى أن عالم النقد والمصارف في نظام السوق سواء على المستوى المحلي أو على المستوى العالمي هو عالم غني بالفرص، ولكنه عالم غني بالعثرات كذلك.  وهو عالم لا نستطيع أن ندخل إليه بنصف قلب أو بنصف استعداد، أو بالأسلوب المتردد، أو بعدم توفر شروطه، و>إن الأزمات التركية والأرجنتينية ومن قبلها الروسية يجمع بينها التردد و>سوء التطبيق وسوء الإدارة وضعف الرقابة والعلاقة الحميمة بين أصحاب المال وأصحاب وإدارات المصارف وأصحاب السلطة. 

وعلينا أن ندرك أننا إذا أردنا إقامة نظام نقدي/مصرفي متطور وسياسة نقدية مستقلة، منفتحة على النظام المالي العالمي، فذلك يتطلب منا الكثير من اللامركزية ويحتاج لنزع الكثير من السلطات من جهات وإيداعها في يد جهات أخرى، مما لا بد أن يخلق تبدلاً في الموازين وتبدلاً في مراكز القرار، فهل الحكومة مستعدة مثلاً للتنازل >عن سلطاتها إلى السلطات النقدية، والقبول بتمركز هذه السياسات النقدية والمصرفية في مجلس النقد والتسليف برئاسة حاكم مصرف سورية المركزي بدلاً من من اللجنة الاقتصادية العليا المؤلفة من نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية والوزراء المعنيين بالاقتصاد والمالية والتخطيط والقطاعات الرئيسية؟  هل السلطة التنفيذية مستعدة فعلاً (بغض النظر عن نص القانون) منح السلطات النقدية المتجددة استقلاليتها بعد سنين طويلة من ثقافة سلطة الدولة؟  هل هي، والأجهزة المختلفة، مستعدة مثلاً أن تترك المصرف المركزي يبيع ويشتري القطع الأجنبي كل يوم حسب الحاجة، ودون الرجوع إليها؟ وهل هي مستعدة لوضع مسؤولية الرقابة على المصارف مثلاً في يد مفوضية الحكومة لدى المصارف فقط وسحب هذه المسؤولية من وزارات الاقتصاد والمالية وهيئة الجهاز المركزي للرقابة المالية  والهيئة المركزية للرقابة والتفتيش؟.

إن الإصلاح النقدي/المصرفي الحقيقي والشامل، ودخولنا النظام المالي العالمي، يحتاج لإجراء تعديلات أساسية في فكرنا الاقتصادي وفي إدارتنا الاقتصادية وفي مركزيتنا الشديدة، ويحتاج للتوجه نحو المزيد من فصل السطات وتحديد للمسؤوليات وإقامة علاقة جديدة بين الحزب والدولة في شؤون الاقتصاد، وذلك للتمكن من اتخاذ القرار الاقتصادي والنقدي بالسرعة اللازمة، حتى لا نقع في مستنقع التردد واللجان والبيروقراطية والزمن الطويل، وحتى لا يضيع الإصلاح في متاهات النظام المالي العالمي.  ولعله هنا يبدأ الإصلاح النقدي المصرفي الحقيقي في سورية.

 

وشكراً لإصغائكم.

 

 

د. نبيـل سـكر

 



(*) المدير التنفيذي للمكتب الاستشاري السوري للتنمية والاستثمار بدمشق واقتصادي رئيسي سابق في البنك الدولي في واشنطن.

(1)  د. نبيل سكر الإصلاح المصرفي في سورية، محاضرة ألقيت في ندوة الثلاثاء الاقتصادية التاسعة في 27/12/1994.

 

(1)  انظر د. نبيل سكر، الإصلاح المصرفي في سورية، محاضرة أُلقيت في ندوة الثلاثاء الاقتصادية التاسعة، جمعية العلوم الاقتصادية السورية، 27/12/1994.

(1)  د. نبيل سكر، الإصلاح الاقتصادي في سورية، ندوة الثلاثاء الاقتصادية الثالثة عشرة، جمعية العلوم الاقتصادية السورية 22/3/2000.