![]() |
عجز الموازنة وسبل معالجته
عارف دليلة
1 ـ دور ومنطلقات وأهداف الموازنة العامة للدولة والسياسات والاجراءات الحكومية بخصوصها حسب الخطاب الرسمي(*)
يتحدد دور الموازنة، حسب الخطاب الحكومي الموجه إلى مجلس الشعب في تقرير الموازنة الذي تقدمه الحكومة سنوياً بتحقيق الأهداف التالية:
1 ـ خلق دخل وطاقات انتاجية جديدة.
2 ـ تفادي التضخم غير المرغوب.
3 ـ حسن توزيع الدخل القومي.
4 ـ التأثير على هيكل التنمية.
5 ـ الاسهام بتكوين الناتج المحلي الاجمالي من خلال الانفاق الحكومي بشقيه الجاري والاستثماري.
6 ـ استكمال البنى التحتية اللازمة لتوفير مناخ موات للاستثمار وتدعيم القاعدة الانتاجية لاقتصادنا الوطني.
كما تتحدد المبادىء التي تنطلق الحكومة منها في إعداد الموازنة بالمبادىء التالية:
1 ـ تحقيق تناسب أفضل بين كتلة الموارد المحلية والنفقات، وبينها وبين الناتج المحلي، وتقليص عجز الموازنة.
2 ـ الاعتماد على الذات والسعي لتنمية الموارد المحلية.
3 ـ التركيز على زيادة كتلة الاعتمادات اللازمة للمشاريع الاستثمارية بما يحقق الأهداف الانتاجية والخدمية الأساسية.
4 ـ تلبية متطلبات الأمن الوطني والقومي.
5 ـ تأمين متطلبات الانفاق الجاري لخدمات الشعب والوظائف الأساسية المتنامية للدولة لاسيما في مجالات التعليم والصحة.
6 ـ الحد من التضخم.
وتهدف الحكومة من السياسات والاجراءات التي تتبعها، حسب خطابها الرسمي، إلى استمرار الجهود والعمل في الاتجاهات التالية:
أ ـ الالتزام بالخطة العامة للتنمية لتحقيق وتائر عالية لزيادة الانتاج والانتاجية والتوزيع الأمثل ما أمكن للموارد وفقاً للاحتياجات الحقيقية للمجتمع بما يؤدي إلى تعظيم عائدها الاقتصادي.
ب ـ الاستمرار بالسير بخطوات واسعة لتحقيق أهداف التوازن الاقتصادي والمالي التي تعبر عنها السياسات الاقتصادية والمالية في المجالات المختلفة. ومنها تنمية المدخرات المحلية وضبط حركة التوسع النقدي وترشيد استخدام القروض وترشيد الاستيراد والاستهلاك واحلال البدائل المحلية ما أمكن محل السلع المستوردة والسعي لتحقيق توازن ميزان المدفوعات وبالتالي السير بخطوات باتجاه تخفيض عجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات.
جـ ـ الخفض التدريجي لعجز الموازنة العامة للدولة عن طريق العمل على تنمية الموارد المحلية المتزايدة وضبط الانفاق العام وترشيده بما يؤدي إلى تضييق الفجوة بين استخدامات الموازنة العامة ومواردها.
د ـ الاستمرار بدعم قطاع التصدير واستخدام سياسات الربط بين سياسات التصدير والاستيراد وبالتالي منح عمليات التصدير المزايا والتسهيلات وذلك لجميع القطاعات: العام والخاص والمشترك بهدف زيادة الانتاج وتوفير القطع الأجنبي اللازم لتأمين مستلزمات الانتاج وتمويل مستوردات السلع الضرورية لتلبية حاجات الاستهلاك المحلي.
هـ ـ الاستمرار بتعديل واصلاح النظام الضريبي النافذ ضمن سياسة وخطة مبرمجة تحقق العدالة في التكليف وتراعي متطلبات المرحلة الراهنة للتنمية التي تستهدف زيادة الانتاج وتشجيع الاستثمار والادخار مع ضرورة تنمية الموارد المحلية الذاتية لتلبية متطلبات الانفاق العام.
و ـ الاستمرار في دعم وتطوير السياسات الاجتماعية والصحية والتعليمية وتأمين الخدمات المركزية والمحلية للمواطنين.
وذلك كله «ضمن أهداف استمرار العمل في مسيرة العمل العربي المشترك لاسيما في إطار التكامل الاقتصادي العربي والتعاون الاقتصادي الدولي».
2 ـ في مفهوم «عجز الموازنة» وعلاقته بالأهداف التنموية:
يمكن النظر إلى عجز الموازنة بمنظارين:
1 ـ بالمفهوم المالي الحسابي: عجز الموازنة هو زيادة نفقاتها على ايراداتها، بشرط أن تدخل في الموازنة جميع إيرادات الدولة ونفقاتها المالية.
2 ـ بالمفهوم الاقتصادي الاجتماعي: يتمثل عجر الموازنة بالآثار السلبية التي تنجم عن السياسة المالية المتبعة وعن المنهج المتبع في اعداد الموازنة وتنفيذها، هذا عندما تكون النتائج المتحققة من وراء الموازنة والسياسة المالية سلبية أكثر منها إيجابية.
وفيما بين «العجزين» يمكن أن تكون العلاقة طردية أو تكون عكسية. فليس عجز الموازنة المالي المحاسبي بالضرورة متلازماً مع الآثار السلبية الاقتصادية والاجتماعية، وقد يترافق على العكس، بتحقق آثار إيجابية. والعكس صحيح أيضاً، فقد لايكون فائض الموازنة المالي المحاسبي مؤشراً إيجابياً بالضرورة من حيث آثاره الاقتصادية والاجتماعية. فالأهم من الرصيد الايجابي أو السلبي هو الكيفية والوسائل التي يتحقق بها والتي تحكم التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تتحقق معه. وبهذا المنظور فإننا نخالف الموقف التقليدي المبسط، الأحادي الاتجاه، السائد هذه الأيام.
لقد ساد الفكر الكينزي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الثمانينات، والذي ينطلق من وجوب تدخل الدولة في تنهيج التطور الاقتصادي لمنع وقوع الإفراط الشديد في النمو أو الركود الحاد، والمحافظة على النمو الاقتصادي شبه المستقر. وكان من أهم أدوات التدخل الكينزية الاستخدام المحدود للتمويل بالعجز والتضخم النقدي الموجه الذي يعوض نقص الطلب الناجم عن تفضيل السيولة والميل للإدخار، حسب جون مينردكينز، والذي يحافظ على الاستخدام شبه الكامل. ويجري في العقد الأخير التراجع جزئياً عن هذا النهج بعد أن أدت المبالغة في التمويل التضخمي إلى اختلالات اقتصادية واجتماعية خطيرة في الاقتصادات المتقدمة والمتخلفة على السواء. لكن الميل الى الركود والانكماش بنتيجة تطبيق السياسات التوازنية الجديدة التي تصطدم مع قوانين الرأسمالية التوسعية الطابع، حيث يشكل النمو المتنفس لتناقضات نظام الانتاج الرأسمالي، أدى إلى ارتفاع الأصوات المعارضة لهذه السياسات التوازنية، وقد عبر عن ذلك عدد جديد من مجلة الايكونومست البريطانية صدر في شهر شباط الماضي، مطلقاً على هذه السياسة صفة «الخطر الجديد»، ومحذراً من احتمال أن تقود إلى أزمة اقتصادية عالمية شاملة على غرار الأزمة العالمية 1929 ـ 1933.
إن سياسات التثبيت ومحاربة التضخم والعجز المتبعة في العقدين الأخيرين وفقاً لروشتة الصندوق النقدي الدولي، مثلها مثل السياسات التضخمية السابقة، تقود إلى تحميل الجماهير التي تعيش على دخل العمل والطبقات الوسطى تكلفة هذا التثبيت في الوقت الذي تتوسع فيه في إعطاء الامتيازات والاعفاءات والفرص الاستثنائية للطبقة الاحتكارية المهيمنة اقتصادياً وسياسياً.
من هنا، فإننا مدعوون للنظر إلى عجز الموازنة بمنظارين لابمنظار واحد: بالمنظار المالي المحاسبي، كرصيد مالي، وبالمنظار الاقتصادي الاجتماعي من حيث أسبابه وآثاره على المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية. وفي هذه الحالة، فليس نادراً أن يكون تحقيق الوفر والفائض في الموازنة السبب الرئيس لعجز السياسة الاقتصادية والمالية عن تحقيق الأهداف التنموية، وقد يتحول بذاته إلى العائق الأكبر على طريق تحقيقها.
3 ـ أسئلة الموازنة وأهمية الوعي بخصوصها:
على اختلاف النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أصبحت الموازنة الحكومية محور السياسة العامة بالنسبة للدولة والمجتمع. ومع التقدم الاجتماعي تزداد نسبة الدخل القومي الذي يمر عبر الموازنة العامة ليعاد تخصيصه وتوزيعه بما يحقق الأهداف التي ترتأيها السلطة السياسية القائمة. وهنا يبدأ الاختلاف بين الأنظمة والسلطات، بعضها البعض، كما بينها وبين مجتمعاتها، وكذلك بين الاتجاهات والقوى المختلفة داخل هذه المجتمعات. وبينما تتخذ القرارات في الأنظمة غير الديمقراطية بطريقة فوقية، فتكون حكومية بيرقراطية بحتة، فإن الأنظمة الديمقراطية، على اختلاف درجات الديمقراطية ونوعياتها فيها، تحتكم، إلى هذا القدر أو ذاك، إلى البرامج التي أوصلها الناخبون على أساسها، وإلى الرأي العام الذي يرشح عبر مختلف قنوات ووسائل التعبير عن الرأي واستطلاع الرأي حول الأوضاع العامة وأعمال الإدارة الحكومية(*).
تشكل الموازنة الأمريكية (موازنة الاتحاد وموازنات الولايات، بدون الموازنات المحلية) 37% من الناتج المحلي الاجمالي، وتبلغ الموازنة العامة في اليابان 35%، وتصل في فرنسا ودول أوروبية عديدة إلى 53%، وفي هولندا تبلغ 60% وفي السويد 70% وهي النسبة الأعلى في العالم. ومازالت الموازنة في سورية تتراوح حوالي 30% من الناتج المحلي الاجمالي، وهذه النسبة تقل عن مثيلاتها في معظم الدول العربية.
ورغم أهمية هذا المؤشر الكمي، إلا أن الأهم منه، بالنسبة للمجتمعات التي تدار على أسس ديمقراطية وعلمية، إلى هذا القدر أو ذاك، هو آثار الموازنة الحكومية ونتائج السياسات الاقتصادية والمالية على الحياة الاجتماعية والاقتصادية العامة، وعلى حياة الجماعات المختلفة للسكان وصولاً إلى المواطن الفرد. وتشير الأسئلة العشرة التالية إلى هذه الغايات والنتائج:
آ ـ على المستوى الاقتصادي الكلي:
1 ـ هل تؤدي السياسة الاقتصادية والمالية، والموازنة الحكومية، وهي الخطة والأداة المالية التنفيذية السنوية لها، الى تحقيق النمو الاقتصادي، وبأية معدلات، أم تعيق النمو وتقود إلى الأزمة والركود، وإلى أي مستوى؟
2 ـ هل تؤدي إلى زيادة التشغيل وإنتاجية العمل الاجتماعي أم، على العكس، إلى زيادة البطالة وتخفيض الانتاجية العامة؟
3 ـ هل تؤدي إلى التضخم الذي يغتني منه القلة على حساب افقار الدولة والغالبية من الشعب، أم إلى استقرار يظهر بشكل خاص في ثبات التناسب بين الأسعار ومداخيل العمل، وعدم انتقاص حقوق المالية العامة؟
4 ـ هل تشجع على إظهار الامكانيات الوطنية، المادية والبشرية، من خبرات فنية وكفاءات تنظيمية وطاقات عقلية، وعلى تعبئة وزج هذه الامكانيات بأعلى فعالية ممكنة في عملية التنمية، أم على العكس، إلى طمس وقمع هذه الامكانيات أو إجبارها على الكمون والتخفي، أو هدرها وبعثرتها، أو تهريبها أو طردها إلى الخارج؟
5 ـ هل تؤدي إلى اجتذاب الامكانيات الوطنية الموجودة والمتراكمة في الخارج، والامكانيات العربية والأجنبية الراغبة في الاستثمار في البلاد بما لايتعارض مع، بل يخدم أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية، أم، على العكس، تعمل على تنفير هذه الامكانيات وإحباط تلك الرغبات؟
ب ـ على المستوى الاجتماعي والقطاعي والجزئي:
6 ـ هل تؤدي السياسة الاقتصادية والمالية، والموازنة العامة، إلى الرفاه الاجتماعي، الذي يقاس بالتحسن المضطرد في مستوى إشباع الحاجات المادية والمعنوية والارتقاء الإنساني للمواطنين، أم تقود إلى الركود أو التردي في نوعية حياتهم؟
7 ـ هل تؤدي إلى دعم وتشجيع القطاعات والأنشطة أو الفئات والعناصر الأكثر طليعية ومستقبلية وارتباطاً بالتقدم الاجتماعي والعلمي ـ التكنولوجي، والأكثر قدرة على التعامل الايجابي الخلاق مع العالم وتطوراته السريعة، أم، على العكس، تحبط هؤلاء وتثبط هممهم وتقمع تطلعاتهم وتجبرهم على الانطواء (كما يفعل الخارجون على القانون)، أو الهجرة إلى الخارج لوضع قدراتهم وإنجازاتهم في خدمة الدول الأخرى، وربما ليتعاملوا من هناك لاحقاً مع دولتهم وشعبهم بصفتهم أجانب، من وراء أو باسم شركات أجنبية، وما أكثر هذه الحالات؟
8 ـ هل تؤدي إلى تشجيع تمايزي يحابي الأنشطة الانتاجية على حساب الأنشطة الطفيلية، أم، على العكس، إلى محاباة الطفيليين والأنشطة غير الانتاجية بما يضيق على المنتجين ويضاعف الأعباء عليهم؟
9 ـ هل تعمل إدارة العمل المالي على تطوير خبرات كوادرها وتقنيات وأساليب عملهم وتعميق اخلاصهم وخدمتهم للأهداف العامة بواسطة الحوافز المادية والمعنوية، ام تدفعهم للعمل بأساليب بعيدة عن العصر وبما يتعارض مع واجباتهم الرسمية ومصالح الموازنة، مثل مسك دفاتر المكلفين وتنظيمها بما يساعدهم على التهرب من الواجبات الضريبية، أو التنازل عن حقوق الخزينة تجاه الغير، محليين أو أجانب، انسياقاً مع الفساد وخضوعاً للإغراءات المادية الضخمة؟
10 ـ وبالنتيجة، وهذا هو الأهم، هل تؤدي السياسة الاقتصادية والمالية، والموازنة العامة، إلى مزيد من الانسجام والسلام الاجتماعي والرضى الفردي، أم تصب الزيت على نيران التناقضات وتقود إلى الانفجار الاجتماعي؟
بالاجابة على هذه الأسئلة يمكن تقويم سياسة الموازنة وآثارها، ورصيد الموازنة من الفائض أو العجز، وليس بالأرقام وحدها.
4 ـ المعلوماتية والادارة والتنظيم لالغاء التراكم الضريبي وضياع الموارد:
ليس قليلاً، نسبة إلى إمكاناتنا، ما أنفقته بعض الجهات العامة من أجل «دخول عصر المعلوماتية» من شراء للتجهيزات (هاردوير)، أو من تدريب وتأهيل واقتناء للبرمجيات وتعاقدات مع خبرائها (سوفت وير). ومع ذلك فإن آثار ذلك الانفاق العملية ما تزال محدودة جداً، وتقتصر على جهات قليلة جداً.
فالموازنة التقديرية، والميزانية الختامية (قطع الحسابات)، ماتزال تُحَمَّلُ على أكثر من 1 ـ 2كغ من الورق للنسخة الواحدة، وهذا بخصوص الموازنة والميزانية الموحدة للدولة بدون الميزانيات والجداول الملحقة التي لاأستطيع تقدير أوزانها لأنني لم أطلع عليها. هذا إضافة إلى احتوائها على الكثير من الأخطاء بسبب الاستمرار بطرق العمل اليدوية في إعدادها. ولقد قام أحد الأصدقاء، بجهد شخصي وبدافع الفضول دون أي تكلفة مادية أو تكليف من أحد، وباستخدام حاسوب منزلي متواضع، بإعادة إخراج الميزانية والموازنة مضيفاً إلى أرقامهما بيانات تحليلية مقارنة تبين نسب التباين والنمو، فجاءت جميلة الشكل، واضحة العرض، سهلة التناول والاستخدام والتداول، خالية من الأخطاء ذات الأسباب الإنسانية، مساعدة على القيام بالتحليل والمقارنة والتقويم بأقل مايمكن من الجهد والوقت، وفوق ذلك كله، فقد جاءت على ورق بربع المساحة، و2% من الوزن مقارنة بالورق الذي تظهر عليه موازنة وميزانية وزارة المالية. فكيف يمكن محاربة الهدر في كل مكان ولانبدأ من أول المراحل، من وضع الموازنة نفسها؟
وإننا نتساءل لماذا لاتشتغل التجهيزات والخبرات المتوفرة في وزارة المالية ولماذا لايجري تأهيلها لتحقيق هذا الانجاز الذي حققه هذا المتطوع الفضولي بإمكاناته المتواضعة، ولماذا لم تعمم أساليب وتقنيات العمل المتطورة على مديريات المالية حتى اليوم؟ بل لماذا منع بعض خبراء المعلوماتية القائمين على رأس العمل في وزارة المالية من وضع طاقاتهم في خدمة العمل، وبعد أن استبعدت خبراتهم ومقترحاتهم قصداً عن المشاركة في التطوير أجريت التعاقدات السخية مع غيرهم من خارج الملاك، ودون أن تنعكس الأموال الضخمة المنفقة على عقود الخبرة هذه على الأداء، لأن فائدة الخبراء من خارج الملاك تنتهي بتصفية عقودهم؟
ففي لبنان، مثلاً، الذي لم يعرف تجربة التخطيط والاحصاء التي عرفتها سورية، نتابع مع مطلع كل شهر في جميع الصحف ومحطات التلفزيون اللبنانية أهم المعطيات الإحصائية عن الشهر الذي انقضى منذ أيام، مثل الإنفاق الحكومي والايرادات الحكومية الشهرية، والدين العام الداخلي والخارجي وعجز الموازنة الشهري، والاستيرادات والصادرات والميزان التجاري والرسوم الجمركية الشهرية، وحجم الودائع والتوظيفات المصرفية، وتغير الموجودات من القطع الاجنبي في الودائع والاحتياطيات، وأسعار الفائدة وسعر الصرف، وحجم الكتلة النقدية، وفي دول أخرى، تغير انفاق المستهلكين في البلاد، ونسبة تشغيل الطاقات الانتاجية، ومستوى التضخم والأسعار والأجور وأعداد المشتغلين والعاطلين عن العمل وأعداد الداخلين والخارجين.. الخ ما هنالك من معلومات.
إن مثل هذه المعلومات لم تعد ترفاً، وكثير منها متوفر أو يسهل الوصول إليه بمجرد تغيير العقلية السائدة في الإدارة. إنها حاجة ماسة ليس فقط لكبار المسؤولين، كما يظن البعض، بل لكل مواطن، من أجل اتخاذ القرارات الخاصة به، والتي يشكل مجموعها اتجاهات التطور العامة.
إن دخول عصر المعلوماتية يتطلب قبل كل شيء اتخاذ القرار الملزم بالمعلومات الهامة الواجب توفيرها، وبديمقراطية المعلومات، أي توفير المعلومات الصحيحة، الدقيقة، في الوقت المناسب والافصاح عنها قبل أن تتقادم وتضيع إمكانية الاستفادة منها. لكننا مازلنا ندير الشؤون الاقتصادية العامة (إذا كنا نديرها فعلاً!) بناء على معلومات ناقصة، أو مشوهة، أو متقادمة، أو بدون أية معلومات مفيدة. وبخصوص الموازنة العامة، كيف نضع الأرقام التقديرية لموازنة عام 1999، مثلاً، (والذي يكاد ينتصف قبل أن تظهر تقديراته على الورق، ليقال عند ظهورها أنها «قدمت خلال المهلة التي حددها الدستور والقانون» علماً بأن المهلة في الدستور والقانون هي شهر تشرين الثاني من العام المنصرم!). كيف نضع أرقام العام المقبل التقديرية ونحن لانعرف ليس فقط أرقام العام الماضي الفعلية بل الأرقام النهائية للعام الرابع أو الخامس الأسبق؟ فتحصيلات كثير من الضرائب المتحققة عام 1998، مثلاً، هي للتكليفات عن الأرباح الفعلية لـ 3 ـ 7 سنوات خلت، ولم يبدأ مراقبو الدخل حتى الآن (نيسان 1999) النظر في التكليفات الضريبية عن عام 1997، ناهيك عن عام 1998، اللهم باستثناء القطاع العام الذي تسحب وزارة المالية التزاماته الضريبية المقدرة، ودون انتظار نتائج أعماله، رابحاً كان أم خاسراً.
إن الاستمرار بالعمل على تحصيل ضرائب مضى على استحقاقها سنوات عديدة أمر مربح جداً للمكلفين، هذا إذا دفعوا، ومربح أكثر إذا لم يدفعوا، ومضيع إلى حد كبير للمال العام. وإن انقطاع الزمن بين وقت المطالبة أو التحصيل وبين وقت الاستحقاق والتحقق سيبقى المشجع على الفوضى والفساد وإضاعة الحق العام. وبرأينا، يمكن التخلص من عبء التراكم إذا فصل العمل الجاري عن العمل المتراكم، بمتابعة كل منهما بشكل مستقل عن الآخر، والامتناع عن وضع التكليفات الأخيرة في أسفل «الكومة» للعودة إليها بعد بضعة سنوات، عندما يكون «الذي ضرب ضرب والذي هرب هرب»، وعندها تموت الحقوق بالهروب أو بالتضخم أو التقادم أو «تدبير الراس» وغير ذلك من الأساليب المتخلفة.
كما في الدول المتقدمة يجب أن تجبى حقوق الخزينة أولاً بأول، شهرياً أو ربعياً... الخ. خلال العام نفسه، أو بعيد انتهائه وظهور نتائج الأعمال، ويبقى فقط التحقق من صحتها وإجراء التصفيات الدقيقة لها لاحقاً.
إنني أعلم حالات تراكمت فيها حقوق الخزينة على أشخاص كثيرين لسنوات متلاحقة بعشرات وبمئات ملايين الليرات السورية بانتظار دراسة تكاليفهم من قبل لجان التحقق الضريبي، هذه الدراسة التي تتأخر، كما نعلم، سنوات وسنوات، مما أدى إلى ضياع إمكانية التحصيل بسبب فقدان الضمانات التي تمكن المالية من التحصيل أو اختفاء مطرح الضريبة نفسه. و «حفاظاً على ماء الوجه» تقوم الأجهزة المالية بتجديد المطالبات سنوياً، للمكلفين الغامضين أو الغائبين، أو النافذين المتهربين «عينك عينك» وعن سابق اصرار وتصميم، حتى لاتسقط بالتقادم، ومن أجل أن تبقى أرقامها زينة على الورق!
إننا إذن، بصدد «عجز إرادي» ناجم عن ضعف الإدارة والتنظيم وعن تخلف أساليب العمل، وفي بعض الأحيان، ناجم عن مصالح ذاتية وعن فساد نية وسوء طوية. فالمال العام، والحق العام، مازال «غانية» لاراعي لها، مدعاة للتطاول العام، عرضة للتخصيص الضمني على قدم وساق!.
5 ـ الحسابات القومية والحسابات المالية في سورية وقائع ضامرة أم بيانات ضامرة؟:
هناك جهد إحصائي مبذول، لكنه مركزي جداً ومكتبي وقاصر لذلك عن الإحاطة بالوقائع. ولاترجع مسؤولية القصور إلى أسباب خاصة بالجهاز الإحصائي وحده، بل إلى أسباب «بيئوية» أيضاً تنعكس على الأرقام الإحصائية. والمعضلة تبدأ من امتناع طلبة الاقتصاد عن دراسة الإحصاء مادامت الدولة لاتوظف الإحصائيين، وإذا مادرسوا الإحصاء فماذا يدفعهم للإرتباط بوظيفة راتبها لايكفي حاجاتهم إلا لبضعة أيام!!
أما بالنسبة للأسباب «البيئوية»، فإنها هي المسؤولة عن ضمور الدخل القومي، كوقائع ملموسة، وكارقام محققة. فالحسابات القومية لاتعكس، بتقديرنا، حجم العمل الاجتماعي الحقيقي، والحسابات المالية لاتنبئ بالطاقة المالية الحقيقية للدولة والشعب. وببساطة نقول، ليس منطقياً أن تكون الموازنة اللبنانية بحجم الموازنة السورية. وليس ذلك من باب «الحسد» طبعاً، إذ نتمنى لها أن تكون عشرة أضعافها حالياً، ولكن أخذاً بالإعتبار الحقائق الميدانية. كما أنه ليس معقولاً أن تكون الودائع والتسليفات المصرفية اللبنانية الداخلية 40 ـ 50 ضعف الودائع والتسليفات المصرفية السورية الداخلية، فمساحة سورية 13 ضعف مساحة لبنان، وعدد سكان سورية أربعة أضعاف عدد سكان لبنان، وسورية تنتج 34 مليون طن نفط، وتصدر أكثر من نصفها، وتنتج كميات كبيرة من الغاز والفوسفات، وتملك ثروة من خمسة عشر مليون رأس من الأغنام والأبقار، ومليون طن من القطن، وخمسة ملايين طن من الحبوب، ونصف مليون طن من الحمضيات، ومثلها من الزيتون، ومثلها من البطاطا، ومثلها من التفاح والفواكهة الأخرى، ولبنان يستورد كل حاجاته من هذه المنتجات ولايكتفي إلا من الخضار والفواكه. وتمتلك سورية قاعدة تحتية واسعة من المواصلات والمرافق والطاقة الكهربائية والمائية، وقاعدة صناعية واسعة في القطاعين العام والخاص، وأنظمة حكومية واسعة في قطاعي التعليم والصحة، وسدوداً وشبكات ري ضخمة وأراضي مستصلحة ومروية بعشرات أضعاف ما لدى لبنان، وتحصل على قروض ومساعدات دولية أكثر مما يحصل عليه لبنان، وتستورد بصورة رسمية وغير رسمية، مايعادل المستوردات اللبنانية تقريباً، وتصدر خمسة أضعاف الصادرات اللبنانية. وكما للبنان عاملون ورجال اعمال في الخارج لدى سوريا أيضاً مثلهم وأكثر، ويمتلكون مثلما يمتلك اللبنانيون من الأنشطة والأموال، ويستطيعون أن يحولوا مثلما يحول اللبنانيون من الأموال إلى الداخل.
بناء على ذلك كله، يفترض أن يكون الدخل القومي في سورية ضعفي ماهو عليه الآن في الحسابات القومية، على الأقل، ويفترض أن تكون الموازنة السورية ثلاثة أضعاف الموازنة الحالية، إيرادات ونفقات، وأن يكون مستوى الدخل والمعيشة ثلاثة أضعاف متوسطه الحالي، على الأقل!.
والمسألة ليست رجماً في الغيب، بل قراءة مباشرة للواقع والحقائق. والاستنتاج الرئيسي هو أننا نعاني من ضمور مصطنع وغير طبيعي في الوقائع، وضمور في البيانات، وأن على رأس مهمات «المشروع النهضي» الذي يكثر الحديث عنه معالجة أسباب هذا «الضمور»، وإطلاق العمل في جميع الإتجاهات لظهور الحجوم الحقيقية للطاقات الاقتصادية المادية والبشرية، بل وللطاقات الفكرية والعلمية، العقلية والعملية. والخطوة الأولى على طريق الألف ميل هذا هي بناء الثقة، ثقة الدولة بمواطنيها، ثقة الشعب بقدراته، وثقة الفرد بإمكانياته، وتشجيع التنافس الإيجابي الخلاق، والمبارزة في الإنجاز. والخطوة الثانية على هذا الطريق هي إقامة العلاقة المتقابلة بين الغنم والغرم، بين الأخذ والعطاء وبين الحقوق والالتزامات بين الدولة والمواطن، وبين الطبقات الاجتماعية المختلفة، لأنها تمثل الشرط الأول لبناء الثقة.
ومثلما تهتم المجتمعات الحديثة بالبحث عن النظام الانتخابي الذي يضمن أفضل تمثيل لشرائح المجتمع المتعددة، كذلك تهتم بإقناع المواطن بأن مايدفعه لخزينة الدولة ينفق في الأوجه التي تحظى برضى وقبول غالبية المجتمع الساحقة، المعبر عنها عبر ممثليه الحقيقيين، حتى أن المواطن السويدي الذي يعمل في الخارج دون أن تعرف الدولة عن دخله شيئاً يقوم بنفسه بتعبئة استمارة شهرية عن دخله الصحيح ويحسب الضريبة المستحقة عليه ويحولها إلى الجهات الوطنية المعنية، ليس خوفاً من الحساب القانوني، بل لأنه واثق من أن هذه الأموال ستعود عليه أضعافاً مضاعفة يوم يصبح في أمس الحاجة إليها، ولن تعاد إليه ضامرة متبخرة لكونها استنزفت أولاً بأول في غير موضعها الصحيح، وبدون عائد استثماري مناسب، لاعلى المجتمع، ولاعلى المساهمين.
وفي ألمانيا وغيرها لوحات ضوئية متحركة في الشوراع تعلن كل ساعة على مدار اليوم والسنة أرقام التحصيلات الضريبية والانفاق العام واوجه الإنفاق، بما لايترك حجة للمواطن للتهرب من واجباته، وحرصاً على استمرار تأييده للحزب الحاكم، لأن ساعة الحساب هناك آتية لاريب فيها، في الموعد المحدد للانتخابات القادمة، على اكثر تقدير.
إذن، يمكن، من خلال «الإصلاح البيئوي» للمناخ الاقتصادي والاجتماعي إظهار الطاقة الاقتصادية والمالية الحقيقية لسورية وهي أكبر مما تظهر الآن. وذلك ممكن من خلال خطة خمسية واحدة على الأكثر، تلتزم بها الدولة والمجتمع في عقد اجتماعي واضح الحقوق والواجبات.
6 ـ البعد التوزيعي، الاقليمي والقطاعي والاجتماعي، للموازنة العامة:
بما أن أرقام الايرادات والنفقات الحكومية لاتمثل غاية بذاتها، بل هي مجرد وسيلة لتحقيق غايات معينة، عامة وليست خاصة، فإن التوزع الاقليمي والقطاعي والاجتماعي لمصادر وحجوم الايرادات ولأوجه وحجوم النفقات يحتل أهمية كبيرة. فالدولة هي المؤسسة الاعتبارية للمجتمع، والحكومة هي الأداة التنفيذية لتحقيق سياسات وغايات الدولة والمجتمع، ومن المهم أن يتوزع جهدها التوزيع الكثر جدوى وعدالة بين مختلف مناطق البلاد ومجموعاتها السكانية. ومع التطورات الاقتصادية والاجتماعية تتغير محاور الجهد الحكومي بما يحافظ على الاستثمار الأكثر جدوى للطاقات والتوزيع الأعدل للإمكانيات والثمرات.
ففي الولايات المتحدة، مثلاً، كانت حصة الميزانية الاتحادية الأميركية من مجموع الميزانيات (الميزانية الفيدرالية + ميزانيات الولايات + ميزانيات المحليات) 23.1% وذلك حتى الحرب العالمية الأولى. بعد الحرب العالمية الثانية أصبح نصيب الميزانية الفيدرالية 86.4%، وذلك نتيجة تمركز الدخول التي تصب في الميزانية الفدرالية مع تمركز الاحتكارات والانتاج ورأسمال المال. وأصبحت الولايات والمحليات تعتمد بصورة متزايدة على الميزانية الفدرالية. ونتيجة الدعم الذي تتلقاه ميزانيات المحليات من الميزانية الفدرالية فقد ارتفع نصيبها من 36.4% عام 1950 حتى 43.9% عام 1964، وأصبح معدل نموها أعلى من معدل نمو الميزانية الفدرالية.
وفي بريطانيا ارتفع نصيب الميزانيات المحلية من إجمالي الميزانيات من 17.8% عام 1950 إلى 24.2% عام 1964، وفي إيطاليا من 22.8% إلى 25.4%، وفي اليابان من 13.6% حتى 35.4% خلال الفترة المذكورة.
وبموجب الاصلاح الضريبي الذي جرى في ألمانيا عام 1954 ركزت السلطات المركزية (الفدرالية) بيدها كامل الضرائب على الاستهلاك والتداول والضرائب على الدخل والملكية، وضريبة التركات والهبات. وبالمقابل تقدم الميزانية الفدرالية معونات للمحليات للانفاق على الجهاز الاداري، وعلى بناء الطرق، وعلى الشرطة وغير ذلك، وما يتبقى من عجز في ميزانيات المحليات يغطى بمعونة من الميزانية المركزية تحت اسم «المعونات من أجل المساواة».
بل إن «المعونات من أجل المساواة» أصبحت بنداً هاماً في ميزانية الاتحاد الأوروبي (الذي يشمل15 دولة أوروبية، وقد وافق على قبول دول جديدة من اوروبا الشرقية، وكذلك مالطا وقبرص للانضمام إلى عضويته في السنوات المقبلة). وتوزع ميزانية الاتحاد والتي تقارب 100 مليار دولار التي تتشكل مواردها بشكل أساسي من تجميع الرسوم الجمركية عن البضائع الداخلة من خارج الاتحاد الى جميع الدول الأعضاء بالإضافة إلى مساهمات من الدول الأغنى في الاتحاد، توزع المعونات للدول الأقل غنى، وللمناطق الأقل تطوراً في مختلف دول الاتحاد لتسريع نموها ولتحقيق نوع من التقارب في التطور والرفاه بين جميع المناطق وجميع السكان، وهي المسألة التي كانت تعتبر من أهم أهداف التطور الاشتراكي المخطط، والتي لم تتحقق على أرض الواقع الأمر الذي تسبب في تعميق تناقضات النظام الداخلية.
لقد حاولنا أن نستشف مثل هذه الوقائع والأهداف التوزيعية في سياساتنا وقوانيننا وتنظيماتنا الاقتصادية والمالية ومن خلال موازناتنا الجارية والانمائية في سورية فلم نتلمس مايشبه هذه الغايات والأهداف على أرض الواقع وفي الممارسة.
صحيح أن الانفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة، وعلى المرافق العامة، وكذلك الإنفاق الاستثماري الاداري والاقتصادي، يتوزع على جميع محافظات القطر والقطاعات الاقتصادية وفئات السكان، ويعتبر متاحاً لجميع المواطنين على قدم المساواة الاستفادة منه، إلا أن هذا التوزع ليس مبنياً على أي أساس علمي، ولاتسنده أو توجهه أية دراسات أو احصاءات جغرافية اقتصادية بشرية. أما الموازنة العامة للدولة فلايستخدم حتى الآن فيها التبويب الجغرافي، ناهيك عن انعدام الدراسات التي تبين آثارها على مختلف الطبقات أو سكان الريف والحضر أو فئات السكان حسب العمر، من حيث الإسهام في مواردها أو الاستفادة من بركاتها. وإذا كان ذلك جائزاً في القرن التاسع عشر، فلم يعد جائزاً في أواخر القرن العشرين، حيث أصبحت إعادة توزيع وتخصيص الموارد لتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية التنموية على رأس قائمة أهداف السياسة العامة.
وفي عصر المعلوماتية أصبح سهلاً ومتاحاً إجراء جميع التبويبات والتصانيف المطلوبة للميزانية بحيث توفر أرقاماً مفيدة وذات مضامين تحليلية هامة لايمكن للسلطات الرسمية والباحثين ومختلف التنظيمات المدنية العمل على أسس علمية بدونها.
إننا في سورية مازلنا نتعامل مع المؤشرات الاقتصادية الكلية والوسيطة، وهي، رغم أهميتها، أضعف المؤشرات دلالة وفائدة علمية وعملية. لنأخذ، مثلاً، الجدول التالي الذي يبين تطور الناتج المحلي الصافي ونصيب الفرد منه في سورية خلال أربعة وثلاثين عاماً (1963 ـ 1997، بأسعار 1995 الثابتة):
1997 |
1995 |
1990 |
1985 |
1980 |
1975 |
1970 |
1963 |
|
500 |
489.6 |
358.2 |
413.3 |
378.2 |
243.0 |
122.5 |
11.3.7 |
الناتج المحلي الصافي بتكلفة عوامل الانتاج (مليار ل.س) |
15100 |
14186 |
12116 |
10267 |
8704 |
7380 |
6257 |
4992 |
عدد السكان في منتصف العام (ألف نسمة) |
33.1 |
34.5 |
29.6 |
40.3 |
43.5 |
32.9 |
19.6 |
22.8 |
نصيب الفرد الواحد من الناتج الصافي (ألف ل.س) |
(المصدر : المجموعة الاحصائية السنوية 1998)
يبين الجدول أعلاه أنه بينما تضاعف الناتج المحلي الصافي بتكلفة عوامل الانتاج بأسعار 1995 الثابتة بمقدار 4.4 مرة خلال الفترة 1963 ـ 1997 فقد كانت الزيادة في نصيب الفرد من الناتج المحلي الصافي 46% فقط وذلك على مدى 34 عاماً. ويرجع الفرق بين زيادة الناتج المحلي الصافي وزيادة نصيب الفرد منه إلى تضاعف عدد السكان ثلاث مرات خلال الفترة. أما التباطؤ المريع في نمو نصيب الفرد من الناتج الصافي المحلي فيعبر عن انخفاض معدلات نمو الانتاجية والفعالية في الاقتصاد الوطني.
رغم اهمية هذه المؤشرات الكلية في الدلالة على الاتجاه العام للتطور وقياس معدله والكشف عن الاتجاهات غير المواتية في هذا التطور، إلا أنها تخفي عن أعيننا توزع هذا التطور جغرافياً واجتماعياً، وأسباب اختلاف هذا التوزع، ودور الدولة في الاتجاهات التي يتخذها هذا التوزع الجغرافي البشري من خلال سياساتها الاقتصادية والمالية، وبالأخص بواسطة الميزانية الحكومية.
كان من أهم آثار السياسات الاقتصادية والمالية في سورية في النصف الثاني من القرن العشرين إعادة توزيع السكان اقليمياً وقطاعياً في عملية حراك ديمغرافي واسع، من أبرز مظاهرها الهجرة من الريف إلى المدينة، ومن البلاد إلى الخارج، مما أدى إلى اختلافات هامة في معدلات نمو السكان وتوزعهم النسبي اقليمياً، وقد تقلبت هذه النسب صعوداً أو هبوطاً حسب مختلف المحافظات بين عقدي الستينات والسبعينات، من جهة، وعقدي الثمانينات والتسعينات، من جهة أخرى.
وفي بحث أجريناه بهذا الخصوص اكتشفنا أن المحافظات التي كانت تحقق أعلى معدلات نمو للسكان في العقدين الأولين (دمشق، طرطوس، اللاذقية، ريف دمشق، حلب) تراجعت عن مكانها في العقدين اللاحقين للمحافظات التي كانت تحقق أدنى معدلات النمو السكاني في العقدين الأولين (السويداء درعا، دير الزور، القنيطرة، حماه، ادلب) لتحقق هذه في العقدين اللاحقين أعلى معدلات نمو للسكان. لقد انقلبت العوامل الطاردة والعوامل الجاذبة أو المثبتة للسكان بين المحافظات خلال الفترتين المذكورتين. وقد اختلفت أسباب ونتائج هذه التغيرات، ما بين اعتبارها من الآثار الايجابية للسياسات الاقتصادية والمالية، أحياناً، ومن الآثار السلبية لهذه السياسات أحياناً أخرى.
المهم في الأمر هو ان هذه القضية الهامة ماتزال غائبة عن اهتمامات السياسة الاقتصادية والمالية، ويعتبر غيابها من أبرز مظاهر التطور العشوائي غير المخطط والسياسات والقرارات المرتجلة غير المبنية على أساس علمي مدروس، وغير المسترشدة بأهداف معللة واضحة.
في موازناتنا العامة، التي ترتبط فيها موازنات المحليات بالصوافي (مما ينتقص من مبدأ وحدة وشمول الموازنة العامة ويجعل أرقامها لاتعبر عن الحقائق المالية الجارية)، تظهر فوائض البلديات، والتي بلغت في الموازنة التقديرية لعام 1995 /2.4/ مليار ل.س وبلغ المحصل منها 1.9 مليار ل.س، هذا في الوقت الذي تحتاج فيه بلديات القرى والبلدات إلى دعم الموازنة لا إلى حرمانها من تلك الرسوم التي تجبيها من سكانها المحليين والذين هم في أمس الحاجة إلى انفاقها محلياً لتحسين ظروف حياتهم(*).
هنا، كما في التعامل مع شركات القطاع العام، كما سنرى، يظهر أثر العقلية الجبائية غير التنموية في إدارتنا المالية العامة.
إنه أحد أوجه عجز الممارسة الاقتصادية والمالية، والموازنة العامة، عن تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية المعلنة، هذا العجز الذي آن الأوان أن يسلط عليه الاهتمام لتحديد أسبابه وسبل معالجته.
7 ـ مبدأ «وحدة وشمول الموازنة» وإشكالاته:
في العام الحالي 1970 بدأ في سورية تطبيق الموازنة العامة الموحدة للدولة، طبقاً للقانون المالي الأساسي الصادر بالمرسوم رقم /92/ لعام 1967. فحتى ذلك التاريخ كانت الموازنة العامة تتوزع إلى عدة موازنات: الموازنة الجارية (العادية)، الموازنة الانمائية (الاستثمارية)، الموازنات الملحقة والمستقلة... الخ. ومع توسع سيطرة الدولة على الأنشطة الاقتصادية الرئيسة بنتيجة التأميم وخطط التنمية التي خصصت الدولة من خلالها ميزانيات إنمائية لتوسيع القطاع العام، وبنتيجة النهج الاشتراكي، فقد رأت الدولة آنذاك ضرورة الأخذ بمبدأ وحدة الموازنة العامة للدولة، وصدر القانون المالي الأساسي (بالاستعانة بخبرة الخبير الألماني الديمقراطي شنايدر) لتنتقل تجربة ألمانيا الديمقراطية آنذاك المالية إلى سوريا، ودون الأخذ بالاعتبار للفوارق الكبيرة بين اقتصاد البلدين. ففي ألمانيا الديمقراطية كانت الدولة مسيطرة سيطرة شبه كاملة على الاقتصاد حتى أن 75% تقريباً من موارد الموازنة العامة كانت تأتي من مصدر واحد هو فوائض المصانع، ليعاد توزيعها من خلال الموازنة قطاعياً واقليمياً واجتماعياً بما ينسجم مع أهداف وسياسات النظام الاشتراكي القائم آنذاك.
ورغم أن الاقتصاد السوري كان بعيداً عن هذه الصورة، فقد نقلت إليه التجربة الألمانية الشرقية بصورة شبه حرفية، بل، والمفارقة، أن تطبيقها بدأ عام 1970، أي مع بدء مرحلة جديدة ظهر فيها تخفيف التشدد في التطبيق الاشتراكي وبدء موجة من الانفتاحات الاقتصادية التدريجية على اقتصاد السوق. وفي التسعينات توسعت موجة الانفتاح الاقتصادي، ولكن، وللمفارقة أيضاً، ترافقت هذه المرة بتشدد بيرقراطي شكلي في التمسك بالتنظيمات الادارية والقانونية السابقة التي تتناقض في الروح والجوهر مع التوجهات الجديدة في الانتقال الى اقتصاد السوق وتقليص دور الدولة المباشر الاقتصادي واتساع القطاع الخاص وتقلص الانفاق الحكومي على توسيع القطاع العام. هذا في الوقت الذي كانت ألمانيا الديمقراطية قد أجرت في الثمانينات عدة اصلاحات أعطت فيها القطاع العام حريات أكبر واستقلالية أوسع في التصرف بموارده وقللت من مركزية الموازنة العامة.
إن الممارسة لدينا غالباً ما تحمل طابعاً انتقائياً، شخصانياً وذاتياً في فهم القانون وتطبيقه. يظهر ذلك في التشدد في فرض قواعد لا يتضمنها القانون في الأصل، بهذه الدرجة، وفي غض النظر أحياناً عن مخالفات صريحة وواضحة للقانون. تظهر هذه الانتقائية في التعامل مع أبرز ثلاث إشكاليات في القانون المالي الأساسي حول «وحدة وشمول الموازنة»: الإشكالية الأولى، هي في التعامل مع فوائض القطاع العام، وهنا تبدو المغالاة في سحب جميع هذه الفوائض وترك مؤسسات القطاع العام الاقتصادي تعتمد بصورة شبه كلية على اعتمادات الموازنة في الابدال والتجديد والتوسع الاستثماري، بل وحتى في انفاقها الجاري التشغيلي، حيث كانت تتوقف المعامل عن الانتاج لو انتهت الاعتمادات المخصصة لها لشراء المواد الأولية أو لدفع الأجور، وكأنها جهات ذات طابع إداري.
والاشكالية الثانية هي في إدارة صندوق الدين العام، والذي يعتبر، حسب القانون، مؤسسة عامة ذات طابع اقتصادي، لكنه عومل مثل مؤسسة ذات طابع إداري، بالإضافة إلى عدم قيامه بدوره الكامل، كإدارة مركزية وحيدة لإدارة الدين العام الداخلي والخارجي، وحتى اليوم مازال الدين العام مشتتاً ولاتوجد جهة حكومية واحدة قامت بإحصائه ومسك حساباته ودفاتره بشكل كامل، الأمر الذي يتناقض مع القانون الذي ينص على وحدة الموازنة من جهة وعلى اعطاء صندوق الدين العام صفة المؤسسة ذات الطابع الاقتصادي، التي تقوم بتحصيل موارد الدين وتستثمرها بالشكل الأنسب وتتولى سداد أقساط وفوائد الديون. ولقد خسرت البلاد مبالغ كبيرة بسبب هذا التشتت وضياع المسؤولية وسوء إدارة القروض وارتفاع تكاليفها وضياع الفرص الكثيرة.
والإشكالية الثالثة، وتتمثل في إدارة الصندوق المعدل للأسعار والذي أصبحت مدخلاته ومخرجاته تشكل أرقاماً ضخمة في إجمالي إيرادات ونفقات الموازنة العامة علماً بأن إيراداته تصب في الموازنة بينما نفقاته تستبعد منها، لقد أصبح مبدأ وحدة الموازنة في ظروف اقتصادنا وبيد ادارتنا المالية، بعد أن نقل من بيئة إلى بيئة غريبة، كالطاووس الذي أراد تقليد الدجاجة فنسي مشيته ولم يحسن التقليد، فما بقي من هذا المبدأ أصبح مفرغاً من محاسنه ومتشدداً في مساوئه. فالدين العام الذي يتطلب إدارة مركزية ذات كفاءة استثمارية عالية ترك سائباً بدون إدارة استثمارية، حتى أنه لا وجود في سورية حالياً لمن يستطيع تحديد هذا الدين، وقد يُعتمد في تحديده، عند الحاجة، على دفاتر ومستندات وادعاءات الدائنين الأجانب، أما بالنسبة للدين العام الداخلي، فقد استهلك المساهمات التقاعدية وفوائض صناديق التوفير وشهادات الاستثمار، بالاضافة إلى فوائض الموازنات (مايتبقى من الأرباح بعد اقتطاع الضريبة على الأرباح) وفوائض السيولة (الاهتلاكات) لجهات القطاع العام الاقتصادي، لتحرم جميع هذه المؤسسات الاقتصادية من إمكانية تسيير شؤونها المصيرية ومن الاستثمار العقلاني لمواردها استعداداً لأداء التزاماتها عند استحقاقها. وبينما مرت المؤسسات في فترة شبابها في مرحلة العطاء (مثل العاملين لديها) حيث كانت الصوافي التي تصب منها في الموازنة العامة للدولة متزايدة عاماً بعد عام، فقد بدأت ومنذ سنوات مرحلة الشيخوخة لتواجه المطاليب التي تفوق العائدات أو المساهمات، والتي لم تتحسب لها بالاستثمار العقلاني المنتج لهذه الفوائض من أجل الحفاظ على قيمتها ومضاعفتها لمستحقيها، كما يحصل في معظم دول العالم.
وهكذا يبرز سبب جديد لتضخيم العجز المالي في المرحلة الراهنة والمرحلة القادمة. فإذا كان المبرر التقليدي لتمويل التنمية بالإقتراض هو توزيع جزء من أعباء التنمية على الجيل القادم وعدم تحميله كاملاً للجيل الحالي الذي لايستمتع بكامل ثماره، فإن الاستهلاك الحاضر للايرادات الاستثمارية هو، على العكس، استهلاك للمستقبل من قبل الحاضر، ولحقوق الأجيال القادمة من قبل الأجيال الحاضرة.
ونجد حالة معاكسة بخصوص الصندوق المعدل للأسعار، والذي يشكل التعامل معه، انتقاصاً من وحدة الموازنة، إذ يجري استبعاد العجز التمويني لتظهر الموازنة وهي تكدس الفوائض سنة بعد أخرى على مدى التسعينات، وهي، على كل حال، فوائض ظاهرية تطمس عجوزات حقيقية، تبدو آثارها السلبية في الواقع الاقتصادي، على شكل ركود وبطالة وهجرة وانخفاض لسعر العملة الوطنية، وعجز في الميزان التجاري (حتى مع النفط، وعجز أكبر بدون النفط) وتباطؤ الاستثمار المنتج العام والخاص، وانخفاض الأجور الحقيقية ومستوى معيشة غالبية المواطنين، وانخفاض نسبة تشغيل الطاقات الانتاجية بسبب تراجع الطلب والاستهلاك.
إن جميع هذه الوقائع بحاجة إلى دراسات عميقة وشاملة للتوصل إلى تقديرات لها أقرب ماتكون إلى الواقع، وبحاجة إلى فتح باب النقاش الرسمي والاختصاصي والعام لتدارس أسبابها والسياسات المساعدة على معالجتها والخروج منها. وإذا كانت تكاليف السياسات والممارسات المؤدية إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الراهنة قد تراكمت، وإذا كانت فرصاً كثيراً لتوفير هذه التكاليف كانت متاحة وممكنة ولكنها ضاعت أو أهدرت تقصيراً أو عمداً أو جهلاً، فإنه ماتزال هناك، رغم كل ذلك، احتياطيات وامكانيات ظاهرة أو كامنة قابلة للتوظيف والتعبئة ومازال هناك فرص متاحة لتغيير اتجاهات بعض التطورات والتغيرات الاقتصادية غير المواتية وذلك لإطلاق موجة جديدة من التنمية والنمو والتقدم.
والمسألة بحاجة إلى وعي الواقع وعياً علمياً، يعترف بالحقائق أولاً، وشحذ الارادة، واتخاذ القرار الصحيح، وإيجاد الأدوات والوسائل والكوادر المناسبة لإنجاح تطبيق هذا القرار.
8 ـ مشكلة العجز التمويني وفروقات الأسعار، تحيزات وتحايلات:
إن تعامل الإدارة المالية مع حسابات الموازنة يعاني العديد من الانحيازات. فبالاضافة إلى إخراج العجز التمويني من الموازنة بحجة عدم مسؤولية «دولة وزارة المالية» عنه لتحميله الى «الدولة الأخرى» المسؤولة عنه باعتباره نتيجة قرارها السياسي، فاننا نرى كيف تتعامل وزارة المالية مع ما هي مسؤولة عنه (من ضمن المسؤولية الجماعية للحكومة عن القرارات التسعيرية) مثل تضخم إيرادات فروقات الأسعار. فما هو في صالح المالية تأخذ به وما هو في غير صالحها ترميه على الغير. ونضرب مثلاً آخر على هذه التحيزات. ففي الثمانينات، ونتيجة انخفاض سعر صرف الليرة السورية، وتثبيت الأجور رغم التضخم وارتفاع الأسعار، تضخمت الإعانات الحكومية حتى أصبحت تشكل العبء الأكبر بين النفقات الحكومية الجارية، وبالطبع كان هذا التضخم نتيجة الاختلالات السعرية الإدارية الطابع: التثبيت المصطنع لسعر الصرف، ولأسعار مستوردات ومنتجات القطاع العام، ولأسعار المشتروات الزراعية الحكومية، وأخيراً، وهو الأخطر للأجور، وذلك بما يتعارض مع الأصول الاقتصادية، حتى فقدت الحسابات القومية والمالية جزءاً هاماً من مصداقيتها في التعبير عن الوقائع الفعلية.
ولكن، ومنذ النصف الثاني من الثمانينات، أخذت الحكومة تقلص الاعانات والدعم عن طريق تخفيض عدد السلع وكمياتها المستفيدة من الدعم ورفع الأسعار التموينية لتتحول المؤسسات الحكومية من حالة خسارة إلى حالة الربح، ولكن ليظهر سبب آخر يضخم العجز التمويني مرة أخرى، وهو رفع أسعار شراء القمح، هذا العجز الذي عولج برفع أسعار الخبز المدعوم جزئياً، وبإبداع «خبز سياحي» فريد التسمية في العالم، يباع للمواطن بأسعار عالية تحقق لمرتكبي المخالفات التموينية من القطاع الخاص مداخيل أكثر من المداخيل التي تحققها الخزينة الحكومية من أسعار بيع الطحين «السياحي!» إلى المخابز الخاصة «السياحية». إنها رحمة الحكومة بشعبها أن تحوله إلى سائح، بالتهامه للخبز السياحي، وهو في بيته المستأجر «سياحياً» لمدة ستة أشهر فقط ودون مغادرته أرض وطنه موفرة عليه تكاليف السياحة ورذائلها في الخارج!
ولابد من التوقف عند مشكلة لانظن أن هناك ميزانيات حكومية أخرى في العالم تعاني منها مثلما تعاني ميزانياتنا، وهي مسألة التناقض بين الاسم والمسمى، والتي تقود إلى طمس أو تحوير جوهر الأمور. فإذا كان الدستور ينص على أنه «لاضريبة إلا بقانون»، فإن التحايلات على المسمى «ضريبة» تتزايد حتى أصبحت حصيلة «الضرائب بقانون» تقل كثيراً عن حصيلة «الضرائب بدون أو بخلاف القانون». وليست إيرادات فروقات الأسعار التي تظهر في بند «ايرادات مختلفة، أو إيرادات أخرى» إلا ضرائب على المبيعات في جوهر الأمر طالما تفرز وتجبى لصالح الخزينة مباشرة ولاتذهب إلى خزينة مؤسسات وجهات القطاع العام التي تنتج وتبيع هذه السلع. إن هذه الممارسة مخالفة للقانون وللمنطق الاقتصادي. ويجب تسوية هذه المخالفة بالعودة عن الأسعار الادارية والأخذ بالأسعار الاقتصادية (ولكن مع ضرورة تطبيق ذلك على تصحيح سعر أهم سلعة في السوق وهي قوة العمل، التي كان يفترض أن ترتفع أسعارها، أي الأجور والرواتب بما يمنع انخفاض قيمتها الحقيقية، أسوة بأسعار جميع السلع الأخرى التي سايرت التضخم) ثم تحويل فروقات الأسعار الى ضرائب، إما تجبى على السلع (ضرائب غير مباشرة)، أو تصب في ميزانيات جهات القطاع العام ومن هناك تعود إلى الميزانية مع فوائض القطاع العام من خلال ضريبة دخل الأرباح وفائض الموازنة وفائض السيولة، أو الفصل ما بين ما تحتويه فروقات الأسعار من عنصر ضريبي وماتحتويه من عنصر سعري (السعر الاقتصادي) وهذا هو الإصلاح الضروري الواجب الأخذ به قبل الحكم على نتائج أعمال جهات القطاع العام الاقتصادي وإداراته والعاملين فيه، وقبل التفكير بتطبيق الإدارة بالأهداف، لأن الشرط الأول لتطبيق هذه الإدارة هو الوصول إلى الأسعار الاقتصادية والأخذ باعتبارات السوق للفصل بين مسؤولية الادارة والعاملين وبين مسؤولية الجهات الخارجية عن نتائج أعمال المؤسسة.
9 ـ مصلحة الخزينة ومصلحة المواطن: جدلية التعارض والتكامل:
ظاهرياً وحسابياً لا تتحقق إحدى المصلحتين: مصلحة الخزينة ومصلحة المواطن إلا على حساب الأخرى.
ومهمة السياسة الاقتصادية والمالية أن تبرهن عكس ذلك، أي إمكانية وضرورة التكامل بين المصلحتين، فكيف تظهرجدلية التعارض والتكامل هذه في واقعنا؟.
إذا حسبنا ما تحمله المواطنون نتيجة جمع الزيادات التي حصلت في الضرائب غير المباشرة مع النقص في الإعانات والذي كانت آخر حصيلة إيجابية له (لصالح المواطن: أي الإعانات أكثر من الضرائب غير المباشرة) في عام 1985 وبمبلغ 919 مليون ليرة سورية، بينما انعكس الأمر بزيادات متسارعة منذ عام 1986، لغير صالح المواطن (زيادة الضرائب غير المباشرة + نقص الإعانات) كما تظهر الأرقام التالية:
زيادة الضرائب غير المباشرة + نقص الإعانات (مليون ليرة سورية) |
السنة |
190 5359 9149 13961 13745 20532 29405 40811 53046 61004 51413 54961 |
1986 1987 1988 1989 1990 1991 1992 1993 1994 1995 1996 1997 |
353576 مليون ليرة |
المجموع |
هكذا تبين الأرقام أعلاه خسارة المواطنين والمؤسسات وربح الخزينة من مجموع زيادات الضرائب غير المباشرة وتخفيض الإعانات والتي ارتفعت حصيلتها من 190 مليون ليرة سورية عام 1986 إلى 54961 مليون ليرة سورية عام 1997 لصالح الموازنة العامة للدولة.
إننا نؤيد الاصلاح السعري والضريبي الذي يزيل التشوهات الناتجة عن الضرب عرض الحائط باعتبارات السوق، والتكلفة الحقيقية، ولكن كما نؤكد باستمرار، يجب أن يشمل ذلك مداخيل العمل وأن لا يكون تحقيق المكاسب العامة للميزانية ومكاسب القطاع الخاص على حساب العمل، كما هو جار لدينا منذ أواسط الثمانينات وحتى اليوم.
إن وفراً أو فائضاً في الموازنة نتيجة إضافات سعرية في الشكل وضريبية في الجوهر مقابل زيادات اسمية للرواتب والأجور تخفي انخفاضات حقيقية بنسبة الثلثين على الأقل من قيمتها، وكذلك نتيجة تحميل المواطنين الزيادات المتسارعة في الضرائب غير المباشرة، بل الضرائب المباشرة التي تنعكس عليهم في نهاية المطاف، إضافة إلى تخلص الميزانية الحكومية من أعباء الإعانات، إن وفراً يتحقق بهذه الطريقة لا يستحق أن يكون مدعاة للتفاخر أو أن يصنف إنجازاً بأي شكل من الأشكال، بل يمثل فشلاً في السياسة الإقتصادية والمالية سلبي الأثر على النمو الإقتصادي وعلى مستوى معيشة الشعب، وستترجم، وقد بدأت تترجم فعلاً في السنوات الأخيرة تباطؤاً في النمو الاقتصادي، وانتقاصاً بالتالي من الايرادات المالية للخزينة وفي جميع دول العالم يعرف المسؤولون عن الادارة الاقتصادية جيداً الارتباط الطردي بين معدل النمو الاقتصادي ومعدل نمو الايرادات العامة المحلية، باستثناء ما هو حاصل لدينا، حيث يسود الاعتقاد بأنه يمكن اتباع سياسات اقتصادية تخفض معدل النمو، بل تجعله سلبياً، دون أن تتأثر جباية الموارد المحلية بذلك سلباً، بل مع امكانية الاستزادة منها باستمرار، وهذا ما أخذت البيانات المالية الفعلية تنقضه في السنوات الأخيرة، حيث أخذ الجفاف يدب فيها مع ميل الينابيع العامة والخاصة الخاضعة للضريبة إلى القحط، في الوقت الذي تزداد فيه المداخيل المعفاة قانونياً أو المستثناة شخصياً من الضريبة تضخماً وانتفاخاً، في حسابات في الخارج، طبعاً، لا في الداخل.
إن الإنجاز الحقيقي للسياسة المالية يكون عندما تستطيع الحكومة تحقيق الوفر، ودون تخفيض مستوى المعيشة، بل مع تحسينه. هكذا كان الاصلاح الرئيس في الموازنة العامة في بريطانيا عام 1996 التي تعاني من عجز متزايد، والذي قدمه حزب المحافظين للناخبين آنذاك آملاً أن يحول بذلك دون سقوطه في الانتخابات القادمة، هو تخفيض معدل الضريبة على الدخل في بريطانيا من 25 نقطة إلى 24 نقطة (24% من الدخل الخاضع للضريبة) مع الوعد بإيصاله إلى 20 نقطة في السنوات القادمة في حال الفوز في الانتخابات. إضافة لذلك فإن عبء هذا التخفيض الذي ستتحمله الموازنة، وكان يعادل 1.6 مليار جنيه، سيتحول بموجب تغييرات في بعض الضرائب بالارتفاع أو الانخفاض إلى مكاسب للشرائح ذات الدخل المتوسط والأدنى، محددة بكم من الجنيهات سيزيد دخل المتقاعد والمشتغل والمتزوج ورب الأسرة والطفل والعازب.... الخ، هذا مع زيادة التعويض العائلي عن الأطفال، ورفع الحد الأدنى من قيمة التركات المعفى من الضريبة من 154 ألف جنيه إلى 200 ألف جنيه والذي يوفر على المستفيدين حوالي 18.5 ألف جنيه كانت تذهب إلى الخزينة ومع رفع الحد الأدنى من الدخل السنوي المعفى من الضريبة إلى حوالي 8 آلاف جنيه استرليني.
وفي الموازنة التي قدمها مجلس الوزراء اللبناني إلى مجلس النواب قبل أسبوعين، والتي تعاني من عجز لا مثيل له تبلغ نسبته المخططة 40% (وذلك بعد أن بلغت 58% في الموازنة السابقة) قررت الحكومة تحقيق هذا «الوفر» (أي تخفيض العجز من 58% إلى 40%) ليس على حساب مداخيل العمل، وإنما من وراء إصلاحات ضريبية أخرى، بل مع زيادة الحد الأدنى من الرواتب والأجور ومداخيل العمل الأخرى المعفاة من الضريبة إلى 12 مليون ليرة لبنانية، أي 8آلاف دولار (420 ألف ليرة سورية سنوياً للمكلف الواحد)، هذا بالإضافة إلى التوسيع على ذوي الدخل المحدود في تخفيض الضرائب وزيادة نفقات عامة أخرى، مما يعود عليهم بآثار مالية إيجابية.
هذا هو ما يسمى بالسياسة الاقتصادية والمالية.
أما التمسك بجواب واحد لايحول ولا يزول على كل مطالبة بتخفيض الضرائب على ذوي الدخل المحدود أو بزيادة الرواتب والأجور (أي بالتوقف عن تحميل ذوي الدخل المحدود الأعباء المتزايدة والانخفاض المتزايد في أجورهم الحقيقية) بأنه «لا نفقة جديدة أو إلغاء لموارد قائمة قبل تأمين المورد الذي يغطيها». فيمثل خرقاً واضحاً لوحدة وشمولية الموازنة. فالموازنة ليست مجموعة انفاقات فردية يقابل كل منها مورد فردي محدد، وإنما كتلة ايرادات تقابل كتلة نفقات، تتحقق الموازنة النهائية بينهما بزيادة في عناصر وتخفيض في عناصر أخرى داخل كل من الكتلتين، وبإلغاء عناصر أو إضافة عناصر جديدة. أما تجميد العناصر هذه خمسين عاماً فهو ليس من السياسة الاقتصادية بشيء فمن الخطأ التمسك بحجة «لا نفقة جديدة بدون مورد جديد» حتى في مواجهة المطالبة برفع الحد الأدنى من الأجور المعفى من الضريبة من مستواه عام 1949 وهو 100 ليرة سورية إلى مستويات جديدة تتناسب مع تكلفة الحد الأدنى للمعيشة، كما رأينا في لبنان، مثلاً، (وقد جرى رفع الحد الأدنى المعفى من الضريبة من الأجور في مصر مرات متتالية مع ارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة حتى أصبح يقارب 3500 ـ 4000 جنيه مصري سنوياً أي ما يزيد على مجموع الرواتب السنوية للموظف من حملة الشهادات الجامعية)، حتى وصل الأمر إلى إلغاء قانون بعد فوزه بالتصويت في مجلس الشعب، قبل عدة سنوات، رفع بموجبه الحد الأدنى المعفى من الضريبة من الراتب والأجر من 100 ل.س إلى 1000 ل.س، إن هذا الموقف يبرهن على غياب السياسة الاقتصادية الاجتماعية في القرار الاقتصادي. والأسئلة التي يرد بها على حجة أن (لا إلغاء لمورد إلا بعد توفير التغطية المالية) كثيرة وهي:
1 ـ ألا يعتبر 50 مليار ل.س، أي 38.5% من الايرادات الجارية عام 1995 وهي فروقات أسعار مستجدة خلال التسعينات يدفعها المواطنون سنوياً من دخلهم تغطية كافية ليس فقط لرفع الحد الأدنى المعفى من الضريبة من 100 ل.س إلى 1000 ل.س بل لإلغاء الضريبة على الرواتب والأجور كلياً، وذلك انطلاقاً من المبدأ الاقتصادي والضريبي الذي يفترض أن تؤخذ الضريبة من الفائض وليس من قيمة قوة العمل أي وسائل المعيشة الضرورية لحياة العامل وأفراد أسرته، ونحن نعلم أن خسارة الرواتب الحقيقية بسبب التضخم تفاقمت إلى درجة أصبح معها الأجر والراتب يقل بشكل ملموس عن قيمة قوة العمل، أي عن قيمة وسائل المعيشة الضرورية. فالضريبة التي تؤخذ من دخل العمل حالياً تؤخذ من دخل لا يؤمن الحاجات الضرورية للمعيشة وهل هناك مخالفة أكبر من هذه للقانون الاقتصادي الذي يحدد الأجر، هذا دون الحديث عن الجانب الاجتماعي والانساني؟.
2 ـ ألا تعتبر الموارد الإضافية التي تحققت للخزينة من زيادة الضرائب غير المباشرة وتخفيض الاعانات والتي فاقت الـ 54 مليار ليرة سورية عام 1997 سنوياً كافية أيضاً لتعويض خسارة الخزينة من إلغاء كامل الضريبة على دخل العمل، أو على حد أدنى من الدخل يغطي نفقات المعيشة الضرورية، يحدد رسمياً وبشكل متحرك سنوياً مع تغيرات الأسعار؟.
لقد آن الأوان لإعادة دراسة قائمة بنود الايرادات والنفقات، كل على انفراد، وككتلة كاملة، في نظامنا المالي، وإجراء إصلاحات جذرية شاملة عليها، بالغاء البعض منها والذي لم يعد يتناسب مع التطورات والتغيرات العميقة والواسعة في نظامنا الاقتصادي، وبزيادة البعض منها وتخفيض البعض الآخر، وبإنشاء موارد جديدة ما يزال الكثير منها ممكناً ولكنه متجاهلاً، جهلاً، أو عمداً وبإعادة النظر بتوزيع النفقات، التي تحمل الكثير من الهدر والضياع، وكل ذلك من منظور اقتصادي تنموي وإجتماعي إنساني بما يرفع كفاءة النظام المالي في تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية التي أصبح في تناقض واضح معها في كثير من الأحيان.
أليس مما يدعو للتساؤل مثلاً، كيف يتمسك الماليون في بلدنا بتعويض عائلي مقداره 25 ل.س للزوجة، وللطفل، بعد أن تضاعفت الأسعار أكثر من 50 مرة منذ إقرار هذا التعويض العائلي؟.
وفي الموازنة اللبنانية الحالية رفعت التعويضات العائلية، رغم العجز الهائل للميزانية، حتى يصل التعويض العائلي السنوي إلى حجم الحد الأدنى من الدخل المعفى من الضريبة، أي 8000 دولار سنوياً.
ونتساءل: ألا يمكن استخدام التعويض العائلي كأداة عقلانية لتنظيم طوعي للأسرة دون أية اجراءات لا إنسانية من نوع إلغاء التعويض العائلي كما هو متبع بالفعل، والذي لا يؤدي بالضرورة إلى تخفيض عدد الأطفال، وإنما فقط إلى تفاقم أعبائهم المادية وتخفيض مستوى معيشة أسرهم؟.
فبالإضافة إلى اقتراحنا بالغاء ضريبة دخل الرواتب والأجور عن الرواتب والأجور التي تقل عن الحد الضروري للمعيشة الذي يجب تحديده علمياً، يمكن تحريك التعويض العائلي ليتناسب إلى حد ما مع تكلفة إعاشة المعالين، وبشكل تنازلي، مع توقفه عند حد معين من الأطفال. وعلى سبيل المثال، ليكن التعويض العائلي، حسب تكاليف المعيشة حالياً، عن الطفل الأول 1000 ل.س شهرياً وعن الطفل الثاني 500 ل.س وعن الطفل الثالث 250 ل.س.
إن مثل هذه المعاملة للتعويض العائلي هي التي تدفع الزوج والزوجة إلى التفكير العقلاني بالحجم الأمثل للأسرة، بدلاً من وسائل الاكراه الاقتصادية الأخرى، اللاإنسانية. ومثل هذه الطريقة في زيادة الراتب إلى جانب رفع الحد الأدنى المعفى من الضريبة أفضل بكثير من الأسلوب المتبع حالياً في زيادة الرواتب والأجور لأنه يرتبط مباشرة بأهداف اجتماعية وإنسانية.
إن الطريقة التقليدية التي اتبعت حتى الآن لمعالجة انخفاض الرواتب والأجور وهي الزيادة الأسمية النقدية، التي تتبخر فعلياً، ما أن تعطى، أصبحت مقطوعة الصلة بالأهداف الاجتماعية ـ الإنسانية. ويمكن أن تعدل بالعودة إلى ربط دخل العمل بقيمة قوة العمل، أي بتكاليف المعيشة الضرورية، بل اللائقة، وبالأغراض الاجتماعية، مثل التعويض العائلي، وبالعوامل والحوافز الاقتصادية مثل إنتاجية العمل والربح.
هكذا، يكون الحديث في صلب السياسة الاقتصادية ـ الاجتماعية، وليس في الجباية المالية.
(*) انظر: تقرير وزارة المالية إلى مجلس الشعب عن الموازنة العامة للدولة لعام 1997 ولعام 1998.
(*) بالمناسبة، صدر في الجزائر في مطلع نيسان 1999 قانون ينظم قيام مؤسسات خاصة بعمليات استطلاع الرأي العام المحلي حول الأوضاع العامة واعلان نتائج الاستطلاع، وما أحوجنا إلى مثل ذلك.
(*) في لبنان، حيث الموازنة العامة تعاني عجزاً قلَّ نظيره، نجد الموازنة العامة تقدم أموالاً ضخمة إلى البلديات، وما تزال الحكومة الجديدة تبحث عن مئات ملايين الدولارات المقدمة من قبل الحكومة السابقة الى البلديات و«ضاعت في الطريق». فهل الخوف من «ضياع الأموال في الطريق» هو الذي يجعل وزارة المالية لدينا تسحب فوائض البلديات بدلاً من تقديم الدعم لها؟