|
|
القسم الثاني
مشروع الشراكة السورية الأوربية
ليس إعلان برشلونة المتضمن المبادئ العامة للشراكة الأوربية المتوسطية أكثر من إطار عام تدور فيه المفاوضات الثنائية بين الاتحاد الأوربي وكل بلد من البلدان المتوسطية غير الأعضاء في الاتحاد. لكن هذا لا يعني أن المفاوضات يمكن أن تلغي مضمون الإعلان أو تعدل فيه تعديلاً جوهرياً. ذلك أن مبادئ الشراكة قد تم إقرارها من قبل المجلس الوزاري للاتحاد بعد دراسات ومقترحات أعدتها المفوضية خلال مدة عشر سنوات وكلفت المفوضية بتنفيذها. وهكذا فإن أي تعديل فيها يحتاج إلى دراسات جديدة وقرارات جديدة تستغرق مزيداً من الزمن. فالإعلان كما الشراكة ذاتها مشروع أوربي فرضته مجموعة الظروف العالمية بعد نهاية الحرب الباردة وقيام عالم بقطب واحد مما يقلل من الدور الذي يمكن أن يلعبه الاتحاد الأوربي في المجالين السياسي والاقتصادي من جهة إضافة إلى رغبة الاتحاد بتجاوز الأخطار التي تهدد أقطاره المتمثلة في الهجرة الكثيفة وتلوث البحر المتوسط وتفاقم ظاهرة الأصولية الاسلامية من جهة أخرى، لهذا تكون الشراكة أداة ملائمة لمواجهة هذه الأخطار وإدماج دول جنوب وشرق المتوسط في الاقتصاد العالمي بمبادرة أوربية بما يضمن تحقيق تقدم في تنمية هذه البلدان وتضييق الهوة التي تفصل بينها وبين الاتحاد الأوربي في مستويات النمو ومستوى معيشة السكان.
يلاحظ أن برنامج الشراكة لم يحظَ بالاهتمام الكافي فلم تتناوله كتابات الأكاديميين كما لم تتعرض الصحافة لمضامينه السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا في الاتحاد الأوربي ولا في البلدان المتوسطية الأخرى ففي أوربة تتركز أبحاث الاقتصاديين على تأثير التكتلات الإقليمية وتحرير التجارة والاقتصاد الوطني على معدلات النمو ومستويات الرفاه في الاقتصادات المنفتحة على الخارج أو الأعضاء في التكتلات الإقليمية. وفيما يتعلق بحالة الشراكة الأوربية المتوسطية فإن الدراسات التي تتناولها تكاد تكون مقتصرة على الدراسات التي أعدتها المفوضية الأوربية والآراء التي تبديها لجانها المختلفة، وفي سورية لم تنشر حتى الآن وثيقة إعلان برشلونة كما لم يطلع سوى العدد القليل من الخبراء على مشروع اتفاقية الشراكة السورية الأوربية ولم تعرض على الأكاديميين لدراستها. مع هذا فقط ظهرت بعض المواقف من إبرام الاتفاقية وآثارها على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي.
إن الموقف الرسمي لسورية يتسم بتأييد الشراكة شريطة التوصل إلى اتفاق يخدم مصلحة الجانبين فقد أشار السيد الرئيس حافظ الأسد في كلمته أمام مجلس الشعب بمناسبة أدائه القسم الدستوري لولاية خامسة بتاريخ 11/3/1999: «أننا سنتابع العمل لتنمية علاقاتنا الدولية بما يخدم مصالحنا الوطنية والقومية وسنستمر في الحوار مع الاتحاد الأوربي لإقامة الشراكة معه وفق أسس متكافئة تخدم مصالح الجانبين». والأمانة العامة للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب أصدرت مذكرة في شباط 1997 نبهت فيها إلى بعض النقاط السلبية في مشروع الشراكة: مثل تطبيق المعايير والضوابط الأوربية على تبادل السلع، حرمان الدول العربية من الاستفادة من المزايا التي رتبتها لها الاتفاقيات الثنائية السابقة، إلى المنعكسات السلبية للشراكة بالنسبة للعمالة العربية وتعرضها للبطالة الواسعة. كما أبدى الاتحاد العام لنقابات العمال في سورية تحفظات مماثلة على مشروع الشراكة. وكذلك أبدت لجنة التبادل التجاري ملاحظات كثيرة حول مشروع اتفاقية الشراكة السورية الأوربية بجوانبها الإيجابية والسلبية. ومن الجوانب السلبية التي ذكرتها اللجنة: تدهور الميزان التجاري، فوات موارد على خزينة الددولة، ازدياد التزامات الدولية المالية، خطر انهيار القطاع الصناعي وبالتالي احتمال زيادة البطالة السورية. ولكن بعد أن تعدد المكاسب المحتملة للدخول في الشراكة تصل اللجنة إلى النتيجة التالية: «صحيح أن العائد الصافي للاتفاقية إيجابي إلا أنها لا تكفي بحد ذاتها لتحقيق النهوض الاقتصادي والاجتماعي في سورية». وترى اللجنة ضرورة تنفيذ مشروع إصلاحي متكامل تشارك القوى الرسمية والخاصة في صوغه وتطبيه[انظر 66].
لذا فإن إجراء تحليل علمي لمضمون الشراكة وتحليل انعكاساتها على الاقتصاد السوري سيبقيان، في ظل الظروف المعروضة، في الإطار النظري الأكاديمي وبفرض أن الأحكام والمبادئ الرئيسية في مشروع الشراكة الأوربية ـ المتوسطية سيتم تضمينها في المشروع الأوربي للشراكة مع سورية.
جاء برنامج العمل الملحق بإعلان برشلونة مفصلاً جداً شاملاً الإجراءات المطلوب اتخاذها من جانب الدول الشركاء في جميع المجالات بما ينسجم مع متطلبات الشراكة. وبالطبع فإن هذه المتطلبات ستكون بالنسبة لسورية كما لغيرها من دول جنوب شرق المتوسط. ويفترض أن تجري الحكومة السورية التصحيحات الهيكلية وأن تتخذ الإجراءات الضرورية لتجعل الوقائع منسجمة مع هذه المتطلبات ومنها:
يقتضي تنفيذ أهداف إعلان برشلونة عبر العمل الإقليمي والمتعدد الأطراف إنهاء مسألة الصراع العربي الإسرائيلي وفقاً لمبادئ الشرعية الدولية وما ورد في مقدمة إعلان برشلونة. لأن من غير الممكن البدء بعمل تعاوني إقليمي متعدد الأطراف قبل إنهاء حالة الحرب بين سورية وإسرائيل. لقد قاطعت سورية ولبنان بحق اجتماعات اللجان المتعددة الأطراف المنبثقة عن مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط لأن اسرائيل لم تفِ بالتزاماتها، بموجب القانون الدولي ولا يعقل أن يطلب من سورية البدء بالتعاون مع دولة تحتل جزءاً من أراضيها لا تعترف حتى بمبدأ الانسحاب من الأراضي المحتلة بذريعة الضرورات الأمنية.
وهكذا سيكون الطريق الوحيد أمام سورية والبلدان العربية المتوسطية الأخرى لتفعيل العمل الإقليمي المتعدد الأطراف اقتصار ذلك على العمل العربي المشترك مع إمكانية ضم دول أخرى في المنطقة عندما تسمح الظروف بذلك. وليس واضحاً إذا كان الاتحاد الأوربي يقبل ذلك. ولعل عدم صدور بيان ختامي بأعمال مؤتمر فاليتا عام 1997 والاكتفاء بإصدار بيان صحفي يوضح أن تعنت إسرائيل وممارساتها في الأراضي العربية المحتلة قد تهدد مسار الشراكة الأوربية المتوسطية واستبداله بمسار الشراكات الثنائية والأفضل بالشراكة الأوربية ـ العربية.
والأمر اللافت هو تركيز الوثائق الأوربية كلها تقريباً على ضرورة دفع عملية التعاون الاقتصادي بين كل دول منطقة المتوسط حتى ان بعض هذه الوثائق يربط تقديم المساعدات المالية لأي من الدول بموافقتها على الاشتراك في المشروعات الإقليمية. ولا تكاد تخلو وثيقة من الوثائق الأوربية من الإشارة إلى دعم التكامل الإقليمي بين دول جنوب وشرق المتوسط مما يؤكد سعي الأوربيين لإدماج إسرائيل في اقتصاد المنطقة[34 ـ 1991 + 24 و 33]. واتفاقيات الشراكة المعقودة بين الاتحاد الأوربي وكل من المغرب وتونس والأردن تخصص بنوداً ومواد خاصة بالتكامل الاقتصادي الإقليمي. فقد تضمنت المادة الأولى من اتفاقية الشراكة مع الأردن السعي إلى تشجيع التعاون الإقليمي (بين دول المتوسط) والتعايش السلمي المشترك والاستقرار السياسي والاقتصادي ـ كما خصصت المادة 65 من الاتفاقية لأوجه التعاون الإقليمي: تنشيط التجارة داخل المنطقة، تطوير البنى التحتية المشتركة والبحث العلمي والتكنولوجي وهذا سيطرح إشكالية التوفيق بين رغبة أوربة وقبول سورية لهذا التعاون وخاصة إن الأراضي السورية لا تزال محتلة. مما يستلزم أن تقوم أوربة بدور فعال أكثر في عملية السلام في الشرق الأوسط حتى بلوغها نهايتها المتوافقة مع مبادئ القانون الدولي وتحرير كامل الأراضي العربية المحتلة.
إن الهدف من إقامة منطقة التجارة الحرة وتسهيل التبادل ـ بين الأطراف، كما تضمنه الإعلان، هو إقاممة منطقة من الازدهار الاقتصادي المشترك القائم على التخصيص الأمثل للموارد ورفع مستوى معيشة جميع الشعوب المتشاطئة على المتوسط. غير أن تحقيق هذه الأهداف الطموحة تواجهه صعوبات تقنية لابد أن تجيب عليها النظرية الاقتصادية من جهة وتحليل التجارب الواقعية من جهة أخرى.
على الصعيد النظري لابد من الإجابة على الأسئلة التالية:
وهناك الكثير من الأسئلة النظرية التي تناقشها نظريات التجارة الخارجية ووضعت لها نماذج كمية لتقدير الآثار المحتملة لتحرير التجارة حسب الصيغ المشار إليها أعلاه.
إلى هذا الجانب النظري هناك دول متعددة من البلدان النامية لجأت إلى تحرير تجارتها الخارجية سواء بقرارات أحادية الجانب أم بالانضمام إلى مناطق تجارة حرة. وتجارب هذه الدول، وخاصة دول أمريكة اللاتينية، كانت موضع دراسات عدد غير قليل من الاقتصاديين. ويلقي استعراض نتائج هذه الدراسات الضوء على جدوى دخول سورية منطقة تجارة حرة مع دول متقدمة تنتمي إلى نادي القوى الاقتصادية العظمى وما هي الشروط الواجب توافرها حتى يكون مثل هذا الدخول مفيداً للاقتصاد السوري.
الاقتصاديون منقسمون إلى قسمين: مجموعة ترى في تحرير التجارة الخارجية الوسيلة المثلى لزيادة معدلات النمو ورفع مستوى الرفاه العالمي ويتزعم هذه المجموعة اقتصاديو وخبراء المؤسسات الاقتصادية العالمية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية) وينضم إليها عدد من الاقتصاديين الأكاديميين. غير أن هؤلاء الأخيرين يفترضون تحقق المزيد من الشروط حتى يكون تحرير التجارة عامل نمو اقتصادي ورفاه اجتماعي واسع. أما المجموعة الثانية فيرى أعضاؤها أن تحرير التجارة في ظروف انقسام العالم إلى دول متقدمة وأخرى نامية (متخلفة) من شأنه أن يعمق التقسيم الدولي الراهن للعمل ويؤدي إلى انسياب الفائض الاقتصادي من الدول ضعيفة النمو إلى الدول الصناعية المتقدمة من خلال آلية الاستقطاب.
يُعد أنصار تحرير التجارة ورثة مؤسسي الاقتصاد السياسي الكلاسيكي فقد اشار آدم سميث إلى أن حرية التجارة توفر الشرط اللازم للتخصص الدولي على أساس المزايا المطلقة الذي يسمح بدوره لكل أمة باستغلال طاقتها الإنتاجية على نحو أفضل وأن تستفيد من المزايا المطلقة لكل الأمم الأخرى. وطور ريكاردو النتيجة التي توصل إليها آدم سميث ليؤكد أنه حتى البلد الذي يتمتع بمزية مطلقة في الإنتاجية وبالتالي في التكاليف في كل المنتجات القابلة للتبادل له مصلحة في التبادل الدولي: ومصلحته في أن يتخصص بإنتاج المواد التي تكون تكاليفه النسبية في إنتاجها أدنى ما يمكن. وبالتالي فإن التخصص سيجري على أساس المزايا النسبية لكل بلد ويتم بذلك توفير خيرات متاحة للاستهلاك في كل بلد بمستوى أعلى مما يمكن أن يكون عليه الحال في الاكتفاء الذاتي والانغلاق على الذات (autarcie). غير أن ريكاردو ربط استفادة الدول من التبادل الدولي بتوافر سلع تنتجها بتكلفة أقل لتستورد مقابلها سلعاً كانت ستنتجها بتكلفة أعلى. ثم أدخل جون ستيورات ميل عامل المرونة السعرية ليبين كيف سيتم تقاسم مكاسب التجارة الدولية بين أطراف التبادل ليصل إلى النتيجة التالية: يستطيع البلد أن يربح أكثر من التجارة الدولية إذا كانت المرونة السعرية للطلب على وارداته كبيرة وكانت المرونة السعرية على صادراته المعروضة ضعيفة.
والخلاصة فإن آباء الاقتصاد السياسي أسسوا لنظرية الحرية الاقتصادية من جهة ولتحرير التجارة الخارجية من جهة أخرى. واقتصر دور أنصار حرية التجارة المعاصرين على تعميق تحليل كل من آـدم سميث ودافيد ريكاردو مع إعطاء القليل من الاهتمام للتعديل المهم الذي أدخله جون ستيوارت ميل حول مرونة الطلب السعرية.
إن خبراء صندوق النقد الدولي يدافعون بحرارة عن ضرورة التحرير المستدام للاقتصادات الوطنية في الدول النامية كما في البلدان المتقدمة ولكن ليس على قاعدة التحليل العلمي لنتائج تحرير الاقتصاد وإنما على قاعدة تلبية رغبات وأوامر سادة الاقتصاد العالمي. خلال انعقاد الجمعية العمومية للبنك والصندوق الدوليين في سيؤول أوصى وزير مالية الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك جيمس بيكر، البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بضرورة إدخال إجراءات أوسع تساعد على نمو الدول المدينة بحيث تتمكن من سداد مديونيتها. وهذا ما دفع بخبراء المؤسستين الدوليتين لإعداد وصفات جديدة (ثم تحولت إلى شروط ملزمة للدول المدينة) للتخلص من العقبات الهيكلية مثل «التقييدات غير الملائمة التي تحد من المنافسة وتعرقل المبادلات الخارجية». وتشمل وصفات الإصلاحات الاقتصادية خمسة مجالات:
إصلاح النظام الضريبي، ترشيد الانفاق العام، تحرير التجارة الخارجية، تحرير سوق العمل وأخيراً إصلاح الأسواق المالية[35 ـ 1993 ص (55 ـ 60)].
ويتضمن تحرير التجارة ليس فقط تخفيض الرسوم الجمركية ثم إزالتها نهائياً وإنما يشمل أيضاً التخلص من الحواجز غير الجمركية إضافة إلى إنهاء التدخل الحكومي في الاقتصاد مع الالتزام بقواعد حماية حقوق الملكية الفكرية والتقيد بتطبيق المعدلات (النورمات) الاجتماعية والبيئية. وبمعنى آخر فإن تحرير التجارة يقتضي مجموعة من التدابير الملازمة لها بما يفضي إلى إنهاء العمل بكل ما يستند إليه تدخل الدولة في الاقتصاد[7 ـ 1999 ـ ص(89 ـ 92)].
وتحرير التجارة يقتضي بحكم الضرورة تحريراً مالياً وأقله فتح الحساب الجاري قبل العالم الخارجي وفي هذه النقطة يقف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في مقدمة المطالبين بالتحرير الاقتصادي الشامل: تجاري، مالي، إصلاح النظام الاقتصادي... الخ، وبطريق الصدمة بحيث، كما يرى خبراء الصندوق والبنك، أنه كلما كانت التغيرات سريعة وجذرية في سياسات الإصلاح تكون المكاسب أكبر وحتى لو كانت التكاليف الاقتصادية والاجتماعية كبيرة. المهم بالنسبة لهم الصدقية في عملية تحرير الاقتصاد واستقرار الانفتاح الاقتصادي. فالمؤسستان تهتمان بنجاح عملية تحرير الاقتصاد واستقرارها دون النظر إلى عامل التكلفة أو الاهتمام بالعدالة[36 ـ 1987 و 1991]. في حين يقف اقتصاديون آخرون في صف المدافعين عن التحرير المالي في إطار التحرير الاقتصادي الشامل ولكنهم يتحفظون حول التوقيت والسرعة في إجراءات التحرير. بعضهم مثل R.i Mckinnon, S.Eduardo دافعا عن تحرير متأخر وحذر جداً واعتبرا أن التحرير المالي المبكر السريع سيكون له آثار هدامة على باقي جوانب الاصلاح وخاصة على تحرير التجارة الخارجية والإصلاح المالي الداخلي. في حين رأى بعضم الآخر بضرورة التحرير المبكر لتدفق رؤوس الأموال لأن من شأن ذلك تسهيل إجراء الاصلاح الاقتصادي وتخفيض تكاليفه[30 ـ 1996، 146 ص385 ـ 405]. (مثل B. Johnston و N.Funke وكثيرون هم من يرون ضرورة مرحلة (Périodisation) الإصلاحات الاقتصادية واعتماد برامج تحرير اقتصادية على مراحل بحيث تكون تكاليف المرحلة الانتقالية بحدها الأدنى وتراعى الانعكاسات السياسية والاجتماعية المترافقة مع هذه الاصلاحات.
هذا ويذهب فريق ثالث للتشكيك بجدوى الإصلاحات الاقتصادية وتحرير الاقتصادات الوطنية بما فيها تحرير التجارة الخارجية أو الانضمام إلى مناطق تجارة حرة ويتهمون خبراء صندوق النقد والبنك الدوليين بأنهم مجرد موظفين يهتمون بتطبيق المبدأ المصرفي (Le Principe Bancaire) المتمثل بضمانة تحصيل القروض وتحقيق الأرباح وهذا يدفع بخبراء الصندوق إلى اقتراح برامج تصحيح اقتصادي قد تتناقض مع المصالح الوطنية.
ويذهب الاقتصاديان الهنديان آميت بها دوري وديباك نيَّار الأستاذان في جامعة جواهر لال نهرو في نيودلهي ـ في كتابهما الصادر في نيودلهي ولندن بعنوان: «The intelligent person's guide to Liberalization» إلى حد اتهام المؤسستين برشوة الأطر الوطنية في البلدان النامية لتسويق الاصلاحات الاقتصادية وذلك عن طريق مكافأتهم بوظائف في المؤسسات الدولية بعد تقاعدهم في بلدانهم أو حتى بضمهم إلى أعمال هذه المؤسسات قبل التقاعد مقابل مبالغ مغرية تدفع بالدولار الأمريكي. ويضيفان أن بعض هؤلاء «تلحقهم الحكومات بالبنك الدولي أو بصندوق النقد الدولي في حين يلحق صندوق النقد والبنك الدوليان بعضهم الآخر لدى الحكومات ومع مرور الزمن يصعب معرفة من يعمل لحساب من»[38 ـ 1997، 150 ص299].
في جانب آخر يشكك الكثير من الاقتصاديين في جدوى التحرير الشامل للمبادلات الدولية وخاصة تلك التي تنشأ بين دول ذات مستويات تنمية متباينة جداً، كما يتناول التشكيك إمكانية تحقيق أرباح في التبادل في سياق المنافسة غير التامة (الاحتكار الشامل أو احتكار القلِّة). موريس أللاي مثلاً أحد المنظرين لمذهب الحرية الاقتصادية والحائز على جائزة نوبل للسلام والمتخصص في العلاقات الاقتصادية الدولية يقف بضراوة ضد التطبيق الفظ لمبدأ تحرير التجارة.
في حين يرى برنارد لاسوردي ـ دوشين وجيرار لافاي: «أن الشروط الحالية للمبادلات الدولية يمكن أن تحد من توسع حرية التجارة وأنه من الضروري قبول إجراءات تأجيل وحلول وسط إذا كانت هناك رغبة في أن تستطيع التجارة الخارجية الاستمرار في تقدمها»[37 ـ 1995]. ويشير آخرون إلىأهمية توافر حركية عوامل الإنتاج وظروف المنافسة التامة من أجل تحقيق مكاسب من تحرير التجارة[39 ـ 1993]. أما ج. بهاجواتي و ب.كروغمان فيتحدثان عن التشوُّهات المحلية أوإخفاقات السوق الداخلية المرتبطة بقابلية عوامل الإنتاج للانتقال مما يجعل سياسات تحرير التجارة غير أمثلية[40 ـ 1995 ص12] (Sous-optimales).
كما أن لافاي وسيروين المعروفين بأنهما من أنصار الحرية الاقتصادية يطالبان بضرورة كبح جماح حرية المبادلات الخارجية ويريان أن هذا الأمر مطلوب خاصة من أجل وضع دليل عمل منظمة التجارة العالمية[41 ـ 1994 ص23 + 41 A ـ 1999 ص71].
والحقيقة أن علماء الاقتصاد الأكاديميين يناقضون تماماً آراء خبراء «موظفي» البنك الدولي وصندوق النقد الدولي حول مكاسب تحرير التجارة العالمية.
وهناك من الاقتصاديين فئة تركز على التأثير السلبي المتوقع لتحرير وتطبيق الاصلاحات الاقتصادية اعتماداً على نماذج اقتصادية منتقاة، على جوانب محددة في الاقتصاد. فيرى انطوان بوويه Antoine Bouet أن الواردات تنافس بالدرجة الأولى وحدات الإنتاج الأقل إنتاجية في فرع النشاط وهذه الوحدات عادة هي التي تستخدم العدد الأكبر من قوة العمل وعكس ذلك فإن التصدير يكون مفيداً قبل كل شيء للشركات الأكثر إنتاجية والتي تكون فيها العمالة أقل أهمية والنتيجة إذن تحرير التجارة سوف يؤدي إلى تقليص الطلب على العمل. وفي دراسة أعدها كروجر Krueger توصل إلى «أن قطاعات التصدير غالباً ما تكون أقل كثافة في العمل المؤهل من القطاعات المنافسة للواردات» وهذا يعني أن قطاع التصدير لن يكون قادراً على خلق فرص عمل كافية لتعويض خسارة مقاعد العمل الناتجة عن القطاعات التي تتعرض لمنافسة الواردات. فإذا أضفنا إلى ذلك الفرق الكبير في إنتاجية العمل بين الدول المتقدمة والدول النامية بحيث أن إنتاج عامل واحد في الدول المتقدمة يعادل بين عشرة وخمسة عشرة ضعفاً إنتاجية العامل في الدول النامية يتضح لدينا أكثر كم ستكون مسألة العمالة مشكلة كبيرة للبلدان النامية التي تقوم بتحرير تجارتها الخارجية.
إضافة إلى ذلك فإن تحرير التجارة سيعني مزيداً من تدهور حدود التبادل في غير صالح الدول النامية التي تزيد انفتاحها على المبادلات الخارجية[13 ـ 1998 ص332] كما لن ينجو الحرفيون والفلاحون من النتائج السلبية لتحرير التجارة بسبب اختلاف إنتاجية العمل[15 ـ 1996، 148]. ويتوصل جيرار كبابجيان إلىأن انضمام تونس والمغرب إلى منطقة تجارة حرة مع الاتحاد الأوربي سيكون ضاراً بالبلدين إذا لم يتحقق تدفق لرؤوس الأموال الخارجية بكثافة كبيرة على الاقتصادين التونسي والمغربي[18 ـ 1995، 144 ص747 ـ 770] كما يقرر ميشيل داميان وآخرون أن تحرير التجارة لن يسهم في نمو بلدان العالم الثالث لأنه لا نظرياً ولا عملياً، من الناحية التاريخية، يمكن الوصول إلى نتيجة حول وجود علاقة خطية وبسيطة بين الانفتاح علىا لعالم والنمو. وبعد أن يشيروا إلى أن تحرير التجارة قد يكون مفيداً للنمو إذا تمكنت الدول المعنية، في ذات الوقت، زيادة مخزونها من الرأسمال المادي والبشري واستطاعت خلق مزايا نسبية حركية في صناعات وقطاعات معينة يضيفون أن تاريخ الدول الصناعية القديمة والحديثة يظهر أن المزايا النسبية (السكونية والحركية) بنيت دائماً بأنظمة حماية تمايزية مع تدخل استراتيجي من جانب الحكومات في موضوع التخصص الصناعي[42 ـ 1997، ص437 ـ 446]. وإلى هذا فإن الانفتاح العالمي والتوسع في تحرير التجارة أديا إلى تزايد الهوة بين الدول النامية والدول المتقدمة.
أما جيم دي ميلو وكلوديو مونتينغرو وآرفين بانا غارِّيا فيعيدون سبب رغبة الدول النامية بالانضمام إلى مناطق تجارة حرة إلى خشيتها من أن تجد نفسها محرومة من الوصول إلى الأسواق العالمية فيما إذا انكفأت التكتلات الاقتصادية العالمية على ذاتها بدلاً من الانفتاح العالمي، مع تأكيدهم على الأولويات التالية: الاتفاق التجاري الجزئي أفضل من إقامة منطقةتجارة حرة، والتحرير التجاري الأحادي الجانب مع كل الشركاء التجاريين أفضل من الانضمام إلى منطقة تجارة حرة[43 ـ 1993 ص4ـ 47]. كما يؤكد كروغمان أن تقسيم التجارة العالمية إلى تكتلات إقليمية تفرض علىالعلاقات فيما بينها تعرفة جمركية مثلى يقود إلى توليد أثرين: خلق التبادل وأثر تحويل التبادل ويرى أن الأثر الصافي (خلق التبادل ـ تحويل التبادل) يظل سالباً حتى يصل عدد التكتلات إلى ثلاثة وبعد ذلك يصبح موجباً ويبلغ مستوى الرفاه حده الأعظمي الإجمالي عندما يصبح العالم تكتلاً اقتصادياً واحداً، بمعنى أن يكون تحرير التجارة تحريراً متعدد الأطراف ويتحول الاقتصاد الدولي إلىاقتصاد عالمي[44 ـ 1991]. في حين أن الاقتصاديين دير دورف وشتيرن من جامعة ميشيغان يعارضان كروغمان ويعرضان نماذج أخرى يوفر، بمقتضاها، عدد محدود من التكتلات إمكانية تعظيم الرفاه على المستوى العالمي بناء على تمايز البلدان في وفرة عوامل الانتاج لديها[45 ـ 1991].
والخلاصة أن ليس هناك اتفاق بين الاقتصاديين حول أفضلية تحرير التجارة على الحماية الجمركية (مع الإشارة إلى أن القوى الاقتصادية الكبرى تعمل على فرض التحرير بوسيلة أو بأخرى) أو أفضلية التحرير متعدد الأطراف أم التحرير في إطار منطقةتجارة حرة. ولكن من المؤكد أن السوق لوحده غير قادر على انتشال بلدان العالم الثالث من ضعف النمو الذي تعانيه. كما أن إلغاء التنظيم الحكومي للاقتصاد الوطني على نحو متسرع سيكون أشد خطراً من المحافظة على اقتصاد حكومي موجَّه. ومن المؤكد أيضاً أن الدول المتقدمة القديم منها والحديث قد حققت نموها الاقتصادي من خلال نظام حماية شديد (كما في الدول الصناعية القديمة في الولايات المتحدة وكندا وأوربة) أو نظام حمائي انتقائي (كما في اليابان وبلدان جنوب شرق آسية). وبالتالي فإن تحرير التجارة الخارجية يقتضي أن يتلازم مع سياسات مرافقة ملائمة (تشجيع الاستثمارات الوطنية والأجنبية، اعتماد مبدأ التدرج في التحرير، إقرار مبدأ التعويض بين الشركاء التجاريين، اعتماد آلية لتصحيح الانحرافات، وربط التقدم في تحرير التجارة بنجاح مراحل التحرير المالي وسياسات الإصلاح الاقتصادي على المستوى الاقتصادي الكلي، مع ضرورة إحداث مركز لمراقبة المتغيرات الاقتصادية والانعكاسات الاجتماعية والسياسية).
وتجارب تحرير التجارة والإصلاحات الاقتصادية في دول أمريكة اللاتينية وخاصة انضمام المكسيك إلى منطقة التجارة الحرة لأمريكة الشمالية (NAFTA) والانعكاسات السلبية على اقتصاديات بلدان القارة تقدم درساً تجب الاستفادة منه[47 ـ 1995 ـ 144 وكذلك 47A و47 B]. إذ يؤكد الاقتصاديون المكسيكيون ومن دول أمريكة اللاتينية أن الإصلاحات الاقتصادية أدت إلى زيادة في العجوز التجارية وتدني في معدلات النمو إضافة إلى فشل الاصلاحات الاقتصادية ذاتها[47A ـ 1996، 146 ص365 ـ 382]. ولعل أفضل ما قيل في مخاطر تحرير الاقتصاد قول الاقتصادي الأمريكي رونالد ماكينون «أن تحرير الاقتصاد المؤطر بشدة يشبه السير في حقل ألغام: كل خطوة فيه يمكن أن تكون الأخيرة»[46 ـ 1991ص×].
من كل ما سبق نخلص إلى النتيجة التالية: أنه إذا كان لابد من الانضمام إلى منطقة التجارة الحرة يجب توخي الحرص في جعل أحكام إقامة المنطقة الحرة تراعي التدرج في تحرير التجارة من ناحية وتأخذ بالحسبان ضرورة إطالة المرحلة الانتقالية وتطبيق مبدأ عدم التبادلية في التحرير في المرحلة الأولى ومن ثم تطبيق مبدأ التبادلية التمايزية (reciprocité differenciée) لمراعاة الدول الأضعف نمواً من ناحية ثانية.
2 ـ 1 ـ 2 ـ 5 ـ تحرير التجارة بين سورية والاتحاد الأوربي:
إن علاقة الشراكة السورية الأوربية تنطبق عليها كل مواصفات الشراكة الأوربية المتوسطية فهي علاقة مركز بالمحيط، علاقة دول غنية بدولة فقيرة، علاقة دول متقدمة بدولة ضعيفة النمو وعلاقة دول مجتمعة كل بمفردها كبيرة (فكيف على مستوى الاتحاد) بدولة صغيرة. وبالتالي ينطبق على تحرير التجارة بين الطرفين جميع التحفظات التي أشير إليها فيما يتعلق بتحرير التجارة بين دول ذات مستويات نمو متفاوتة وإنتاجية عمل متباينة ويمكن تصور طبيعة العلاقة بين الطرفين من معطيات الجدول رقم (1) التالي:
جدول (1) مقارنة المؤشرات الاقتصادية في دول الاتحاد وسورية لعام 1993
اسم البلد |
الناتج المحلي الإجمالي() |
عدد السكان() |
نصيب الفرد من الناتج() |
نصيب الزراعة في القيمة المضافة % |
نصيب الصناعة في القيمة المضافة %() |
نصيب الخدمات في القيمة المضافة %() |
نصيب الفرد من التكوين الرأسمالي الثابت |
بلجيكا |
180.000 |
17849 |
1.7 |
24.7 |
67.8 |
2393 |
|
الدانمرك |
115.5 |
22254 |
3.5 |
21.4 |
69.9 |
3467 |
|
ألمانية(*) |
1631.4 |
20097 |
1.2 |
31.5 |
61.2 |
3049 |
|
اليونان |
76.7 |
7406 |
17.00 |
21.00 |
55.7 |
939 |
|
اسبانية |
408.4 |
10434 |
3.8 |
24.9 |
62.1 |
1607 |
|
فرنسة |
1068.6 |
18640 |
2.9 |
24.2 |
67.4 |
2867 |
|
أيرلندة |
40.4 |
11335 |
7.6 |
32.5 |
54.4 |
1462 |
|
إيطالية |
847.3 |
14586 |
3.1 |
26.00 |
65.3 |
2170 |
|
اللوكسمبورغ |
10.7 |
26856 |
1.5 |
23.5 |
67.4 |
5020 |
|
هولندة |
264.00 |
17268 |
3.8 |
24.1 |
66.4 |
2734 |
|
النمسا |
155.5 |
19453 |
ـ |
ـ |
ـ |
3269 |
|
البرتغال |
72.3 |
7324 |
5.9 |
29.5 |
57.6 |
1205 |
|
فنلندة |
71.5 |
14110 |
ـ |
2265 |
|||
السويد |
129.5 |
18256 |
ـ |
2566 |
|||
إنكلترا |
804.8 |
13835 |
1.5 |
27.1 |
65.4 |
2099 |
|
| الاتحاد الأوربي | 5876.6(**) |
370.00 |
15944 |
2.6 |
ـ |
ـ |
2375 |
سورية(***) |
13.95 |
13.967 |
999 |
22 |
32 |
43 |
75 |
المصدر: المجموعة الاحصائية الأوروبية Eurostat 1994 والمجموعة الاحصائية السورية 1997.
لتوضيح معطيات الجدول أعلاه نشير إلى ما يلي:
من قراءة الجدول، بعد التوضيحات المذكورة أعلاه، نلاحظ أن الناتج المحلي الإجمالي السوري لا يعادل سوى 0.23 بالألف من مثيله الأوربي في حين أن عدد سكان سورية يعادل 3.8% من سكان الاتحاد الأوربي وأن نصيب الفرد من الدخل في سورية يساوي 6.2% من متوسط دخل الفرد الأوربي.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا المؤشر في تراجع مستمر حيث لم يبلغ في عام 1996 سوى 5% من متوسط دخل الفرد الأوربي ويرجع السبب الرئيسي في هذا التراجع إلى كون معدل النمو في سورية، ولو أنه أعلى من متوسط معدلات النمو في الاتحاد الأوربي، يبقى عاجزاً عن تعويض الفرق في معدل التزايد السكاني حيث أن عدد السكان في الاتحاد الأوربي بقي ثابتاً تقريباً بين عامي 1993 و 1996 بينما بلغ معدل النمو السكاني في هذه المدة في سورية حوالي 3% سنوياً. وإذا قارنا نصيب الفرد من الدخل في سورية مع متوسط نصيب الفرد الأوربي بمقياس مكافئ القوة الشرائية (A parité de pouvoir d' Achat) وهو مقياس أقرب إلىالواقع لمقارنة مستويات الدخل مع مراعاة اختلاف مستوى الأسعار يكون نصيب الفرد في سورية معادلاً إلى 15% فقط من متوسط دخل الفرد في الاتحاد الأوربي*.
ويتبين الفرق الكبير في مستوى النمو الاقتصادي بين سورية وكل من البلدان الأوربية كما يظهر من غلبة نصيب الزراعة والصناعات الاستخراجية (القطاع الأولي) في الناتج المحلي الصافي مما يعني أن تحرير تجارة المنتجات الصناعية في الاتجاهين دون إعطاء المواد المصنوعة في سورية أية إعفاءات أو تفضيلات سيعني خنق الصناعات السورية الناشئة كما حدث لها قبل الاستقلال، عندما كان الاقتصاد السوري مفتوحاً أمام المصنوعات الفرنسية والأوربية**. والمتتبع لتطور الاقتصاد السوري يعرف بالتأكيد أن نشأة الصناعة في سورية كانت مرتبطة باندلاع الحرب العالمية الثانية والحصار البحري الذي فرضته دول المحور على الحلفاء في سورية (تعذر الاستيراد من أوربة) ومن ثم تطورت هذه الصناعة بفضل الحماية الشديدة ومنع الاستيراد الذي فرضته الحكومات الوطنية في مصلحتها.
يضاف إلى ذلك أن تحرير تجارة الخدمات بين الاتحاد الأوربي ذي التاريخ العريق في خدمات المال والتأمين سيعني بحكم الضرورة السيطرة على القنوات الادخارية في سورية وتوجيه الموارد المتاحة إلى القطاعات الاقتصادية المتفوقة على مستوى منطقة التجارة الحرة وبالطبع لن تكون سورية إلا إذاترافق هذا التحرير مع سياسة توجيهية تحدد أسلوب توجيه الاستثمارات المحلية والأوربية إلى قطاعات الاقتصاد السوري حسب المزايا النسبية التي تتمتع بها. ونحن نعتقد عدم إمكانية الركون إلى آلية السوق لتحقيق مثل هذا التوجه لعوامل كثيرة منها على سبيل التعداد لا الحصر: عدم بلوغ آلية السوق في سورية حداً من التحسن تكفي للقيام بهذه المهمة، اتجاه رؤوس الأموال غالباً نحو المراكز داخل الاقتصادات الوطنية كما على صعيد الاقتصاد الدولي، وهذا ما حدث فعلاً حيث تحولت الاستثمارات الأوربية إلى أوربة الوسطى والشرقية بعد تحول اقتصاداتهما إلى اقتصاد السوق، غلبة النشاط التجاري على رجال الأعمال السوريين بحكم ظروف نشأتهم وضعف القاعدة الانتاجية في سورية وأخيراً عدم قدرة المؤسسات الحرفية الصغيرة المسيطرة على الصناعة في سورية مواجهة الشركات الصناعية الأوربية العملاقة أو الشركات المتعددة الجنسية في جذب الاستثمارات.
ومقارنة بسيطة لبعض المؤشرات الاقتصادية في سورية مع مثيلتها في البرتغال أو اليونان أو إسبانية هذه الدول التي عقدت معها المجموعة الأوربية اتفاقيات تعاون وشراكة قبل انضمامها إلى عضوية الاتحاد والمدة الانتقالية الطويلة التي حصلت عليها إضافة إلى المزايا التي حصلت عليها في عقود الشراكة أوالمساعدات والتحويلات التي تحصل عليها من موازنة الاتحاد بعد انضمامها من أجل تعويضها عن فرق المكاسب التي تجنيها من عضوية الاتحاد (لا أقول خسائر لأن هذه الدول تستفيد من السوق الأوربية الموحدة ولكن فائدتها أقل بكثير من المكاسب التي تحصل عليها الدول الأكثر تقدماً بنتيجة السياسات التي يعتمدها الاتحاد ويراعي فيها مصلحة هذه الدول ضعيفة النمو نسبياً). يتضح لنا أكثر ضرورة مناقشة مشروع الشراكة السورية ـ الأوربية بعمق وتروٍ أكثر حتى يمكن مساعدة سورية في الانتقال تدريجياً من قائمة الدول النامية التابعة إلى الاقتصاد العالمي إلى دولة متقدمة، ولو نسبياً، تشارك في الاقتصاد العالمي.
ونحن نعتقد أن الدور الأوربي في مواجهة المشكلات التي يتعرض لها الاتحاد ومن خلال دوره في إعداد دول جنوب وشرق المتوسط للإسهام بدور الشريك في الاقتصاد العالمي (مرحلة الانتداب الاقتصادي بدلاً من الانتداب السياسي) يقتضي منه إعداد استراتيجية ملائمة لمساعدة هذه الدول في جسر الهوة التي تفصل بين اقتصادياتها والاقتصاديات الأوربية وليس توسيع هذه الهوة. ذلك أن المفوضية الأوربية ترى أن العلاقة بين أوربة والمتوسط هي أكثر من مصالح تجارية وحتى أكثر من تعاون وتقديم مساعدات للتنمية بل يجب أن تهدف إلى تحقيق التتام (Complementarités) والتنسيق وصولاً إلى تكامل اقتصادي مع الزمن[8 ـ 1990...]. ولهذا فإن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية (CES) التابعة للمفوضية، بعد أن أكدت تزايد الاختلالات بين أوربة والمتوسط بسبب نزوح الموارد من المتوسط إلى أوربة الناتج عن عدم تناظر المبادلات بين الطرفين وتردي حدود التبادل بينهما إضافة إلى تبعية الدول المتوسطية إلى المركز الأوربي بسبب نموذج التنمية الأوربية بعد تأكيدها على ذلك، تصل إلى اعتبار «أن تغيير نموذج التنمية الأوربية يعد شرطاً ضرورياً لتحقيق تنظيم جديد للمجال التنظيمي» وترى إضافة إلى ذلك خلق منطقة استراتيجية أوربية متوسطية (تشمل أيضاً دول أوربة الشرقية) توفر تحقيق تنمية متناسقة بين المناطق تجنب البلدان المتوسطية الأخرى خطر التهميش الذي تتعرض له حالياً[22 ـ 1995 ص340]. ويلاحظ أن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية في الاتحاد الأوربي تكرر في كل آرائها ومذكراتها عدم توازن علاقات الاتحاد الأوربي بما يؤمن إدماج الدول المتوسطية في الاقتصاد العالمي وعبر علاقاتها مع الاتحاد الأوربي على قاعدة المشاركة وليس التبعية. وفي الواقع فإن تكرار تجربة الانتداب السياسي، التي قامت على استغلال موارد سورية وثرواتها خلال مدة الانتداب، اقتصادياً أي أن يقوم الطرف «المنتدب» بفرض قواعد تعامل تؤدي إلى استمرار الاستغلال وإلحاق الأذى بالتوازن الاجتماعي المتحقق في المجتمع السوري سيقود إلى مزيد من عدم الثقة في الشراكة واستحالة استمرارها. لهذا نعتقد أنه من الضروري أن يأخذ مشروع الشراكة واقع العلاقات التجارية الراهنة بين سورية والاتحاد في الحسبان واتخاذ التدابير التي تجعل بإمكان سورية الإفادة من زيادة هذه العلاقات ورفع كفايتها بالنسبة للاقتصاد السوري.
صحيح أن الميزان التجاري الأوربي السوري موجب بالنسبة إلى سورية بمبلغ 306 مليون ايكو في عام 1993 وبحوالي 10 مليارات ل.س عام 1997، ولكن صحيح أيضاً أن صادرات سورية إلى الاتحاد تتكون من مواد أولية بنسبة 95% من المواد الخام (نفط، قطن، جلود، خام وفوسفات) التي لا تتضمن سوى نسبة ضئيلة جداً من القيمة المضافة وتضطر سورية إلى استنضاب النفط بسرعة لتتمكن من الوفاء بالحاجات الأساسية للشعب. فقد بلغت نسبة صادرات النفط لوحده 90% من مجمل الصادرات إلى الاتحاد في حين تتألف المستوردات السورية من الاتحاد بنسبة 100% من المنتجات الصناعية وبخاصة الآلات والمعدات ووسائط النقل التي تعد من منتجات الصناعة ذات التقنية العالية والتي تكون إنتاجية العمل فيها مرتفعة وتتضمن قيمة مضافة مرتفعة جداً.
وإذا أخذنا بالحسبان ضعف مستوى التصنيع في سورية وقدرنا حاجة سورية إلى الاستثمارات الكثيفة في التكنولوجيا المتقدمة من أجل رفع إنتاجية العمل وزيادة قدرة الإنتاج الصناعي التنافسية ونظرنا إلى محتويات الجدول بشأن نصيب الفرد السوري من التكوين الرأسمالي الثابت وقارناه بمثيله في الاتحاد الأوربي 75 ايكو مقابل 2375 أي بنسبة 3% فقط لتبين لنا كم ستتسع الفجوة التكنولوجية بين سورية والاتحاد ولأدركنا أن الإنتاج الصناعي السوري سيكون عاجزاً عن دخول سوق الاتحاد مما سيبقي هيكل التجارة الخارجية على وضعه الراهن. كما أن فتح السوق السورية للمنتجات الصناعية الأوربية وتحرير هذه الأخيرة من القيود الكمية والرسوم الجمركية إضافة إلى جودة البضائع الأوربية مقارنة بمثيلتها في سورية من شأنه أن يخنق الصناعة السورية ويزيد في تردي حدود التبادل عما هو عليه الآن.
إن إقامة منطقة تجارة حرة بين اقتصاد متقدم وآخر في طريق النمو تحتاج إلى تنسيق في السياسات الاقتصادية لفترة انتقالية طويلة يجري خلالها إتخاذ الإجراءات الكفيلة بنقل الموارد والتكنولوجيات من الاقتصاد المتقدم إلى الاقتصاد النامي ومنح الانتاج الصناعي في هذا الأخير معاملة تفضيلية مالية وجمركية وضرائبية لتشجيع القطاع الخاص في الاقتصاد المتقدم على نقل بعض أنشطته إلى الاقتصاد النامي وكذلك تشجيع القطاع الخاص المحلي على إقامة المشروعات الصناعية، إما على نحو منفرد أو بالمشاركة مع القطاع الخاص في البلدان المتقدمة الشريكة، أو على الأقل القيام بالصناعات التكميلية للشركات الكبرى (Sous - Traitance). المهم في الأمر اختيار الصيغة الأفضل لتحويل الاقتصاد النامي من اقتصاد مواد أولية تابع إلى اقتصاد شريك يسهم في عملية التخصيص الأمثل للموارد (قوة العمل ورأس المال) على مستوى منطقة الشراكة.
إن التجربة الغنية التي التي راكمها الاتحاد الأوربي في تعامله مع بلدان أفريقية والكاريبي والمحيط الهادي ومع بلدان جنوب أوربة الأقل نمواً وكذلك تجربته في عقود التعاون والشراكة مع بلدان حوض المتوسط، التي ترجع إلى ثلاثين سنة سابقة، إضافة إلى موقف الدول الأوربية الأعضاء في السوق منذ عام 1963 والذي تمثل في منح البلدان النامية تفضيلات جمركية على المنتجات الصناعية من أجل مساعدة هذه البلدان في تنمية صناعتها الوطنية تشكل قاعدة لا يجوز التخلي عنها، إذا أريد لتجربة الشراكة أن تنجح. فإذا كانت أطراف مفاوضات الجات في عام 1971 لم توافق على نظام الأفضليات المعممة سوى لمدة عشر سنوات لأن ذلك يعد خرقاً لأحد مبادئ اتفاقية الجات: شرط الدول الأكثر رعاية، فإن أوربة طبقت هذا النظام أولاً في عام 1971 ثم تبعتها في ذلك عدد من الدول الصناعية ولحقتها أخيراً الولايات المتحدة عام 1976، كل ذلك يدعو إلىالبحث عن أسلوب للتعامل بين الاتحاد الأوربي وسورية في إطار شراكة تأخذ بالحسبان البون الشاسع في مستوى النمو والمؤشرات الاقتصادية بين الطرفين بما يسمح تأهيل الاقتصاد السوري للاندماج في الاقتصاد العالمي بصفة شريك كما تم تأهيل الاقتصادين اليوناني والبرتغالي للاندماج في الاقتصاد الأوربي.
إن مقارنة المشرات الاقتصادية المفتاحية المؤثرة في عملية التنمية في كل من اليونان والبرتغال وسورية قياساً بالمتوسطات الأوربية توضح بجلاء الرعاية الخاصة التي يجب أن تولى للاقتصاد السوري في صوغ اتفاقية الشراكة لتأهيله ليكون اقتصاداً شريكاً. يلاحظ من الجدول رقم (1) ما يلي:
1 ـ إن نصيب الفرد من الناتج الاجمالي في كل من اليونان والبرتغال يعادل حوالي 46% من متوسط دخل الفرد على مستوى الاتحاد الأوربي في حين أن نصيب الفرد في سورية لا يعادل سوى 6% فقط، وقد تدنى إلى أقل من 5% عام 1996 وهو اليوم 1999 بالتأكيد أدنى من ذلك. 2 ـ إن نصيب الفرد من التكوين الرأسمالي الثابت في اليونان يعادل 68% ومثيله في البرتغال 51% من متوسط نصيب الفرد من التكوين الرأسمالي الثابت في الاتحاد الأوربي بينما لا يعادل هذا المؤشر في سورية سوى 3% فقط. 3 ـ إن نصيب الصناعة في مجمل القيمة المضافة في كل من اليونان والبرتغال قريب أو يزيد على المتوسط الأوربي في حين أنه في سورية (كما بينا سابقاً) متدن جداً.
وهكذا فإن الاقتصادين اليوناني والبرتغالي ينطبق عليهما وصف الاقتصاد الصناعي الزراعي بينما يتصف الاقتصاد السوري بأنه اقتصاد زراعي ـ ريعي (تشكل صادرات سورية من النفط والقطن حوالي 80% من مجمل الصادرات)، وبكلام آخر يحتاج الاقتصاد السوري إلى مدة أطول للتأهيل وإلى معاملة تفضيلية أكبر لمساعدته على النمو.
وتحرير التجارة المتبادل بين سورية والاتحاد الأوربي من خلال إقامة منطقة التجارة الحرة خلال عشر سنوات كما لوحظ في إعلان برشلونة (إنجاز منطقة التجارة الحرة قبل عام 2010) لن يعطي الصادرات السورية أي مزية في السوق الأوربية للأسباب التالية:
أ ـ لأن الرسوم الجمركية المفروضة على الواردات في الدول الأوربية متدنية أصلاً وليس لها تأثير كبير علىتقليص الواردات إلى أوربة.
ب ـ لأن أوربة منضمة إلى منظمة التجارة العالمية مما يلزمها منح جميع الدول الأعضاء في المنظمة المزايا التي تمنحها لأي دولة أخرى تنفيذاً لمبدأ الدولة الأولى بالرعاية ولا يغير في الأمر شيء اعتبار الشراكة تكتلاً اقتصادياً مشمولاً بأحكام المادة 24 من اتفاقية الجات ذلك أن الاتحاد الأوربي يعقد اتفاقيات تحرير تجارة مع معظم الدول الأخرى مما يبقي الصادرات السورية خاضعة للمنافسة في الأسواق الأوربية من قبل صادرات جنوب وشرق آسية والدول النامية الأخرى في أفريقية والكاريبي والمحيط الهادي وكذلك في أمريكة اللاتينية.
جـ ـ لأن الاتحاد الأوربي يستعيض عن الرسوم الجمركية بمعايير صحية وبيئية وشروط فنية يمكن أن يؤدي تطبيقها إلى الحد من دخول البضائع السورية إلى السوق الأوربية.
وبالمقابل فإن تحرير الواردات الصناعية الأوربية إلى سورية من الرسوم الجمركية يعطيها مزايا تفضيلية على الواردات من الدول الصناعية الأخرى مادامت سورية غير منضمة إلى منظمة التجارة العالمية. وهذا ليس فقط يساعد في زيادة الاستيراد من أوربة وإنما يكلف الاقتصاد السوري أعباء إضافية تتمثل في رفع أسعار الصادرات الصناعية الأوربية بسبب غياب منافسة البضائع الأجنبية الأخرى المنافسة لأنها ستبقى خاضعة للرسوم الجمركية. يمكن تصور استيرد السيارات الأوربية معفاة من الرسوم الجمركية والتي تبلغ أكثر من 150% مع إبقاء هذه الرسوم على السيارات اليابانية والأمريكية والكورية وسواها. فهل ستلتزم الشركات الأوربية بالإبقاء على أسعار سياراتها في السوق السورية مادامت تحررت من الرسوم الجمركية. ألا تستدعي هذه الحالة طرح السؤال التالي:
هل يكون من مصلحة الاقتصاد السوري وبالتالي الاقتصادات المتوسطية تحرير التجارة ثنائياً مع الاتحاد الأوربي (منطقة تجارة حرة كما في الشراكة) والابتعاد عن التحرير التجاري المتعدد الأطراف (في إطار اتفاقية الجات ومنظمة التجارة العالمية؟). هذا إذا لم نتحدث عن منافسة البضائع الأوربية للبضائع السورية في السوق الداخلية بعد تحريرها من الرسوم الجمركية وإلغاء الحواجز غير الجمركية كما تستوجب اتفاقية الشراكة.
يتضمن إعلان برشلونة توجهاً واضحاً نحو دعم مواقع القطاع الخاص وإعادة هيكلة مؤسسات القطاع العام بما في ذلك الخصخصة بما يؤدي إلى اقتصاد السوق.
والحقيقة أن التجربة السورية واضحة في هذا المجال فقد اعتمدت سورية التعددية الاقتصادية طريقاً لتعبئة كل الموارد المالية والبشرية المتاحة في معركة التنمية الاقتصادية (القطاعات: العام والمشترك والخاص) وقد آتت هذه التجربة ثمارها في السنوات الأخيرة بلغ معدل النمو الاقتصادي في سورية 7.4% مما وضعها، بشهادة البنك الدولي، في عداد البلدان الإثنى عشر التي حققت أعلى معدلات نمو في العالم.
والتعددية الاقتصادية المعتمدة تفسح في المجال أمام القطاع الخاص للدخول في جميع المجالات التي يرغبها في حين يتولى القطاع العام سد الثغرات في الاقتصاد الوطني. وحتى حين لا يرغب القطاع الخاص أو لا يستطيع بمفرده الدخول في أحد المجالات تقوم الحكومة بتقديم حصة من رأس المال نقداً أو عيناً لتشجيعه وإعطائه عامل الآمان الذي يسعى إليه. ثم إن الدول الصناعية المتقدمة لم تحقق نموها في المراحل الأولى بمعزل عن تدخل الدول وإسهامها في إقامة قطاعات اقتصادية رئيسية مفتاحية في الاقتصاد الوطني مثل قطاع النقل، قطاع الطاقة، وبعض الصناعات عالية التقينة. يضاف إلى كل ذلك الإنفاق الحكومي الكبير على برامج البحث والتطوير.
وتجربة دول جنوب شرق آسية وبخاصة كورية الجنوبية وماليزية أثبتت أن الدولة المؤهلة إدراياً أقدر على تحقيق النمو في مراحله الأولى بسرعة أكبر ما يحققه القطاع الخاص.ولم تفعل كورية الجنوبية وماليزية بالاعتماد على القطاع العام في تحقيق الخطوات الأولى في التنمية، سوى تقليد التجربة اليابانية الناجحة[49 ـ 1992 ص70 ـ 71]. وبعد أن يقطع نمو الاقتصاد الوطني شوطاً كبيراً وتتوضع آلية السوق موجّهاً للاستثمارات وتسود الشفافية في المعالامت الاقتصادية وفي المعلومات والنظام السياسي (وهذه كلها غير متوافرة في الاقتصاديات النامية) يمكن الحديث عن الخصخصة وعن تحفيز القطاع الخاص والاستثمارات الخارجية المباشرة للإسهام في عملية التنمية الاقتصادية في بلد معين[50 ـ 1993 ص272 ـ 278] وإلى أن يتحقق ذلك فإن للدولة (القطاع العام) دوراً مهماً يجب أن يقوم به يقول الاقتصاديان الفرنسيان دومينيك غولّلك وبيير رال: «بعض (النظريات الحديثة في النمو) تقول بدور جوهري أكبر للدولة: بناء المؤسسات الضرورية لتحقيق التنسيق بين أصحاب الفعاليات الخاصة (فالأسواق ذاتها تحتاج من أجل تفعيلها إلى وضع قواعد تكون الدول في النهاية الضامنة لها[51 ـ 1996 ص109]» ويتابع المؤلفان قولهما: «إذا كانت عودة الدولة إلى النقاش الاقتصادي مرتبطة بداية بالاعتبارات السياسية فإنه لا يمكن إلغاء دور النظرية في هذا المجال».
يعترف الاقتصاديون الأكاديميون أن النمو الفائق الذي حققته النمور الآسيوية يرجع في الأساس إلى السياسات الصناعية التدخلية التي اعتمدتها حكومات هذه الدول مما يتناقض تماماً مع السياسات التحررية الجديدة (Néolibérales) التي يحاول صندوق النقد الدولي والبنك الدولي فرضها على كل الدول النامية. يشير فرانسيسكو فيرغارا إلى ان النشرة الدورية التي أصدرها صندوق النقد الدولي حول حلقة البحث التي انعقدت في طوكيو حول استراتيجيات النمو التي نظمها الصندوق بالتعاون مع سياسات الموازنة التابع لوزارة المالية اليابانية تضمنت: «أن المسؤولين الرفيعي المستوى وكذلك الجامعيين اليابانيين تساءلوا لماذا لا يوصي صندوق النقد الدولي بتطبيق سياسات صناعية تدخلية مثل تلك التي يبدو أنها حققت نجاحاً كبيراً في آسية».
كما لاحظ فيرغارا تطوراً مماثلاً في تقرير البنك الدولي لعام 1998. وكذلك تذهب استنتاجات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE حيث في الملف الذي تُضمِّنه تقاريرها منذ عام 1997 بعنوان «الاقتصادات الحركية في آسية والصين» يكرر خبراؤها تأكيداتهم حول نجاح نماذج التنمية التدخلية في آسية[53 ـ 1998].
وفي مثل هذه الاستنتاجات الحديثة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، وكل هذه المؤسسات معروفة بإطرائها التقريظي للحرية الاقتصادية وبإدانتها الصريحة لكل إجراء تدخلي، ما يؤكد مواقف الاقتصاديين الأكاديميين في قراءتهم لدور تدخل الدولة في تحقيق التنمية «سواء تمثل ذلك في تجربة الاقتصادات المتقدمة خلال القرن الأخير أو في تجارب النمو المعجزة لفترة ما بعد الحرب في شرق آسية».
والحقيقة أن النظريات الحديثة في النمو الاقتصادي تشير إلى دور الدولة المهم في تحقيق النمو الاقتصادي في العالم النامي. ومادام التنظيم الاقتصادي في البلد المعني لا يعرقل نشاط القطاع الخاص (بل يشجعه كما في سورية) فإن الخصخصة قد تقود إلى إضعاف عوامل النمو الإقتصادي الوطني. ونعتقد أنه إذا كانت الضرورة الاقتصادية تدفع باتجاه خصخصة بعض المؤسسات فعلى الدولة أن تتولى لقاء المبالغ التي تجمعها من هذه الخصخصة، بناء مؤسسات إنتاجية جديدة يحجم عنها القطاع الخاص لتحقيق غرضين في آن واحد: زيادة الطاقة الإنتاجية في القطاع العام إلى جانب طاقات القطاع الخاص وتوفير عمل للعاملين الذين سيتم صرفهم من المؤسسات المخصخصة (بسبب فائض قوة العمل في المؤسسات العامة عادة) إضافة إلى هذا وذاك فإن الدولة لن تكون أداة في تهديم الموروث الاقتصادي الوطني لحساب زيادة الانفاق العام بالطريق السهل. والأصح أن يكون هدف إعادة هيكلة مؤسسات القطاع العام تحسين أسلوب إدارة المؤسسات وزيادة فعاليتها من أجل رفع إنتاجية العمل فيها وتحويلها إلى أداة تمويل للتنمية اللاحقة بدلاً من كونها عبئاً على خزينة الدولة. ذلك أن دور الدولة ضروري في كل مراحل النمو ولكن على أن يكون التدخل موجهاً لخدمة الاقتصاد الوطني وليس لخدمة فئات معينة.
إن تحسين أسلوب إدراة شركات القطاع العام ممكن بتطبيق الإدارة الاقتصادية بدلاً من الإدارة السلطوية لأن إدارة مؤسسات القطاع العام الاقتصادي يجب أن تكون بعقلية رجل الأعمال وليس بعقلية رجل السلطة. جميع الشركات الكبرى في العالم تدار من هيئات ليست مالكة لها ولكنها تدار اقتصادياً ويتحمل مديروها مسؤولية قراراتهم تجاه المالكين أصحاب رأس المال. فهل هناك ما يمنع في ظروف عجز القطاع الخاص عن القيام بكامل أعباء التنمية أن يكون القطاع العام رديفاً وفي بعض الأحيان قائداً في عملية التنمية يدار من قبل مديرين فنيين مؤهلين يتحملون مسؤولية قراراتهم تجاه الحكومة ممثلة بالمجتمع!.
يجب ألا نجعل من الخصخصة مذهباً سياسياً بل يجب أن تكون قراراً اقتصادياً عندما تستدعيه الضرورة مع الإفساح في المجال أمام القطاع الخاص وتشجيعه على الإسهام بعملية التنمية.
أما بشأن مراعاة الالتزامات المحددة في الاتفاقية العامة للتجارة والتعريفات وفي الاتفاقية العامة لتجارة الخدمات، لقد أكد إعلان برشلونة في غير محل على أن الشراكة الأوربية ـ المتوسطية وبالتالي السورية لا يمكن أن تتعارض مع الالتزامات المنصوص عليها في الاتفاقية العامة للتجارة والتعريفات وفي الاتفاقية العامة لتجارة الخدمات. وهذا يعني أن الشراكة الأوربية ـ المتوسطية ستكون مدخلاً مرحلياً لإدماج اقتصاديات جنوب وشرق البحر المتوسط في عولمة الاقتصاد وبالتالي فإن أية مزايا وتفضيلات تمنحها دول الاتحاد للشركاء المتوسطيين ستكون محدودة زمنياً بالمدة الانتقالية للبلدان النامية بمقتضى الاتفاقية العامة (الجات). ويلاحظ من مضمون هذا التأكيد نوع من تجاهل المشكلات التي تواجه الاقتصاديات المتوسطية النامية حالياً ومن المحتمل أن تواجهها مستقبلياً بعد انقضاء المدة الانتقالية الملحوظة في الاتفاقية، كما أن إقرار تطبيق اتفاقيات الجات على الشراكة الأوربية المتوسطية ولو بعد حين يعني إغفال خمسين سنة من المفاوضات الشاقة التي دخلت فيها أوربة في إطار الجات منذ عام 1948 وحتى نهاية دورة الأورغواي عام 1994.
فقد كانت أوربة انطلاقاً من ظروفها تعارض التحرير الكامل للتجارة العالمية على الأخص فيما يتعلق بتجارة المواد الزراعية وتجارة الخدمات التي مازالت تعارضها حتى الآن من جهة وفيما يتعلق بإدماج البلدان النامية في المبادلات الدولية على نحو مقبول لهذه البلدان، بتسهيل دخول منتجاتها إلى أسواق الدول المتقدمة، من جهة أخرى. وإذا كانت أوربة والولايات المتحدة الأمريكية تختلفان حول بعض أحكام تحرير التجارة الدولية وهما على مستوى من النمو متقارب جداً تتفوق إحداهما على الثانية قليلاً في قطاعات وتتخلف عنها قليلاً في قطاعات أخرى. أفلا تطرح مسألة تطبيق أحكام اتفاقية الجات على مضمون الشراكة الأوربية المتوسطية تساؤلات عديدة وكبيرة؟.
يقتضي تضمين اتفاقية الشراكة أحكاماً خاصة بمراعاة الالتزامات المحددة في اتفاقيةالجات وأحكام وقرارات منظمة التجارة العالية تفريغ الشراكة من مضمونها الفعلي وقصر مفاعيلها على جوانب هامشية أكثرها سلبي حيال الاقتصاد السوري:
ـ اتفاقيات الجات تقوم على مبدأ تحرير التجارة المتعدد الأطراف، أي معاملة جميع الدول المنضمة إلى الجات على أساس واحد. فقد حرصت مفاوضات دورة الأرغواي على تقليص مبدأ الاتفاقيات الثنائية (Bilatéralisme) لصالح توسيع شمولية التنظيم (Universaliste) وإذا كانت دورة الأرغواي اتجهت نحو قبول مبدأ الأقلمة (regionalisation) مرحلياً فليس ذلك سوى لأن مصالح القوى الاقتصادية العظمى ليست متجانسة تماماً وبالتالي سيتم الوصول إلى شمولية التنظيم (العولمة) عندما تنضج الظروف لذلك وتتم تسوية اختلاف المصالح بين القوى العظمى.
ـ تراجع الاتحاد الأوربي عن مبدأ عدم التبادلية الذي كان معتمداً مع سورية والدول المتوسطية الأخرى في اتفاقيات التعاون السابقة إلى مبدأ التبادلية في مشروع الشراكة توفيقاً مع اتفاقية الجات.
ـ تضمن مشروع الاتفاقية شروطاً تتناقض مع التعاقدية (توافق الأطراف) توفيقاً مع اتفاقية الجات أيضاً.
ـ تتمثل فائدة المنطقة الحرة في تحديد موقف موحد للدول الأعضاء تجاه العالم الخارجي.وهكذا لن يكون للمنطقة الحرة فائدة كبيرة للاقتصاد السوري إذا كان الاتحاد الأوربي سيعامل كل الدول الأخرى ذات المعاملة (وفقاً لاتفاقية الجات) في حين تلتزم سورية بإعطاء ميزة تفضيلية للصناعات الأوربية بتخفيض الرسوم الجمركية بنسبة 25% خلال المرحلة الانتقالية ومن ثم إعفاءها من كامل الرسوم بعد إنجاز إقامة منطقة التجارة الحرة في
حين تبقى الرسوم على صناعات الدول الأخرى غير الأعضاء في الشراكة مادامت سورية غير منضمة لاتفاقية الجات. وهذا يمثل قيداً على حرية الاستيراد في سورية لصالح الإنتاج الأوربي دون مقابل تحصل عليه الصادرات السورية إلى أوربة. إن من شأن ذلك أن يحرم سورية من مزية توزيع مصادر الواردات مما يشكل تكلفة إضافية علىالاقتصاد السوري وحصره بما يسمى (خيار السجين Choix du prisonier).
ـ تآكل المزايا التي تمنحها أوربة للصادرات السورية بعد تطبيق ما يسمى بالنظام الممتاز المعمم للأفضليات (Super systéme generalisé; de preferences) وستنتهي هذه المزايا حكماً بعد تحرير التجارة في إطار الجات. وهذاالتحرير سيكون قبل نهاية المرحلة الانتقالية لإتمام منطقة التجارة الحرة الأوربية ـ المتوسطية.
ـ تفقد منطقة التجارة الحرة جداوها بالنسبة لسورية (كما لمجموع الدول المتوسطية الأخرى) إذا روعيت أحكام اتفاقية الجات بحيث ستكون الصادرات السورية إلى السوق الأوربية في إطار منافسة الصادرات الأخرى من آسية وأفريقية وعلى الخصوص منافسة الصادرات من الدول الصناعية الحديثة ما لم تتضمن اتفاقية الشراكة أفضليات محددة للصادرات السورية*.
إن تحليل النتائج التي تمخضت عنها مفاوضات دورة الأرغواي والتي تم التوقيع عليها في المغرب في نهاية عام 1994 بما في ذلك إحداث منظمة التجارة العالمية بما أعطيت من صلاحيات واسعة للحلول محل المفاوضات في إطار الجات واشتراط اتخاذ القرارات بإجماع الآراء يهدد بعرقلة اتخاذ القرارات في قضايا قد تعرقل سير التجارة العالمية وتمس بخاصة مصالح الدول النامية التي ليس لها وزن مؤثر لا في الاقتصاد العالمي (بسبب ضآلة حجم إنتاجها ليس لها أي تأثير في تشكيل الأسعار العالمية) ولا في إتخاذ القرارات داخل منظمة التجارة العالمية.
لقد توصلت أوربة والولايات المتحدة الامريكية إلى الحد الأدنى من توافق المصالح وبقيت أمور كثيرة معلَّقة كما استبعدت سلع وقطاعات من أحكام تحرير التجارة العالمية وتركت لمعالجتها داخل منظمة التجارة العالمية مما يتوقع معه ظهور خلافات ونزاعات لاحقة قد يصعب إيجاد الحلول لها أو ستقود إلى أقلمة العالم على الأقل إلى ثلاثة كتل اقتصادية: أوربة والتخوم المرتبطة بها، اليابان وشرق آسيا والولايات المتحدةوالقارة الأمريكية بشمالها وجنوبها[4 ـ 1998 ص112 ـ 114 وص241]. ومثل هذا الاتجاه برز حتى قبل التوقيع على نتائج دورة الأرغواي، وتأكد ذلك من اتجاه الاتحاد الأوربي إلىالتوسع نحو شرق أوربة والسعي إلى إقامة الشراكة الأوربية ـ المتوسطية، ومن اتجاه اليابان إلىالتدخل منفردة في معالجة أزمة بلدان جنوب آسية وأخيراً من اجتماع القمة الأمريكية الذي ضمَّ رؤساء خمسة وثلاثين بلداً في الأمريكيتين لتوسيع منطقة النافتا، ولقد تأكد احتمال اختلاف القوى الاقتصادية العظمى في عدم إمكان افتتاح دورة مفاوضات تجارية جديدة باشراف منظمة التجارة العالمية في سياتل نهاية عام 1999 وكذلك في عدم التوصل إلى اتفاق في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس أوائل العام 2000، ويتضح أكثر تعثر مسيرة العولمة الاقتصادية في الدعوة إلى اجتماع رؤساء أربعة عشرة دولة، تتولى السلطة فيها أحزاب يسار الوسط لمناقشة مسار العولمة وبحث امكانية التحكم فيه مما يؤكد تعميق الاتجاه نحو أقلمة العالم إضافة إلى عدم امكانية التخلي عن دور الدولة في الاقتصادات الوطنية.
في مثل هذه الظروف فإن اتفاقية الشراكة يجب أن تتضمن أسلوباً مختلفاً في معالجة الأوضاع الاقتصادية عنه في اتفاقيات الجات. وإذا كانت اتفاقيات الجات قد ركزت على تحرير تجارة المنتجات الصناعية وحركة رؤوس الأموال عبر الحدود القومية وأغفلت بل تجاهلت حرية حركة العمل التي تعد عامل الإنتاج الرئيس وتشكل تكلفتها بين 40 و 60% من تكلفة أي منتج صناعي، بما يعني حرية تصدير العمل من الدول المتقدمة إلى الدول النامية، ولو على نحو غير مباشر ليحل محل قوة العمل لديها والتي تعاني، حتى دون ذلك، من فائض كبير فيها دون أن يسمح للدول النامية بالمقابل بتصدير فائض العمالة لديها، فإن اتفاقيات الجات لا يمكن أن تشكل برأينا إطاراً لترتيب شراكة يراد لها أن تكون متكافئة وتسمح بالتخصيص الأمثل للموارد على المستوى العالمي. والهدف من اتفاقيات الجات، كما أسلفنا، هو تحرير العلاقات الاقتصادية الدولية وعولمة الاقتصاد. غير أن العولمة بالصيغة التي يدور فيها الحديث عنها تعني سيطرة المراكز الاقتصادية الدولية وعولمة الاقتصاد. غير أن العولمة بالصيغة التي يدور فيهاا لحديث عنها تعني سيطرةالمراكز الاقتصادية الكبرى على التخوم المحيطة وتعني فيما تعنيه الإسقاط المبكر لأطر التنظيم الوطنية التي ارتكزت عليها عملية النمو الاقتصادي في كل دول العالم المتقدمة قبل النامية.
كل هذا يدعو إلى لحظ شروط استثنائية في اتفاقية الشراكة تساعد بلدان جنوب وشرق المتوسط في مواجهة المشكلات التي ستتعرض لها نتيجة اندماجها في الاقتصاد العالمي وتكون مهمة العرَّاب الأوربي لعب دور المرشد والوسيط: مرشد لهذه البلدان في اختيار أفضل السبل للارتقاء في سلم النمو الاقتصادي والوسيط مع العولمة لتسهيل عملية اندماج هذه الدول في الاقتصاد العالمي.
يدرك ممثلو الشعوب الأوربية (اللجنة الاقتصادية والاجتماعية) أهمية قيام أوربة بدور متميز في تأهيل الاقتصادات المتوسطية للدخول في الشراكة أولاً ومن ثم الاندماج مع الاتحاد الأوربي في إطار اتفاقية الجات وتحرير التجارة تالياً. في الرأي رقم 90/C168/14 بتاريخ 26 نيسان 1990 حول السياسة المتوسطية وبعد أن تشير اللجنة إلى تردي أوضاع البلدان المتوسطية وزيادة الاختلال في المجالين الاقتصادي والاجتماعي بين أوربة والمتوسط وتؤكد أنه إذا لم يتم اعتماد برنامج تنمية مشتركة أوربية ـ متوسطية سوف ينظر إلى الدعوة إلى اقتصاد مفتوح في الدول المتوسطية على أنه مجرد دعوة إيديولوجية وليس أداة للتنمية. وتضيف اللجنة في رأيها وبعد استعراض معدل المديونية في الدول المتوسطية أن على أوربة أن تسعى في إطار المؤسسات الدولية لتخفيض مديونية البلدان المتوسطية ومعاملة هذه البلدان معاملة المكسيك (الدولة الشريكة للولايات المتحدة الأمريكية في نافتا) إضافة إلى تشجيع صادرات هذه البلدان لتخفيف أعباء ديونها الخارجية. كما تشير اللجنة إلى ضرورة انتهاج طريقة أوربية متميزة في دعم الاصلاحات الاقتصادية في الدول المتوسطية والدفاع عنها في هيئات صندوق النقد والبنك الدوليين وحماية الدول المتوسطية من فرض هاتين المؤسستين شروطهما علىالدول النامية وتخليصها من الجوانب السلبية لهذه الشروط. وأخيراً ترى اللجنة إنشاء وكالة خاصة لتشجيع الصادرات المتوسطية تدار على نحو مشترك بين المفوضية والدول المتوسطية مع السعي لفتح أسواق أوربة الوسطى والشرقية أمام صادرات الدول المتوسطية (النظر في إمكانية إبرام اتفاقيات تجارية ثلاثية الأطراف الاتحاد الأوربي ـ الدول المتوسطية ـ دول أوربة الشرقية والوسطى). إلى هذا وذاك تدافع اللجنة في رأيها عن ضرورة تسهيل دخول البضائع من دول المتوسط إلىالسوق الأوربية بتجاوز اتفاقيات التحديد الذاتي (autolimitation)* وكذلك العمل مع الدول الأوربية الأعضاء في منطقة التجارة الحرة على فتح أسواقها أمام صادرات المتوسط علىأمل صدور إطار تنظيمي ملائم في سياق اتفاقية الجات أو حتى في حال عدم التوافق عليه[24 ـ 1990 ص23 ـ 32].
وكل ما تدعو إليه اللجنة الاقتصادية والاجتماعية نابع من تحليل موضوعي لواقع اقتصادات الدول المتوسطية وعدم قدرتها على السير وفقاً لأحكام اتفاقية الجات إذا أريد لها تحقيق النمو والاندماج في الاقتصاد العالمي. وهذا ما يؤكد ضرورة أن تكون اتفاقية الشراكة السورية ـ الأوربية اتفاقية رعاية وخارج إطار الجات أو ضرورة أن تسعى أوربة لتعديل اتفاقية الجات بما ينسجم مع الموروث التاريخي لأوربة في التعامل مع البلدان النامية على أساس نظام الأفضليات المعمم وإعطاء الدول المتوسطية أفضليات متميزة خروجاً علىاتفاقية الجات.
وتستطيع أوربة بفضل علاقاتها التاريخية ومواقفها المساندة لبلدان العالم الثالث في المنظمات الدولية (مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، مفاوضات الجات) أن تلعب هذا الدور في مصلحتها ومصلحة البلدان المتوسطية علىالسواء. وإذا أضفنا إلىأقلمة العالم التي تجري في إطار العولمة وتركيز كل قطب من الأقطاب الاقتصادية العالمية على منطقة جغرافية بذاتها ووضعنا في حسباننا الجولة التي قام بها مؤخراً الرئيس الأمريكي في أفريقية وما قد تعنيه هذ الجولة من محاولة سحب أفريقية من دائرة المركز الأوربي إضافة إلى سعي الولايات المتحدة الأمريكية واسرائيل تسويق الشرق أوسطية يتضح لنا أن ثمة عوامل أخرى تجعل الشراكة الأوربية المتوسطية ضرورة لكل من الاتحاد الأوربي وبلدان البحر المتوسط على السواء. وبالتالي يكون على كل من الطرفين تفهم احتياجات الطرف الآخر وأخذ مصالحه بالحسبان. إضافة إلى كل ذلك يجب أن تقوم الشراكة على أساس التحليل العلمي لطبيعة العلاقات الاقتصادية الدولية من جهة وقدرة المجتمعات على تحمل التكاليف الاجتماعية التي قد تنتج عن هذه الشراكة من جهة ثانية. وبمعنى آخر يجب أن تكون منطلقات الشراكة قائمة على أساس التحليل الاقتصادي على مستوى كامل منطقة الشراكة وليس على مستوى الاقتصاد الأوربي فقط.
تطرح الشراكة الأوربية السورية مجموعة من الأسئلة التي تشكل الإجابات عليها شروط نجاح هذه الشراكة واستمرارها. ففي ضوء ما أسلفناه يمكن التأكيد بان الشراكة ضرورية لمصلحة الطرفين وإذا أحسن صوغ أحكامها وتحديد شروط تنفيذها مع الأخذ بالحسبان اختلاف مستويات النمو بين الطرفين وفتح مجال تعديلها في ضوء النتائج التي تحققها يمكن الارتقاء بها من شراكة رعاية إلى شراكة مشاركة ندية، وهذا يقتضي تحقيق مايلي:
1 ـ ليس من المنطق أن نطالب الاتحاد الأوربي بمعالجة قضايانا أو أن نحمله مسؤولية تردي الأداء الاقتصادي بل يجب أن نبحث عن العلاج بأنفسنا. ولعل أول ما يجب التفكير به هو التخلص من العقلية التقليدية المسيطرة على الإدارة الاقتصادية في سورية في القطاعين العام والخاص على السواء. هذه الإدارة التي ما تزال أسيرة سلوك وقناعات قديمة تحكمها عوامل الحذر والخوف والبعد عن روح المخاطرة (في القطاع العام بسبب الخوف من المسؤولية وفي القطاع الخاص بسبب شدة الحرص في المسؤولية). إننا نجد تمسكاً غريباً بأساليب التنظيم التقليدية لدى الإدارات الاقتصادية يصل حتى مستوى «الجمودية» والحاجة تقتضي إدخال «ثورة الإدارة» في مؤسسات القطاعين العام والخاص وفي القطاع المشترك أيضاً تقوم على إدخال عقلية البحث عن الاتساع والتمدد ونبذ عقلية الانكفاء والتقوقع ودفع الاقتصاد إلى الانتقال من «العائلية» و«المحسوبية» إلىالمساهمة والمشاركة وكذلك الانتقال من استراتيجية «الاكتفاء مع السلامة» إلى استراتيجية «الاغتناء بالمخاطرة» المطلوب إذن قبل كل شيء استعداداً للشراكة تنشيط عقلية الانفتاح والمبادرة إلى اتخاذ القرارات وتحمل المسؤولية. وهذا يشكل برأينا، مفتاح الحل ليكون اقتصادنا مؤهلاً للشراكة مع أوربة وقادراً على خلق ديناميكية لتحويل المزايا النسبية التي يتمتع بها إلى قدرة تنافسية في السوق الأوربية تمكن من زيادة نصيب المنتجات السورية الصناعية في السوق الأوربية.
2 ـ إعادة هيكلة الاقتصاد السوري بحيث يتحول إلى اقتصاد صناعي زراعي يتخصص بإنتاج بعض المواد ذات المزايا التنافسية استناداً إلى نموذج ريكاردو في التبادل الدولي الذي نستنتج منه التالي:
كي تستطيع الدول المتبادلة فيما بينها أن تحقق فوائد لكل منها يجب أن تتمكن كل منها استيراد سلعة أو أكثر بتكلفة أقل مما يكلفها إنتاجها محلياً وفي ذات الوقت تتمكن من بيع سلعة أو أكثر إلىا لخارج (تصدر) بسعر أعلى مما يمكن بيعها في السوق المحلية في حالة عدم التبادل. وتحقيق ذلك يفترض وجود طلب خارجي لامتصاص السلع التي يتمتع بها كل من الطرفين المتبادلين يكفي لتشغيل قوة العمل المتوافرة في كل منهما. ومثل هذه الإمكانية تتقلص جداً إذا كان عدد السلع التي يتمتع بها أحد الطرفين بمزايا نسبية محدوداً جداً مما يشكل عجزاً في الميزان التجاري مع الخارج لا يمكن تسديده إلا بتصدير الثروات الوطنية واستنضابها بسرعة. في دراسته حول انعكاسات إقامة منطقة تجارة حرة أوربية مغربية يرى كبابجيان: «أن إقامة منطقة تجارة حرة محددة بالمنتجات غير الزراعية ليست قادرة على تنشيط صادرات البلدان الأقل نمواً على نحو مباشر في حين أنها ستحفّز الصادرات الأوربية باتجاه هذه البلدان» ويضيف أن تنشيط الاستثمارات الأجنبية في البلد الشريك الأقل نمواً شرط رئيس لنجاح منطقةالتجارة الحرة، حتى أن تحسن الوضع الاقتصادي في هذا البلد الشريك يرتبط بعلاقة طردية مع تنامي كتلة الاستثمارات الأجنبية وعلى الخصوص فيما يتعلق بنمو الطلب على العمالة[18 ـ 1995، 144 ص747 ـ 770]. من ناحية أخرى فقد أشار الأستاذ إميليو براديللا كوبوس إلى أن تحرير الاقتصاد المكسيكي أدى إلى تراجع معدلات النمو من (4.4%) عام 1982 إلى (0.4%) عام 1990 وتوقع ألا يستمر النمو الذي تحقق في عامي 1993 و 1994 بمعدل 3.5% بعد انضمام المكسيك إلى منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية لأن النمو الذي تحقق تم على قاعدة زيادة تدفق رأس المال الأجنبي وانعكس مع هذا ارتفاعاً كبيراً في عجز الميزان التجاري إذ بلغ عام 1994 أكثر من 18 مليار دولار[47A ـ 1996، 146 ص365 ـ 382]. ويعود السبب في ذلك إلى عدم التكافؤ بين المكسيك وشريكيها في منطقة النافتا.
لذا فإن لعبة السوق لا تكفي لوضع آلية تبادل بين اقتصاد متقدم وآخر في طريق النمو (حالة الاتحاد الأوربي وسورية) مما يقتضي تدخل إرادي من الأعضاء الشركاء لتوفير شروط متعادلة من المزايا النسبية وتخصيص الشريك الضعيف بمساعدات كافية لخلق مزايا ضرورية خلال مدة انتقالية يحقق خلالها توازن علاقاته مع الخارج.
3 ـ إن تشكل الأسعار في السوق العالمية يخضع لقوى متباينة فيما بينها وبالتالي فإن الدول الصغيرة (ذات النصيب المتدني في الانتاج العالمي للسلعة) لا تستطيع التأثير في الأسعار التي تكون مفروضة عليها وبالتالي فإن أوضاع السوق العالمية لا تكون في مصلحتها مما يقتضي إيجاد آلية تدخل لحماية قدرتها التنافسية. وتحرير التجارة الخارجية إذا لم يترافق بحركة رؤوس الأموال وقوة العمل في الاتجاهين سيشكل عبئاً كبيراً على الشريك الصغير (سورية).
4 ـ يعلب تركز رأس المال وظهور الاحتكارات في الأسواق الصناعية المتقدمة دوراً كبيراً في رفع الأسعار إلى أعلى من قيمتها الحقيقية مما يؤمن لها ربحاً إضافياً يقود إلى انسياب الفائض الاقتصادي من البلدان النامية بأسواقها المجزأة إلى الدول المتقدمة ذات الإنتاج المتمركز أو الاحتكاري. وهذا يقتضي أيضاً اتخاذ إجراءات تدخلية على مستوى الشركاء لحماية مصالح الشريك الضعيف. لهذا طور الاقتصاديون المتخصصون بالعلاقات الاقتصادية الدولية مفهوم الحماية إلى ما سمي بالحماية الفعالة (Protection effective). ويعرف معدل الحماية الفعالة بأنه نسبة زيادة القيمة المضافة في وحدة المنتج لقطاع ما والتي ترجع إلى الحماية الجمركية المفروضة في بلد معين. وبمقدار ما يكون معدل حماية المواد الأولية الداخلة في الإنتاج أدنى من معدل الحماية على المنتجات النهائية فإن معدل الحماية الفعالة يكون أعلى من المعدل الأسمي، وهذا ما ينطبق على الدول المتقدمة في حين أن وضع الدول النامية عكس ذلك، فإن معدل الحماية الفعالة فيها يكون أدنى من المعدل الاسمي، والنتيجة أنه إذا تساوت معدلات الحماية الجمركية المطبقة في البلدان المتقدمة والنامية فإن معدل الحماية الفعالة يكون أعلى في البلدان المتقدمة مما يقتضي ألا تكون معدلات الرسوم الجمركية واحدة في طرفي الشراكة. فمبدأ المعاملة بالمثل (تحرير التجارة من الجانبين) وإلغاء نظام الأفضليات المعممة الذي يتضمنه مشروع الشراكة يلحق الأذى بالاقتصاد السوري ويمنعه من تحقيق التقدم والازدهار الاقتصادي المنشودين في مقدمة إعلان برشلونة.
5 ـ تشير الاحصاءات العالمية، وعلى الرغم من التسهيلات الكبيرة التي تقدمها الاقتصاديات النامية لاجتذاب الاستثمارات المباشرة، تشير إلى أن هذه الأخيرة تميل إلىا لتركز في الاقتصاديات المتقدمة. تؤكد دراسات وآراء اللجنة الاقتصادية والاجتماعية في المفوضية الأوربية تفاقم ظاهرة تهميش الدول المتوسطية وتنامي ظاهرة الاستقطاب والتركز نحو أوربة. فقد أشارت الدراسات الاقليمية التي أجرتها المفوضية الأوربية في إطار أوربة لعام 2000 إلى تأكيد اتجاه البلدان المتوسطية نحو التهميش. وهكذا حتى بعد صدور قانون الاستثمار رقم 10 في سورية، فإن الاستثمارات الأجنبية متدنية جداً حتى تكاد تكون معدومة ونصيب البلدان العربية بمجموعها لم يتجاوز في السنوات العشر الأخيرة 2.8% من إجمالي الاستثمارات الدولية المباشرة. وكل هذه الاستثمارات متركزة في قطاع الصناعة الاستخراجية (النفط والفوسفات وبعض صناعة الاسمنت) مما يعني استمرار الطابع الريعي للاقتصاديات النامية وابتعادها عن اقتصاد القيمة المضافة. وهذا يقتضي أن تتضمن شروط الشراكة آلية محددة لمساعدة الاقتصاد السوري (بتدخل أطراف الشراكة إرادياً) في الانتقال إلى اقتصاد القيمة المضافة وتأهيله لاستيعاب قوة العمل الوفيرة فيه، ولن يتحقق ذلك إلا بتوجيه المزيد من المساعدات المالية لحقن الاقتصاد السوري بالاستثمارات الضرورية (هبات، قروض ميسرة، قروض عادية واستثمارات أوربية مباشرة). إضافة إلى وضع استراتيجية توافقية لإعادة هيكلية الاقتصاد الأوربي والاقتصادات المتوسطية باتجاه التنسيق والتكامل وهذا يقتضي تدخلاً واعياً إرادياً من الحكومات المعنية حيث أن آلية السوق لوحدها عاجزة عن تنشيط التحولات الهيكلية المؤاتية.
6 ـ ونعتقد أنه لتشجيع الاستثمارات الأوربية المباشرة لدخول الاقتصاد السوري يمكن تضمين الاتفاقية الأحكام التالية:
آ ـ إعفاء منتجات الفروع الصناعية التي تتمتع فيها سورية بمزايا نسبية من الرسوم الجمركية عند دخولها أراضي الاتحاد الأوربي، دون شرط المعاملة بالمثل (خلال المدة الانتقالية حتى التحرير الكامل للتجارة) وضرورة تمديد المدة الانتقالية إذا دعت الضرورة لذلك، مما يدفع بالشركات الأوربية لفتح فروع لها في سورية أو إقامة مشروعات مشتركة مع القطاع الخاص السوري تستفيد من الخبرة والتكنولوجيا الأوربية العالية ومن اليد العاملة السورية الرخيصة الثمن.
ب ـ إعفاء منتجات الفروع الصناعية السورية التي تعتمد المواد الأولية المحلية من الرسوم الجمركية عند دخولها إلى الاتحاد الأوربي، دون شرط المعاملة بالمثل بما يدفع إلى مزيد من إيجاد فرص العمل وتقاسم الفوائض بين الرأسمال الأوربي وقوة العمل السورية.
ج ـ إعطاء الشركات الأوربية مزايا وإعفاءات (إعفاءات ضريبية، تسهيلات قروض... إلخ) عن القطع المتممة أو المواد نصف المصنوعة التي تستوردها من سورية لإدخالها في منتجاتها مما يشجعها على إحداث فروع لها في سورية للاستفادة من المزايا النسبية لوفرة قوة العمل وتدني الأجور.
7 ـ نعتقد أنه من الضروري تضمين اتفاقية الشراكة آلية تحقيق التوازن في الميزان التجاري بين الطرفين أو على الأقل تحقيق توازن في ميزان المدفوعات بينهما بمعنى أن يضمن نظام المساعدات المالية على الأقل إعادة استثمار فائض الميزان التجاري الأوربي في سورية وهذا المبدأ عملت به أمريكا في علاقاتها مع منطقة النافتا للتجارة الحرة وتعتزم تطبيقه على كل علاقاتها مع أمريكة الجنوبية.
8 ـ خلال الفترة الانتقالية التي سيجري خلالها التحرير التدريجي للتجارة بين الطرفين يجب الإبقاء على عدم تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل إذ لا يعقل أن تتضمن اتفاقية الشراكة تراجعاً عن مزايا أعطيت لسورية في الاتفاقيات السابقة (وهذا ملحوظ في اتفاقيات الشراكة مع كل من تونس والمغرب والأردن) مع العلم أن الفرق في مستويات النمو وفي إنتاجية العمل قد تزايدت عما كانت عليه في السابق. وإذا لم تكن اتفاقية الشراكة متميزة عن الاتفاقية العالمية للجات ونظام منظمة التجارة العالمية فلن يكون هناك مبرر لإبرامها، وقد لاحظنا سابقاً أن التحرير المتعدد الأطراف في إطار اتفاقية الجات أفضل للبلدان النامية من الانضمام إلى منطقة تجارة حرة محددة.
9 ـ إن المكاسب التي يحققها طرفا الشراكة مرتبطة بحجم القيمة المضافة التي يمكن أن يصدرها كل منهما للطرف الآخر ولهذا يجب تضمين اتفاقية الشراكة آلية لتقاسم هذه المكاسب بين طرفي المبادلات على أساس حجم القيمة المضافة المصدرة وفقاً للمعادلة التالية: م = (ص.ص) × (ن.ق.م) ـ (و.ص) × (ن.ق.م)
حيث: م = مكاسب التبادل ص.ص = صادرات صناعية. ن.ق.م = نسبة القيمة المضافة. و.ص = واردات صناعية.
وتتم مناقشة نسب التقاسم وفقاً لمعايير يتفق عليها بين الخبراء الفنيين.
إلى هذا التقاسم للمكاسب يمكن اعتماد الأشكال الجديدة للتعويض في العلاقات بين سورية والاتحاد الأوربي[54 ـ 1995، 144] كلها أو بعضها:
ـ عقود مشتريات مقابلة على أن تكون البضائع المشتراة المقابلة ذات محتوى عالي من القيمة المضافة.
ـ عقود مقاولة من الباطن (Sous - traitance) بحيث يلتزم المصدّر باشراك عميله الشاري بإنتاج مواد لها علاقة أو ليس لها علاقة مباشرة بالمبيعات الأولية.
ـ مشاركة العميل الشاري بمشروع مستقبلي يقتضي تنفيذه تعاوناً بين الشريكين.
ـ عقود نقل التكنولوجيا بحيث يتم حساب قيمة المعارف المنقولة من بدلات التعويض.
ـ عقود استثمارات محلية بحيث يلتزم الطرف البائع باسثمار مبالغ الأرصدة في البلد الشاري، ويفضل أن تكون هذه الاستثمارات على شكل «مشروعات مشتركة» في مجالات الصناعة ذات المستوى التقني العالي.
وفي كل الحالات يجب حساب أرصدة التبادل في المواد المصنوعة فقط حتى يتم تعادل تبادل القيم المضافة بين الطرفين في مجالات تصدير العمل وحماية قوة العمل المحلية من البطالة.
كما يمكن اقتراح تمويل مشروعات صناعية سورية بفائض الأموال الأوربية تضمنها الحكومات السورية والأوربية ويتم تسديد قيمتها ببضائع من إنتاج هذه المشروعات.
10 ـ يحرص الاتحاد الأوربي دائماً على وضع أحكام خاصة لتجارة المواد الغذائية من أجل حماية أوضاع المزارعين الأوربيين وكذلك لحماية مصالح أعضاء الاتحاد في جنوب أوربة (اليونان وأسبانية) ومن الطبيعي أن تسعى سورية إلى تضمين الاتفاقية أحكاماً تضمن مصالح العمال الذين قد يتعرضون للبطالة بسبب فتح السوق السورية أمام المنتجات الصناعية الأوربية. يقدر الخبراء المختصون أن أكثر من ثلث قطاع الصناعة في سورية غير قادر على الصمود بعد تحرير التجارة مع أوربة وأن عدداً من العاملين في الصناعة يتراوح عددهم بين 75 ألف و150 ألف عامل قد يخرجون من سوق العمل ويتعرضون للبطالة. لهذا من الضروري إيجاد صيغة معينة لتقديم مساعدات أوربية لإيجاد فرص عمل كافية لاستيعاب هؤلاء العمال. وباعتبار أن فرصة العمل في سورية تكلف حوالي 20 ألف دولار فإن مجمل المساعدات اللازمة لإقامة مشروعات لاستيعاب العمال المهددين بالبطالة تتراوح بين (1.5 ـ 3) مليار دولار. ويفضل تشجيع المستثمرين الأوربيين على إقامة مشروعات مشتركة مع نظرائهم السوريين.
11 ـ يقتضي إبرام اتفاقية الشراكة الأخذ بالحسبان ردود فعل فئات المجتمع السوري من صناعيين وعمال ومزارعين والبحث في إيجاد الحلول الملائمة لاحتواء ردود أفعالهم وضمان عدم إلحاق الأذى بهم.
وأخيراً وليس آخراً فإن اتفاق الشراكة يقتضي أن يتضمن من المرونة ما يكفي إعادة النظر في أية مادة أو بند عندما يكتشف الطرفان أنه يلحق الأذى بأحدهما.
إن اتفاقية الشراكة المزمع إبرامها هي اتفاقية بين طرفين غير متكافئين بكل المقاييس وما لم يكن الطرف الضعيف موضع رعاية من الطرف القوي لايمكن لهذه الشراكة أن تنجح وتستمر. ونستطيع أن نتصور العلاقة بين الطرفين مشابهة للعلاقة بين قطاعي الصناعة والزراعة داخل الاتحاد الأوربي وكذلك للعلاقة بين الدول الأوربية الأكثر تقدماً وتلك الأقل تقدماً الأعضاء في الاتحاد الأوربي، ولهذا فإن مضمون الشراكة يجب أن يتضمن الكثير من المبادئ المطبقة في العلاقات الأوربية ـ الأوربية داخل الاتحاد وذلك من أجل خلق الانسجام داخل طرفي الشراكة.
فعلى الرغم من أن إسهامات الدول الأعضاء في إيرادات ميزانية الاتحاد متناسبة مع الناتج القومي المحلي في كل منها ـ ما يعني أن تتحمل الدول الأكثر تقدما ًنصيباً أكبر في تمويل الميزانية الاتحادية ـ فان أوجه إنفاق الميزانية تتناسب مع حاجات تمويل القطاعات وتحقيق الانسجام الاقتصادي والاجتماعي للاتحاد بمجموع أعضائه ـ ما يعني أن تستفيد المناطق والدول الأقل تقدماً من نصيب أكبر من نفقات الميزانية. ولعل الأمر اللافت للنظر ان الاتحاد يخصص حوالي 4% من ميزانيته لتمويل برامج البحث والتطوير على مستوى كامل أعضاء الاتحاد. والأمر الأكثر أهمية أن ميزانية الاتحاد تتضمن ثلاثة صناديق هيكلية: الصندوق الأوروبي للتنمية الجهوية، الصندوق الاجتماعي الأوربي وصندوق الضمان والتوجيه الزراعي، وموارد هذه الصناديق تزداد عاماً بعد عام وتصرف مواردها من أجل «تعميق الانسجام الاقتصادي والاجتماعي في المجموعة الأوربية، أي تقليص الفروق بين المناطق والمجموعات الاجتماعية المتقدمة وتلك التي كانت محرومة[3-1995 ص64]» لتحقيق الأهداف التالية: تشجيع التنمية والإصلاحات الاقتصادية في المناطق المتخلفة تنموياً، مساعدة المناطق أو أجزاء المناطق التي تتأثر بالتراجع الصناعي فيها، مكافحة البطالة الطويلة المدة ومساعدة العاطلين على الاندماج في العمل مجدداً بإعادة تأهيلهم، تسهيل تكيُّف العمال مع التغيرات الصناعية، تسريع تكييف الهياكل الزراعية في مجالات الإنتاج والتصنيع والتسويق، تشجيع تنمية المناطق الريفية وأخيراً دعم الدول الأعضاء الشماليين الجدد (فنلندة والسويد). حتى ان الاتحاد الأوروبي يتحمل في ميزانيته قسماً من تمويل المشروعات المشتركة يتناسب عكساً مع مستوى نمو الدولة العضو: 50% في فرنسة، 65% في أسبانية 75% في اليونان.
ونحن نعتقد بسلامة المنهج التحليلي المعتمد لخلق الانسجام والتناسق بين أعضاء الاتحاد الأوربي مما سيدعم الاستقرار وزيادة التفاهم بينهم وتسهيل بناء أوربة موحدة قوية ذات دور فاعل على الصعيد العالمي، ونرى الاستفادة من هذه التجربة الأوربية الداخلية لتعميمها ولو جزئياً على علاقات الاتحاد مع شركائه المتوسطيين بمن فيهم سورية.
وفي الحقيقة إن مثل هذا التعامل تفرضه الضرورة لتعميق التعاون الاقتصادي بين أطراف الشراكة وزيادة الانسجام السياسي والاجتماعي والثقافي.
فلقد كان الاقتصاديون قبل كينز يرون أن مهمة علم الاقتصاد تكمن في البحث عن التوازن على مستوى المشروع وكانوا يعتقدون ان تحقيق التوازن على مستوى المشروعات يقود آلياً إلى تحقيق التوازن في الاقتصاد الوطني. غير أن اللورد كينز بيَّن من خلال تحليله للأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى (1929 ـ 1933) والانهيار الذي أحدثته في الاقتصاديات الوطنية أن التوازن الاقتصادي الكلي قد يحدث في ظل التشغيل غير الكامل لقوة العمل ورؤوس الأموال مما يعني أن التوازن قد يكون ركودياً ويحرم الاقتصاد الوطني من تعظيم المردود من عوامل الإنتاج المتاحة. بذلك نقل اللورد كينز مستوى التحليل من التحليل الجزئي (Microécnomie) إلى مستوى التحليل الكلي (Macroéconomie) وبذلك استطاعت اقتصادات السوق من إيجاد العلاج للأزمات الاقتصادية الدورية، بواسطة التدخل الحكومي والعمل الإرادي الواعي. أما اليوم وقد توسعت أحجام الإنتاج وزادت درجة الاعتماد المتبادل بين اقتصاديات بلدان العالم وبرزت الضرورة إلى الانتقال من التوازن الاقتصادي الوطني إلى التوازن الاقتصادي الإقليمي أو القاري (حالة الاتحاد الأوربي) وثم إلى تحقيق التوازن والانسجام على مستوى العالم (العولمة) فإن التحليل الاقتصادي لا يجوز أن يقتصر على بحث التوازن على مستوى البلد الواحد أو حتى على مستوى الإقليم الواحد، فمن شأن ذلك البحث عن التوازن وتحقيقه عند مستوى التشغيل غير الكامل لمجمل الموارد الاقتصادية العالمية. وهذا يعني أن مقولة التخصيص الأمثل للموارد التي يتناولها الحديث عن العولمة ستبقى جزئية وتتعلق بمجموعة بلدان أو بإقليم بمفرده ولا تشمل الموارد العالمية كلها. من هنا تنبع الحاجة إلى استخدام أداة تحليل أشمل وأكثر اتساعاً أي التحليل المتعدد الاقتصاديات (Multiéconomie) لتحقيق التوازن على مستوى الإقليم، كما يسعى الأوربيون لتحقيقه على مستوى الدول الأعضاء في الاتحاد، إذا كان الأمر يتعلق ببناء اقتصاد إقليمي منكفئ على الذات. أما إذا كان الأمر يتعلق بعولمة الاقتصاد، التي أصبحت ضرورة اقتصادية في الوقت الراهن، فإن التحليل يجب أن يكون شاملاً تحقيق التوازن على مستوى الاقتصاد العالمي (Mondoéconomie)، بذلك يكون التخصيص الأمثل للموارد وفق نظرية المزايا النسبية ممكناً ويكون ممكناً معه رفع مستوى الرفاه لكل شعوب العالم. وهذا لن يتحقق إلا بتطوير العلاقات الاقتصادية الدولية (تحديد العلاقات الاقتصادية بين كيانات سياسية ذات سيادة) لتصبح علاقات اقتصادية عالمية لا تشكل فيها الحدود السياسية بين الدول أي عائق أمام حرية انتقال الإنتاج أو عوامل الإنتاج بين الكيانات السياسية بما في ذلك انتقال قوة العمل التي تعد عامل الإنتاج الرئيسي في كل زمان ومكان. وهذا يعني الانتقال إلى ضرورة تفعيل قوانين الاقتصاد اللاسياسي، وعندئذ سيتوضع نظام اقتصادي عالمي يدار على أساس تقني صرف فوق قومي يقوم على التخصيص الأمثل للموارد وتجري المبادلات فيه على أساس المزايا النسبية في كل عوامل الإنتاج: العمل ورأس المال والموارد الطبيعية بصرف النظر عن الحدود السياسية والنزعات القومية ويحصل كل إقليم على جزء من الدخل العالمي يتناسب فعلاً مع مستوى إسهامه في تكوين هذا الدخل*.
وتحقيق مثل ذلك يقتضي تجميع جهود الاقتصاديين وتنظيم أعمالهم المشتركة للبحث عن الوسائل التي تمكن من ذلك. وعلى مستوى الشراكة السورية الأوربية نعتقد ضرورة تشكيل لجان قطاعية بمشاركة أكاديميين ورجال أعمال ومسؤولين حكوميين وممثلين عن نقابات العمال الصناعيين والزراعيين حسب الحال لمتابعة تطبيق الشراكة واقتراح تطوير أحكامها كلما بدت الحاجة لذلك ضرورية، أو اقتراح آلية للتعويض على الفئات المتضررة من حساب الفئات التي تحقق مكاسب إضافية نتيجة هذه الشراكة. ونعتقد أن في إشراك الأكاديميين الاقتصاديين في الهيئات الاستشارية للشراكة حداً أدنى من الضمانة يضبط سيرورة الشراكة بما يؤمن تخصيصاً أمثل للموارد على مستوى كل أطراف الشراكة. فالسياسيون يستطيعون اتخاذ القرارات دون الحاجة إلى تبريرها علمياً أما الاقتصاديون فيمكنهم بحث الأساس العلمي والمردود الاقتصادي للقرارات دون القدرة على فرضها.
وفي ضوء خصائص الاقتصاد السوري التي سبقت الإشارة إليها وفي ضوء الآراء المستخلصة كلها من الوثائق الأوربية (مذكرات المفوضية الأوربية وآراء اللجنة الاقتصادية والاجتماعية) فإن دخول سورية في شراكة مع الاتحاد الأوربي تستلزم مجموعة من الشروط إذا أريد لها النجاح ومن هذه الشروط:
1 ـ تضمين اتفاقية الشراكة مبدأ رعاية الاقتصاد السوري بالطريقة والأسلوب اللذين رعت بهما الجماعة الأوربية الدول الأوربية الأقل نمواً (أسبانية والبرتغال واليونان) لتأهيلها لعضوية الاتحاد الأوربي وكذلك معاملة الاقتصاد السوري معاملة المناطق الأوربية الأقل نمواً (تكثيف المساعدات وتقديم مزايا لتوضع الاستثمارات.. الخ).
2 ـ الانتقال بأسرع ما يمكن من أسلوب تقديم المساعدات (الهبات والقروض) إلى دعم الاستثمار الأوربي المباشر في الاقتصاد السوري وبخاصة تشكيل رؤوس الأموال المخاطرة (الاستثمار في القطاعات الإنتاجية) (CES(89)835) و (Position du FEMISE Sur le Partenariat Euro - Mediterraneen).
3 ـ اعتماد سياسة تصحيح هيكلي توافقية تشمل كل أطراف الشراكة الأوربية المتوسطية تهدف إلى تحقيق التنمية الشاملة المشتركة ودعم أوربة للبلدان المتوسطية (بما فيها سورية طبعاً) في مفاوضاتها مع المؤسسات الدولية لتبني برامج إصلاحات اقتصادية تراعي خصوصية هذه البلدان وعلاقاتها مع الاتحاد الأوربي (خروج الشراكة من مظلة هيمنة المؤسسات الاقتصادية الدولية).
4 ـ ضرورة جعل منطقة التجارة الحرة بين الطرفين غير متناظرة أي اعتماد مبدأ التبادلية المتمايزة وفقاً لاختلاف مستويات النمو والقدرة التنافسية الفعلية للاقتصاديات المعنية (يسعى الاتحاد الأوربي مدعوماً من الدول المتوسطية إلى تعديل اتفاقية الجات وأحكام منظمة التجارة العالمية).
5 ـ ضرورة النص على آلية التعويض بين الشركاء في حال عدم كفاية الاستثمارات المباشرة لتحقيق التوازن في العلاقات. يمكن إعتماد خطة مماثلة لخطة مارشال بتحويل كل الفوائض التجارية الأوربية إلى الدول المتوسطة مجاناً خلال مدة معينة (ندوة القاهرة شباط 1999 FEMISE) مع ضرورة عدم إدخال قيم المواد الأولية والخامات في حسابات الرصيد التجاري.
6 ـ تجنب اتخاذ القرارات الاقتصادية على قاعدة سياسية (تلبية مصالح مجموعات الضغط، ممارسة الضغوط السياسية، التنازلات أمام رغبات القوى العظمى.. الخ) والإفساح في المجال أمام التحليل الاقتصادي العلمي في رسم السياسات الاقتصادية لإرساء قواعد التخصيص الأمثل للموارد على مستوى مجموع أعضاء الشراكة بما في ذلك مورد قوة العمل والتقدم التكنولوجي.
7 ـ تشكيل هيئة مراقبة دائمة لرصد التطورات القطاعية في الاقتصاد السوري على شكل هيئة استشارية تضم إلى جانب ممثلي الفعاليات الاقتصادية (عمال، فلاحين، أرباب عمل) في سورية والاتحاد الأوربي اقتصاديين أكاديميين لدراسة المشكلات التي قد تظهر في تنفيذ اتفاق الشراكة واقتراح الحلول لها.
إن الشراكة بمفهومها وكما تضمنها إعلان برشلونة ليست اتفاقاً تجارياً عابراً وليست توافقاً على موقف سياسي محدد إنها سير في طريق نحو مصير مشترك يشمل كل الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، إنها مشروع مصالحة تاريخية بين أوربة والدول المتشاطئة على المتوسط يجب أن تؤدي إلى تفاهم الأطراف المتشاركة حول كل الموضوعات الحياتية كما يجب أن تمحو من أذهان الأجيال الحالية والمستقبلية طبعاً ما ألحق كل طرف من الأذى بالطرف الآخر وتخلق جواً من الانفتاح العام بين الأطراف المتشاركة.
والشراكة أيضاً تدعم الاتحاد الأوربي في مواقفه في المؤسسات الدولية وعلى الأقل فإنها تسهم في قيام منطقة اقتصادية استراتيجية حول المركز الأوربي تضم إلى الاتحاد الأوربي والمتوسط دول أوربة الشرقية والوسطى ويكون لها امتدادات في أفريقية والكاريبي والمحيط الهادي مما يجعل لأوربة الوزن الاقتصادي والسياسي المرغوب وبالتالي يرتب عليها التزامات معنوية ومادية حيال الدول المتوسطية الأخرى، أي أن عليها أن تدفع ما سماه الاقتصادي الكندي جان بيير بيبو (Jean Pierre Bibeau) ضريبة القوة أو ضريبة القيادة التي يجب أن يتحملها من يطمح إلى دور قيادي مسيطر[5ـ1993 ص 63ـ87] أو ما يعبر عنه المثل العربي (من أراد أن يكون جمَّالاً عليه أن يُعلي باب داره).
الدكتور مطانيوس حبيب